*مَولِدُ لَعنَةٍ*
"لقد عادَ.... لقد عادَ... (اتكتبلو عمر جديد)... حمداً لله على سلامتك، سبحانَ مَنْ أنجاكَ من تلكَ الحادثة"... فتحتُ عينيَّ أكثَر لتحديدِ مصدرِ الصَّوتِ، فالتقطَتْ عينَايَ وجهين وأربع عيونٍ تُحدِّقُ بي من الأعلى، رجلٌ وامرأة لم أستطع تمييزهما، يبدوان كأنّ حاجزاً زجاجياً محجَّراً يفصلني عنهما؛ الرجل يرتدي معطفاً أبيض اللونِ وبيده جهاز الصدمات الكهربائية المستخدم لإنعاش ضربات القلب، وأنا نائمٌ على سريرٍ أبيض، عاريَ الجسدِ، تحسستُ رأسيٌ فإذا به مُضمّد، وأشعرُ بجلدي كأنه قد قُشِرَ من أثرِ التعرُّضِ لشمسٍ حارقةٍ لمدّةٍ طويلةٍ، يتصل بجسدي العديدُ من الأسلاكِ والأنابيب، وأصواتُ أجهزةِ قياسِ نشاطاتِ الجسم الحيويّةِ لا تَمَلُّ من إصدار الأصوات المزعجةِ، التي تَطِنُّ كأنها تقرعُ أجراسَ الموتِ.
سألتُ بصوتٍ مبحوحٍ مُنهَك القوى:
- أين أنا؟
- أنتَ هنا يا حبيبي، بين ذراعي حبيبتكَ آلاء.
- حاولتُ تحسَّسَ وجهها وشعرها، فأمسكَ الرجل بيدي خشية إفلات الأسلاك والأنابيبِ منها، فأردفتُ بعصبية لا تكاد تنمازُ لضعف صوتي:
- ما الأمر؟ ما الذي يحدث؟ ما بي؟
أجهشت آلاءُ بالبكاءِ محاولةً ضمي إليها، لاحظتُ عن اقترابها مني هزال جسدها وأثار بقع حمراء وزرقاء تحتل جلدها الرقيق، فأبعَدَها الرجل، وخرجتْ من الغرفةِ وهي تبكي، فاقتربَ الرجلُ منِّي، صفعني عدة صفعاتٍ خفيفةٍ على وجهي، شعرتُ بالضوءِ يدخُلُ عينَيَّ، تركني للحظاتٍ حتى أستوعبَ المكانَ والأجواء، ارتحتُ قليلاً، وقبل أنْ أسألَ أجابني وكأنه يعرفُ ما أريد قوله:
لا تقلق أنتَ بخيرٍ وفي منزلك، كلُّ ما في الأمر أنَّكَ تعرَّضتَ لحادثٍ بسيارتكَ، ودخلتَ على أثره المُستشفى، أتى بك سائقُ تاكسي، عثرَ عليكَ على طريقِ المقطَّمِ السَّريعِ، بداخل سيّارةٍ منقلبةٍ إثرَ حادثٍ بشعٍ، فبسبب الظلام وتساقُط المطر قد صدمتك سيّارةٌ مسرعةٌ من الخلف؛ ممَّا تسبَّبَ بانحراف سيارتك عن الطريق، فارتفعت عن الأرض ودارت عدة دوراتٍ في الهواء قبلَ أنْ تستقرَّ على الأرض مُحطَّمةً، ولكنَّ العجيبَ هو نجاتُكَ على الرغمِ من الكسرِ الواضحِ بمقدِّمة الجمجمةِ على أثرِ اصطدام رأسك بالزجاج الأمامي للسيارةِ وتهشُّمِه بالكامل...
على العموم كلُّ شيءٍ مدُوَّن في تقريرِ الضابطِ المُكلَّفِ بالتحقيق في الحادثة، ولكن إحقاقاً للحق أنا لم أرَ من قبلُ شخصاً نَجَا من حادثٍ مثل ذلك، وهذا ما قرَّره كل الأطباء مؤكدّينَ موتكَ سريرياً ولا جدوى من بقائكَ على الأجهزةِ، إلا أنَّ زوجك قررتْ نقلَكَ إلى المنزل، وتحويله إلى مشفى من أجلكَ، وقد استأجرتني لذلكَ، أنتَ سعيدُ الحظِّ، فلو لم تكن محظوظاً لكنتَ في عالَمٍ آخر الآنَ.
كان لوقع الكلمتين الأخيرتين أثرٌ كبيرٌ في نفسي، الكلمتان دَوَّتَا في أذني دوناً عن باقي الكلمات، عصرْتُ ذاكِرَتي لاستعادة ما حدثَ وألم الرأس لا يلبث أن يفتك بي كلما حشدتُ أفكاري أكثر لتذكر ما حدث، عالَمٌ آخر؟ بالضبطِ أنا كنتُ في عالَمٍ آخرَ، فهناك بقايا أفكار مشوشة عن مكان يسمى الأرضَ السُّفلَى وذكريات عن رحلتي مع شخص يُدعى ثاناتوس، وحديثي مع آخرين كسيزيف وتانتالوس وشارون قائد العبّارة، ونباح الكلب كربيروس ذي الثلاثة رؤوس، ولكنْ كيفَ ذلكَ؟ أهناك عالمٌ آخرُ غير عالمنا؟ ... عالمٌ أسفَلَنَا تسكنه مخلوقاتٌ وأنُاسٌ غيرُنا؛ منهم المعذَّبونَ ومنهم المنعَّمونَ؟
لا أعتقدُ، منَ المؤكَّدِ أنَّ كلَّ ما مَرَرْتُ بهِ بعد تلك الحادثةِ ما هو إلَّا أحلامٌ وكوابيس في أثناءِ غيبوبتي، من المؤكَّدِ أنَّ ذلك المورفيوس لازال يلعبُ لعبَتَه السخيفة، بالإضافةِ إلى أنَّ كلَّ ما مَرَرْتُ به من أحداثٍ داخل ذلك العالم أو تلك الأرض يحتاج إلى وقتٍ، وأنا هنا.. هنا منذ..... فسألت الممرِّضَ:
- كم مرَّ من الوقتِ وأنا هنا؟
- أنتَ في غيبوبةٍ تامَّةٍ منذ شهر.
- بدأت الأفكار تعودُ بي إلى كلِّ ما مررتُ به، حتى قطع حبلَ أفكاري صوت الممرض الثرثار مرةً أخرى:
- على الرغم من أنَّ قصتك مليئةٌ بالأحداث الغريبةِ صعبة التصديق؛ إلَّا أنَّ هناك شيءٌ لا يمكنني تفسيرُه.
- ما هو؟
- تلكَ العلاماتِ حولَ مِعصَمَيْكَ؟ فيَدَاكَ كما لو كَانَتَا مُكبَّلَتَين بأصفادٍ لفترةٍ من الزمن؟
رفعتُ يديَّ المُنسدِلَتَينِ أمامَ وجهي؛ لأرَى ما يعنيه ذلكَ الممرِّضُ، فوجدْتُ آثارَ أصفادٍ حولَ المعصمَينِ... ها.... مستحيل.
****
سرعان ما تذكَّرْتُ أَصفَادَ ثاناتوس والتي على أثرها انتابتني نوبة هلع: ابتعدوا عني ... اتركوني لنفسي ... لا أريدُ أحداً هنا.
تعالت صرخاتي والصداع ينهشُ رأسي كانَ كلُّ شيءٍ ينتفضُ داخل عقلي وجسدي، والألم يكادُ يُمزّقني، كل شيءٍ يؤلمني، لا أدري ما الذي يجري بداخلي.
- ما بكَ؟
لست متأكداً بالضبط ولكن ما أعرفه هو أني كنتُ ميتاً وقد استيقظت، نعم ... ميّت... السواد يلف المكان وكأني في بطنِ حوتٍ يتوسد أعماق البحر، بصيصٌ أبيض يعمي عيني كبرقٍ يخطف الأبصار، نعم، إنه وجه آلاء، آلاء دخلَتْ للتوِّ بعدَ أنْ قَضَتْ وَطرَها من البكاء، وصوتُ الرجلِ يناديها:
لا تتركيه... كل ما يحدث من سلوك غريب هو متوقع من شخص خاض تجربته... احكمي يديكِ عليه أكثر لنشد وثاقه بالسرير، ولكنّ جسدي المختلج كطائرٍ مذبوحٍ كانَ أقوى من أنْ تستطيع يداها الناعمتان تثبيته، لا سيّما وأنها أمسكتني من معصميَّ اللذين بدءا بإحراقي وكأنَّ قيداً من نارٍ يلفهما، استسلمَت عندما عَجزَت، وخرجت آلاء لإحضار حبلٍ يساعدها في السيطرة عليّ، بدأ الألمُ يزول عني شيئاً فشيئاً بمجرد تجاوزها الباب، أدرتُ رأسي الواهن يميناً، كانَ الممرّض يمسك هاتفاً صغيراً يتحدث به غير مدركٍ لصحوتي من نوبة الألم:
لا عليك...لا عليك يا (دكتور)، اطمئن يبدو أنَّ المريض استيقظ من غيبوبته، وربما سيطول بقائي معه، لذلك لا تقلق فغيابي ليس بلا فائدة، سأحاولُ مماطلة زوجه لأبعد ما أستطيع، فكل ساعة تمر يزيد الأجر، وابتسم ابتسامةً خبيثةً، وهو يتمتم: ليته لم يستيقظ.
عندها صرختُ مدعياً حتى لا يُلاحِظَ انتباهي لما قاله... أنهى حديثه وأمسك حقنةً بيده، سحبَ بها مصلاً من أمبولةٍ زجاجيّةٍ، وهمَّ لِحَقْنِي بها، أمسكتُ يدَهُ بيدي المنهكة، وطردته خارجاً، ارتبكَ الرجلُ حدَّ الفَزَعِ وكأنه رأى شيطاناً، ألقى بالحُقنةِ على منضدةٍ صغيرةٍ قربَ السرير، وعلى عجَلٍ التقَطَ معطَفَهُ وهرولَ نحوَ البابِ، وفي هذه اللحظاتِ تذكرتُ وصيّةَ ثاناتوس وقهقهاته حولَ سِجني الذي لا فرارَ منه، فاستوقفتُ الرجلَ، فتسمّرَ عندَ البابِ للحظةٍ وهمَّ بالخروج، لأناديه:
تمهّل...تمهَّل، ولكن بلا جدوى، ركضَ خارجاً من دون أنْ يلتفتَ خلفَهُ، وصوت آلاء التي كانت قادمةً من الخارجِ تناديه:
دكتور...دكتور...دكتور...وهو لا يجيب، دخلت آلاء الغرفة مسرعةً لتعرف ما الذي يحدَث، وما إنِ اقتربَتْ مني حتى عادت نوبة الألم الشديد، وعادَ الاختلاج الجنوني معه، وخيالُ ثاناتوس يحوم حول سريري وكأنه يبحثُ عني، وبدأتُ بالصراخ الممزوجِ بالبكاء المرِّ:
اخرجي... اخرجي... لا أريدكِ... ابتعدي عني... ارحلي عن حياتي.
تجمدت آلاء مشدوهةً ويداها على فمها، وعيناها تجولانِ في المكان بين النظر إليّ فزِعةً وإلى الباب المفتوحِ خلفَها، ثم صرخت مستنكرةً:
- لا، لا، لن أخرج ... أنت لا تدري ما فعلت لأستردك مرةً أخرى! وهمت بالخروج بعد أنْ سَمِعَتْ صراخَ هايدي الصغيرة في غرفتها، فصرخت متألماً مختلجاً:
لا تعودي... من فضلك... خذي كل ما تريدين، وإياكِ أنْ تعودي مرةً أخرى، ولكنها خرجت ملبيةً صراخَ هايدي، فهدأ الألم، وما هي إلا لحظاتٌ حتى عادتْ تحمل هايدي التي اشتقتُ إليها ولا أستطيع حتى النظر نحوها، فبمجرد دخولها الغرفة عاد الألمُ، وتعالى صراخي، وانفجرت الصغيرة بالبكاء، فوضعتها أمها على الأرضِ، وهمَّت بالاقترابِ مني رافضةً طلبي، ولكن هياجي وصراخي كانا قد تجاوزا المنطق والمعقول، تراجعت إلى الوراء فالتقطت "هايدي" ولملمت أقلَّ القليل وخرجت لا تلوي على شيءٍ، بعد لحظاتٍ بدأ الألم يزولُ عني رويداً رويداً، وما هي إلا عدة دقائق حتى هدأتُ، ودموعٌ سخيّةٌ تحرقُ وجنَتَي، لا أدري أهي دموعُ الألم أم القهر أم الندم؟
مرَّت أكثر من ساعةٍ حتى شعرتُ بوجهي بارداً بفعل الدموع، ودمائي عادت لتجري في عروقي، حاولت النهوض من السرير وإذا بي أستطيع ذلكَ، فأبعدتُ كلَّ الأسلاك والأنابيب عني، ونهضتُ عن السرير، خطوتُ عدة خطواتٍ باتجاه الباب، شعرتُ وكأنَّ عاصفةً هوجاء تدور في رأسي، فعدتُ إلى السريرِ باحثاً عن العمامة الملوثة بالدم الأسود، لم أعثر عليها، شبَكتُ يديّ على رأسي، وهممتُ بضرب الجدار به، فتذكرتُ، وتلمستُ خصري فإذا بها حوله، هدأتُ وألقيت بجسدي على السرير جالساً مطأطئ الرأسِ، مسحتُ وجهي بيدي وإذا به مليءٌ بالتجاعيد، شعرتُ بخوفٍ شديدٍ، تسمَّرتُ للحظاتٍ ثمَّ توجهتُ إلى الشرفةِ، أحرقتُ العمامة، فإذا بنسيمٍ باردٍ منعشٍ يضربُ وجهي، تلمسته فعادَ ناعماً، هرعتُ إلى الحمام نظرتُ في المرآةِ لا شيءَ على وجهي سوى ضماد الجرح الذي أصابني نتيجة الحادث، وعلاماتُ قيودٍ على معصميّ، فاغتسلتُ وبدلتُ ملابسي محافظاً على الضمادِ في مكانه، وخرجتُ من المنزل بلا وجهة، أوقفتُ سيارة أُجرة، وما إنْ فتحتُ البابَ حتى شعرتُ بألمٍ شديدٍ، أقفلتُ البابَ بعنفٍ وأشرت للسائق أن يرحل، فرحل، مشيتُ قليلاً حتى هدأت، أوقفتُ سيارةً أخرى، فحدثَ كما حدثَ في المرة الأولى، وفي المرة الثالثة نجح الأمر، صعدت إلى السيارةِ، أغلقتُ البابَ وأسندتُ رأسي على مسند الكرسي وكأني وجدتُ ضالتي.
- إلى أينَ يا سيدي؟
- إلى مكانٍ لا أرى فيه أحد.
- ضحك السائقُ وهو يقول مستهزئاً: الصحراء؟
- خيار جميل، خُذني إلى الصحراء.
قهقه السائقُ بضحكةٍ خبيثةٍ، وهو يقول:
- كما تشاء.
مكثتُ صامتاً، والسائقُ يثرثرُ متطفلاً ليعرفَ ما بي، ولكني أغمضتُ عيني متظاهراً بالنومِ، حتى يَئسَ من الحديث معي، فأدار مشغل الأغاني بأغانٍ هابطةٍ، ولكنها أفضل من الحديث معه، شعرتُ وكأنَّ الطريق ألفَ ميلٍ، ونوباتُ الألمِ تروح وتغدو، حتى أصبحنا خارجَ المدينة على الطريق الصحراوي عندها بدأ الألمُ بالاختفاءِ، وعندما وصلتُ ونزلتُ أعطيت الرجل أجره، ولكنه أصرَّ على أنْ أدفَعَ أجراً مضاعفاً وإلا فإنه سيهشم رأسي، فأعطيته كل ما في جيبي من مالٍ واتجهتُ هائماً على وجهي في الصحراءِ قرابةَ النصف ساعة، حتى وصلتُ إلى جرفِ وادٍ صخريٍّ، جلستُ عل الجرفِ، فشعرتُ بسكينةٍ رهيبةٍ؛ لا ألمَ ولا صُداعَ ولا اختلاج ولا حتى أدنى من ذلك، شعرتُ بصفاءٍ جميلٍ افتقدته زمناً طويلاً، كانَ فرصةً لإفراغِ كل ما في جوفي من دموع وحرقةٍ، ذرعتُ الجرف الصخري جيئةً وإياباً عشرات المرات، حتى أنهكني التعب والعطش، عيناي ترنو إلى المدينة والمنزل، وقدماي وعقلي مرتبطان بهذا الجرف وهدوئه وسكينته، حيرةٌ قاتلةٌ، بين الموت وحيداً عطشاً وتعباً كاللاشيءِ، وبين الموت ألماً واختلاجاً، فوقفتُ، وأنا أصرخُ:
- لماذا؟ لماذا يا سالم؟ ما الذي جنيته؟ ما الذي فعلته؟ وما الذي اقترفته يداكَ لتحيا هكذا؟
وبينما أنا على هذه الحالِ من الصراخ، وقعر الجرف يردد صدى صراخي، وإذا بعجوزٍ أشعث أغبر، دميم المنظرِ، رثّ الثيابِ، وكأنه لم يعرف الاغتسال مذ وُلِدَ، يمر بجانبي وهو يضحك:
- ما بكَ أيها المسكين؟
- إياكَ أنْ تقتربَ مني أيها العجوز.
- لا تخف، لن أؤذيك يا سالم، وأطلقَ ضحكةً خبيثةً ملأتِ الفراغ بصداها.
- وهل تعرفني؟
- لا أحدَ يعرفُكَ مثلي.
- ولكن... ولم يُمهلني لأُكمِلَ، وضَعَ يَدَهُ على فمي، وبيده الأخرى قدَّمَ لي وعاءً جلدياً نتناً، طالباً مني الشرب.
- ماء؟
- نعم يا سالم، اشرب.
- ترددتُ في الشربِ... العطشُ يكادُ يقتلني، ونتانة الوعاء تكادُ تُخرِجُ معدتي من مكانها، ليصطلي الفراغ بضحك العجوز، قائلاً:
- اشرب، فلا ماء في الدنيا لك غير هذا، هل جربتَ أنْ تشربَ ماءً بعد عودتك من غيبوبتك؟ هل وجدتَ له لذّةً؟
- عودتي؟ وما أدراكَ بها؟ ومن أنتَ؟
- وبذات الضحكة المستفزةِ أجابني:
- قلتُ لكَ، لا أحدَ يعرفكَ مثلي، أنا أنهيدو، فهيا اشربْ، ولا تقلقْ من مرارة الماء وطعمه، فهو لن يقتلك، وإنما سيحافظُ على حياتِكَ.
- أخذتُ الوعاء وشربتُ منه، وكادَ طعم الماء المر والنتن أن يقتلني، ولكن لا بأسَ، فكما قال العجوز أنهيدو القذِر، يبقى أهون من الموت عطشاً... رددتُ إليه وعاءَهُ، وقبلَ أنْ أعودَ لأسأله عن نفسه وفيما لو كانَ سِجني، بادرني هو:
- اجلسِ الآنَ، واحكِ لي حكايتكَ، وما الذي أوصلكَ إلى هنا؟
- ولكنكَ تعرفُ حكايتي، ألم تقل بأنَّكَ أنت الوحيد الذي يعرفني؟
- نعم، أعرفك وأعرفُ حكايتك، ولكنّي أريد أنْ أسمَعَ الحكاية منكَ، فهنا تبوحُ لنفسك.
- نفسي؟
- نعم، نفسكَ، فهيّا بُح لها، فلا أنت ولا أنا نعلم كم من الوقت سنقضي هنا، وأطلَقَ ضحكته المعتادة مرةً أخرى.
ترددتُ في بدايةِ الأمر للحظاتٍ، ولكنّي قررتُ أن أحكي له حكايتي، فعلى الرغم من بشاعته إلا أنه الوحيد هنا في هذا المكان الهادئ الذي أشعرني بالراحةِ، فلمَ لا أقصّ عليه حكايتي؟ ومن يدري ربما هذا هو المكان الوحيد الذي سيتقبّلني لأقضي فيه بقية حياتي؟ وفي مثل هذا المكان رفيقٌ قَذِرٌ خيرٌ من لا شيء.
- طالَ صمتُكَ يا سالم، ما الذي تفكر به؟ هيا تكلّم، فأنا خيارك الوحيد ورفيقكَ الوفي هاهنا.
سَعلتُ وقلبي يكاد ينخلع من بين ضلوعي، هدأ السعال، ثم حدّثتُ "أنهيدو" شارد النظر متناسياً وجوده:
- هل تعلم كيف يُقاس الزمن؟
- نعم يا سالم، ولكن أحب أن أسمع منك.
فأكملت قائلاُ:
- إذن تعلم بأنَّ فكرة الزّمن مبنيّةٌ على التّغيير؟ ولم أنتظر ردّه وإنما استرسلت مبيناً له مقصدي:
بمعنىً أدقّ؛ إذا أردت معرفة عُمر شيءٍ أو مقدار زمنِ شيءٍ، فعليك معرفة معدّل تغييره، فجميع السّاعات بنُيت على حساب معدّل التّغيّرات؛ فالسّاعات الرّمليّة أو المائيّة مبنيّةٌ على مدى تغيير كمّيّة الرّمل أو الماء مع مرور الزّمن، فإذا عرفنا معدّل التّغيّر عرفنا معدّل الزّمن، فأنا منذ ساعتين فقط..... ثم صمتُّ برهةً متنهداً، وأكملت حديثي:
في الحقيقة لا أدري بأي تقويم أُحدِّثُك ولكن ما يمكنني قوله إنني كنتُ في تقويمٍ زمنيٍّ مختلفٍ، تقويم زمنيّ لا تنطبق عليه الحسابات الزمنية المعتادة لعالمنا الحاليّ، أو ما يسمّونه هم "الأرض العليا" أو ما نسمّيها نحن "الدنيا"، فمنذ ساعات معدوده كنتُ بـ "تارتاروس" أعمق حفرة في الأرض السّفلى حيث عقابي الأبديّ.
أرى تقطُّبَ جبينك وهذا حقك... لا بدّ بأنك تتساءل: عن أي زمن وعن أي أرض أخرى غير أرضنا يتحدث هذا؟!
ابتسم أنهيدو لقولي ولم يقاطعني، لم أفهم سبب الابتسامة ولم أعرها أي اهتمام.
وأكملت:
لكنْ دعني أروي لك القصّة من البداية، دعني أروي لك كيف وصلتُ إلى هناك ظُلماً وعدواناً من قِبل دعوة جنّيٍّ مقهورٍ بموت ابنه، وبمساعدة "مورفيوس" إله الأحلام في الأساطير الإغريقيّة، نعم إنّه مورفيوس الذي يمتلك القدرة على أنْ يتجسّد بشكلِ آدميٍّ، ويظهر للنّاس في أحلامهم، فإذا سمعتَ يوماً تلك المقولة:
«فُلانٌ بين يدَيْ مورفيوس» فهذا يعني أنّه نائمٌ و"مورفيوس" يلعب بعقله كيف يشاء.
زمَّ "أنهيدو" شفتيه مللاً من ثرثرتي عن الزمن والجنِّي وغيره، وقال:
- وماذا عنك أنت؟ حدثني.
- سأحدثك:
أنا سالم محمّد عبد الحميد الغنّام، من مواليد محافظة الأُقصُر "طيبة القديمة"، مركز إسنا، وبالطّبع أحمل بطاقةً شخصيّةً نصف أرقامها يحمل تاريخ ميلادٍ ملعونٍ، بطاقةٌ شخصيّةٌ برقم: 28103132901313
وُلِدتُ بتاريخ 13/03/ 1981، أمّا عن يوم مولدي فهو واضح لك بأنه كانَ يوم (13)، ولا يلزمك أنْ تكون نبيهاً لتعلم الشّؤم المرتبط بهذا الرّقم؛ مما دفع فنادق العالم كلها لإلغاء أيّ غرف تحمل الّرقم (13).
وأمّا إذا أمعنت الفكر قليلاً في الرّقم (3)، فستجد بأنَّه مرتبطٌ بقصص القتل عند الرّومان، وبيوم "النّار" عند اليابانيّين، وهو "اليوم الأسود" عند اليونانيّين؛ إذ هو يوم سقوط القسطنطينيّة بيد الدّولة العثمانيّة، وأمّا عند الإغريق فهو يوافق يوم (13) من كلّ شهرٍ، وأمّا العربُ فكانوا يطلقون عليه اسم "جبّار".
أمّا إذا كنت لا تؤمنُ بلغةِ الأرقامِ، فلك أنْ تعلم أنّه في يوم ولادتي قد قَضَى جدّي نحبَهُ محروقاً بفعل جنّيٍّ في (بدروم قصر) لرجلٍ غنيٍّ يُدعى "سلفاجوس"، وظلّ يُتًمتِمُ وهو في النّزع الأخير لأختي بكلامٍ عن تحذيراتٍ من لعنة جنّيٍّ تصيب نسله الذين يولَدون في ذات اليوم، وهو أيضاً ذاتُ اليوم الذي ذَبَحَ فيه عمّي كلَّ بهائمه لمرضٍ أصابها، وهو كذلك يومُ طلاق خالتي من زوجها من دونِ سببٍ واضحٍ، وفيه تُوفي ابن عمّتي الوحيد غرَقاً، وفي ذاتِ اليومِ ماتَ مؤذّنُ القرية الحاج فوزي صديق جدي المقرّب وهو يؤذّن بعد أنْ تحشرج الصّوت في حلقه ليسقط بعدها صريعاً في المسجد، فهل تظنُّ بأنَّ كل هذه الأحداثُ وقعت صُدفةً؟ ألا ترى بأنها كلها وقعت لأناسٍ على صلةٍ وثيقةٍ بي وبجدي؟
فلك أنْ تتخيّل أنّه قد تمّ استقبالي في هذه الدّنيا بأسطورة جنّيٍّ متوعِّدٍ بشتّى أنواع المصائب ، ولكَ أنْ تتخيَّلَ معاناتي، فلستُ أكثر من ملعون إنْ أخطأ أو أصابَ، إنْ فعلت أمراً محموداً فلا فضل لي به، إنما هو فعل جنيٍّ يرافقني، وإن فعلتُ أمراً مذموماً فأنا مجرد لعينٍ لا خير فيه، حتى تفوقي العلمي كانَ للجنِّي وليس لي، وإنْ صارعتُ طفلاً تنمَّرَ عليّ اجتمع الفتيان لتأديب الملعون، فإنِ انتصرتُ لا مذمة على المصروع ولا محمدة لقوتي، وإنِ هُزمتُ فأنا ملعونٌ يستحق السحقَ، واجتمعت الأمة على لَفظِي، حتى وسامتي كانت في نظر الجميع قُبحاً، الأنفَ الصغير صارَ يُرى جذع نخلةٍ، وشعري بنظرهم منسوجٌ من نارٍ لعينةٍ على الرغمِ من غزارته وشدة سواده، أما وجهي فلا مِسحة رحمانية فيه، كنتُ في كلِّ يومٍ أقضي ساعات طويلة أمامَ المرآةِ لأرى ما أختلفُ فيه عن أقراني، ولا شيءٍ يبدو مختلفاً في البداية، حتى اقتنعتُ أخيراً بأنَّي لست مثلهم، إني مجردُ ملعونٍ لا قيمةَ له، ملعونٌ لا نصيبَ له في المتعة واللذةِ في هذه الحياة البائسة، فلا شيءَ يُحسَبُ لي وكلُّ شيءٍ يُحسبُ عليَّ، ولم يقف الأمر عند هذا الحدِّ من المدرسة والقرية، حتى في العائلةِ وعلى الرغمِ من عدمِ بوحهم إلا أنّي ملعونٌ مسكينٌ يدعو إلى الشفقةِ في نظر أبي الذي يدعوني لعجزه إلى عدم الإصغاء إلى هذه الخرافات، وكأنها مجرد لحظاتٍ عابرةٍ عليَّ نسيانها، وفي نظر أختي التي تغتاظُ من كلِّ ما حولي من تَنَمُّرٍ، وفي داخلِ أمِّي المسكينة التي أرى ندبَ حظها وحظي في عينيها وإنْ أخفاه لسانها الذي لا يكفُّ عن التعويل على الزمن وكفالته بالنسيانِ والتجاوزِ، إلا أنها لم تعشْ لترى ذلكَ، فماتت وماتت معها كلُّ دعواتها وأنا ما زلتُ صغيراً، فهل بعد هذه اللعنة لعنة؟
فإليكَ قصتي التي كُتبت فصولها قبل أن أُولَد، في ذلك اليوم الربيعي الهادئ، حيثُ تلاعبتْ نسماتُ الهواء بالسّتائر الدّاخليّة الشّفّافة للغرفة، وتراقصتْ ألسنةُ الدّخان المنبعثةُ من السّيجار متسلّلةً من شرفة الحجرة المطلّة على حديقة القصر بهدوء أفعى تتمايل على أنغام مزمارٍ، وما إنْ تصل الشرفة حتى تتسارع معلنةً الانفلات من سجنها.
كانت الغرفة أنيقةً ومرتبةً يتصدّرها مكتبٌ فاخرٌ خلفه كرسيٌّ خشبيٌ فارهٌ مريحٌ، وفي هذه الأجواء وعلى أنغام الموسيقى اليونانية الهادئة يجلس "سالفاجوس" خلف مكتبه، بهيئته المعهودة من الأناقة، كانَ "سالفاجوس" كهلاً، ضخم الجثة، وردي البشرة، ناعم شعرِ الرّأس، كثّ الشارب، يضع نظّارةً ذات إطارٍ رفيع، نحاسيّة اللّون، يربط ما بين ذراعي النّظّارة سلسلةٌ من الذّهب تتألقُ بوهجها الصافي على ياقةِ القميص ناصعِ البياض، وبعدَ أن جذبَ نفساً عميقاً من سيجاره، عدّل من جلسته ونفث دخاناً كثيفاً من فمه، وتابع حديثه:
- لا...لا... من المحال أنْ أغادر هذه البلاد أبداً يا "بيناكيس"؛ فأنا ولدت هنا وسأموت هنا.
جذب جذبةً أُخرى من سيجاره وأردف قبل حتى أن ينهي نفث الدخان من فمه:
- لست وحدي مَنْ وُلد هنا يا صديقي، فهنا مولدُ أجدادي وأجدادُ أجدادي، صحيحٌ أنّني يونانيّ الأصل، ولكنّني مصريّ الهوى، ثمّ إلى أين؟! فليس لنا مكانٌ سِواها ليس المعوّل عليه إلى أيِّ أرضٍ تُنسَب، وإنّما الانتماء يكونُ للأرضِ التي احتضنت بذرتَكَ، وروتكَ من مائِها ليشتدّ عَضُدُكَ ... صمتَ للحظةٍ، ثمَّ أطلق ضحكةً ضجّ بها المكان، ودخان السّيجار يهربُ من فمه بكثافةٍ متصاعداً للأعلى، يصعد هرباً من قوّة صوته، واتّساع فمه الذي يبدو كمدخنةٍ لأحد مصانع تكرير النّفط وهو يقول سائلاً نفسه ومجيباً كتبريرٍ لضحكته الفاجرة في وجه بيناكيس: يا لفكرتكَ الساذجة يا بيناكيس، وهل هناكَ أرضٌ أخصبُ من هذه الأرض؟ بل قُلْ إنّها الجنة يا صديقي.
ردّ عليه "بيناكيس" بهدوء:
- طبعاً يا "سالفاجوس"، ولماذا يفكّر مثلُك بالهجرة؟! فتجارتك لم تتأثّر بما يجري من حولنا، فمنذ انقلاب (الضبّاط الأحرار) على المَلِكِ وتأميم شركاتنا ذهبت تجارتنا بلا رجعةٍ.
ردّ "سالفاجوس" مستنكراً:
- كان ذلك منذ ثلاثة عقود يا "بيناكيس" فلِمَاذا تتحدّث عنه الآن؟
تنهّدَ "بيناكيس" بحسرةٍ:
- ماذا أقول يا صديقي؟! فلك كلّ الحقّ فيما تقول وتفكر، فالشجرة التي ترنو على شاطئ النيل ليست كالفسيلة التي نمت على هامشِ ترعةٍ تُغلَقُ وتُفتَحُ بمزاجِ المسؤول عنها، فأنت لم تتأثّر بشيءٍ، فهل تتوقع أنْ يتوقف المصريّون عن التّدخين مثلاً؟! بالطّبع لا، فتجارتك تزيد كلّ يومٍ عن سابقه، أمّا أنا فأخسر.
ردّ "سالفاجوس" وعلى وجهه نظرة خبث:
- تخسر؟! عن أيّ خسارةٍ تتحدّث... وهل هناك بنوكٌ تخسر؟
- بالطبع يا "سالفاجوس" فالمعضلةُ تكمنُ في أنّ المصريّين لم يعودوا مُقبلين على أرباح البنوك كما في السابق، بل إنهم حالياً يفضّلون شركاتِ توظيف الأموال، ففائدتها أعلى، وهي تتماشى مع شريعتهم، فهم يعتقدون بأنّنا نُرابي بأموالهم، وفي كلِّ يومٍ تولدُ بنوكٌ جديدة في البلاد ورجال أعمالٍ جُدُدٍ هم أعلمُ بأبناء جلدتهم وبتكوينهم الفكري وبطريقة جذبِ رؤوس أموالهم؛ ألم تسمع عن ذلك الرجل "أحمد الرّيّان" وكيف يسيطر على سوق المال والبنوك؟
- "بيناكيس" أرجوك، لا تحاول تبرير هوى نفسك بعللٍ مغلفة بتفسيراتٍ منطقية، فأنت لا تحاول إقناعي يا "بيناكيس"، إنما تحاول تبرير رغبتك لنفسك، تريدُ مَن يشجّعك على قرارك كي لا تهتزّ ثقتك بقراراتك فيما لو كانت مخطئةً.
أما "أحمد الريان" فنعم؛ سمعت به، وأسمع بأنّه نبيهٌ جدّاً وموهوبٌ، وأنا معجبٌ بطريقة تفكيره وأسلوبه في العمل؛ إنّه يوزّع نشاطاته في اتّجاهاتٍ شتّى، ولا يضع البيض كله في سلةٍ واحدة، فتجد اسمه في أسواق العقارات، والسيارات، والمواد الغذائية، يكادُ أنْ يكون في كلِّ السوق المصريّة، وأنا أعُدّ هذا من الذّكاء.
قاطعَه "بيناكيس" الذي عدّل من جلسته كأنه يستعد لخوض نقاشٍ حادٍّ:
- إذنْ أنت تعلم كلّ شيءٍ يا "سالفاجوس"! ولكن فيما يخصُّ اتهامك لي بمحاولة التبرير فأنت مخطئ، ومثلك لا يغيب عنه بأنّ المستقبل في هذا البلد ليس لنا، فأولاً وأخيراً هذه ليست بلادنا، ولا يعني أنّنا ولدنا هنا أنها أصبحت بلدنا، وأكملَ بالإنجليزيّة "إني مور"؛ لذا فإنّ أيّ نصائح منك لألغي قرار الهجرة لن تُجدِي، ولن تفيد، قُضي الأمر، والأسبوع القادم سنغادر أنا والعائلة إلى "أمريكا" من دون رجعةٍ.
نهض "سالفاجوس" من خلف مكتبه والصدمة تغزو ملامح وجهه الذي ازداد حُمرةً، واتجه ليجلس بالقرب من "بيناكيس":
- كفى، أرجوك يا "بيناكيس" لا تذكّرني دوماً بذلك، فلا أدري كيف سيكون العيش هنا من دونكم سواءٌ أنا، أو "أريانا"، فنحن لا نلتقي بسواكم؛ لا سيّما بعد معرفتنا بمرض "أدورا"، فنحن لا نزور أحداً ولا نسمح لأحدٍ بزيارتنا، ولا أعلم لأيّ مدىً ستصمد "أدورا" هنا من دون بناتك في حياتها.
انتفض "بيناكيس" وكأنه تذكر شيئاً بشكلٍ مفاجئٍ:
- أدورا؟ بحقّ المسيح! كيف حالها الآن، هل منٍ جديد؟
تنهّد "سالفاجوس" بحرقةٍ وهو يتجرّع كأس النّبيذ مطلقاً مدخنته في وجه "بيناكيس":
- ماذا عساي أنْ أقول؟ لا جديد، ستّة أشهرٍ على نفس الحال، كأننا ندور في متاهةٍ لا مخرج منها؛ ندور من طبيبٍ لآخر، فتارة طبيبٌ مصريٌّ، وتارة طبيبٌ أجنبيٌّ، وفي النّهاية لا جديد.
صمت "سالفاجوس" للحظةٍ وكأنه يستجمع قواه، ثم نهض بتثاقلٍ متجهاً نحو نافذة الشُّرفة، وما إنْ وقف عليها حتى طال صمته مُطلِقاً بصره نحو الأفق الذي بدا له بعيداً وكئيباً، ثم ملأ فمه بجرعةٍ كبيرةٍ من كأس النبيذ الذي في يده، جرعةٌ أحرقت جوفه الملتهب أصلاً بنار الخوف واليأس من حال ابنته ومرضها، وما إنِ ابتلع جرعة الشراب حتى أتبعها بجذبةٍ طويلةٍ من سيجاره الذي لا يفارق يده منذ مرض ابنته، نفث الدخان مع تأوُّهٍ يائسٍ، وهو يقول بصوتٍ باهتٍ مخنوقٍ، ومن دون الالتفات إلى صديقه:
حالتها كما هي، بل إنّها من سيّء إلى أسوأ، ثمّ استدار نحو صديقه الواجم أمامه محتاراً ماذا يقول أو ماذا يفعل لتعزيته، وقبل أنْ يهمّ "بيناكيس" بالكلام، صرخ "سالفاجوس" مرتعداً:
مَنْ يرضى بذلك يا "بيناكيس"؟ ... من؟
طفلةٌ في هذا السّنّ تصاب بهذا المرض اللعين؟! ما ذنبها؟ وما ذنبي حتى يعاقبني القدَر هذه العقوبة اللعينة؟ وسالتْ دمعةٌ لم يستطع مغالبتها حتى رسمت طريقاً مبللاً من مقلته لتستقرّ على رأس وجنته التي ازدادت انتفاخاً وتورّداً، وهو يقولُ بصوتٍ باكٍ:
لماذا أنا؟ لماذا ابنتي من دون البنات يا "بيناكيس"؟ لماذا "أدورا" التي انتظرناها طويلاً حتى أشرقت شمسُها في ظلام حياتنا؟ لماذا تغربُ باكراً؟ لماذا... لماذا...؟ لماذا أعجز هكذا؟ فلا أنا ولا زوجتي ولا كلّ ثروتي نستطيع تغيير شيءٍ من حالتها؟ ... واستمرّ بالصراخ:
- لماذا؟
أخذَ جسده يرتعش بالكامل وكأنه في حالة اختلاجٍ، وبلحظةٍ وقبل أنْ ينهض "بيناكيس" كان "سالفاجوس" قد أفرغ بقيّة الكأس في جوفه، وقذفها بكلّ قوّته نحو لوحةٍ على الجدار الذي يستندُ إليه كرسي مكتبه؛ والتي كانت عبارةً عن لوحةٍ تحاكي لوحة "العشاء الأخير" لـ "ليوناردو دافنشي"، ولكنّ يده المرتعشة لم تسمح للكأس بالوصول إلى هدفه؛ لترتطم بزجاج المكتب، فتطايرت شظايا الزجاج يمنة ويُسرى.
انتفض "بيناكيس" من مكانه متحاشياً قطع الزّجاج المتطاير واتّجه نحو "سالفاجوس" الذي انتفخت أوداجه، واستحال وجهه لكتلةٍ مرتعشةٍ، متقدة الاحمرار، فأمسكَ بيديه صارخاً:
- اهدأ، اهدأ، فإنّ لكلّ مشكلةٍ حلّ.
- حلٌّ؟ عن أيّ حلٍّ تتحدَث يا "بيناكيس"؟ عن أيِّ حلٍّ؟ ...
حاولَ التفلُّت من قبضتَي "بيناكيس" فأفلتت إحدى يديه، ولمَّا لم يستطع تخليص يده الأخرى من يد "بيناكيس" التفّ بسرعةٍ لاكِماً نافذة الشرفة فكسرها، ليعاود "بيناكيس" الإمساك به بكلِّ قوته من كتفيه، فألقاه على الكرسي، تهاوى "سالفاجوس" منهاراً وهو يتمتم من دون وعيٍ أو أي اكتراثٍ بيده المجروحة:
- إلّا هذا فليس له حلٌّ، إلا هذا فليس له حلٌّ...
ظلَّ على تلك الحالةِ حتى أعادته إلى الوعي أصوات أقدامٍ تأتي مسرعةً من الخارج مصحوبة بصراخٍ يناديه:
- "سالفاجوس".. "سالفاجوس"....
فُتحَ بابُ الغرفة فإذا بزوج بيناكيس و"أريانا" تلك السيدة التي في الأربعينيّات من عمرها بصحبة رجلٍ أسمر طويل، في العقد السّادس من العمر، تظهر عليه علامات السّكينة والهدوء على الرغم من هَول الموقف، دخلت "أريانا" الغرفة أولاً متسائلةً:
- ما الأمر؟ ما تلك الجلبة؟ ما بك يا "سالفاجوس"؟
وما إن لمحت قطراتِ الدّم تتساقط من يد زوجها الصامت، صوَّبت نظرها نحو "بيناكيس" وهي تسأله مذعورةً:
ما هذا الدّم؟ ماذا حدث يا "بيناكيس"؟ حاول "بيناكيس" تهدئتها وشرح الموقف، ولكنها تركته يتحدث وتوجهت إلى الرجل الستيني تأمره باضطرابٍ:
- "عبد الحميد"، من فضلك أحضر لي أدوات التّطهير.
جثت "أريانا" عند قدمي زوجها وهي تمسك يديه وتقبلهما باكيةً:
لا عليكَ يا "سالفاجوس" اهدأ يا عزيزي، وهو مُطرِقٌ يربت على كتفيها ودموع القهر والعجزِ تحفر خدّيه كإزميل ينحتُ الصخر، ولم تكف أريانا عن تقبيل يديه وتمريغِ وجهها بهما إلَّا على صوت عبد الحميد:
- تفضلي يا سيدتي، المطهر والضماد.
ضمّدت "أريانا" كفّ زوجها المصاب بيديها المرتعشتين، حاولَ بيناكيس مساعدتها ولكنها رفضت شاكرةً لطفه، وهدأت الأصوات داخل الغرفة، واختفت الموسيقى والدّخان، وسالفاجوس مسجّى على مقعده كالذبيح، حاولت أريانا مساعدته على النهوض ولم تستطع فهرع بيناكيس وعبد الحميد لمساعدتها، أوقفاه مستنداً على كتفيهما حتى نقلاه إلى سريره للراحة.
******
*بيناكيس*
استقل "بيناكيس" وزوجه السّيّارة مغادرين منزل عميد اليونانيين في "مِصر" السيد "سالفاجوس"، ذلك الرجل الطَّموح الذي يمثلُ كلَّ يونانيٍّ على الأرض المصرية؛ كونَه سليل عائلةٍ تُعدّ من أقدم العائلات اليونانية التي سكنت مصر من جهةٍ، ولعلاقاته المتينة التي تربطه بشخصياتٍ كبيرةٍ ورموز سياسية ودينية في مصر واليونان بحكم عمله وتجارته القديمة التي تعدّ إرثاً عائلياً، إرثٌ وطّده والد "سالفاجوس" بتوسيع دائرة نفوذه وعلاقاته داخل اليونان وخارجها من خلال دعمه الدائم للكنيسة الأرثوذكسية التي تحاول عبر العصور إرساء قيمها ودَثر الديانة اليونانية القديمة مستندةً إلى علاقاتها بالشخصيات اليونانية المؤثّرة في المجتمع اليوناني داخل البلاد وبين الجاليات اليونانية وراء الحدود.
عائلة "سالفاجوس" هم ملوك تجارة "التّبغ"؛ التجارة التي ورثتها العائلة جَدّاً عن جَدٍّ، ولم يستطع أحدٌ أنْ ينازعهم عليها؛ لحنكتهم البالغة في إدارتها، وفهم أسرار صناعتها، وقدرتهم على بناء علاقات سياسية واجتماعية واقتصادية وحتى دينية بما يخدم مصلحة العائلة وتربُّعها على عرش هذه التجارة، ولكن كما يقول المصريّون "الحلو ما يكملش"، فمنذ زواج سالفاجوس وأريانا لم يمنّ عليهم الرّبّ بنعمة الذُرية حتى السّنة العاشرة بعد الزّواج، بعدَ أنْ استبدّ بهما اليأس، حدث المنشود، وحملت "أريانا"، وولدَت بنتاً أسموها "أدورا" التي كانت بمثابة جنتهم على الأرض، جنةٌ وارفةُ الظِّلالِ تُظلّهم بعد عشر سنين عِجافٍ لا طعمَ لها سوى طعم الدموع ومرارةِ الحِرمان، على الرّغم من كلّ هذا الثّراء والغنى.
تنعموا بجنّتهم سبعَةَ أعوامٍ فقط، حتى لُعِنوا وطُردوا منها مع ظهور أعراض مرض "أدورا"، التي أصابها أرقٌ وراثيٌّ نادرٌ، لتعاني من فرطٍ في الحركة، وعدم القدرة على النّوم، ومع مرور الأيّام ازدادت أعراض المرض الخطير، وانعدمت قدرتُها على النّوم الهانئ الهادئ، وبدأت رحلةُ البحث عن العلاج بزيارة الأطباء المتكرّرة من شرق المحروسةِ إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها، ولكن من دون جدوى.
نصحهُ الأطبّاءُ بعدمِ السّفر للخارج؛ لأنَّ السفر قد يؤدِّي إلى تزايد النّوبات في أثناء رحلاتها، فاستقدمَ "سالفاجوس" أَشْهرَ الأطبّاء من الخارج، ولا سيّما من بلده "اليونان"؛ لإيمانه التّام بنقاوةِ جنسه، وقوّة أصلِه، فهو إغريقيّ الأصل، والإغريق والمصريّون هم أصل العالم -من وجهة نظره- وفي النّهاية أيقنَ وتأكّد أنْ لا حاجة له في السّفر، فكلّ ما يحتاجه يمكن إحضارُه إلى هنا إنْ أراد إلا الشّفاء، هذا ما أقرَّهُ الأطباء، فابنته مريضةٌ بداء "الأرق الوراثيّ المميت"، ولا أحد يدري حقيقة الوراثة هذه، هل هي من عائلة الأمّ، أم من عائلة الأب؟ ولكن المؤكّد هو أنّ "أدورا" مصابةٌ به، ومنذ ذلك اليوم والبيت بكامله يعيش جحيم "أدورا" التي لا تنام.
قاطعت زوج "بيناكيس" سيل أفكاره:
- ما حقيقة ما حدث في الغرفة؟
- لا شيء... أعصابه مرهقةٌ بسب مرض "أدورا".
تنهّدت زوجته:
- المسكينة لا تنام بانتظام، وبدأت أمُّها تلاحظ بدايات هلوسةٍ، وطبقاً لكلام الطّبيب المعالج؛ فإنَّ ظهور الهلوسة مؤشّرٌ على بداية المرحلة الخطيرة، فخلال أسبوعٍ واحدٍ ستنتقلُ "أدورا" إلى مرحلة العجز الكامل عن النوم.
- مأساةٌ، إنَّها مأساةٌ حقيقيّةٌ، سيّء الحظّ "سالفاجوس" يعيش مأساةً، والطّفلة المسكينة بالطّبع كذلك.
وظلّ طيلة الطّريق يفكّر في العذاب الذي تلاقيه تلك المسكينة من مرضٍ نادرٍ أصابها في سنّ مبكّرةٍ، وظلّ يقيس الأمر على نفسه، وكيف كانت ستكون حالته إذا لم يستطع النّوم على الأقلِّ لمدّة ستّ ساعاتٍ يوميّاً، والشّعور بالإرهاق الدّائم؟
لا بدّ أنْ أُساعِدَ "سالفاجوس" في هذه المحنةِ قبلَ سفَرِي، إذْ لا يعلمُ أحدٌ من أبناءِ جِلدتِنا اليونانيين شيئاً عن مرض ابنتِه، وهذا هو السّبب في هروبه من القاهرة واختياره العيش في هذا المكان المعزول، والسمَّاح لنا فقط بزيارته من حينٍ لآخر؛ بحكم عشرتنا، ولولا صداقتنا القديمة لظلّ وحيداً في ذلك المنفى، لا ينبغي لي أنْ أقفَ مكتوف الأيدي تاركاً إياه في منفاه، لا ينبغي.
وظلَّ يُردِّدُ هذه الكلمة (لا ينبغي) حتى انفرجت شفتاه عن ابتسامةٍ أخفاها بسرعةٍ؛ خشية تساؤلات زوجته، وهو يقرُّ في سرِّه:
- لا سبيل غير ذلك.
انطلقت سيَّارته تلتهم الطّريق أمامه في سكونٍ تامٍّ، كما تلتهم تلك الفكرة الشّيطانيّة التي لمعت في رأسه من رحِمِ تلافيف مخّه من دون توقّفٍ.
*****
*كرونوس*
مرّ الليل بطيئاً وطويلاً، ففي تلك الّليلةِ لم يستطع "بيناكيس" النّومَ، استولت "أدورا" على عقله؛ متحسّراً على حالها وحال أبويها البائس، وهو يحاول إيجاد طريقةٍ لإقناع "سالفاجوس" بفكرته، وهو يَذرَعُ الشرفة ذهاباً وإياباً محدّثاً نفسه بحوارٍ متناقضٍ يفصح عن حيرته:
- كيف له أنْ لا يقتنع؟
- لا، لا.. إنَّها "أدورا" التي انتظرها لسنوات، لن يدَّخر وسيلةً لإنقاذها.
- ولكن "سالفاجوس" صعب المِراس، وذكيٌّ جداً، أتراه سيكونُ صريحاً وجريئاً إلى هذا الحدّ في كشف أوراقه أمامي؟
- أعلمُ بأنه يُظهرُ شيئاً ويضمر نقيضَه، ويعلمُ بأنِّي أعلمُ ذلكَ، ولكنّ "سالفاجوس" لا يصرّح بشيءٍ مثل هذا حتى أمام زوجته، إنَّه كالذِّئبِ شديدُ الحَذَرِ، حتىَّ إذا نام أغمض عيناً وفتح الأخرى، فهو كأيِّ رجلِ أعمالٍ لا يثق بأحدٍ مهما كان مقرَّباً منه، ولكن هل سيظنُّ بأنِّي أفعل ذلك لتدميره... لا، لا.
- هل سيخوض "سالفاجوس" هذه المغامرة التي قد تودي به وبتجارته وبعائلته وإرثها العتيد في عَمادة اليونانيين؟
- لا بدّ من ذلك، فـ "أدورا" تستحقُّ أكثر من هذا، و"سالفاجوس" لن يظنّ بي سوءاً، يعلم بأنِّي أحبُّه، وسيعلم بأنِّي لا أفعل ذلك إلَّا مَحَبَّةً به وبـ "أدورا"، ولكن يجب عليَّ أنْ أُحسِنَ اقتناص الفرصة المناسبة، وأنْ أختار كلماتي بعنايةٍ لأغلق أبواب الظَّنِّ السَّيء.
اتَّجه "بيناكيس" إلى سريره وبقي يتقلب مصارعاً النوم الذي جفاهُ حتَّى استبدَّ به التَّعب والإعياء، ولم يدرِ متى أغمَضَ جفنَيه.
- استيقظ "بيناكيس" باكراً، ثقيل الرَّأس مشوّش التَّفكير، فمازالت تلك الأفكار تطارده، وهو يحاول المضيَّ فيما عزم عليه من دون الالتفات لأفكاره التي بدا صوتُها أعلى من صوت عاطفته ومحبَّته لصديقه وابنته، فأمسك رأسه بكلتا يديه ضاغطاً عليه بقوّةٍ، وهو يهزُّه بعنفٍ محاولاً طرد هذه الأفكار الدَّاعيةِ إلى الاستسلام، ثم نفض رأسه وبسرعةٍ كبيرةٍ ارتدى ملابسه، وركض باتِّجاه سيَّارته التي أدار محرّكها منطلقاً بها بأقصى سرعةٍ لزيارة "سالفاجوس"، ليحدّثه عن فكرته المجنونة، وما إنْ دخل عليه حتَّى وجده قد غادر السّرير وجلس في مكتبه لإدارة بعض الشّؤون الخاصّة بالعمل، مكالمةٌ تنتهي، وتأتي غيرها، وهكذا، و"بيناكيس" يجيل نظره في أرجاء المكتب، لتقع عينُه على اللَّوحة التي حاول "سالفاجوس" رميها بالكأس يوم أمس، فتنبّه إلى عددٍ كبيرٍ من اللوحات التي تلفُّ جدران مكتب صديقه، فنهض من مقعده، ثمّ تحرّك يطالع الّلوحات الفنّيّة التي تزيّن جدران مكتبه بالكامل، محدّثاً نفسَهُ:
لطالما اشتُهِر "سالفاجوس" بحبّه الجارف لتاريخ أجدادنا الإغريقيّ، ولطالما آمن أنّ حضارتنا الإغريقيّة هي أمّ الحضارات، وأعلم بأنه آمن بآلهتنا القديمة أيضاً، وأنصاف الآلهة، وحتّى بالشّخصيّات الأسطورية غير المصنّفة كآلهةٍ، آمن بهم وبأسُس ممارساتهم الدّينيّة، وطقوسهم القديمة التي اختفت مع مرور السنين بحكم محاربتها من المسيحية التي صارت دين الدولة اليونانية الحديثة، ولكنْ على الرَّغم من اعتناق أغلب اليونانيين للأرثوذوكسيّة اليونانيّة الشّرقيّة مع بعض الأقلّيّات المسلمة واليهوديّة، ظلَّت الكثير من النُّفوس تعتملُ بإرث الأجداد، و"سالفاجوس" منهم، فهو لا يؤمن بأيّ إلهٍ من آلهة ديانات العصر الحديث أو ما تسمّى بالأديان الشّموليّة، كالإسلام واليهودية وحتى المسيحية وإنْ تظاهر باعتناقه لها، فهو لا يزال يؤمن بأنّ "جايا" هي إلهة الأرض، وهي التي تتحكّم في كّل ما يخصّها، وأنّ "أورانوس" هو إله السّحاب، يؤمن بهم وبمن خلفهم من الآلهة الاثني عشر "الأولمبيّون"، فهم مَنْ يستحقّون العبادة.
كما قال أكثر من مرَّةٍ:
"إنّ ما عبده اليونانيّون في جزيرة كريتْ، وأثينا، وإسبرطة، وميسينيا من آلاف السنين؛ يجب أنْ يُعبد الآن ولو اختلفتِ الأزمنة والأمكنة".
تلك مقولةٌ لطالما طرق بها مسامعي على هيئة مماحكةٍ ومزاحٍ، كمحاولةٍ لطيفةٍ منه لاستفزاز قسٍّ قديمٍ مثلي، ولكن لا يخفى عليّ بأنَّها حقيقة ما يضمر؛ وإنْ ألبَسَها ثوب المزاح والمداعبة، بدلالة هذه اللوحات التي يحتفي بها على أنها إرثٌ تاريخيٌّ وحسب، فوضع لوحة العشاء الأخير في صدر مكتبه ليُبعدَ تلك الشُّبهات عن نفسه، كمْ أنت ذكيٌّ يا صديقي، ولكنْ هذا لا يَخفى على رجلٍ مِثلِي يا "سالفاجوس"، فلوحةٌ مسيحيّةٌ واحدةٌ وسط عشرات اللَّوحات اليونانيّة لنْ تخدعَني، وتمجيدُك لآلهة اليونان وأساطيرها ليس مجرَّد احتفاءٍ بتاريخٍ يا عزيزي.
منحَ هذا الحوار الداخليّ بيناكيس بعضَ الطمأنينةً على سَدادِ رأيه وفرصةِ قَبُولِ "سالفاجوس" بفكرته.
تابعَ خطواته من لوحةٍ إلى أخرى، من إلهٍ إغريقيّ إلى آخَر، المكان أقرَبُ إلى المعرض منه إلى المكتب، سحرَتْهُ تلك اللَّوحات، وأخذتهُ إلى أزمنةٍ غابرةٍ، فقد احتفى معرض "سالفاجوس" بكلِّ آلهة الإغريق؛ بدايةً من الآلهة البدائيّة، وآلهة جبل "أوليمبوس" والعمالقة، والجبابرة، وأنصاف الآلهة، وليس انتهاءً بـ "زيوس" وصاعقته، و"أثينا" ودرعها، و"بوسيدون" ورمحه.
أمضى بيناكيس بعض الوقت وهو يتنقل بين تلك الّلوحات المعلّقة يختبر ذاكرته ومدى حفظه لصفات وأفعال كلٍّ من تلك الآلهة الإغريقيّة، مرَّ بصورةٍ لرجلٍ عارٍ يلتحفُ كتفُه الأيسرُ بشالٍ أو عباءةٍ، سمّها ما شئت، وبيده صاعقته المشهورة، كُتب أسفل الّلوحة بلغةٍ يونانيّةٍ حاول تهجئتها، فكانت:
"مَلِكُ الآلِهَةِ" الإلهُ الذي باستطاعته التّحكّم بالمناخ، والذي وصفَه "هيسيود" شاعرُ الإغريق القديم بجامِعِ السّحب، وصانع الرّعد، وتُعدّ "الصّاعقة" من أعتَى أسلحته؛ إنّه "زيوس" كبير الآلهة الإغريقيَّةِ وسيّدها.
غادرَ بيناكيس تلك اللوحة إلى أخرى تليها، وكانت صورةً لامرأةٍ شْبه عاريةٍ، تجلس بتدلّلٍ على صخرةٍ، يغطّي عورتَها شالٌ أحمر، ويجلس على فخذها الأيمن طاووسٌ أسودُ نُثرِتْ على ريشه العشراتُ من العيون، وكُتبَ أسفلَ الّلوحة بلغةٍ يونانيّةٍ قديمةٍ:
"زوج زيوس، مَلِكَةُ الآلهة، وآلِهَةُ الزّفافِ والزّواجِ"، كانت هذه الزوج تغارُ كثيراً من العلاقات المتعدّدةِ لزوجها زيوس، فكانت تلاحقُ عشيقاتِهِ لتنتقمَ منهنّ شرَّ انتقامٍ، وبطرقٍ مبتكرةٍ وبشعةٍ، كما لاحقت أطفاله منهنّ، ونفَتْ عنهم صفة الشرعيَّة؛ كي لا يُنسَبوا إلى حبيبها "زيوس" وليُنبذوا كأولادٍ غير شرعيين، إنّها "هيرا".
خَطى باتّجاه الّلوحة التي تليها، ولن تحتاج الكثيرَ من الوقت لتعرِفَ مَنْ هي الفاتنة المرسومة بإتقانٍ؛ إنّها "أفروديت"، آلِهةُ الحبّ والجمال، زوج "هيفايستوس" إله النّار.
انتقلَ خطوتين يميناً، وما إنْ وقعت عينه على اللَّوحةِ التالية حتى شعرَ بقشعريرةٍ تسري في جسدهِ لهول المنظر، لوحةٌ مخيفةٌ يتمثَّلُ بها رجلٌ يلتهمُ ابنَه، عرفها بالطبع، وهل هناك إغريقيٌّ لا يعرفُ تلك الّلوحة التي رسمها الرّسّام الإسبانيّ "فرانشيسكو جويا"؟
تلك اللَّوحة التي تصوِّرُ رجلاً مخيفاً، يحملُ بين يديه طفلاً يأكله، وقد قضم نصفه؛ إنّه "كرونوس" ملك الجبابرة، الذي قتلَ والدَهُ، وباتَ يعيشُ في رعب خطيئته؛ ولأنَّه يخشى أنْ يقتله أحدُ أبنائهِ جرّاء فعلته الشنيعة، قرَّرَ أنْ يأكلَ كلَّ طفلٍ يولدُ له، ليضمَنَ عدمَ حدوثِ نفس الأمر معه، ولكنْ أينَ المفرُّ من لعنته، فما كانَ يخشاهُ حدَثَ بالفعل، فخرَّ صريعاً على يدِ ابنه "زيوس" بمساعدة والدته.
لم يَدرِ كمِ استغرقَ من الوقت وهو يتنقّل بين تاريخ أسلافه الثّريّ، المليءِ بالأسرار والأساطير التي أذهلت العالم القديم والحديث بأسره؟
وفي أثناء تلك الجولة انتبه على وقع صوت أقدامٍ تخطو نحوه، فإذا به "سالفاجوس" بجانبه، التفتَ إليه متسائلاً:
- كيف حالك اليوم؟
ردّ وهو ينظر إليه، ويده المحاطة بقطعة قماشٍ بيضاءَ ثابتة لا تتحرك: على ما يرام، ثمّ أردف وهو يطالع الّلوحات:
- هل تعلمُ لمَ وضعتُ لوحة "أفروديت" بجانب "كرونوس"؟
- لا أعلم.
- لأنّ الاختلاف مرآة الجَمال، فلا قيمة للأبيض لولا وجود الأسود، والعكس صحيحٌ، فكلاهما يُظهر جمال الآخر، الخير أيضاً يُستدلُّ عليه بشناعة الشّرّ، وهو الذي يجعلك تقدّس الخير وأفعاله لأنّ المنطق يقضي برسوخ هذه القاعدة القائلة: "وبضدّها تتميّزُ الأشياءُ".
ثمّ اقترب من لوحة "أفروديت" ناظراً إليها بإعجابٍ، قائلاً:
- سِحر "أفروديت" يُبرِزُ مدى بشاعة "كرونوس"، ولولا بشاعته لَما أحسسنا بجمال "أفروديت"، ثمّ مضى يحرّك أنامله متحسّساً جسد أفروديت الفاتن، متابعاً:
- لطالما تخيّلتها "أدورا"، ولكنّ ذلك للأسف لن يحدث، فلا أعلم هل ستبقى للغد أم لا؟
أحسّ بيناكيس بأنّها فرصته، فباغته متسائلاً وهو يشير إلى لوحة "كرونوس" وهو يأكل طفله: أتعلم بمن يذكّرني "كرونوس"يا سالفاجوس؟
- بمن؟
- بكَ أنتَ؟
- عقد "سالفاجوس" حاجبيه مستغرباً من ردّ "بيناكيس":
- أنا! كيف ذلك؟ وهل أنا أقتل طفلتي؟!
- نعم؛ فأنت تقتل "أدورا".
- ماذا تقول!؟ يبدو أنّك قد أسرفت في الشّرب!
- ليس بالضّبط كما فهمتَ أنت من قولي، فأنت بالطّبع لا تقتلها ولكنّك لا تريد مساعدتها.
- أأبي مساعدة ابنتي!؟ وأكملَ مستغرباً ذلك الحديث الجنونيّ من صديقه المقرّب:
ما الأمر يا بيناكيس؟ تكلّمْ مباشرةً وكفاك ثرثرةً.
- ألم تقلْ بأنّك على استعدادٍ لفعل أيّ شيءٍ، وبأنك قد جرّبتَ كلّ أنواع الطّبّ، وأحضرت أطبّاء من داخل مصر ومن خارجها؟
- نعم.
- ولا نتيجة؟
- نعم.
- إذنْ، دعنا نجرّبُ شيئاً جديداً.
- مثل ماذا؟
- نطلب مساعدة أهل الدّين.
- نظر إليه "سالفاجوس" مندهشاً، وقالَ فاقداً أعصابه:
- أيّ دينْ!؟ المسيحيّة!؟ وما نفعتني به المسيحيَّةُ التي لا تجيد إلّا المواعظ والترانيم؟ سئمتُ من هذه الخزعبلات.
انبسطت أسارير "بيناكيس" متهلِّلاً لكلام "سالفاجوس" الذي من شأنه أنْ يسهّل عليه مهمَّته، وسأله بمكرٍ:
كيفَ ذلك ونحن ندين بها؟
ليرد "سالفاجوس" غاضباً:
- أنا لست مسيحيّاً إلَّا بالاسم، وأنا لا أؤمن بتلك الخرافات، أنا إغريقيٌّ يا "بيناكيس"، ولا أؤمن بأيّ دينٍ غير دين اليونانيّة القديمة، فهؤلاء مَنْ أؤمن بهم، فآلهتي أمامك على الجدار.
- إذنْ لماذا لا نطلب المساعدة والشّفاء من آلهتك؟ من "أسقليبيوس" إلهُ الشّفاء؟
- ومَنْ قالَ لكَ بأنِّي لم أطلبْه حتَّى من الحجر والشجر؟ ثم استدار نحو النافذة متأمّلاً الأفقَ، وهو يقول في حديثٍ أقرب ما يكونُ إلى محاورة نفسِه منه إلى محاورة صديقه:
- طلبتُ منه ذلك، وماذا بعد؟ لم يتغيّر شيءٌ، لا صوتَ لي يُسمع من أحدٍ، بل حتى الآلهة والقدر ضدي، أو أنها مجرَّدُ دلالةٍ على أنّها آلهةُ خرافاتٍ وأساطير، وقد بدأتُ بنسف كل تلك الخرافات من قلبي وفكري.
- ليس بشرطٍ يا "سالفاجوس".
- كيف ذلك؟
- لأنّك جاهلٌ بآلهة أجدادك، أو ربَّما لم تصلْ إلى القناة الصَّحيحة للتَّواصل معهم.
- ماذا تقول!؟ فأنا أعرفهم جيّداً.
- لو كانَ كمَا تَزعُمُ، فهل تعرف مَنْ هو "أنانكا"؟ وهل تعلم بأنّ جميع الآلهة، وجميع البشر، وجميع مَنْ في السّموات، والأرض، والبحر، والدّار الآخرة لا يملكون أمراً على إله القَدَرِ "أنانكا"؟ وهل تعلم بأنّه المسؤول الأخير عن تنفيذ ما كُتب عليك، أو تغييره، وهو الوحيد القادر على إلغائه؟ فهو يملك القَدَرَ، يملك الحتميّة التي تجري بمقتضاها أحداثُ العالم كلّه، ولا يجرؤ حتّى "زيوس" أنْ يثني إرادة القَدَرِ من أجل أيّ إلهٍ أو بشريٍّ، وكل ما عليك أنْ تعقلَه هو أنّ الأمر ليس تحت تصرّف "أسقليبيوس"، فالموضوع مرهونٌ بقدَرٍ سارٍ من دون شكٍّ.
- يالَسفسطتك وميتافيزيقيتك المليئة بالهلوسة يا "بيناكيس".
- كلّ تلك الأطروحات بسبب عرضي عليك طلبَ المساعدة من الكنيسة المسيحيّة في يومٍ من الأيّام!؟ انسَ ذلك العرض يا سالفاجوس، ثمَّ تمعَّن بكلامي جيداً، فأنا اليوم أُحدثكَ عن طريقةٍ جديدةٍ، على يدِ رجل دينٍ يونانيٍّ، إغريقيّ على دينك ودين أجدادك، مؤمن بآلهتك؛ وحده يعرف العلاج الذي يضمن نوماً هادئاً لـ "أدورا"، وذلك بالتّأكيد وفقَ معتقدات أجدادك وأساطيرهم، التي لم أكنْ أعلمُ بأنّ اهتمامك بها وبهم لم يكن مجرَّدَ اهتمامٍ بالتراث، فها أنت ذا تقرُّ بأنّك تؤمن بهم وبأحقيتهم بالعبادة من دون غيرهم، فهل توافق على هذا العرض؟
تهلّلتْ أسارير "سالفاجوس "بحديث "بيناكيس":
طبعاً... سأوافق حالاً، وبمباركة "زيوس"، ولكنْ أين أجد ذلك؟
ابتسم "بيناكيس" لموافقته قائلاً، وهو يضربه بلطفٍ على كتفه:
- لا عليك، دعْ هذا الأمرَ لي، وسأسافر إلى القاهرة غداً لإحضاره.
ومن دون تفكيرٍ استدار سالفاجوس نصف دورةٍ ليضم صديقه "بيناكيس" بقوّةٍ وهو يقبّل كتفيه، لتعلو ضحكات "بيناكيس":
اهدأ يا صديقي، ووفِّرْ هذه المشاعر والقُبُلات إلى أنْ أعودَ وذلك الرجل معي، لعلَّه يخلص "أدورا" الرائعة من هذا المرض اللعين.
أفلَتَ "سالفاجوس" صديقه "بيناكيس" داعياً إيَّاهُ إلى كأس شرابٍ، لكنّ "بيناكيس" اعتذر مقرِّرَاً الذهاب من فوره لإنجاز مهمَّته، فانطلق "بيناكيس" ليعدّ نفسه للسّفر إلى القاهرة، وبالتّحديد إلى الكنيسة البطرسيّة بالعبّاسيّة، إذ له بها تاريخٌ قديمٌ، غادر وقد ترك "سالفاجوس" سابحاً في أفكاره يسأل نفسه:
- أيّ حلّ يملكه "بيناكيس" ولم يفكّر فيه هو مِنْ قبل، أو يخطر له على بال!؟
*****
*إليشا*
انطلق "بيناكيس"إلى القاهرة، أو بمعنى أدقّ إلى الكنيسة البطرسيّة بالعبّاسيّة حيث عُيّن قسّيساً من قبلُ لفترةٍ ليست بالقصيرة، وكان على وشك أنْ يُعيَّن شمّاساً لولا اعتذاره؛ بسبب مرور البنك الذي ورثه عن عائلته بمشاكل إداريّةٍ اقتضت تركَه الكنيسة والرّجوع إلى منصب المدير العامّ لجميع فروع البنك بمصر.
ما إنْ وصل "بيناكيس" إلى بوّابة الكنيسة حتّى أقبلَ عليه حرسُ الكنيسةِ رهبةً وشوقاً؛ رهبةً من شهرة "بيناكيس" بتشدّده الطّاغي نحو تعاليم المسيحيّة، وحبّاً بشخصيّته اللينة خارج إطار منصبه الدّينيّ.
ما إنْ لمَحَهُ الحرسُ بزيّهم الميريّ حتى عرفوه واتّجهوا نحوه مقبّلين يده، مستفسرين عن سبب غيابه الطّويل، وكيف هي حياته خارج أسوار الكنيسة؟ وغيرها من الأسئلة التي تجري على ألسنتهم شوقاً وعفو الخاطر.
أنهى التّحيّات والتّبريكات سريعاً، واستفسر منهم عن القسّ "إليشا"، فأجابوه مشيرين إلى مكانه، فاتّجه حيثُ أشاروا في عُجالةٍ، متجاوزاً الممرَّات الرخاميَّة الطويلة والأبواب الكثيرة حتى وصل باب قاعةٍ كبيرةٍ، دفع "بيناكيس" باب القاعة بهدوءٍ ليصلَ إلى مسامعه صوت "إليشا" يَعِظُ الحضور بخشوعٍ:
"لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ لِي: يَا رَبُّ، يَا رَبُّ! يَدْخُلُ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ. بَلِ الَّذِي يَفْعَلُ إِرَادَةَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. كَثِيرُونَ سَيَقُولُونَ لِي فِي ذلِكَ الْيَوْمِ: يَا رَبُّ، يَا رَبُّ! أَلَيْسَ بِاسْمِكَ تَنَبَّأْنَا، وَبِاسْمِكَ أَخْرَجْنَا شَيَاطِينَ، وَبِاسْمِكَ صَنَعْنَا قُوَّاتٍ كَثِيرَةً؟ فَحِينَئِذٍ أُصَرِّحُ لَهُمْ: إِنِّي لَمْ أَعْرِفْكُمْ قَطُّ! اذْهَبُوا عَنِّي يَا فَاعِلِي الإِثْمِ!"
لم يكدْ يُنهي كلماتِه حتّى تحدّث "بيناكيس" من الصّف الخلفيّ:
- بورِكْتَ عزيزي "إليشا"، فالتفت "إليشا" باحثاً عن مصدرِ الصّوت، ومِنْ ثَمَّ تعرّف عليه قائلاً:
- أهلاً، أهلاً وسهلاً أبونا، وتبادلا كلماتِ الإطراء والتَّرحاب.
ثمّ أكملَ حديثَهُ:
- أحسنت اختيار الآيات يا "إليشا"، أحسنت اختيار كلمات مُرشدِنا "متّى".
- هذا دورنا يا أبونا؛ "التّذكير والوعظ".
أكمل "بيناكيس" بابتسامة صفراء برزَتْ من بين شفتيهِ، فأثارتْ وحفيظةَ "إليشا":
- بالطبع، فنحن -طبقةَ العلماء- يجبُ علينا الوعظُ والتّذكير، ولكن أيضاً لا بدّ من العمل بتلك الكلمات قبل المتلقِّي، فالمتلقّي يشعرُ بصدْقِ الموعظةِ من خلال رؤيته لعمل الواعظ بها.
ردّ "إليشا":
- لا شكَّ في ذلك، قالها والاضطراب والقلق يرتسمان على ملامحه، ثمّ أكمل حديثه محاولاً تغيير الموضوع:
- من الجيِّدِ رؤيتكَ في الكنيسة يا (أبونا) بعد تلك الفترة الطّويلة، ودعاه للجلوس بجانبه بعد أنْ أومَأَ للجميع بانتهاء الموعظة ووجوب مغادرة القاعة، وبعد مغادرةِ الجميع، أغلَقَ "بيناكيس" البابَ وتأكّد من خلوّ القاعة من جموع المصلّين، واقترب منه من دون أنْ يجلسَ:
- لقد جئت خصّيصاً لمقابلتك.
زاغت عينا "إليشا" باضطرابٍ:
- هذا شرفٌ لا أستحقّه يا (أبونا)، أنا طوعُ أمرِكَ.
ردَّ بيناكيس بلهجةٍ مُراوِغةٍ:
- أتيتك خصّيصاً؛ آمِلاً منك أنْ تقرأ على بنت أخٍ لنا، مريضةٌ قد تمّ عرضها على كلّ أنواع الطّبّ ولا نتيجة تُذكَرُ.
- شكراً لثقتك بي (أبونا)، ولكنْ في الكنيسة مَنْ هو أجدر منّي بذلك، ثمَّ أنت موجودٌ يا (أبونا) وأنت معلِّمُنا، أمَّا إنْ أردتَ من يساعدكَ فأنا أقلُّ من ذلك، فالكنيسة مليئةٌ بالقساوسة الكبار، وبمَنْ هم أعلمُ مني بطرق التّشافي بالآيات، أو التّعاويذ، والأعمال!
قال "بيناكيس" وابتسامته الماكرة تَملأُ وجهَهُ:
- ولكنْ، ما أتيتُ لأجلِه موجودٌ عندكَ أنتَ فقط.
- عندي أنا!؟ وفقط!؟ كيف ذلك يا (أبونا)!؟ فحضرتك، والقساوسة أساتذتنا، وتملكون كلّ العلم والمعرفة.
ردّ عليه "بيناكيس" وهو يحكّ ذقنَه بظِفرِهِ:
- صحيحٌ، ولكن ما أتيتُ من أجله لا يعلَمُهُ أحدٌ، لا أنا ولا كّل القساوسة؛ فأنت سليلُ عائلة "إليشا" العائلة التي تعهّدت بوهب أبنائها للكنيسة منذ مئات السّنين؛ ولذلك أنتم من القلائل الذين لهم نسلٌ تَعلَّم ودرس في الكنيسة اليونانيّة الأرثوذكسيّة... تلك الكنيسة التي كانت ولازالت تستخدم اللّغة اليونانيّة الكونيّة العالميّة في طقوسِها.
- صحيحٌ، ولكنْ ما علاقة كلَّ ذلكَ بالمريضة!؟
- علاقته تكمُنُ في أنّ ما نرغبُ في علاجها به غير منصوصٍ عليه في الكتاب المقدّس القديم، ولا يعلمُهُ أهلُ المسيحيّة، فما سيساعدها مذكورٌ في البرديّات اليونانيّة السّحريّة القديمة.
وقعت كلماته على "إليشا" كالصَّاعقةِ؛ لتزيد اضطرابَه اضطراباً، فانتفضَ، وظلّ يدورُ بعينيه من حوله قائلاً:
- كيف تطلب منّي هذا يا (أبونا)!؟ فأنت خيرُ مَنْ يعلمُ خطورةَ تلك النّصوص، والبرديّات، والطّلاسم؛ ولذا فقد تمّ تحريمها منذ آلاف السّنين، وهذا الأمر ليس بجديدٍ عليكَ، وتحريمُها جاءَ بأمرٍ من أعلى طبقةٍ دينيّةٍ وسياسيّةٍ، ولذا تمّ حَرْقُ كلّ البرديّات وما فيها من نصوصٍ، وطقوسٍ، وتعاويذَ.
ضَحِكَ "بيناكيس" قائلاً:
- اختفتِ البرديّات القديمة نعم، ولكنْ لم تختفِ النّصوص والطّلاسم، فلازالت فئةٌ معيّنةٌ تعرف محتوياتها، وتستخدمها في أعمالِ السِّحرِ والتَّمائمِ والعلاجِ والبحثِ عن الكنوز والمفقودات، وغير ذلكَ ممَّا يعجزُ عنه المنطقُ والعلمُ.
اضطَّرب "إليشا" وقال، متردداً محتاراً:
- رّبما كان كلامُكَ صحيحاّ، ولكنّك أخطأت العنوان يا (أبونا)؛ فأنا لا أعرف أحداً يعلَمُ بأمرِ تلك النّصوص، ولا بمن يستخدمها في السّحر أو العلاج وما شابه.
- ولكنّني أعلم، يا "إليشا".
- تعلم؟ ومن هو يا (أبونا)؟
- أنت يا إليشا.
- أنا؟ سامحك الله يا (أبونا)، أنا رَجُلُ دينٍ مسيحيٍّ أعِظُ الناس لأدلّهم على طريق الخير والنجاة، وأنّى لي أنْ أسلُكَ مثلَ هذه الطرق الوثنية الفاسدة.
قاطعه "بيناكيس":
- اهدأ يا "إليشا"، اهدأ مِن فضلك، وكَفَاكَ مراوغةً، ولكنْ قبلَ الحديث فكّر قليلاً، فكِّرْ في أنّك تتحدّث معي، هل نسيتَ أنّك تملكُ حساباً بنكيَّاً عندي؟ فأنا أعلَمُ ما يتمّ تحويله إلى حسابك من أموالٍ و(شيكات) من الخارج، ثم إنَّها تصلُنِي باسمِ المحوِّل، وبالذّات تلك التّحويلات التي تأتيك من أسماء ذاتِ ثَراءٍ واسعٍ، ولها سمعتها ومكانتها في الدّولة اليونانيّة، وقد تواصَلْتُ معهم، وبقليلٍ من التودُّدِ والوعودِ بالتّسهيلات علمتُ سببَ حصولك على تلك الأموال.
وقع الكلامُ على مسامعَ "إليشا" كالشُّهُبِ اللَّاذعةِ غيرَ مصدّقٍ بأنّ أمرَهُ قد كُشِف بتلك السّهولة؛ فتهاوى باحثاً عن أقرب مقعدٍ محاولاً تملّك أعصابِه، ولكنّه في نفس الوقت عَلِمَ أنّه لا داعي للمراوغة أكثر من ذلك، وأنّ بعض الصّدق قد ينفعه الآنَ.
أخذ نفساً عميقاً، وقال بهدوءٍ وهو مطأطئ الرّأس:
- وما هو مرضها؟
- أَرَقٌ وراثي مزمنٌ، وهي لا تنام بانتظامٍ، وحالتها تسوء يوماً بعد يومٍ.
ظهر الحزن على وجهه قائلاً:
- يا إلهي داءٌ لا دواءَ له... الآن فهمت... ولكن لماذا اليونانيّة بالذّات يا "بيناكيس"!؟ فهنالك حلولٌ أخرى.
- لأننا لم نترك باباً يساعدُ في شفائِها إلّا وطرقناه، ولا حل، ثمّ إنّ العائلة تريد أنْ يتمّ الموضوع بالطّريقة القديمة، ولك كلّ ما تطلب.
لم يجد "إليشا" مفرّاً، وقال بضيقٍ:
- حسناً، أوافق ولكنْ بشرطٍ واحدٍ.
- قُلْهُ ولا تَخَفْ.
- هو ألّا يجمعني بك مكانٌ مرّةً أخرى.
ردّ "بيناكيس" وفي عينَيْه نِظرةُ الظّفرِ:
- أعِدُكَ بأنّها ستكون المرّة الأخيرة.
واتّفقا على أنْ يكون غداً هو اليوم الموعود لزيارة "أدورا" في منزلها.
*****
*هيبنوس*
صَدَقَ "إليشا" الزَّمانَ والمكان المتَّفق عليه، إذْ جاءَ بهيئته المعهودة، منتصبَ القامة، أنيقَ المظهر، ماكرَ النَّظرات، وملامح وجهه من جبينه المقطَّبِ إلى زمّ شفتيه توحي بأنَّه قد جاء مرغماً، ولكنَّه جاء وهذا ما يهمُّ، جاء يخطو بخطوات واثقةٍ وعلى خصره تتدلَّى حقيبةٌ صغيرةٌ جهة شِقِّه الأيسر؛ معلقةٌ بحزامٍ أسود يرتكزُ على كتفه الأيمن مارَّاً بقطرِ نصفِهِ الأعلَى، وبيدِهِ اليُمنى يحملُ شيئاً على هيئة لوحٍ مستطيلٍ؛ ملفوفاً بعنايةٍ فائقةٍ توحي بالاحتراز وتَعَمُّدِ إخفاء ما تحت الورق، وفور وصوله وقبلَ أنْ يُكملَ عبارةَ ترحيبِه فتح بيناكيس بابَ السيَّارَةِ صاعداً إليها وهو يُتمُّ عباراتِ ردِّ تحيَّته، وانطلقا متَّجهين إلى "سالفاجوس" و"أدورا".
انطلقت السيارة متسللةً من زحام القاهرة الخانق إلى الطريق السريع؛ تجري فيه لثلاث ساعات حتى تركاه مُنعطِفانِ إلى طريق ضيق متعرج بين الحقول، والصمت مخيِّمٌ إلّا من هدير السيارة التي تكادُ تكون الوحيدة على هذا الطريق، وبيناكيس مُطرِقٌ يُراقبُ الحقولَ والأشجارَ المتفرِّقة هنا وهناك وكأنها زُرعت بعشوائيةٍ مقصودةٍ لا تخلو من الجَمال، وبعد برهةٍ من الزمن وإذا بهما أمامَ بابٍ كبيرٍ وكأنه فُتح بانتظار وصولهم، عبَرا البابَ بالسيارة على طريقٍ مبلَّطٍ بالإسفِلت متجاوزين حديقة المنزل الفسيحة حتى وصلا إلى ساحةِ بيتِ "سالفاجوس" المعزول، كانَ البيت على هيئةِ قصرٍ صغيرٍ من طبقتين وأمامه حديقةٌ كبيرةٌ، يُصعدُ إليه بخمس درجاتٍ عريضةٍ من الرخام الأبيض، وما إنْ رَكَنَ بيناكيس السيَّارةَ حتَّى تعجّل بالنزولِ أولاً كي يُذكِّرَ "سالفاجوس" الذي كانَ واقفاً بالباب بشروط "إليشا" التي تُشدِّدُ على ألا يكونَ في الغرفة أحدٌ سوى بيناكيس وإليشا و"أدورا" وقتَ العمل، ولكنّ "سالفاجوس" رفض الشرطَ وأصرّ على حضور الطقوس، الأمر الذي حمَلَ " إليشا" على أنْ يرتدي عباءةً بغطاء رأسٍ سوداء اللون، كما غطّى وجهه بقطعةٍ من القماش لا يَظهرُ منها إلا عيناه؛ خشيةَ أنْ يتعرّف عليه أحدٌ من الحضور، ويُكشف أمرُه عندَ الكنيسة.
دخلا القصرَ رفقةَ "سالفاجوس" الذي قادَهما إلى صالة الاستقبال الكبيرة وهو يُغرقُهما بعبارات التَّرحيب:
- أهلاً وسهلاً.... أهلاً وسهلاً، اجلسا.
وبعدَ أنْ جلسا على مقاعدهم الوثيرةِ في الصَّالةِ التي تبدو كأنَّها قاعةُ مناسباتٍ فارهةٍ، همسَ "إليشا" لبيناكيس بأنْ يعرِفَ مِنْ "سالفاجوس" الجالس بجواره موعدَ نومِ "أدورا"، هز بيناكيس رأسه مومئاً لسالفاجوس بتقريب أذنه منه، وهمسَ متسائلاً:
- أينَ "أدورا" يا "سالفاجوس"؟
- في غرفتها.
- متى تنامُ عادةً؟
- الساعة العاشرة مساءً.
عدّلَ "إليشا" من جلسته، وبنبرةٍ واثقةٍ ورزينةٍ:
- طلب خصلةً من الشعر وأظفاراً وبضعَ قطرات من دمِ الطفلة الصغيرة وهو يتوجه إلى بيناكيس بالحديث:
- أنتَ تعلمُ يا بيناكيس بأنَّ زمن الآلهة اليونانية قد ولّى، ولا يستطيعون التحكم بهذا العالمِ اليوم أو الوصول إليه إلا بوسيطٍ بينهم وبين البشر، وهذا الوسيط هم الجنُّ الذين يعتمدون على أثرٍ من الإنسانِ لمتابعته، فالجنّ همْ جِسْرُ آلهتنا إلى هذا العالم، وهذا الجسر يتطلبُ تذكرة عبورٍ تحملُ أثر هذا الإنسان، وقبلَ أنْ يهمَّ بيناكيس بموافقته على هذه المعلومة البدهية، أردفَ إليشا مكملاً طلباته:
سنحتاجُ أيضاً إلى مطرقةٍ صغيرةٍ ومسمار، مؤكداً على أنْ يكونوا في غرفة الطِّفلةِ في تمامِ السَّاعةِ التَّاسعةِ لبدءِ الطُّقوسِ.
*****
في تمام الساعة التاسعة مساءً دَخَل الثلاثةُ غرفةَ نوم "أدورا"، كانتِ الغرفةُ صغيرةً ومرتَّبةً، ولها نافذةٌ تُطِلُّ على حديقة القصر، وفيها خزانةٌ صغيرةٌ، ورفٌّ خشبيٌّ عليه بعضُ الألعابِ، ويتوسَّطُها سريرٌ صغيرٌ بغطاءٍ أبيض، والطفلةُ الصغيرة تقفزُ على السَّرير بنَشَاطٍ يُثيرُ الاستغرابَ، وهي تضحكُ ضحكاتٍ متقطِّعَةٍ تعلو وتنخفض مع وقع قفزاتها على السَّريرِ، وما إنْ رأتْهم سَكَنَتْ للحظاتٍ ثمَّ عادَت تقفزُ بنشاطٍ أكبرَ، وهي تدعوهم بيدها إلى مشاركتها القفز، اقترَبَ منها والدُها مبتسماً، وبهدوءٍ وضعَ يدَه على كتفها الصغير مربِّتا عليه بحنانٍ، وهو يردِّد من دون توقُّفٍ:
- اهدَئي يا صغيرتي ... اهدئي ... اهدئي...
ولكنّ الطفلةَ لم تُلقِ بالاً ولا انصياعاً لنداءاتِ والدِها الحانية، إذِ ازدادَتْ حركتُها نشاطاً، وكأنّ كلمات والدها كانت تحثُّها على الحركة لا الهدوء، فاستمرّت بالقفز وفي جميع الاتجاهات، كما ارتفع صوت قهقهاتها أكثرَ فأكثرَ...
طَلب "إليشا" إخلاءَ الطابقِ الثاني تماماً، ومنَعَ دخول أيّ شخصٍ أو الاقتراب من الباب أو فَتحِهِ لأيِّ سببٍ كان، ومهما سَمِعَ من أصواتٍ داخلَ الغرفةِ، وبعدَ أنْ فتح البابَ مُجيلاً نظرَهُ في أرجاء الممرِّ المؤدِّي إلى غرفة "أدورا" متأكِّداً من خلوّه، عادَ فأغلق البابَ بإحكامٍ، والتقطَ المطرقةَ والمسمار متّجهاً نحوَ الجدار المقابل لسرير "أدورا" الصغير، وثبَّت المسمارَ على الجدار بارتفاعٍ يسمح للطِّفلةِ أنْ تراه بسهولةٍ حتى وإنْ كانت نائمةً أو مُسنِدَةً رأسَها الصغير على وسادتها، ثمَّ اقتربَ منها بهدوءٍ، فأمْسَكَ بيديها طالباً منها أنْ تهدأ، وأنْ تستلقي على ظهرها، انصاعَتِ الفتاةُ بعينين خائفتين مثبَّتتين على وجه "إليشا" الملثّم، وببطءٍ شديدٍ ألقت بجسدها مستلقيةً على السرير، وما إنْ وضعت رأسها على الوسادة أشارَ "إليشا" إلى بيناكيس لإطفاء الأنوار في الغرفة، ثم تركَ الفتاة واتّجه ناحية الباب حيث أسندَ اللوح الخشبيّ على الجدار بالقرب من الباب، أمسك اللَّوحَ وبعنايةٍ فائقةٍ أزاحَ الورقَ المقوّى عنه، فانكشفَ الغطاءُ عن لوحةٍ خشبيّةٍ مستطيلةٍ سوداء بالكامل إلّا من صورة شابٍّ يافعٍ عاري الجسدِ، مقطوع الذراعين، أشقرَ البشرة، ينبثقُ من صِدغيه جناحا طائرِ اللَّيلِ الذي إذا حلّقَ تبدو رفرفةُ جناحيَه على شكلِ دائرةٍ متَّصلةٍ مُصدرةً طنيناً خفيفاً ومتواصلاً، رفع "سالفاجوس" حاجبيه باندهاشٍ وحسرةٍ؛ كيف لم تخطُر بباله تلك الفكرة؟ ... كيف لم يطلبِ العونَ من " هيبنوس" إله النوم عند اليونانيين القدماء الذي كان يساعد البشر على النوم عن طريق تخفيف الآلام والتوتّر؟ كيف لم يستعنْ بالإله المجنّح ابن "نيكس" -آلهة الليل والظلام- ؟ لَكَم كان هذا الإله محبوباً لأجداده في الماضي!
طَلَبَ " إليشا" من " سالفاجوس" أنْ يتراجع إلى زاوية الغرفة، وأنْ يقبعَ في مكانه ساكناً من دون أيِّ حركةٍ وإلاّ فإنَّه سيضطَّر لإخراجه.
وعند الساعة التاسعة وخمسين دقيقة، أخرَج " إليشا" من حقيبته وعاءً معدنيّاً صغيراً، ووضع فيه خصلةَ الشعر والأظفار، ثم أسَالَ عليها قَطرَتين من دم " أدورا"، وأضاف إلى الخليط أشياءَ أُخرى؛ تعرَّف بيناكيس على بعضها من رائحتها؛ كماء الورد والزعفران، وأُخرى لم يستطع حتى تخمين ما هي، وشرَع بطحنِ مكوّنات خلطته السريّة بهدوءٍ ومن دون إصدار أيِّ صوتٍ، وسرعانَ ما تحوَّلَ الخليطُ إلى سائلٍ لزجٍ ثقيلِ الملمسِ، ثم مدّ يدَهُ إلى حقيبته، فأخرَجَ غصنَ شجرةٍ صغيراً منحوتاً على شكل قلمٍ، وأخرجَ لوحاً مربَّعاً صغيراً جدَّاً مصنوعاً من الرَّصاص، وجلسَ على طرف السرير وهو يخطُّ بالغصن على اللَّوحِ أحرُفَ تعويذته باللُّغة اليونانيّة القديمة، وبدا كأنَّهُ حاضرٌ بينهم بجسدِهِ فقط، يكتبُ وهو يتمتمُ بكلماتٍ غامضةٍ لم يفهَمْ أحدٌ منها إلَّا بضع كلماتٍ مثل (هيبنوس) و(العاشرة)، وظلّ يتمتم ويردِّدُ همهماته وجبينه يزدادُ تعرُّقاً ووجهه تعباً وعبوساً حتى انتهى، وبخفةٍ وسرعةٍ متناهية ألصَقَ اللَّوحَ الرَّصاصيَّ المكتوب عليه بدم "أدورا" باللَّوحة السَّوداء التي التقمَتِ اللَّوحَ وكأنَّه ذابَ داخلها، وبذاتِ الخفَّةِ والسُّرعة ثبَّت اللوحة على المسمار الذي زرعه بالجدار مسبقاً أمام سرير "أدورا".
الساعةُ تشير إلى التاسعة وسبعٍ وخمسين دقيقةً، وسالفاجوس وبيناكيس مأخوذَين بالدهشة والحيرة إذ لا علمَ لهما بالخطوةَ التاليةِ منْ طقوسِ "إليشا" الذي طلبَ منهما أنْ يقفا صامتَين، وألَّا يَنبِسَا ببنتِ شَفَةٍ حتى العاشرة تماماً، منذراً إيّاهم بفشل التعويذة وذهاب كل هذا الوقت والعمل هباءً إذا ما صدرت أيُّ حركةٍ ممَّنْ في الغرفة باستثناء "أدورا" المعنيَّة الوحيدة بهذه التعويذة.
الصمتُ والسكون هما سيّدا الموقف، إلَّا من حركة "أدورا" المضطربة والمستمرَّةِ، وتواترِ أنفاس والدها وصديقه المتجهمّين، وهما يعيشان لحظاتٍ عصيبةً وطويلةً من الترقُّب، وصوتِ مؤشّر الساعة الثقيل الذي يَعدُّ الثواني تكّةً بعد تكّةٍ وببطءٍ شديدٍ، وكأنّه تجمّد ولم يعدْ قادراً على تجاوز هذه الدقائق التي أصبَحَتْ في اللاشعور كلُّ ثانيةٍ منها بساعة، والعيون شاخصةٌ إلى العاشرة على الساعة، ولا أحد يدري ما الحدثُ وما الخطَّةُ وما المُنتَظَر إلا إليشا...
أمَّا الثانية الأخيرة قبل العاشرةِ فكانتِ الأصعبَ، إذِ ازدادت الأفواه اتساعاً والعيون مثبتة على الساعة، والجباه مُقطّبة والقلوب واجفة، دقَّتِ الساعةُ مُعلِنَةً العاشرة تماماً، صَدَرَ صوتٌ جعل الجميع يتَّجهُ ببصره -بلا أدنى تفكيرٍ- نحو اللوحة التي اهتزَّت فجأةً؛ اهتزازٌ جعل القلوب ترتجف بقوّةٍ، إذ تحرَّك عصفورُ الليلِ من رأس الشَّاب، رفرفَ بجناحيه مغادراً اللوحة المثبَّتة على الجدار، وجعل يرفرفُ بجناحيهِ في فضاء الغرفة بسرعةٍ ونشاطٍ، ولرفرفةِ جناحيهِ صوتٌ خَفيفٌ متناغمٌ يُطرِبُ الآذانِ، طار الطائرُ بسلاسةٍ وانسيابيَّةٍ عابراً السرير يحلّق فوقَنا كمن يبحثُ عن شيءٍ حتى أتى فوق " أدورا" حائماً حول رأسها، وما إنْ رأته يرفرف فوق رأسها محلّقاً بدوائر رتيبةٍ ومتلاحقة لا نهاية لها؛ بدأت تتابعه بعينيها الصغيرتين والدَّهشةُ مرسومةٌ على محيَّاها، وبقيت على هذه الحال حتَّى هدأت، والعصفور لا يكفُّ عن الدوران والأجنحة لا تتوقَّف عنِ الرَّفرفةِ، وعيون "أدورا" تُغلَقُ رويداً رويداً لتدخلَ في سُباتٍ عميقٍ، وبدأ العصفور يزيد من اتِّساعِ دائرةِ طيرانه شيئاً فشيئاً حتَّى وصل اللوحة المعلّقة على الجدار، وما هي إلّا لحظاتٌ حتَّى عادَ إلى اللَّوحة مُلتَصِقاً برأس الشابِّ كما كان قبل أنْ يُغادرَها.
لم يُصدِّق بيناكيس ما رأته عيناه، وندمَ لوهلةٍ عن خسارته لدِين أجداده الإغريقيّ وما فيه من عجائب وقوىً خارقةٍ لا يمتلكها أيُّ دينٍ سواه ... صحى من تلك الفكرةِ على همهمات "سالفاجوس" وبكائه جاثياً على الأرضِ مُلقياً برأسه الذي يمسكه براحتَي يَدَيْهِ على السَّريرِ فَرِحاً لنوم ابنته نوماً طبيعياً لأوّل مرةٍ منذ أيّام.
وقفَ "إليشا" وِقفةَ المنتصرِ مختفياً تحت عباءته وقلُنسوتِه قائلاً:
- ما حدثَ الآنَ أمامكم سيحدث كلّ يومٍ في تَمامِ العاشرة مساءً؛ لذا لا بدّ من وجود الطفلة قبلَ هذا الوقت في السرير، ويجبُ أنْ لا تتأخّر عن هذا الموعدِ لأيِّ سببٍ، فلو حدثَ وخرج العصفور ولم يجدها سيظلُّ يحومُ بحثاً عنها وسينفضحُ الأمر، فحذارِ من الإخلال بهذا الشرط لهذه التعويذة، قال كلماتِه هذه وهو يلمُّ أغراضه مرتبّاً إياها في حقيبته، وما إنِ انتهى من ذلك حتَّى خرجَ هو وبيناكيس تاركين "سالفاجوس" لبكائه وفرحه.
*****
* جَدِي عبد الحميد *
يا لهذا الـ "إليشا" اللعين، مشعوذٌ أفاك، قالها "أنهيدو" وهو يعدِّلُ من جلسته ليملأ جوفه من وعاء الماء النتنِ، وأردفَ:
- أَكمل، أكمل يا سالم.
- تناولتُ الوعاءَ من يَدِهِ، واجترعتُ شربةً منه نزلتْ على جوفي كالقطران، وتابعتُ:
في تلك اللّيلة التي ستنعم فيها الفتاة الصّغيرة لأوّل مرّةٍ بنومٍ طبيعيٍّ منذ أيّامٍ، شاهدَ جدي عبدُ الحميد ذلك الشّخص الذي لم يرَ من ملامحه شيئاً عندما دخل مع الخواجة "بيناكيس"؛ رجلٌ يغطّي جسمه بعباءةٍ سوداء بالكامل، حتّى رأسه كان مغطّىً ماعدا نصف وجهه الأسفل.
دخلوا ثلاثتُهم غرفة السّتّ "أدورا"، وطلبَ سالفاجوس من جدِّي أنْ يُحضِرَ النّسخة الاحتياطيّة لمفتاح الغرفة وتسليمها إليه مع النّسخة الرئيسة، ثمّ أمره -بناءً على طلبٍ من الرّجل المتوشّح بالسّواد- بأنْ لا يسمحَ لأيّ شخصٍ بالدخول إلى الغرفة مهما كان السّبب، أو مهما حدث داخل الغرفة حتّى لو كانت (السّتّ) الكبيرة، ثمّ دخل وأغلق الباب خلفه من الدّاخل، ولكنّ فضول جدي أمَرَهُ بأمرٍ آخر، فبقي في الطابق السّفليّ بجانب الدّرج، ومن وقتٍ لآخر يصعدُ متسلّلاً واضعاً أذنه على الباب؛ محاولاً التقاط أو فهم أيٍّ ممّا يحدث في الدّاخل، ولكنْ لا شيءَ ينمو إلى مسمعه إلّا أصوات بعيدة من طوارق الّليل خارج القصر؛ كنباح كلبٍ بعيدٍ، أو نقيق ضفادع، أو صرير صراصير الليل، وتكّاتِ الساعة المعلّقة على جدار الممرِّ، فاندفعَ بصره باللَّاشعور نحوها مدفوعاً بصوت مؤشِّرها الرَّتيبِ، فإذا بها تشير إلى التّاسعة وسبعٍ وخمسين دقيقةٍ، وبذاتِ اللحظة التقطتْ أذناهُ أوّل صوتٍ من داخل الغرفة، صوتٌ لم يستطع تمييزه أو معرفة ماهيته، إذ هدأ بغتةً، ولم تصدرْ أيّ أصواتٍ مريبةٍ لثلاثِ دقائق بعدها سوى أصوات حركةٍ خفيفةٍ من وقعِ أقدامٍ وهمهماتٍ مبهمةٍ، ولكن مع طنين الساعة مشيرةً إلى العاشرة تماماً، خيَّمَ سكونٌ مهيبٌ على المكان، حتّى أصوات نباح الكلاب اختفت، سكونٌ تامٌّ أحاط بالدّور الثّاني بالكامل، وكأنَّه قد تمَّ عزله بعازلٍ صوتيٍّ، كأنما تمّ عزل الداخل عن الخارج، ما دفَعَ جدي إلى الاقترابِ أكثر من الباب، وألصق أذنه بمكانِ المفتاح، فسمعَ أصوات رفرفةِ أجنحةٍ من داخل الغرفة، رفرفةٌ خفيفةٌ وسريعةٌ ومنتظمةٌ لطائرٍ يدور في الغرفة، ظلّ الصّوت لفترةٍ قصيرةٍ ثُمّ اختفى فجأةً كما ظهر، ولا يدري هل هو فقط ومَنْ في الغرفة سمعوا ذلك الصّوت؟ أم سمعه كلُّ مَنْ في القصر؟
لم يمرّ وقتٌ طويلٌ حتّى أمسكَت يدٌ مقبضَ الباب من الداخل، فهرعَ بخفّةٍ نحوَ مكمنه الخفيّ قربَ الدَّرج، فُتِح بابُ الغرفة وخرجَ السّيّد "بيناكيس" والرّجل المتوشح بالسّوداء، وتركا باب الغرفة موارَباً ونزلا إلى الَّدورِ السُّفليِّ، فغلبَ الفضولُ جدي، واقتربَ من الباب، ولكنه لم يسمع شيئاً، فازداد فضوله أكثر، فمدَّ رأسه عبر المسافة بين الباب المفتوح والجدار مُجيلاً بصره بحثاً عن سيّد القصر، وسبب هدوء الطّفلة الصّغيرة؛ أين ضوضاؤها وحركتها التي لا تهدأ؟!
مدَّ رأسه ليجد "أدورا" تغطُّ في سُباتٍ عميقٍ، والسّيّد الكبير – كما يسميه هو وكل من يعمل في القصر- جاثٍ على ركبتيه يبكي بجانبها، نهض السّيّد الكبير بهدوءٍ وهو يمسح وجهه بيديه، فعادَ جدي بالخفة ذاتها إلى مكمنه للحظاتٍ حتَّى يلتقط أنفاسه، أعادَ ترتيب هيئته وثيابه، وخرج يمشي باتِّجاه الغرفةِ متذرعاً بطلبِ أوامر السيد بشأن الضيوف الذين نزلوا إلى الطابق السفلي إنْ سأله عن سبب صعوده إلى الدَّور الثاني، فصادفَ وصوله باب الغرفة خروجَ السيد وفي عينيه سعادة لم يرها نزلاء القصر منذ زمنٍ بعيدٍ، أغلق الباب بهدوءٍ وهو يشير إلى جدي المشدوه بالتزام الصمت، واحتضنه بين ذراعيه، وهو يقولُ له:
أنا سعيدٌ جدّاً يا عبدَ الحميدْ، أنا سعيد، وقبلَ أنْ يعبِّرَ له جدي عن فرحه بسعادتهِ، أعاد الإشارةَ إليه بالتزامِ الصمتِ، وقادهُ من يده، فنزلا من الدَّورِ الثَّاني وهو يبادر بالاحتضان والابتسام جميع مَنْ قابلهم من خدَمِ المنزلِ.
مرّت تلك الّليلة هادئةً، رائقةً على كلّ مَنْ في المنزل، وكأنّها من ليالي ألف ليلةٍ وليلة، سعادةٌ غامرةٌ، وراحةٌ وتفاؤلٌ يسود أرجاء القصر، السّيّد الكبير، (السّتّ الكبيرة)، الطّبّاخ سعيد، السّائق علي، المربّية سكينة، وجدي عبد الحميد بالطّبع، إنّها أوّلُ ليلةٍ هادئةٍ منذ أسابيع في القصر الكبير الذي ودَّعَ الضجيج، صحيحٌ أنَّه ربَّما نامتِ (السّتّ الصّغيرة) أحياناً، ولكن ليس بتلك السّهولة، ولا كذلك النّوم العميق الخالي من التّقلّب والأرق.
في صباح اليوم التّالي، وقبلَ أنْ تصحو الطّفلة من نومها، أصدرَ السّيّدُ الكبيرُ أوامرَ جديدة، وهي:
ألّا يقتربَ أيّ شخصٍ من جناح (السّتّ الصّغيرة) ما عداه هو و(السّتّ الكبيرة)، وعبد الحميد الذي رأى في ذلكَ ميزةً أُخرى له على كلّ من يعمل في خدمة سالفاجوس، وشدّدَ (البيه الكبير) على ذلكَ، ولا سيَّما منذ السّاعة التّاسعة والنّصف مساءً وحتّى الصّباح.
مرّت الّليالي التّالية بهدوءٍ كبيرٍ، وروتينٍ يوميٍّ رتيبٍ، حيث يصطحب الوالدان الطّفلة في السّاعة التّاسعة مساءً إلى غرفة نومها، ماكثين فيها وهم يراقبون شغَبَها ولهوَها وقفزاتها -وقد يشاركونها إذا طلبت منهم ذلك- على السّرير، ونثرَ الألعاب والعبثَ بكلّ شيءٍ يقع تحت يديها، وهم يراقبون السّاعة بشوقٍ كبيرٍ، وكأنّهم يستعجلونها لتقضم الوقت، حتّى تحصلَ ابنتَهم على نومٍ هانئٍ، وما إنِ اقتربتِ السّاعة من التّاسعة وسبعٍ وخمسين دقيقةً حتّى أُطفئتِ الأنوار، ومع دقّات العاشرة تهدأ الأصواتُ حولَ المنزِلِ، ويقفُ نباحُ الكلابِ، وتُسمَعُ أصوات رفرفة الأجنحة في الغرفة، ويستمرّ طنين أجنحة الطّائر من ثلاث إلى خمس دقائق، وبعدها يختفي الصّوت، ويتسلّل الوالدان بحذرٍ شديدٍ على رؤوس أصابعهما من الغرفة، عندها تكون (السّتّ الصّغيرة) قد غطّتْ في نومٍ عميقٍ، ومن دونِ حَراكٍ حتّى السّابعة أو الثّامنة صباحَ اليومِ التّالي.
بعد مرورِ سبعِ ليالٍ على هذا المنوال، لاحظَ جدّي تغيّراً في سلوك الطّفلة إذ باتت تتأخّر في استيقاظها اليوميّ المعتاد، وليس هذا فقط، وإنَّما صارت أشدّ تعلّقاً بالسّرير ومكوثاً فيه، ومع كلّ صباحٍ تزدادُ ساعاتُ نومِها، لقد أدمنتْ غرفةَ نومِها، فبدأ يظهر القلق المشوب بالخوف على والديها؛ فهذه ليست تباشيرَ خيرٍ وعافيةٍ كما يرَيَان، فعُزلَتُها وإدمانُها المكوثَ في غرفةِ نومِها باستمرارٍ وعدم خروجها منها للّعب كالعادة شيءٌ مُقلِقٌ للغاية، لا سيما قد زادتْ فتراتُ نومِها أكثرَ فأكثرَ، وقلّتْ شهيتُها للأكلِ، فَوَهَنَ جسدُها الصّغير، وبدا عليها النّحول والضّعف.
أرسل السّيّد الكبير في طلب الخواجة "بيناكيس" بالسّرعة القصوى، وبالفعل لم يتأخّر في المجيء، جَلَسَا في صالة الاستقبال، وقدَّمَ جدِّي فنجانَي قهوةٍ لهما، فقال له:
- ما سبب استعجالك لي في الحضور؟ عسى خيراً؟
- الفتاة أصابها النّحول والهزال يا "بيناكيس"، فقد هَجَرَتِ الطّعامَ، وصارَتْ تَخلُدُ إلى النّوم لساعاتٍ أطول من ذي قبل، وأخشى أنْ تزدادَ حالُها سوءاً.
- وما عساني أن أفعل؟ هل تريدُ منّي أنْ أُحضِرَ لها طَبيباً؟
- لا، بل أريدكَ أنْ تُحضِرَ لي صاحبَك.
- تقصدُ إليشا؟
- ومَن غيره؟
تلعثم "بيناكيس" وهو يفرك ذقنه بيده:
- ولكنَّهُ.. ولكنَّهُ.. اختفى.
هبَّ "سالفاجوس" من مكانه وكأنّ ثعباناً ضخماً قد عَضَّهُ:
- ماذا؟ اختفى؟ ما الذي تقوله يا "بيناكيس"؟
- كما سمعتَ، منذ تلك الّليلة التي خرج فيها من عندك لا أحدَ يعلمُ مكانَه؟
أمسَكَ "سالفاجوس" رأسَه بكلتا يديه، ودار دورةً كاملةً حول نفسِه، حتَّى عادَ مواجهاً لـ "بيناكيس"، فوضَعَ يديه على كَتِفَي بيناكيس الجالس أمامه، وبصوتٍ متلعثمٍ مضطربٍ:
- ولكنّك تستطيع ... تستطيع إيجاده يا بيناكيس، حتماً سيعود للبنك، سيحتاج المال ويأتي.
نهض بيناكيس من مقعده واضعاً هو الآخر يديه على كَتِفَي سالفاجوس وكأنّه يتحسَّبُ لانهياره:
- لقد سحب كلّ أمواله من البنك.
ماذا تقول؟ صرخ بها "سالفاجوس" وهو يحاول جاهداً منع نفسه من السقوط وبيناكيس يسنده بمشقةٍ، وأخذ يصرخ باكياً:
- أدورا، بُنيَّتي، ماذا أفعل؟ ماذا أفعل يا بيناكيس؟
ضمَّ بيناكيس صديقَهُ سالفاجوس مُسنِدَاً رأسَه على صدره، وسحبَهُ جاهداً حتَّى جَلَسَا على المِقعدِ، وغَرِقَا بِبُكاءٍ شديدٍ، حتَّى هدأتْ نفساهما قليلاً، فابتَعَدَ سالفاجوس عن الخواجة، وجَلَسَ كلٌّ منهما على طرفِ المِقعَدِ الثُّلاثيِّ.
ساد صمتٌ طويلٌ وحزينٌ، والحيرةُ وآثارُ الدموعِ واضحةٌ على وجه السّيّدين، مُطرِقين مفكّرين في مَنْ سيُنْقِذُ الفتاةَ من تلكَ التّطوّرات المرعبة؟ فالطّفلة على وشكِ الجنون، ولكنْ من دونِ جَدوَى.
بعد برهةٍ من الزمن نهض "بيناكيس"، وقد مَسَحَ عينيه نافضاً رأسَه، وتوجَّه نحوَ الطاولةِ التي تتوسَّطُ الغرفةِ، أخذَ كأسَينِ وملأهُما بالنَّبيذِ، واتَّجهَ نحو سالفاجوس ماداً إليه الكأس.
صوّب سالفاجوس نظرَهُ بحِدَّةٍ نحو بيناكيس الذي بادَرَهُ وهو يَمُدُّ يدَه إليه بكأس النَّبيذِ، قائلاً بجديّةٍ مُطلَقَةٍ:
- سالفاجوس، خُذِ الكأسَ منْ يَدِي.
أخَذَ سالفاجوس الكأسَ متردِّدَاً، فسَحَبَ بيناكيس مِقعَداً صَغيراً، وجَلَسَ قُبالَتَهُ:
سالفاجوس أيُّها العزيز، فَعَلنَا كلَّ ما بِوِسعِنا، ولمْ يكنْ هذا إلَّا خياراً أخيراً، وأنا يا صديقي لا أعرفُ خبيراً بالسحر وبالطّلاسم اليونانيّة القديمةِ سوى إليشا، وما حدَثَ قد حدَثَ وانقضى، وما بعده هو ما قد يؤرِّقُنا جميعاً، ولكن اطمئنّ، سيبقى الأمر طيّ الكتمان، فالبَوحُ به يقضي على الجميع، أنت ستتعرّض للمساءَلة من حكومة اليونان؛ بتهمة استخدام ساحرٍ يونانيٍّ على الرغم من عِلمكَ المُسبَقِ بعواقب تحريمِ القانون اليونانيّ استخدام تلك التّعاويذ القديمة في استدعاء أرواح الآلهة اليونانيّة القديمة، أمّا أنا فسيتمّ لفظي من المجتمع المسيحيّ؛ لأنِّي قسّيسٌ مسيحيٌّ سابقٌ، وسيُقضى عليَّ، فالمسيحيّة تعدُّ الدّيانة الإغريقيّة ومعتقداتها شاذّةً ومتنافيةً مع شريعتها، لذا علينا التزامُ الصَّمتِ والتّكتّم على هذا الأمر، أمَّا "إليشا" فلنْ يَنبِسَ ببنتِ شَفَةٍ، فهو المتضرِّرُ الأكبر؛ لذلك تجدُهُ غادَرَ من دونِ أثرٍ.
علا نحيبُ سالفاجوس وهو يهزُّ رأسه مستسلماً لهذه النتيجة الحتميَّةِ التي لا سبيلَ إلى حلِّها، ولكنْ لا بُدّ من إبقائها عند هذا الحدِّ، فضمَّهُ بيناكيس بين ذراعيه وشَرَعَا بالبكاء بمرارةٍ، حتَّى أحسَّ بيناكيس بأنّ صديقه قد خارَتْ قِواهُ، فمدَّدَهُ على الأريكة وخرج مسرعاً لا يلوي على شيءٍ.
انطفأتِ الحياةُ في ذلك القصر الواسع، الذي كان يضجّ بالنّشاط والحيويّة والصّخب؛ فبَعْدَ بَذلِ كلّ ما استطاع الوالدان من جهدٍ، ماتَتْ "أدورا" في الّليلة الثّالثة عشْرة من زيارة القسّ لها، وخَفَتَ ذلكَ البريق في عينَي سالفاجوس وزوجه، وظَهَرَ أثَرُ موتِها على والدها الذي ظلّ قابعاً حبيسَ غرفة نومه لأيّامٍ من دون طعامٍ، ولا يكلّم أحداً، مكتفياً بالتدخين والنبيذ والبكاء الصامت، الكحول جعلته في حالة سُكرٍ دائمٍ محملاً نفسه ذنبَ كل ما حدثَ لابنته، واستمرَّ على هذا الحال حتّى خرج في صباح أحد الأيّام مرتدياً زيّاً رسميّاً، بوجهٍ شاحبٍ، وعينَينِ ذابلتَين من البكاء وقلّة النّوم، فنادى على جميع مَنْ في المنزل من خَدَم وعاملين، وأبلغهم بأنّ هذا اليوم سيكون آخر يومٍ يرونه فيه، فقدّم شكرَه لهم بكلماتٍ قصيرةٍ مقتضبةٍ، معلناً مغادرته إلى اليونان بعد تصفية كاملِ أعمالِه، وقد بَاعَ القصرَ بكلِّ ما فيه من أثاثٍ، وأخبَرَ جدّي بأنّ شركةً للأثاثِ المستعمَلِ سوف تأتي لاستلام ما تمّ التّوافُق على بيعه غداً، وأعطاه ورقةً سُجِّلَ عليها ما تمّ بيعه، وطلب منه أنْ ينقلَ باقي الأثاث وموجودات القصر إلى القبو المستخدم كمخزنٍ له؛ وذلك ليسمحَ للمالِكِ الجديدِ بأنْ يؤثّثَ قصرَه بأريحيّةٍ، كما سلّمه أجورَ العاملين معه في القصر لتسليمها لهم مع مكافأة نهاية الخدمة، وطلب من جدّي أنْ يستمرّ في حراسة القصر حتّى يلتقي بالمالِكِ الجَديدِ للقصرِ ويتّفق معه على العمل إنْ شاءَ.
في اليوم التّالي حضرتْ سيّارةُ نَقْلٍ كبيرةٍ بعمّالها، قاموا بتحميلِ الأثاثِ، وغادَروا تارِكينَ القَصر خاوياً على عروشه، فارغاً إلّا من بعض الأغراض، سوّى جدِّي أجورَ الطّبّاخ والسّائق والمربّية، فغادروا، وبقيَ وحيداً، فقامَ بنقلِ الأغراض الخفيفةِ المتبقيةِ إلى القبو، وعادَ ليجلس على بوابة القصر منتظراً قُدومِ المالكِ الجديد وتسليمه له.
قسَّم جدِّي يومه إلى فترتَين: نوبة صباحيّة يقضيها في منزله للرّاحة وقضاءِ بعض الشّؤون الخاصّة بعائلته، والثّانية مسائيّة لحراسة القصر، وبمعنىً أدقّ يجلس عند بوابته يُشْعِلُ بعضَ الحطبِ يتدفّأُ به ويؤنسه، فالهدوء التام هو سيّد الموقف، ولا شيءَ يُغري أحداً بسرقة قصرٍ هجره أصحابه، وإنما يجلس جدِّي لحمايته من المشرّدين الّذين قد يتجاوزون السّور ليناموا فيه حتّى الصّباح، ومن أيدي العابثين الذين قد يتخذونه وكراً.
وفي إحدى الليالي الساكنة أشعلَ جدِّي ناراً كعادته مستخدماً بعض الأغصان الجافّة التي يلتقطها من تحت الأشجار أو من قرب سور القصر، ووضعَ إبريقَ الشّاي على النار، وأدَارَ مفتاح المذياع، ليس لهدفٍ معيّنٍ سوى إصدار أيّ صوتٍ يؤنس وحدته ووحشته، ليتخلص من خوفه في ذلك المكان المعزول بأطراف البلدة.
مرّتِ السّاعات الأولى من الّليل هادئةً، ليس فيها ما يدعو للانتباه سوى صوت (السّتّ) يشدو، وجدِّي يشفطُ الشاي من كأسه وهو يردِّد مع المذياع بصوتٍ خافتٍ: (الّله الّلهْ يا سِتّْ)، والموسيقى الجميلة تداعب مسامعه ومشاعره حتّى السّاعة العاشرة.
مع دقّات العاشرة مساءً شَعَرَ جدِّي بحركةٍ غريبةٍ، أطفأ المذياع، ووقفَ من جلسته مجيلاً بصرَهُ بالأرجاء، ولكن لا شيء، أرخى سمعه ليحدد مصدر الصّوت، وإذا به يعودُ مرةً أُخرى، كان الصوتُ يبدو كأنه من قبو القصر، حركةٌ أيقظت جميع حواسّه وأثارتْ تفكيره، فبدأتِ الاحتمالات تتوارد إلى مخيّلته؛ لعله شريدٌ أتى في آخر النّهار قبل موعد الحراسة؛ لينام هنا ثمّ انسلّ خارجاً من دون أنْ يراه... ربّما يكون سارقاً... هذا ممكن، أو حيواناً جائعاً، وربّما هو كلبٌ أغرته ظلمة المكان وسَكِيْنَتُهُ ليبحث عن طعام، أو ربما هو قطٌّ يبحث عن الفئران في القبو، كل ذلك ممكنٌ ومتوقّعٌ، فكلّ شيءٍ واردُ الحدوثِ، الجيّد منه والسّيّء.
حاولَ جدِّي طمأنة نفسه والركون إلى تفسير الحركة بأنها لقِطٍّ أو كلبٍ، فقرر تجاهلَ الأمر في البداية وإهماله، لا سيَّما مع اختفاء الصّوت، ولكنّه لم يختفِ، بل تلك كانت أُمنيَتَهُ بعيدةَ المنالِ، إذِ استمرّ الصّوت لدقيقةٍ كاملةٍ.
هدأ الصّوت قليلاً ثمّ عاد مرّةً أخرى، عندها لم يجدْ مفرّاً من النّزول إلى القبو لاستكشاف الأمر الذي أفزعهُ، فحملَ عوداً مشتعلاً من الموقد، وتقدّمَ بحذرٍ وخوفٍ وببطءٍ شديدٍ نحو باب القبو والظّلام الدامس يلفّ المكان، وما إنْ تخطّى الباب حتّى ضربَتْ أنفه رائحةُ الهواء البارد العَطِنِ المخلوط برائحة قطع الأثاث من بقايا القطع التي تمّ الاستغناء عنها من القصر على مرّ الزمن، لم تسعفه شعلة النّار كثيراً، فالظّلام كثيفٌ، والإنارة ضعيفةٌ جدّاً؛ لذا وقفَ قليلاً حتّى تعتاد عيناه على الظّلام وتضيقُ حدقاتهما، ثمّ بدأ التّقدّم للدّاخل رويداً رويداً، متحسّساً طريق قدمه؛ كي لا يتعثّر بشيءٍ مرميٍّ في الأرض، أو بقطعة أثاثٍ تكبّه على وجهه.
لم يسمع أيّ صوتٍ أو حركةٍ مريبةٍ في الدّاخل، فقرّرَ الانتظار، وأسندَ ظهره على الجدار متفادياً أيّ حركةٍ تكشف مكانه، وأخذَ يتنفّس ببطءٍ ليهدِّئ من روعه، وليطردَ تلك الأفكار المرعبة التي أصبحت تشوّش تفكيره، وليسترق السّمع أكثر، مرّت الّلحظة التّالية من دون صوت، الحمد للّه كانت مجرّد أوهامٍ وتخيّلاتٍ لا أكثر، إنذارٌ خاطئٌ، فليس هناك ما يُقلِق، أخذ قراره بالخروج من القبو واستكمال حفلته مع (أمِّ كلثوم)، وما إنْ أدارَ ظهرَهُ للخروج، وصل لمسامعه صوتٌ جعله يتسمّر في مكانه، صوتٌ يعرفه جيّداً، إنه صوت ذلك الطّائر يضرب الهواء بأجنحته من حوله، الصّوت ليس بالقويّ، إنّه طائرٌ صغيرٌ ناعمُ الريش، وحركة الأجنحة سريعةٌ، وذلك هو سبب نعومة الصّوت ورقّته، ففطن بغتةً:
- يا إلهي! إنّه نفس الصّوت الذي كنت أسمعه من داخل غرفة الطّفلة "أدورا" هل يعقل ذلك؟
أدرَكَ لتوّهِ بأنَّ الطائرَ قد بنى عشّاً له في (القبو)؛ يسكن فيه نهاراً، ويخرج منه ليلاً بحثاً عن الطعام، أجالَ نظره الضعيف على ضوء مشعله الواهن، ولكنْ لا أثر للطّائر؟ ربّما بسبب الظّلام الزّائد عن حدّه، عادَ الصوت، إنه يعودُ ويختفي، يا له من أمرٍ عجيبٍ، واصلَ النظر محركاً مشعله وهو في الباب لعله يراه، ولكن من دون جدوى، ولخبرته بالحياة في الريفِ ومن طبيعة الصوت استطاع التخمينَ بأنه يحوم داخل القبو على شكل دوائر، وذلك هو سبب ظهور الصّوت واختفائه، فعندما تكون حافّة الدّائرة من جهته يلتقط صوت طنين الأجنحة، وعندما يكون في الجهة الأخرى يفقده، لقد حاول جاهداً أنْ يتتبّعه؛ ليعرف مكان الطّائر ولكنّ محاولاته باءَت بالفشل؛ لخفّة حركته و دورانه المستمرّ، لذا سكنَ في مكانه للحظاتٍ؛ لعله يرى ردّة فعله، فسكنت أجنحته هو الآخر، وهنا أدركَ جدِّي أنّ ما يبحثُ عنه يعلمُ بوجودهِ.
هدأ الصّوت قليلاً، ولكنّه لم يختفِ تماماً، وصار يأتي الصّوت من جهة واحدةٍ، إذنْ توقّف عن الطّيران، ووقف في مكانٍ ما، فقرر جدّي تتبّع الصّوت، فقط تتبّع الصّوت، ومِنْ ثَمَّ يمسك به وتنتهي هذه القصّة.
تحرّك بهدوءٍ نحو الصّوت، وبيده الشّعلة التي كانت على وشك أنْ تنطفئ، خطى نحو الدّاخل ورفرفة الأجنحة الرّقيقة تصل مسامعه، وهو يقترب منها أكثر فأكثر متسلّلاً مسنداً ظهره على الجدار، ليرى بطرف عينه طائراً صغيراً يرفرف بجناحيه بسرعة في الهواء محافظاً على توازنه ببراعة شديدةٍ، فيقف في الهواء لفترةٍ مرفرفاً، يحرّك رأسه في جميع الاتّجاهات، ثمّ يطير، ويلفّ على شكل دائرةٍ محيطها القبو بكامله، ثمّ يعود ليقف على لوحةٍ خشبيّةٍ مستطيلةٍ سوداءَ، في منتصفها رسمةٌ لشابٍّ أشقرَ يافعٍ، تذكّر جدّي أينَ رآها، إنها نفس الّلوحة التي أحضرها الرجل ذي اللّباس الأسود وثبّتها على الحائط المواجه لسرير الطّفلة "أدورا"، وعندما لم تكنْ ضمن المنقولات مع شركة النّقل، تمّ نقلها بالخطأ إلى هنا مع بقايا الأثاث غير المباع، حينها انتبهَ إلى أنَّ للأمر علاقةً وثيقةً بما كانَ يحدثُ مع الطفلة، فمدَّ يده على جيبه لإخراج الساعة والتأكد منها، وإذا بها تشير إلى التاسعة وسبعٍ وخمسين دقيقة، فاقتربَ خطوةً أخرى وهو يراقب ما يحدثُ أمامه بعينٍ والأخرى على الساعة، فما حدث بعدها هو الجنون بعينه، شيء لم يتخيّلْ وجوده، فبعد أنْ أكمل العصفور دورةً كاملةً داخل القبو عاد ووقف مرّةً أخرى، وظلّ يرفرف فوق الّلوحة، ثمّ يكرّر نفس الفعل، ظلّ هكذا كمَنْ يبحث عن شيءٍ من حوله، وعندما لا يجده يقوم بالرّجوع إلى الرّفرفة فوق الّلوحة، ومِنْ ثَمّ يقوم بالبحث مرّةً أخرى، وهكذا ظلّ على هذا المنوال حتّى السّاعة العاشرة وخمس دقائق، عندها بالضّبط تحرّك العصفور نحو الّلوحة واختفى داخلها فتحوّل من عصفورٍ حقيقيٍّ ذي ريشٍ ناعمٍ كان يطير أمامه منذ لحظاتٍ، إلى عصفورٍ مرسومٍ في الّلوحة السّوداء، رجع إلى مكانه ملتصقاً برأس الشّابّ الأشقر كما كان من قبل في غرفة السّت الصّغيرة داخل الرّسم في الّلوحة، لقد عاد جماداً، وعاد السّكون للمكان مرّةً أخرى وكأنّ شيئاً لم يكنْ.
وقف جدّي خائفاً ومذهولاً، ويداه ترتعشان، والشّعلة في يده غير مصدّق تلكَ الهلوسات والتخيلاتِ، غير معقولٍ بالمرّة ما يراه، قاطع دهشتَه ورهبته حركةٌ بين قدميه، فإذا به فأرٌ يتحرّك، فقفز من مكانه رعباً، وطارت الشّعلة من يده لتسقط بجانب الّلوحة، فشبت النّار بقماش الّلوحة وبدأت بالتهامها وجدّي يقف مشلول القدمين، وكأنّهما قد زُرعتا في الأرض زرعاً، انتشرت النّار بسرعةٍ كبيرةٍ في الّلوحة، وما إنْ وصلتْ الى منتصفها حيث جسد الشّابّ العاري، دوت صرخة رهيبة تشقُّ الصمت السائد إلا من حسيس النار، صرخةٌ ممزوجةٌ ببكاءٍ وعويلٍ حادَّيْنِ... صرخةُ طفلٍ يبكي ويتألّم، وكأنّ الصّراخ مصدره ذلك الشّابّ في الّلوحة، ظلّ صوت الصّراخ يزداد كلّما ازداد وهج النّار، والّلوحة تحترق أكثر والصراخٌ يعلو أكثر حتّى تفحّمت الّلوحة نصب عينيه، وكل ما بقي منها رماد قطعة قماشٍ باليةٍ سوداء ملتصقةٍ بإطارٍ خشبيٍّ محترقٍ متآكلٍ، ثمّ هدأ الصّراخ شيئاً فشيئاً حتّى تلاشى تماماً، ازداد انتشار الحريق في القبو، وتعالت سحب الدّخان من حول جدّي الذي ضاق نَفَسُهُ، فكاد يختنق، همَّ بالخروج، ولكن ما إنْ خطى خطوتَيْنِ حتّى سمعَ صرخةً لصوتٍ أجشّ وأغلظ من سابقه، صرخةٌ يلفّها حزنٌ وبكاءٌ:
- لماذا قتلته؟ ما ذنبه؟ هو لم يؤذك؟ تلفَّتَ جدّي يميناً وشمالاً بحثاً عن الصّارخ الباكي، ولكن لا شيء، انطلق مُسرعاً بخطاه نحو الباب مرتعباً من صوت البكاء المخيف، ولكن قبل أن يصل باب الخروج وإذا بشيءٍ يُحكم قبضته حول رقبته، ويرفعه للأعلى ملصقاً ظهره بالجدار حتّى ارتطم رأسه بالسقف وأرجله متدلّية تبحث عن الأرض البعيدة عنها، وأنفاسه معدومة تكاد تنقطع، ويداه تضربان في كلّ اتّجاهٍ تحاول دفع الفاعل ولكنّها لا تصل لشيءٍ، وكأنّها تضرب الهواء.
ظلَّ على هذا الحال يسمع نحيباً وبكاءً ولا يرى صاحب القبضة القويّة، يصرخ بأعلى صوته المخنوق كلما استطاع سرقة أنفاسه من القبضة القاهرة:
- اتركني فأنا لم أقتل أحداً.
- كاذبٌ ومخادعٌ، كلّ بني آدم قتَلَةٌ، فأنتم أوّل من سنّ القتل، مخادعٌ وكاذبٌ.
- أقسم لك بأنّي لم أقتل أحداً.
- أنت كاذبٌ، لقد قتلت ابني، ابني المُسخّر لخدمة السّيّد صاحب الّلوحة.
- أيّ لوحةٍ وأيّ سيّدٍ!؟ أنا لا أدري عن أيّ خدمٍ تتحدّث، وإن كنت تعني تلك الّلوحة المحترقة، فأنا لا أدري أيّ شيءٍ عنها سوى أنّني رأيت العصفور يدخل فيها، ولا علم لي بأيّ شيءٍ عن موضوع ذلك الجنّيّ الصّغير، أرجوك اترك رقبتي سأموت، لم أعد قادراً على التّنفّس، أنا لا أعرف شيئاً.
أكملَ حديثه وهو يبكي:
ألا تعلم أنّ ولدي مُسخّرٌ لخدمة "هيبنوس"؟ لمساعدة الطّفلة على النّوم؟ كان ذلك هو الاتّفاق، ثمّ بكى بحزنٍ وهو يقول:
ولم يكن من ضمن الاتّفاق أنْ تقتله، وظلّ يبكي ويبكي، وجدِّي مع كلِّ نفَسٍ مسروقٍ يردد:
أقسم لك بأنّني لا أعلم شيئاً ممّا تقوله، وبداخله يلعن تلك السّاعة التي دخل بها هذا القبو المشؤوم.
كان يصرخ بتحدٍّ وانتقامٍ:
- لا يعنيني تصديقك من عدمه، فجنسكم قاتلٌ وكاذبٌ ومخادعٌ منذ بدء الخليقة، ولكنّ ذلك لا يهمّني، لقد اتّخذت القرار، قراري هو تعذيب من كان سبباً في موت ابني، سأنتقم منك ومن جميع عائلتك وأحبّائك، سألعنهم لعنةً يتمنّون معها لو أنّهم ماتوا ولم يعيشوها، ثمّ هدأ صراخه وأرخى يديه عن رقبته مكملاً:
- ولكنّي لست بظالم مثلكم، فلن ألعنهم جميعاً، فليس الجميع مذنباً، ولكني سأُحلُّ لعنتي على كل مَنْ يُولَد منهم في اليوم الذي فُجِعتُ فيه بولدي، أي اليوم، ستبقى ذكرى لتشاركوني ألمي وحزني.
لم ينتشل جدّي من ذلك الوعيد والمشهد المرعب والنّفَس المتقطع سوى التهام النّار لكلّ ما يوجد في القبو من أخشابٍ، وخروج ألسنة الّلهب من الشّبابيك الحديديّة الصّغيرة المنتشرة بجدرانه النتنة، ولا بدّ بأنّ النار قد وصلت إلى القصر كله، ممّا جذب أنظار النّاس في البلدة، لم يدرِ كم مضى من الوقت ولا بعظمة الحريق حتى بدأ النّاس يقفزون عبر السّور المحيط بالقصر وهو يسمع أصواتهم تقترب، ورقبته تحت رحمة ذلك الوحش، يعتصرها فيشعر بالاختناق أكثر فأكثر، وهو يتمتم بكلماتٍ كثيرة جلّها عن الانتقام لأجل ابنه المقتول حرقاً، يصرخ صرخاتٍ هستيريّةٍ ويبدو كما لو أنّه يتحدّث مع أحدٍ أمامه لا يراه، ويردّد كلماتٍ غير مفهومةٍ، لم يلتقط جدّي منها سوى:
("مورفيوس"، "مورفيوس"، آمرُك بحكمة "زيوس" وخدمة ابني لأبيك "هيبنوس" أنْ تنتقم منه ومن نسله، "مورفيوس" انتقم لابني من إنسيٍّ كاذبٍ ومخادعٍ قتل ابني، إنه إنسيٌّ يا "مورفيوس" إنسيٌّ مخادعٌ فطرَ قلبي على صغيري").
وعلى الجانب الآخر يصل إلى مسامع جدي صوتٌ من عالمٍ آخرَ، ويبدو أنّه صوت المدعوّ "مورفيوس" يردُّ على والد الجني:
- أعدك بخدمتك لأبي "هيبنوس" أنْ أغزو عقولهم بأحلامٍ تهدم حاضرهم وتدمّر مستقبلهم.
مع اقتراب الأقدام الرّاكضة باتّجاه القبو تراخت يدا الوحشِ عن رقبةِ جدّي، فسقط على الأرض، والنّار من حوله تُجهِزُ على كلّ شيءٍ، وبعض الأيادي تحمل ما تبقّى منه للخارج، فأحسَّ بالهواء البارد يخترق رئتيه المهترئتَين من الدّخان، ولكن يبدو أنّهم قد وصلوا متأخّرين، حيث إنّه باتَ في النّزع الأخير، وقد بدأ الموت يستلّ أنفاسه التي تخرج بتتابعٍ سريعٍ، والأصوات من حوله تتعالى:
- (أفسحوا له مجالاً ليتنفّس، أعطوه منفذاً للهواء) والمحاولاتُ اليائسة لإبقائه واعياً مستمرة، ولكنّ النّوّاحَ الباكي صاحبَ اليد الحديديّة قد أجهز عليه، ولم يكتفِ بهذا، بل أقسَمَ أنْ يُلحِق الّلعنة بكلّ مَنْ سيولَد من نسلي بتاريخ هذا اليوم.
وبينما يُصارع جدّي حتفه، والأنفاس تضيق رويداً رويداً، غشاوةٌ بيضاء تتشكّل أمام عينيه، لمحَ من بين الأقدام المنتصبة حوله وجه أختي تعبر بوّابة القصر مذعورةً حافيةً، وهي تصرخ باكيةً، ملوحةً بعمامته البيضاء التي نذرَها لحفيده الذي طالَ انتظاره، فخبأها ليُلفَّ بها لحظة ولادته قبلَ أنْ يُلفَّ بمهده، لا بدَّ بأنه قد أتى، وهذه بُشراهُ، لا بُدَّ بأنَّ العِمامةَ تحتضنُ رائحة شقِّ هذه البذرة لتراب الحياةِ، فبرعمت بولادة حفيده المُنتظَر، وهو ما أكدته له أختي الكُبرى بصراخها:
"سالم" وصل يا جدّي "سالم" وصل يا جدّي، وتدفع النّاس من حوله يميناً وشمالاً، بشّرته ودموعها شلّالٌ متدفّقٌ ببُشرى ملعونةٍ، وهي ولادة حفيده "سالم" من ابنه "محمّد" جاءت إليه لتزفّ بُشرى ولا تعلم أنّها وفي آخر لحظات حياته قد جاءت لتزفّ إليه نبوءةً سوداءَ، فمع آخر أنفاسه في هذه الدّنيا يُزفُّ إليه خبر ولادة حفيدٍ ملعونٍ من قبل جنّيٍ مقهورٍ بموت ولده، سالت دموعه، وهو يقول لأختي:
- سالمٌ حلَّت عليه لعنة الجني يا بُنيَّتي، وهي تبكي طالبةً منه عدم إجهاد نفسه، فوضعتِ العمامة على وجه جدها ليجدَ ريحَ حفيده، لعله يهدأ، فشبَّتْ نارٌ لافحةٌ من جديد، أرغمت الجميع على الابتعاد وإدارةِ وجوههم خشيةَ أنْ تلفحهم، بدت ألسنتها لجدّي كأيدٍ تبحثُ عن شيءٍ، نعم إنها تبحث عن باب اللعنة، فانقضت يدٌ ناريّةٌ تسيل بدمٍ أسود على العمامة البيضاء فالتقطتها، وانحسرت بسرعةٍ خاطفةٍ كما انقضت، وقهقهات الجني المنتشي كانت آخر ما طرقَ سمعَ جدي، وهو يلفِظُ أنفاسَه الأخيرة.
*****