الجد فتح الله
وحين سألته "ياجد مين عزيزة دي وليه سموا الأرض باسمها وجالوا أرض عزيزة"
بادرني بالرد في دهشة للهجتي الصعيدية الطفولية وتعلو وجهه بسمته الغامضة:
"وي وي وي وي وي أنت صعيدي ياولد أبوه"
فأجبته بهز رأسي إيجابًا وأنا أتناول الذرة المشوي في نهم واستمتاع ثم قلت له:
" إيوه يا جد، من سوهاج ، من الأشراف يا جد"
ثم أكملت رافعًا رأسي وسبابتي بفخر: "من الأشرااااف"
فقال الجد فتح الله" والنعم ياوليدي والنعم، أني خدمت جدودك وأهلي خدامينكم كولوهم جول لأبوك الجد فتحي العتموني من العتامنة"
فتبادر في ذهني اسم مطرب شعبي صعيدي بنفس هذا الاسم فقلت له موجهًا وجهي وعيناي جاحظتان من المفاجأة:
"أنت فتحي العتموني بتاع الشرايط ياجد"
فضحك حتى بدت أماكن أسنانه المفقودة إلا من قليل ولمعت سنتين من الذهب في فمه كما بريق الشمس ثم قال مازجًا كلماته بالضحك:
"لا يا ولد الأشراف لا" أكمل ضحكه وأكمل قائلًا:
بس يا وليدي إني حافظ كل غنوايه، تحب أسمعك حاجة"
فرددت بفرحة غامرة: "ياريت يا جد، ياريت أنا باحب الغناوي الصعيدي جوي جوي يا بوي"
فأكمل الضحك وقال:
"طب استناني إهنه، رجعتني لأيام زمان ياولد أسيادي استنى، أهه"
وقام من جلسته فكان كالنخلة التي ناطحت السحاب وذهب متوجهًا للشجرة مقتربًا من حماره المربوط فيها وأخذ جعبةً من القماش الكتاني السميك ثم عاد إلى حيث نجلس وجلس أمامي. وجهه بدا منيرًا متوهجًا بخليط من البياض المشوب بحمرة العنفوان، وكأن الدم قد عاد يسري في بشرته وفتح جعبته وأخرج منه ربابةً عتيقة مليئة بدبابيس نحاسية لامعة وأوتارها باهتة كالشيب المتدلي من أسفل عمامته وأخذ يهيء نفسه بالجلسة ويضبط وضع الربابة على فخذيه وأمسك بالقوس وشمر ذراعيه كعازف ربابة محترف يحاور ربابته بالقوس ليستحثها على الصحو بعدما غطت في ثبات عميق لسنوات طوال وكأنها من عصر الفتية في كهف الرقيم، ثم بدأ يعزف عليها بلحن يغلفه الشجن والحنين وهو في حال غير الحال منفصلٌ عن كل موجود متصلٌ بالواجد الأعلى وكأنه يُسَبِح على مسبحة ذات أوتار، فاختفى العالم من حولنا لست أراه ولا غيره ولا هو يراني ولا غيري وكأنه يعزف مزامير داوودية
وبعد وصلة عزف منفرد تنفس بعمق مسبلاً عينيه وأخذ يغني وينشد بكلمات شهيرة:
"مجاريح مجاريح ياما ناس ع الدونيا مجاريح
وأنا بدأت أرد على استحياء، ولما كررها قولت معاه بصوت عالٍ وصعيدي وكأني أربعه كورال وراه
مجاريح ياما ناس ع الدنيا مجارييييح
عايشين حيارى ومساكين وبيك يا طبيب متمسكين
عايشين حيارى ومساكين وبيك ياطبيب متمسكين
شوف ليهم عندك مسكن ياما ناس ع الدونيا
مجارييييح مجاريح ياما ناس ع الدونيا مجاااارييييح"
وكررها مرتين
وأنا في نشوة وسعادة كالطير المرفرف أرقص "صعيدي" والجد فتحي غائب في عالم آخر.
"كشف الطبيب على عليتهم والكلمة الزايده علتهم
دا مرضهم من عيلتهم ياما ناس ع الدونيا"
وأكمل الجد فتحي الأغنية وكررها وكأنه يحفظها لي
"فيه اللي عيلته كبرت
من ناس خدمها وعليه كبرت
وكان الدوا مرهم كبريت ياما ناس ع الدنيا"
الجد فتحي دموعه تنهمر وهو مغمضٌ عينه في اندماج مع ربابته في كيان واحد
حتى أنني تأثرت وبكيت دون أن أدري السبب، وصوته الشجي يثير في قلبي شعور ألم لم أعهده من قبل.
وأكمل الجد:
"أوصله أب وجدهم تسمع أنينهم وجديهم
أوصله أب وجديهم تسمع أنينهم وجديهم والحظ واجف جديهم
ياما ناس ع الدنيا
مجاريييح
فيه اللي عيان من ناسه نايم على وفرشه وناسوه
ولا حد ف يوم ونسه ياما ناس ع الدونيا
دارى الطبيب في جراحهم وكلام العوازل جارحهم
ولا حد سأل وجه ريحهم ياما ناس ع الدونيا
مجارييح"
كانت كلماته تقتحم القلب محملة بمشاعر الجد فتحي كيمامة تحمل على جناحيها الشجن
ووجدتني ألقي بنفسي في أحضانه وهو يبكي وأنا أبكي قائلًا:
"يااااه ياجد دانت فنان وصوتك أحلى من ستين عتموني"
توقف الجد متنهدًا صامتًا وأخذ يمسح عيونه بطرف أكمامه وطال الصمت وزادت الأنفاس بتنهيدات نارية تهدأ رويدًا رويدًا
ثم قال الجد:
"أنا فين ياوليدي والعتموني فين"
وأردف:
"نفس الاسم ونفس الصوت لكن الحظ معاكس ياولد أسيادي"
هالتني تسميته لي بذلك اللقب فقلت له وبدا علي عدم الراحة:
"انت ليه بتجول ولد أسيادي ياجد"
قال:
"وليدي احنا خدامين أهل البيت وعيالهم وأحبابهم"
ثم علا الصمت لحظات وغلفني أيضًا فلا أعلم ماذا أو كيف أرد إنما لم تريحني أن يناديني من هو أكبر مني بمثل هذا.
ثم قلت:
"ياجد"
رد علي مباشرةً:
"نعم ياوليدي"
قلت له:
"جولي ياولد أبوي ياولد خالو ياوليدي أحسن أنا بحب دي أكتر"
ضحك الجد فتحي وقال:
"عرفت ليه بجى ياوليدي أنك ولد أسيادي"
ثم قبلني من رأسي، والوقت مر والظهر لاح فقام الجد فتحي للساقيه وقال:
"تعال ياوليدي نتوضى تعالى"
فذهبت من فوري
أقام الجد فتحى الصلاة بصوت ومقام بياتي وكأنني أنصت لصوت الشيخ نصر الدين طوبار.
فصلينا الظهر، وجلس بعدها يسبح في مكانه مخرجًا سبحته الطويلة، وظل بمكانه مغمضًا عينيه ثم بعد فترة وجيزة انتفض جسده كله كفرخ ينفض ريشه من البلل، وأنا في موقف المراقب المشدوه ولا أعلم ما أفعل، ثم مسح بسبحته وجهه وصدره وقال الحمد لله كمن أنهى وجبةً روحية دسمة.
تنفس بهدوء وقال:
" تحب تسمع مدح سيدنا النبي يا وليدي"
قلت له بفرح ممزوج بحزن:
"ياريت ياجد بس أنا لازم أرجع البيت أمي جالتلى متتأخرش"
"باجيك بكره أو اليوم المغربيه"
فقال:
"لا وليدي الدنيا ليل المغربيه لاه، الصبح تعالى"
فقلت وأنا أتهيأ للرحيل:
"ماشي ياجد بس بكره بتحكي لي حكاية عزيزة"
فنادى علي وقال بصوته الجهوري:
"اسمك ايه ياولد أسيادي"
"عصام ياجد عصااام"
فقال كمن يدعو لي:
"عصام المحبة عاصم ومعصوم ياوليدي"
*****