جزيرة سقطرى
شهر تشرين الثاني عام 889 ميلاديًا، مدينة صنعاء باليمن
من أنتم؟
نحن الأرواح المحتجبة عن عيون البشر، نحن المتمردون المفسدون، نحن الّذين ذكرتهم الكتب السماوية، نحن الحقيقة التي لا يمكن إنكارها، نحن القبائل والعشائر والشعوب، نعيش بين بني آدم ولكن لا يمكن أن نظهر بهيئتنا الحقيقية..... نحن أتباع إبليس....
– مقلاص.. أين أنت يا مقلاص؟ لماذا تركتني هنا؟ ما هذا المكان العجيب؟ مقلاص أجبني الآن وإلا أقسم ألا أحادثك مرة أخرى.
في تلك البقعة الخالية في جزيرة ما، تحت أشعة الشمس الحارقة يظهر فجأة مارد ضخم على هيئة ماعز داكنة اللون وله ذيل طويل مؤخرته كحد السيف، يقف أمام تلك الفتاة الجميلة ذات الشعر الأسود المتدلي حتى أسفل ظهرها ليحجب ضوء الشمس بجسده الضخم ثم يقترب من الفتاة بابتسامة مخيفة ويميل عليها قائلًا:
– هل تقومي بتهديدي يا صغيرتي؟! وهل تظنين أن مقلاص سيتركك وحيدة بعد كل ما حدث؟
تسير الفتاة بخطوات متعبة بعد رحلة طويلة تجاه شجرة ضخمة لتجلس تحتها وتستظل بها في وسط تلك الصحراء، تجفف قطرات العرق بإحدى يديها وتزيل بعض خصلات شعرها المتدلية على عينيها وتحرك شفتيها قائلة:
مقلاص أشعر بالعطش الشديد، أريد بعض الماء أرجوك...
يشير إليها مقلاص بخبث على إحدى جذوع الشجرة بجوارها فتنظر إليها ويصيبها الهلع ثم تصرخ وتبتعد عنها وتقف بجوار مقلاص وتتلعثم قائلة:
ما هذا؟ هل ما أراه حقيقة أم من صنع خيالي؟ انظر.. الشجرة تنزف دماء يا مقلاص!
يضحك مقلاص بصوت عالٍ ثم يدفعها إلى الشجرة بقوة بكلتا يديه قائلًا:
اقتربي منها يا صغيرتي ولا تخافي، هذه الشجرة لها قوة عجيبة لا يعلمها الكثير، اقتربي وارتوي كيفما شئتِ من تلك الدماء وستدركين ما أقوله بعدها.
اقتربت منها الفتاة بحذر وهي ترتجف ثم نظرت لمقلاص بدهشة والتقطت بعض قطرات الدماء بيدها لتتذوقه وشعرت بالاشمئزاز في الوهلة الأولى وفجأة انهالت على الجذع لترتشف منه الكثير والكثير حتى ارتوت تمامًا.
وقفت فجأة مبتسمة وأخذت تدقق النظر وتتحسس كل جزء بجسدها وتحركه وكأنها بقوة مائة رجل ثم ضحكت بصوت عالٍ قائلة:
ما هذا؟ أشعر وكأنني أستطيع محاربة جيش كامل بعد أن كدت أموت من الإرهاق، انظر يا مقلاص لقد التأمت جروحي أيضًا! أين أنا؟ وما هذه الشجرة المسحورة وما السر ورائها.
يبتسم مقلاص ويشير إليها لتنظر للمكان حولها قائلًا: أنتِ الآن يا عزيزتي في جزيرة سقطرى اليمنية وتلك الشجرة هي شجرة (دم الأخوين)( )...
شهقت الفتاة قائلة بدهشة:
ماذا!! دم الأخوين... أي أخوين؟
– هناك عدة أقاويل عن هذه الشجرة، يقال أنها تنزف هكذا بسبب قصة قديمة حدثت أمام أعين الناس وهي قصة ساحرة قاموا الأهالي بسجنها لفترة وتقييدها ليروا ماذا هم بفاعلين بها حتى اجتمعوا جميعًا على حرقها أمام الجميع لتكون عبرة لهم، ولكنها لم تكن ساحرة كما زعموا، كانت مجرد سيدة فقيرة تعيش بعيدًا عن الجميع لتربي ولديها الصغار فزعموا ذلك نظرًا لقلة كلامها وعدم اقترابها من أحد، ونظرًا لبشاعة منظرها ولم تدافع عن نفسها حتى قاموا بتقييدها في تلك الشجرة وذبحوا أبناءها أمام أعينها قبل إشعال النار بها فصرخت فجأة ولأول مرة سمعوا صوتها، لم تصرخ من الألم ولكنها صرخت بكلمات الانتقام فتوعدت لهم ألا تتركهم وستقوم بالثأر لنفسها ولولديها الصغار الذين قُتلوا بلا رحمة، ومن بعدها قيل أن روحها كانت تستقطب أهالي القرية الواحد تلو الآخر وتستقطب الأطفال الصغار ليلهوا بجوار تلك الشجرة ثم تقوم بقتلهم بوحشية هنا في نفس المكان ويُعثر على جثثهم ممزقة إلى أشلاء بعدها، ولذلك ظلت الدماء تنزف منها حتى هذا الوقت.
صاحت الفتاة في وجه مقلاص قائلة:
ويحك يا مقلاص، جعلتني أشرب من دماء شجرة ملعونة؟ أم لأننا ملعونان بالفعل مثلها! وهل هذا ما حدث حقًا أم هناك قصة أخرى تخفي حقيقة هذه الشجرة؟
حملها مقلاص على كتفه ليكملا سيرهما في الجزيرة قائلًا:
دائمًا تتسرعين، لتصمتي قليلًا أيتها الثرثارة وسأخبرك، هذه قصة من عدة قصص تم سردها حول تلك الشجرة ولكن سأخبرك بالقصة الحقيقية الخاصة بها دون أن أطيل عليكِ.. سميت تلك الشجرة بدم الأخوين بسبب القتال الذي سار بين الأخوين هابيل وقابيل، لقد قام قابيل بقتل هابيل هنا في تلك البقعة من الجزيرة وسقطت دمائه على الرمال ونبتت بعدها تلك الشجرة وما إن ظهرت حتى بدأت بالنزف ولا تتوقف دماؤها أبدًا، ولكن هذا السائل الذي يشبه الدماء ليس مجرد سائل لزج بلون الدم ولكنه دواء وشفاء لعدة أمراض، ولكن أتدرين؟ لا يمكن لأحد الوصول إليها بسهولة فلولا أنكِ معي لما رأيتها أبدًا، المردة والجن فقط هم من يستطيعون معرفة مكانها والبشر يصلون إليها من خلالنا لاستخدامها في عدة أمور بعضها للشفاء والأخرى لأسباب مرعبة.
ضحكت الفتاة واحتضنت رقبة المارد هامسة:
سأظل أتعلم الكثير والكثير منك يا مقلاص ولكن تبقى القوة الحقيقية التي أريدها وأنتظرها بشغف فما زلت لا أعرف عنها أي شيء، ماذا عن قوة وسحر جدي الحظرد! متى سأمتلكها؟ أريد الانتقام والثأر لجدي الغالي وأن أشرب دماء كل من بتول وظافر لما فعلوه بي وبجدي، أشرب من دمائهم كما شربت من دماء الشجرة، أريد استرداد كتاب العزيف لأتعلم كل ما عرفه جدي وأسيطر به على كل المخلوقات.. فلن أظل هكذا هاربة ومختفية إلى الأبد تاركة بتول تنعم بالسعادة والحب التي لم أنعم بهما منذ ولادتي.. عشت معك متنقلة بين أراضي الصحراء والكهوف، وجدت هي الحب والاحتواء ولم أحظى أنا بأي شيء، لم أنل غير الكراهية والانتقام والحرمان من حنان أبي وأمي وجدي عبدول، ألقوا بي في الصحراء الخالية ولولاك كنت أصبحت طعامًا لوحوش الصحراء، أدين لك بحياتي يا مقلاص.
همس مقلاص مبتسمًا لها:
تريثي يا تيماء وسوف تنالين كل ما افتقدتِه من قبل، وستحصلين على انتقامك وقوتك، أما عن العزيف تم سرقته الآن من حاميه بسطام وكهنة الكهف الأبيض ولم يستطيعوا حراسته وحمايته، لقد وقع الجميع في شر أعمالهم وسيبدأ كابوس جديد يداهم أعدائنا وهم (بسطام وباهلة وبتول وظافر) وكل من يريد محاربتنا على وجه الأرض.
أثناء قيام ظافر وبتول بقتل عبد الله الحظرد وبعلزبول في كهف "برهوت" بمساعدة الحكيمة باهلة والكاهن الكبير بسطام بعد صراع مخيف وتحديات كبيرة، واجهتهم من قبل سهر أخت مكرب وزوجة تاجر الذهب شاهين، وجميعهم من خدام الشيطان، في هذا اليوم لاذت تيماء توأم بتول وحفيدة الحظرد بالفرار وساعدها على ذلك مربيها وحاميها من أتباع الجن الأحمر المارد الكبير مقلاص.
ظنت بتول أن الشر انتهى وإنها تخلصت بمساعدة ظافر من شر السحرة والجن والشياطين وتوأمها تيماء وأسطورة "بئر برهوت" وأنها ستنعم بعدها بحياة مستقرة مع زوجها ظافر الفارس الوسيم وستنجب أبناء وتكون الأسرة التي افتقدتها منذ صغرها، ولم تكن تدري أن هناك من يخطط لقتلهم جميعًا وأن الشر لا ينتهي وأن للقصة وللقدر أبعاد أخرى.
لقد تم حرق الشيطان بعلزبول ولكن لم ينتهِ بعد، فهناك أتباعه يترصدون للبشر في كل بقاع الأرض، انتهى الحظرد ولكن لم ينتهِ تلامذته من عبدة الشيطان ومن ممارسين السحر الأسود، قام بسطام بالاحتفاظ بمخطوط العزيف داخل لوح زجاجي في كهف الكهنة البيضاء وتحت حراستهم ولكن هناك من يخطط بدهاء واستطاع التسلل إلى الكهف وحجب الطلسم الحامي له وقام بسرقته دون أن يشعر به أحد.. فمن الفاعل الذي سيبدأ معه الصراع مرة أخرى؟!
المتصور
ينام ذاك الشاب الوسيم مستلقيًا على ظهره في فراشه، فيفتح أحدهم باب غرفته ليُحدث صريرًا عاليًا ولكنه يغط في نوم عميق، تقترب منه فتاة خمرية اللون جميلة ذات قوام ممشوق ووشم أحمر على ذقنها وعينان يزينهما الرموش الكثيفة والكحل الأسود ويفوح منها عطر الزهور ليعكس رقتها ودلالها، تقترب أكثر في دلال وأنوثة وتنظر إلى وجهه بعينين يملأها العشق والغرام ثم تتحسس وجهه ولحيته برقة وتتداعب شعره قائلة:
أيا قاتلي... إذا كانت قلوب الناس تتقلب، فلبقية عمري أتقبلك داخل قلبي، وإذا قالوا دعي عقلك يختار قلت لهم أن العقل بحبك معتقل.
يفاجئها الفارس بالانقضاض عليها بكلتا يديه ثم يحتضنها بقوة قائلًا:
ألن يتوقف جمالك عن أسري هكذا يا بتول قلبي!
– ولماذا تريده أن يتوقف! ستظل هكذا يا فارسي الجميل، أسيري لأبد الدهر.......... أم ستتركني في يوم ما يا ظافر؟ أجبني.
يعتدل ظافر ويجلس في فراشه بجوار بتول وتتبدل ملامح وجهه قائلًا:
الفراق ليس بأيدينا يا حبيبتي، كم أبيت الارتباط بأي فتاة حتى لا أتعلق بأحد ويكون مصيره مرتبطا بي، حتى أتيتِ أنتِ فلم أستطع الفرار من حبكِ من أول نظرة حين رأيتك مغشيًا عليكِ في الصحراء القاحلة بعد هروبك من الخسيس شاهين وبعد أن كنت موكل بالبحث عنكِ وقتلك حتى تتحقق النبوءة ولا يستطيع الحظرد الخروج من منفاه، حينما تأكدت من براءتك ومنذ تلك اللحظة ارتبط مصيرنا سويًا، وتم كسر القاعدة، أصبحت أخاف بشدة الآن بسببك، أخشى عليكِ من كل شيء وأخشى على نفسي من الموت حتى لا أتركك وحيدة في يوم ما.
ضمته بتول بقوة قائلة:
لن يمسك سوء يا حبيب قلبي أبدًا وستبقى بخير لأجلي ولأجل ولدنا.
أبعدها ظافر عنه قليلًا لينظر إليها بدهشة وسعادة قائلًا: ماذا قلتِ للتو؟ لأجل ولدنا! أنتِ...؟
– نعم... لقد حدث يا ظافر وينمو الآن بداخلي قطعة منك ويجب أن تحافظ على نفسك حتى ترعاه وتجعله فارسًا عظيمًا مثلك، يتحدى الشر ويدافع عن الخير ويكون قويًا عزيز النفس كأبيه.
– قلبي سيتوقف من فرط السعادة يا بتول، لا أصدق أنني سأصبح أبًا عما قريب، هيا بنا نذهب سويًا ونبشر أبي وباهلة ليباركا الحمل وليقوما برقيتك من كل شر أنتِ والجنين، تعالِ لنذهب لباهلة أولًا، ستسعد بشدة.
اقتربا ظافر وبتول من الكوخ الصغير الموجود داخل الغابة بين الأشجار وحوله الكثير من الطيور الجميلة التي تغرد هنا وهناك، ثم وجدا الحكيمة العجوز باهلة تجلس أمامه متكأه على عصاها وتتلحف بوشاحها الأسود في سكون تام، فأسرعا تجاهها وصاح ظافر بسعادة:
يا خالة باهلة، يا خالة أبشري.. جئت لكِ بخبر عظيم..
وقفت باهلة بدهشة قائلة:
أوجدته! أشعر بقلق كبير عليه، هل علمت أين ذهب؟
اندهش ظافر مما تقوله وتبدلت تعبيرات وجهه من السعادة إلى القلق ثم سألها: من هو؟ عمَّن تتحدثين يا خالة؟
– كنا معًا ولم نكن معًا، كنا هنا وروحنا تهيم في مكان آخر، تقلبت السماء بالغيم وزمجرت الأرض بالغضب.. ثم ذهب.. ذهب... أتدري أين ذهب؟!
صاحت بتول بغضب:
يا خالتي.. الوقت ليس ملائمًا للألغاز والكلام الغير مفهوم، رجاءً اشرحي لنا ما حدث بهدوء ووضوح.
بكت باهلة للحظات ثم جلست مرة أخرى ممسكة بعصاها الخشبية السميكة قائلة:
كنت أجلس أنا وبسطام يوميًا هنا لنتسامر ونناقش بعض الأمور المهمة حول الكهف الأبيض وحراسة كتاب العزيف وعن كيفية حجب الشر دائمًا بعيدًا عن البشر وأن نقوم بتعليم كل ما نعرفه وتوريثه لكل جيل حتى يكملوا مسيرتنا مثلما ستفعلان أنتما، وفجأة تبدل حال بسطام، أحادثه فلا يُجيب، يغيب ويأتي ثم يأتي ويغيب، وفي يوم أتى وكنت أجلس معه كالعادة سألته عن سبب تبديل حاله وعن صمته الغير مبرر ولهجته العجيبة التي لا أعتاد عليها، غضب بشدة ووقف أمامي ينظر لي بعينين شيطانية وكأنه شخصًا آخر واقترب مني حتى ظننت أنه سيقوم بمهاجمتي وقتلي ولا أدري لماذا، ظهر غيم كثيف في السماء، ليس بغيم عادي، غيم أسود يجري وكأنه نهر من الرمال السوداء وتساقطت أمطار محملة بالطين الأسود وكانت غزيرة تؤلم الجسد حال سقوطها عليه، فأسرعت إلى داخل الكهف وصحت فيه حتى يأتي ويدخل معي كي لا يصاب بأذى، ولكنه لم يأتِ، وهدأت الأمطار وخرجت لأبحث عنه وصحت كثيرًا باسمه ولكن دون جدوى، ولم أقو على الذهاب لكهف الكهنة وانتظرت حتى تأتيني يا ظافر وتخبرني بأي شيء تعرفه.
أمسك ظافر برأسه من شدة القلق على والده وأمسكت بيده بتول في خوف فقال بهدوء:
من الممكن أن يكون هناك بالكهف، لم أره منذ عدة أيام طويلة وظننت أنه انشغل بما يفعله دائمًا من تعليم بقية الكهنة، أيمكن أن يكون أصابه أي مكروه؟ ولكن من الجائز أن يكون كل ما ذكرتهِ مجرد شيء عادي وطبيعي ولكنك قلقة بعض الشيء يا باهلة من كثرة الأهوال التي مررنا بها في الفترة الأخيرة من صراع مع السحرة والجن والشياطين.
صاحت باهلة في وجهه: لا يا ظافر، ما زالت باهلة برشدها لم يخف عقلي بعد لأتوهم أشياء لم تحدث، هناك أمر مريب، أشعر بعدم الراحة، أشعر بأننا على أعتاب صراع جديد سيحدث أو بدأ بالفعل.. اذهبا للكهف الأبيض وعودا إلى هنا من جديد لتحملا لي الأخبار من هناك، ولكن انتظرا، إذا لم تأتوا لتخبروني عن بسطام، فما هو الخبر السعيد الذي أتيتما من أجله.
تنهدت بتول بحزن قائلة:
ظننا أننا سنأتي لكما ببشرى سعيدة أنتِ والعم بسطام حتى تباركا حملي ليحميه الله ويأتي على خير، ولكن تبدلت سعادتنا الآن يا خالة حتى نطمئن على ما حدث، فلم أعد أحتمل أي صراعات أخرى وحياة مخيفة وغير مستقرة، لنا الله وكفى به حاميًا وسندًا ووكيلًا.
وقفت باهلة في حالة ما بين السعادة والقلق قائلة بتلعثم: حقًا.. أنتِ حامل! لقد تزوجتما منذ ثلاثة أشهر وسيكون موعد ولادتك في خلال ستة أشهر أو سبعة تقريبًا، اقتربي يا صغيرتي لأتحسس بطنك قليلًا.
اقتربت منها بتول وأمسكت باهلة ببطنها بخفة وأخذت تلمسها بيدها بلطف وهدوء وساد الصمت قليلًا ثم أغمضت باهلة عينها للحظات وحملقت فجأة ووقفت لتنظر في ذعر لظافر وبتول قائلة:
يوم الميلاد هو يوم الممات، جاء عزيز وذهب عزيز، بكاء، دماء، صريخ، حرمان.. يوم الميلاد هو يوم الممات، ستة أشهر، هم ستة أشهر.
دمعت عين بتول واقترب منها ظافر واحتضنها في خوف ثم صاح في باهلة:
ماذا تقصدين؟ من سيموت ودماء من؟ حرمان من ماذا؟ ما الذي رأيتهِ يا باهلة أجبي أرجوكِ؟
أمسكت بيده بتول قائلة بهدوء:
أرح نفسك يا ظافر، لن تقول أي شيء، هي هكذا دائمًا أم نسيت؟! لا ينطق فمها سوى بالأحجية والقليل من الكلام الغير مفهوم، هيا لا تضيع وقتنا ولنذهب إلى الكهف الأبيض لنبحث عن العم بسطام ونطمئن عليه... هيا.
صاحت باهلة:
ويلي مما هو آت وويلك مما ستفقدين، هذا ما قاله قلبي وللقدر رؤى أخرى، اذهبا ولنبدأ من جديد، اذهبا للقصر المشيد، صراع جديد في مكان بعيد ليكتب الله لكما النجاة.
كاد ظافر أن يمسك باهلة قبل أن تدخل كوخها وهي تبكي فأمسكت به بتول وأشارت إليه بالانصراف في الحال، تأفف ظافر بغضب وأمر بتول بالمكوث في المنزل حتى يذهب ويطمئن على والده بسطام، أبت في البداية تركه وحيدًا كما كانوا سويًا طوال رحلتهم المحفوفة بالمخاطر، ولكنه أصر على قراره لأنها ليست ملك نفسها الآن وتحمل بداخلها قطعة ثمينة منه.
رحل ظافر ليشق طريقه في الصحراء الخالية وهو يفكر فيما قالته باهلة من كلمات يُغلفها الأحجية مرة أخرى وجميعها لا تُبشر بالخير وتحوي عبارات من التحذيرات وبعد سعادتهم بالحمل وحياتهم المستقرة تبدلت لتُصبح مزيجًا بين القلق والذعر مما ينتظرهما.
بعد ساعات من السير وصل ظافر إلى الكهف الأبيض ودخل مسرعًا لمجلس والده ليبحث عنه، تنفس الصعداء حينما رآه يجلس أمامه على مقعده العتيق وكان يتصفح كتيب قديم بتركيز شديد، أمسك بكتف والده، فانتفض بسطام من موضعه وكأنه رأى شبحًا ما، اندهش ظافر وجلس بجوار والده قائلًا:
أبي.. لقد أتيت للتو من كوخ الحكيمة باهلة وذكرت أشياء عجيبة، بدأت تتحدث بالأحجية من جديد وجعلتني مشتت وأخشى مما هو أتٍ، لماذا يا أبي اختفيت فجأة من أمامها وما سر تلك الغيمة السوداء وهل تبدل حالك بالفعل كما زعمت؟!
نظر ظافر للكتيب الذي بين يد والده بدهشة وسأله عن اسمه، ساد الصمت قليلًا ثم ارتبك بسطام ووقف أمام ظافر قائلًا بتلعثم:
إنه كتيب عن السحر، شعرت بالملل قليلًا وأحببت أن أضيع بعض الوقت لتصفحه، أما عن باهلة أصبحت مؤخرًا عجوز خرقاء لا تقول سوى كلمات غير مفهومة ومللت من الحديث معها فقررت ألا أحادثها مرة أخرى.
صمت ظافر قليلًا وهو ينظر إلى والده في دهشة ثم قال:
نعم يا أبي صدقت، اليوم بدأت بالفعل بقول خرافات ليس لها دليل من الصحة، لقد أخافتني أنا وبتول بعد أن استقرت حياتنا مؤخرًا ونعيش في سعادة وراحة بال.
ابتسم بسطام بخبث وعاود للنظر في الكتيب فأكمل ظافر حديثه:
لماذا تقرأ هذا الكتيب؟ ومن الواضح أنك مشغول به كثيرًا ويجذب انتباهك، أرني عما يكون محتواه.
جذبه بسطام بقوة بين يديه قبل أن يمسك به ظافر فاندهش ظافر من رد فعله وتلعثم بسطام قائلًا:
على الكاهن أن يكون ملمًا بكل المعلومات الخاصة بالسحر حتى يصبح مستعدًا لأي شيء قد يحدث، ولا تحاول الاطلاع على تلك الأشياء الآن، فكل شيء بميعاد، ولا تستعجل فالموعد اقترب.
– موعد ماذا يا أبي؟!
– لا عليك، عد الآن أدراجك إلى زوجتك فهي في أمس الحاجة لك الآن بالأخص بعد حملها.
قال ظافر بدهشة: أنا لم أخبرك بأمر حمل بتول، كيف عرفت؟!
– لا، ذكرت ذلك وأنت تتحدث عن باهلة.
– أنا أعي تمامًا ما أقول ولم أذكر أي شيء عن بتول.
صاح بسطام:
قلت أو لم تقل تذكر أنني بسطام كبير كهنة الكهف الأبيض وأعلم كل ما يحدث حولي حتى وإن لم أره، هيا انصرف الآن فليس لدي وقت لثرثرتك وبالتأكيد لديك ما هو أهم لتقوم به.
جلس بسطام يحدق بالكتيب وشعر ظافر بالضيق والدهشة فتلك المرة الأولى التي يحادثه فيها والده بلا مبالاة وبشكل حاد، حتى إنه لم يره منذ أيام كثيرة ولم يبدُ عليه اللهفة والشوق إليه.
وقبل أن ينصرف ظافر دخل أحد الكهنة من أتباع بسطام وصرخ بقوة:
سيدي بسطام، حدث ما كنا نخشاه، العزيف يا سيدي.
صاح ظافر بهلع: ماذا هناك؟ ما الذي حدث للعزيف؟
وقف بسطام في هدوء وطلب من الكاهن التحدث فقال: لقد تم سرقة المخطوط يا سيدي، لقد اكتشفت للتو اختفاءه من اللوح الزجاجي.
صاح ظافر بقوة: وأين كنتم جميعًا حينها؟ أنتم موكلون بحراسته فكيف حدث ذلك! ومن الذي استطاع اختراق الكهف الأبيض دونكم ليدخل ويخرج ويدمر الطلسم الحارس له... كيف؟!
تحدث بسطام بهدوء: أنا من فعل ذلك.
اندهش الكاهن وظافر وبعد لحظات من الصمت قال ظافر: ماذا تقول يا أبي؟ أنت من أخفيت العزيف؟ وأين أخفيته ولماذا؟
– شعرت أن المكان ليس بمأمن بالنسبة له وخشيت من غدر أحد الكهنة بيننا فيمكن لأي ساحر أو شيطان السيطرة على الكهنة بسحرهم إذا لم يحتاطوا بما فيه الكفاية فأخذته دون علم الجميع وأخفيته بمكان لا يعلمه أحد غيري أنا، حتى لا يستطيع أحدهم الوصول إليه، اذهب أيها الكاهن وباشر أعمالك وتعاليمك للتلامذة الصغار وأنت أيضًا يا ظافر ارحل كما أمرتك فوقتي ثمين للغاية.. هيا.
خرج ظافر وهو في حالة من الدهشة ويدور بذهنه مئة سؤال وساوره الشك والقلق ولكن لم يكن بيديه شيء ليفعله وقرر العودة إلى باهلة مرة أخرى ليحادثها على انفراد.
في منتصف الليل خرج بسطام من الكهف الأبيض مبتسمًا بخبث ودهاء وسار قليلًا في قلب الصحراء ثم توقف فجأة ونظر حوله بترقب هنا وهناك حتى رأى شيء ما يظهر أمامه فابتسم ووقف في ثبات معتدلًا، اقترب منه كيان ما أسود وضخم البنية ثم تحدث بصوت أجش قائلًا: أحسنت يا نائل، لقد فعلتها بمكر ودهاء.
تبدلت ملامح بسطام وتحولت هيئته الآدمية شيئًا فشيء ليظهر فجأة في هيئة شيطان مخيف أحمر اللون وضخم ثم سجد أمام هذا الكيان فصاح به: لا تُبدل هيئتك الآن يا نائل فنحن نحتاج لبسطام لتضليل أعدائنا قليلًا، لم تنتهِ المهمة بعد، أين جثة بسطام؟ هل أخفيتها جيدًا حتى لا يعثر عليها أحدهم ويكتشف ما نخطط له؟
أومأ الشيطان برأسه وعاد مجددًا لهيئة بسطام، ابتسم الكيان وأمره بالرحيل ليكمل ما أمره به من قبل فعاد الشيطان المتصور( ) في هيئة بسطام إلى الكهف الأبيض.
الطاهش
"دائمًا ما تبقى الأماكن لتذكرنا بأحبة رحلوا، لتحمل الذكريات السعيدة، تمتلئ ذاكرتنا بأوقات مرت ولن تعود فتغرق العين بالدموع، فيا ليتهم يعودون للأماكن ويا ليت الأماكن تختفي بنا مع من رحلوا"
جلست بتول في فناء منزلها ليلًا في حالة من الارتباك والقلق والحزن، ومر بمخيلتها ذكرياتها في المنزل قديمًا مع والديها، تذكرت مداعبة والدها الحنون لها وحضن والدتها المغمور بالدفء والسكينة، كم تمنت أن تعيش معهما حتى ينتهي عمرها، كم تمنت أن تكون توأمها مثل بقية الأخوات، تكون صديقتها المقربة وقطعة من قلبها تواسيها وتؤازرها وسرها وتهون عليها كل ما تراه.. ولكن شاء القدر أن تكون توأمها تيماء هي النسل الشيطاني وهي من تنوي الخلاص منها وتخطط للقضاء على حياتها هي وحبيبها وأصبحت في حالة أكبر من القلق والخوف بعد حملها، فالخوف على فلذة كبدنا أشد بكثير من خوفنا على أنفسنا.
شردت بتول وهي تتحسس بطنها وتحدث نفسها قائلة:
كم أتمنى أن تأتي للنور يا قطعة من قلبي وأنت في أحسن حال، ألا يصيبك مكروه أبدًا، أن يحفظك الله من شر البشر والشياطين والأسقام، يا الله لا تؤلم قلبي فيه واجعله يعيش آمنًا، يا الله إن كان مقدر لي أن أفارق عزيزًا من جديد وأن أفارق وأتألم مرة أخرى فلا توجعني في فقد صغيري ولا زوجي.. يا الله إن كان قدري به شرًا لا أطيقه فأبدله بالخير كله بلطفك وكرمك.
بكت بتول ثم تنهدت قليلًا ونظرت إلى باب الفناء في الظلام تتمعن به لعلها تلمح ظافر يدلف منه ثم قالت بحزن: أين أنت يا ظافر؟ لقد تأخر الوقت ولم تأتِ بعد، هيا يا ظافر تعال... أحتاجك بشدة الآن.
ثم يظهر فجأة خيال أسود يسير تجاه باب الفناء، فصاحت بتول بلهفة: "ظافر.. أهذا أنت؟!" تحرك الخيال فاختفى عن نظر بتول فوقفت مرتجفة وتقدمت بضع خطوات تجاه الباب لتتحقق مما رأت وصاحت: "من هناك؟" ولم يجبها أحد فاقتربت مرة أخرى بحرص حتى وقفت أمام باب الفناء ورأت شيئًا ما يتحرك بين الأشجار فابتلعت ريقها وتنفست الصعداء قائلة: "إنه مجرد حيوان ما" واستدارت لتعود إلى المنزل وفجأة أمسكها شيء ما بقوة من الخلف، وكادت أظافره الحادة تخترق جسدها فصرخت بقوة ولكن ليس هناك من ينقذها من براثنه، صاحت بهلع: "من أنت؟ ماذا تريد؟ يا ظافر...." ثم حملها الوحش على كتفه ورفعت رأسها لتنظر إليه ففتحت فمها عن آخره ثم سقطت على كتفه مغشيًا عليها من هول ما رأته، إنه وحش ضخم يُشبه الحيوانات المفترسة( )، حملها ثم أسرع بها بعيدًا لمكان ما.
***
وقفت تيماء أمام مبنى عتيق يُغلفه التراب يُشبه القلعة أو القصر وكانت أعمدته ضخمة وعالية ومساحته كبيرة لا تدركه الأبصار، التفتت إلى مقلاص قائلة:
ما هذا يا مقلاص؟ لمن هذا البناء ولماذا أتينا إليه؟
أشار إليها مقلاص بالدخول من بابه الضخم وتحركا سويًا إلى الداخل ثم ركل مقلاص الأرض بقوة لتضيء فجأة المشاعل داخل البناء ويظهر أمام تيماء طاولة ضخمة عليها أشهى الأطعمة، ابتسمت تيماء وأسرعت تجاه الطاولة تلتهم كل ما عليها بنهم محدثة حالة من الهرج والمرج حولها. ضحك مقلاص بصوت عالٍ وتردد دويه في أنحاء المكان ثم قال: على مهل يا تيماء فكل هذا ملكك الآن ولن ينفد الطعام أبدًا.
ابتلعت تيماء كتل الطعام داخل فمها وشربت كأس من الخمر وضع أمامها لتقول: حقًا ملكي أنا وسأعيش هنا؟!
أومأ مقلاص برأسه فقالت: ولماذا لم أعش هنا من قبل! وتركتني أمكث في أماكن مهجورة وأيضًا في الصحراء ألتهم لحم الحيوانات النيء والزواحف منذ صغري، لماذا يا مقلاص لم تفعلها من قبل؟!
وقف مقلاص أمامها ونظر إلى أعلى قائلًا: كان مقدرًا لكِ أن تقومي بتحقيق نبوءة تحرير جدك من جديد وكنتِ ستنعمين بعيشة الملوك معه آنذاك، ولقد حافظت عليكِ حتى تحصلي على تلك المكانة إلى أن ظهرت توأمك بتول والفارس ظافر وأفسدوا كل شيء فكان علينا أن نبدأ من جديد وسنبدأ من هنا.
ضحكت تيماء بصوت عالٍ وهرولت هنا وهناك في القصر بسعادة ثم توقفت فجأة قائلة: قلت نبدأ؟... من الذي سيبدأ بالضبط؟!
– أنا وأنتِ وهم.
– من هم؟!
صفق مقلاص بكلتا يديه بقوة وأشار إليها لتنظر حولها في البهو ليظهر أمامها فجأة عدة كيانات وجان وأرواح مخيفة، أصاب تيماء الهلع وأسرعت لتختبئ خلف مقلاص وهي ترتجف فأمسكها بقوة لتقف أمامهم وقال بحزم: تيماء لا تخشى أي شيء وكل هؤلاء تحت إمارتك وخدمًا لكِ لتأمريهم كيفما شئتِ، وسيفعلون كل ما تأمري به دون نقاش، تقدمي لتتعرفي عليهم وعلى المكان، تعالِ معي... تقدمي يا تيماء هيا.
تقدمت تيماء أمامه فظهر أمامها غرفة واسعة تلمع من الداخل فنظرت إليها بدهشة وقبل أن تسأل مقلاص أجابها هو: أنتِ تستعجلين كل شيء يا صغيرتي، إنها كنوز من الذهب والألماس وجميع الأحجار الكريمة، إنه إرث لا يُقدر بثمن.
قاطعته تيماء: أتقصد كنوز الملك سليمان؟!
ضحك مقلاص: لا يا صغيرتي كنوز الملك سليمان لغز لم نحله بعد ولكن كل عشائر الجن توكل جنود بالبحث عنه تحت كل بقاع الأرض، اختفت منذ تحريرنا من قبضة سيدنا سليمان حينما توفي على الرغم أن من يحرسها جان أو عفاريت، ولكنهم عشائر مختلفة لا تُطلعنا على كل الأسرار فنحن في عشيرتنا أيضًا نختلف ونحارب بعضنا البعض ونتنافس على القوة والسلطة، والبقاء دومًا للأقوى.
– للأقوى أم الأخير! أعني الصراع القائم بين الجن السفلي والعلوي.
صاح مقلاص: للأقوى يا تيماء فالأخيار دومًا ضعفاء ولذلك قلما يهبطون إلى الأرض.
اندهشت تيماء قائلة: لا أفهم قصدك... رجاءً اشرح لي من هم الجن السفلي ومن هم الجن العلوي ولمن ننتمي نحن؟
– نحن من المردة والجن السفلي الذين نفوا وعصوا وتمردوا، الذين كفروا لأنهم الأفضل بين كل المخلوقات والفرق كبير بين السفليين والعلويين، السفليون هم من يعيشوا على الأرض وتحتها ومن يحكموها والعلويون هم من يعيشوا في الأعلى في السماء.
– ظننت أن الفرق بينهما أن العلويين هم من يتجولون ويعيشون أعلى الأرض والسفليين هم من يعيشون أسفلها في الجحيم.
– هذا ما يظنه الكثير، إذًا كيف أتجول أنا معكِ في كل مكان سواء بالأسفل أو بالأعلى! ظن ممالك الجن العلويين أنهم من يتحكم في كل ممالك الجان بلا تعارض في نظام الحكم لديها فلا يوجد جني أرضي إلا وله موكل به علوي وهو سيده والحاكم عليه، والأرواح العلوية تنقسم إلى اشكال عديدة وأدوار مختلفة في العلو وأعلاهم هم أربعة ملائكة ويدنو بهم ملائكة البروج وهم اثنى عشر ملاك يحكمون شهور السنة وأبراج السماء ويدنو بهم ملائكة فلك القمر وهم المنازل وعددهم أربعة وعشرون ملك روحاني ومن بعدهم سبعة علوية ويعرفهم أغلب طالبي العلم، أما عن روقائيل وسمسائيل وميكائيل وصرفيائيل وعنيائيل وكسفيائيل هؤلاء هم حكام السبع كواكب أو السبع دوائر والأراضين السبع، ويدنوهم سبعة ملوك وهم خدام مملكة الأرض، وأخيرًا المملكة السفلية التي أنتمي إليها ويحكمنا ملك واحد وهو إبليس، ويدنوه سبع ملوك مقسمين على عدد الأيام والكواكب وهم خدام السبع ملوك الأرضية ويدنوهم 319 ملك شيطاني وهم عموم مملكتنا ومختلطين بين بني آدم طوال الوقت ليلًا ونهاراً وفي الصحو وفي النوم وهم أكثر من بني البشر بحوالي عشرة أضعاف أي إنهم يقدرون بحوالي 600 مليار شيطان.
شهقت تيماء قائلة: ما كل هذا يا مقلاص!
ثم ضحكت بسخرية قائلة: سمعت أن من يقوم برش الملح في محل إقامته يسقط الرزاز ليهبط على أحد أتباع الشيطان فيقتله وكأنه رصاص فتاك.
زمجر مقلاص في وجهها: نحن أقوى من ذلك ومن يتعمد فعل ذلك معنا نتربص له ويثير غضبنا أكثر وأكثر، فلا تنصاعي لمثل تلك التخاريف وكل ما يتم تداوله بين الشيوخ مجرد ترهات وليس لها دليل وموضع من الصحة.
غمزت تيماء لمقلاص بسخرية قائلة: يا مقلاص.. أفصح ولا تخجل من تفاهة طريقة الخلاص من بعضكم أم جميعكم.
ارتبك مقلاص قائلًا: لقد ثرثرنا كثيرًا اليوم، ألا ترغبين في معرفة لمن هذا القصر الضخم؟
لمعت عين تيماء قائلة بفضول: نعم، أريد معرفة لمن هو.. هيا.. قل من هم مالكو هذا المكان؟
– إنهم قوم عاد وليس هذا البناء الوحيد الخاص بهم، إنها قرية كبيرة ضخمة حولنا بها كنوز ثمينة ولن يأتي البشر بمثلها مهما حاولوا.
فتحت تيماء فمها بدهشة ثم قالت: تلك هي إرم ذات العماد؟!
– نعم.. وهي ملك لكِ الآن، يبحث الجميع عنها في كل بقاع الأرض لينعموا بإرثها ولكن مهما حاولوا فلن يستطيعوا العثور عليها إلى أبد الدهر، فنحن نخفيها ونحميها بعيدًا عن أعين بني آدم المتطفلين وأنتِ بمأمن كبير هنا.
– لا أعلم عنها الكثير ولكن سمعت بعض الأقاويل من قبل حينما كنت أتلصص على أحد الكهنة، أهي جميلة ورائعة لتلك الدرجة؟
– وأجمل وأثمن مما تتوقعين، إنها إرث قوم جبارين، وهم قوم عاد وليس لها مثيل في كل البلاد.. تعالِ أولًا سوف أفاجئكِ بهدية لم تتوقعيها ولكن دعيني في البداية أعرفك على أصدقائنا.
مر مقلاص على الجن الأول وأشار إليه ليقوم بتحية تيماء بالسجود لها قائلًا: هذا هو "العظروط"( ) خادم الطرقات في الليل وخادمك أينما حللتِ يا صغيرتي.
وضعت تيماء يدها على فمها وضحكت وهي تنظر للعظروط ثم قالت: "عظروط! أهذا اسمه؟" ثم أكملت سيرها.
اقترب مقلاص من الثاني وكانت جنية تقف في خوف وحيرة، نظرت إليها تيماء وضحكت ساخرة: أتلك من الجان! إنها ترتجف من الخوف.
أشار مقلاص للجنية بالسجود لتحية تيماء قائلًا: لا تستهيني بها، إنها جارية البيت( ) وستحتاجين لها في يوم ما.
ثم مر مقلاص على الجن الذي يليها مشيرًا له بالتحية وأشار لتيماء قائلًا: أما هذا الهمام هو المتصور وهو الذي قام بفعل عظيم، فقد قام بقتل بسطام وسرقة العزيف.
توهج وجه تيماء بالسعادة قائلة: كتاب جدي العزيز؟ يا لها من مفاجأة! لماذا لم تخبرني من قبل يا مقلاص؟ ما كل تلك المفاجآت الرائعة! دعني أقبلك يا عزيزي، وأين العزيف؟ أرني إياه أرجوك.
ضحك مقلاص قائلًا: تريثي يا فتاة واطمئني، فالعزيف في يد أمينة، ستريه فيما بعد دعينا نُكمل تعارفنا على البقية فهناك مفاجأة أخرى.
ثم مر على جن آخر فتراجعت تيماء خطوتين إلى الوراء من بشاعة هيئتها فأمسك بها مقلاص وأمر الجنية بإلقاء التحية قائلًا: لا تخافي، إنها خادمتك عيشة القنديشة وهي قوية إلى حد لا تتخيليه.
قالت تيماء بذعر: نعم يبدو عليها ذلك، ولكن لا بأس أن تكون بتلك البشاعة فهي بالأخير جنية( ) وليست ملاك.
ثم مر مقلاص على الذي يليها من الجان فانحنى لتيماء تبجيلًا لها ووقفت تيماء بفخر وتعال فابتسم مقلاص قائلًا: أما هذا الجن سيكون له نصيب الأسد في تنفيذ مخططنا القادم حينما يحين موعد الميلاد، إنه "أبو كلب"( ).
اندهشت تيماء وسألته: ما هو يوم الميلاد؟ ميلاد من؟ ومتى يحين؟
أكمل مقلاص سيره قائلًا: يوم الميلاد هو يوم الممات وسيأتي الجحيم بعد هجوم الغيمة السوداء مرة أخرى.
سألته تيماء مجددًا عن أي غيمة يتحدث وماذا سيحدث حينها فقال: إنها غيمة تأتي بالأهوال ولا تترك شيئًا على وجه الأرض كتلك التي هبت على قوم عاد، إنها ريح صرصرٍ عاتية.
شهقت تيماء قائلة: وهل سنموت جميعًا؟
– لا يا عزيزتي؛ سيموت من نريد أن يموت، لكننا سنظل هنا نحكم الأرض ومن بقي عليها، سوف تتعلمين الكثير وستكتسبين قوة لا مثيل لها.
– أتوق لتلك اللحظة يا مقلاص، ليتها تكون بيوم غير ذي بعيد.. ليتها الآن.
– لا تقلقي يا صغيرة فلن تنتظري كثيرًا، إنها تقترب وتقترب بشدة، هيا لنكمل معًا.
مرا على جنية أخرى تبدو على هيئة شجرة عجوز حزينة، نظرت إليها تيماء في دهشة فقال لها مقلاص: وتلك هي "حسينة"( ) إحدى الجنيات التي يملأها الغضب والشراسة تجاه بنو آدم وتبدو عجوز متعبة ولكنها هالكة لكل من تقترب منه.
وقفت تيماء أمام الجني الذي يلي حسينة وأخذت تدقق النظر في أسنانه المدببة وهيئته المرعبة المقززة فسجد لها الجني وقال مقلاص: هذا هو الباعش( )، كنتِ ستكونين وليمته وأنتِ رضيعة لولا أنقذتك من بين أنيابه، والآن هو خادمك المطيع فلا تخشيه أبدًا فالجميع يخشونك أنتِ، تيماء ابنة الشيطان لا يمكن المساس بها.
توقف مقلاص أمام الجني الأخير وقال بابتسامة عريضة:
وتلك هي المفاجأة الكبرى يا صغيرتي، أقدم لكِ "الطاهش" الذي أتى إلينا بهدية ثمينة وعزيزة على قلبك.
لمعت عين تيماء وقالت بلهفة: ما هي الهدية يا مقلاص؟ ماذا فعل هذا الذئب أو الليث أيًا كان؟ ماذا فعل هذا الوحش الضخم؟
تعالِ معي لتري بعينك بماذا أتى.
سار بها مقلاص في رواق طويل ومعتم حتى وصلا إلى غرفة، وقف أمامها الطاهش وقد أحكم غلقها بسلاسل وأقفال ضخمة فأمره مقلاص بفتحها، وفي لحظة فتح الطاهش باب الغرفة المعتمة وأمسك مقلاص بشعلة على باب الغرفة المظلمة ثم تقدم بها داخل الغرفة وبجواره تيماء.
وقفت فتاة جميلة داخل الغرفة وكانت منهارة تمامًا وترتجف من الخوف فوضعت يدها على وجهها وصاحت: ظافر... هل أتيت؟ أكاد أموت من الرعب.
ابتسمت تيماء بخبث واقتربت منها قائلة: مرحبًا بكِ يا توأمي الغالية.
فتحت بتول عينيها في دهشة وهلع ثم صاحت: من... أنتِ تيماء؟
ضحكت تيماء بصوت عالٍ هامسة: نعم.. لم تتوقعي رؤيتي بتلك السرعة أم لم تتوقعيه أبدًا، هل ظننتِ أنني سأترككِ هكذا دون حساب! لن أترككِ في سعادة وعلى قيد الحياة ما حييت.
صاحت تيماء في الجن طاهش: هيا يا طاهش هي لك، أريد أن أراها بعيني وأنت تلتهمها حية وتمزقها إربًا.. هيا.
اقترب الطاهش منها فصرخت بتول بقوة حتى أمره مقلاص بالتوقف قائلًا: ليس الآن يا تيماء، لم يحن الوقت بعد، فبداخلها ما نريده وستمكث هنا حتى يأتي إلى الحياة ليكون يوم الميلاد هو يوم الممات.
صرخت بتول: طفلي.. لا أرجوكم، دعوه يأتي في سلام واقتلوني أنا بعد ذلك، أتوسل إليكم.
ضحكا مقلاص وتيماء ساخرين منها فصرخت بتول وهي تبكي: ظافر، أعلم أنك ستأتي وستنقذني أنا وطفلك، لا تتأخر يا ظافر، بتول في خطر وتحتاج إليك، تعال يا حبيبي فلدي ثقة بحضورك كالعادة.
تعالت ضحكات تيماء ومقلاص فقالت تيماء بسخرية: اصرخي كيفما شئتِ وتمني وتأملي حتى يتوقف صوتك عن الصياح، هنا حيث لا يمكن أن يصل إليكِ بشر، هنا حيث النعيم والجحيم، لتأكلي بقايا الطعام العفن والمنعطن حتى تضعين طفلك، ومن بعدها سنرى ما نحن بفاعلين، ترقبي الجحيم الحقيقي المنتظر يا عزيزتي وادفعي ثمن فعلتك أنتِ وزوجك المغوار الجبار ظافر، ولا تقلقي، فإذا أتى إلى هنا سيأتي بأمر مني وذلك لأنهي حياته أمام ناظريك دون رحمة، لن يستطيع الدخول هنا إلا بأمري أنا، فهذا القصر المشيد ملك ابنة الشيطان تيماء، ولن يكون انتقامي سريعًا، سيكون بحجم فعلتكم على مدار أشهر، مات بسطام واعتقلت بتول وفقد ظافر ثقته في باهلة فماذا المتوقع بعد؟!
تعالت ضحكات تيماء المختلطة بصريخ بتول وعويلها فصاحت بها تيماء لتصمت قائلة: كفي عن النواح يا سمراء فأنتِ في حضرة الأميرة تيماء وفي قصر أقوى البشر، قصر "قوم عاد".
صمتت بتول فجأة من وقع الصدمة ثم أمرت تيماء الطاهش بغلق الغرفة عليها بإحكام وانصرفت بكل سعادة وكبرياء بصحبة مقلاص.
وقفت بتول في الغرفة المعتمة وبكت بقوة حتى أنهكها البكاء وغفت على الأرض العارية دون أن يرف لها جفن.