- "وعـــد" ... "وعـــد" .. اصحي أنتِ نمتي على المكتب من إمبارح؟
فتحت عيني لأجد "ندى" أمامي كأنني فقدت هويتي وأتساءل من أنتِ ومن أنا ولماذا أنا هنا؟
اقتربت "ندى" مني أكثر فلامستْ كتفي لتوقظني من تلك النومة المهلكة سائلة:
- "وعد" أنتِ سمعاني؟ "وعد"..
نهضتُ ورأسي يؤلمني بشدة، ثم قلتُ بصوتٍ مجهد:
- آه آه أنا سمعاكي، أنا خلاص صحيت يا "ندى".
فقالت وهي متجهة ناحية الباب:
- ماشي أنا نازلة بقى عايزة حاجة؟
- لا شكرًا..
اعتدلتُ من نومتي تلك على المقعد الخاص بالمكتب والتي تسببتْ في آلام قوية لرقبتي وظهري، ثم أمسكتُ بهاتفي أتفقده ثم وضعته بالكهرباء كي تمتلئ بطاريته ثم غادرتُ حجرتي لأستحم حتى أفيق، فأنا أعشق جريان الماء فوق رأسي، أشعر بالهدوء والاسترخاء وكأنني في عالم آخر مليء بالمشاعر الإيجابية لا غير.
وحينما خرجتُ من ذلك العالم وانتهيت من ارتداء ملابسي، فاتجهتُ لأُعد فنجاني الخاص من القهوة الفرنسية حتى أُكمل استرخائي وأبدأ يومي، فدخلتُ المطبخ وبدأتُ أضع كل المكونات الخاصة بقهوتي في تلك الكنكة المحبذة إليَّ كأنها صانعة السعادة إلى قلبي، وبدأت أضعها على النار المشتعلة في الموقد حتى أخبرتني بأن مشروب السعادة جاهز للتناول، فأخذتها وأطفأتُ الموقد ثم وضعتها في الفنجان الخاص بي، فسمعت أمي تنادي باسمي فتناولت فنجاني وغادرتُ المطبخ ذهابًا إليها حيث كانت تجلس على الأريكة المقابلة للتلفاز في الردهة، فخطوت نحوها ثم وضعتُ فنجاني على الطاولة، وجلستُ أنا الأخرى بجانبها، فسألتني قائلة:
- أنتِ منزلتيش الشغل النهاردة ليه؟
- صحيت متأخر، هكلمهم أعتذر عن اليوم، بس إيه مصحيكي دلوقت يا ماما؟
فأجابت وكأنها تحاول إخفاء شيء ما:
- أخوكي ومراته جايين يتغدوا معانا ويقضوا اليوم.
فنظرتُ إليها نظرة المنتصر بأفكاره، وابتسمتُ قائلة:
- آة كويس برضو عشان البنات وحشوني أوي، بس خير في حاجة معينة جايين عشانها؟
فقالت:
- لأ .. عادي هو يعني لازم يكون في حاجة عشان أخوكي يزورنا!
والدتي لا تُجيد الإخفاء وهي تعلم جيدًا بأنني أحفظ كل تفاصيل وتعابير وجهها بكل المواقف ومع ذلك تحاول قدر المستطاع أن تُخفي عني سبب حضور شقيقي وعائلته ولكن بضع ساعات وينكشف الأمر.
أومأتُ برأسي في صمت، وتناولتُ فنجاني وبدأتُ بالرشفة الأولى حتى فاجأتني برد فعل جعلني أضحك صامتة، فقالت غاضبة:
- قهوة تاني برضو يا "وعد!" أعمل فيكي إيه.. طب افطري الأول وبعدين اشربيها، لااا أنا قايمة مفيش فايدة فيكي.
حاولتُ إخفاء ضحكتي وراء الدهشة والصمت، لأنني أعلم أن أمي بذلك تحاول إخفاء شيء أكبر بكثير من فنجاني الخاص، فقامتْ وذهبت إلى غرفتها وأغلقتْ الباب.
فتناولت جهاز التحكم الخاص بالتلفاز وبدأت أشاهد القنوات وأحتسي قهوتي وما زلتُ أضحك ضحكات خافتة وابتسامتي لا تفارق وجهي.
.....................
دقت الساعة الثالثة والنصف عصرًا ..
لقد انتهيتُ من إعداد الطعام وذهبتُ لأصلي العصر، وفي طريقي إلى غرفتي جاء بأذني صوت خافت خلف باب الشقة كطرق عشوائي طفولي، فتوقفت وظَلَلْتُ ثابتة في مكاني لا أتحرك لعدة ثوانٍ كي أتأكد مما سمعته، فاستمرت الدقات، فابتسمتُ واتجهت ناحية الباب ثم فتحته لألتقي بالملاك الصغير الذي أعشقه.
"رغد" ابنة شقيقي التي تبلغ من العمر ثلاث سنوات، ذات البسمة الملائكية البحتة ونظرات ليس لها مثيل بين البشر، حيث كانت تقف أمام الباب مرتدية رداء الملكات بلون البحر الصافي بأمواجه الهادئة تُريح النفس عند النظر إليها، فتقدمت ناحيتي بلهفة المشتاق فاتحة ذراعيها الصغيرتين بسعادة كبيرة، ناطقة بلسان طفولي ما زال يتعلم كيف يتكلم، فقالتْ:
- عمتو .. وحشتيني ..
فالتقطتها بين ذراعي فى لهفة شديدة لأعانقها ثم قلتُ:
- حبيبتي .. قلبي .. وحشتيني أوووي.
- أنتِ أوي.
- يا قلبي أنتِ.
بينما أستقبل ملاكي الصغير، جاءت من خلفها زوجة شقيقي وهي تلهث في محاولة التقاط أنفاسها مع إنه لا يوجد داعٍ لذلك، فنحن نقيم في الطابق السادس من البناية وهناك مصعد يعمل ليلًا نهارًا دون أن يمل، فكانت تحمل بين ذراعيها كائنًا ملائكيًّا آخر، "ميرال" الابنة الثانية لشقيقي، فما زالت رضيعة لم تتجاوز الستة أشهر.
فقلتُ مُرحِّبة بها:
- زينة، عاملة إيه؟ حمد الله على السلامة.
فدخلت مسرعة حتى جلست على المقعد المقابل للشرفة، وقالت:
- الله يسلمك .. الحمد لله أنتِ عاملة إيه وماما فين و"ندى"؟
"زينة" ليس ممن يمتلكون بدنًا ممتلئًا للغاية ولكنها تمتلك عقلًا أثقل من جسدها، إذ إنها مِمن يؤمنون بعقيدة "التكاسل"، أي إنها لا تُحبذ القيام بأي عمل به فقد أيٍّ من السعرات الحرارية حتى ولو بنسبة ضئيلة لا تُذكر.
أغلقتُ الباب قليلًا ليس لآخره وجلستُ على الأريكة المجاورة للمقعد الذي تجلس عليه "زينة" ثم قلتُ:
- ماما جوه بتلبس و"ندى" زمانها جاية من الكلية.
وبعد لحظات قليلة أتت والدتي مبتسمة ومملتئة عيناها بالشوق، والتقطت ملاكي الصغير من بين أحضاني لتعانقها بفرح شديد قائلة:
- "رغد"، حبيبة تيتا وحشتيني أووي..
ثم جلست بجانبي والتفتت ناحية زوجة شقيقي قائلة:
- إزيك يا زينة يا حبيبتي عاملة إيه؟ وفين "سيف" ؟
- الحمد لله يا ماما حضرتك اللي عاملة إيه؟ سيف بيقفل العربية وطالع.
وفي أثناء كل تلك الترحيبات سمعنا صوت غلق باب الشقة، إنه "سيف" شقيقي الأكبر ، يكبرني بخمس سنوات، ونتشارك طول القامة والبشرة المائلة للبياض أيضًا ولكنه ذو بدنٍ مقسم بالعضلات البارزة بعض الشيء، كان يحمل عدة حقائب كرتونية وبلاستيكية فوضعها على المنضدة الخاصة بالطعام، وأتى بشوقٍ نحونا قائلًا:
- السلام عليكم.. إزيكم وحشتوني.
ثم احضتن والدتي بشدة وبادلته ذات العناق العميق، حقًّا من يراهم يعتقد أنه أول لقاء بعد غياب سنوات عدة، فلم يعلم بأنه يتكرر أسبوعيًّا.
فجلسنا جميعًا كالعادة لعدة دقائق ثم رافقتني زوجة شقيقي لتجهيز الطعام حتى انتهينا وجلسنا سويًّا لتناول الغداء، وبعد أن انتهينا ذهبتُ أنا وزوجة شقيقي إلى المطبخ لتحضير المشروبات فسمعت صوت جرس الباب ثم صوت "ندى" قائلة:
- سيف ..إيه المفاجأة الحلوة دي .. وحشتني..
فابتسمتُ لعودتها ثم بعد ثوانٍ قليلة خرجتُ أنا و"زينة" لتقديم المشروبات لهم، حيث والدتي تجلس بجانب شقيقي على الأريكة وتحمل بين ذراعيها الصغيرة "ميرال" وتلعب "رغد" على الأرض، ولكن أين "ندى"؟
فاعتقدتُ بأنها داخل غرفتها أو ذهبت لتغتسل من إرهاق اليوم، فوضعت المشروبات على المنضدة وجلستُ بانتظار قدومها ولكن بعد عدة دقائق دق جرس الباب فاتجه "سيف" ليرى من الطارق، ثم فتح الباب..
إنها "ندى"! قائلة بسعادة:
- "سيف" ..إيه المفاجأة الحلوة دي .. وحشتني!
فتوقف قلبي وعقلي وكل حواسي للحظات قليلة ثم استيقظتُ من غفلتي تلك على صوت "رغد" تضحك ضحكات عالية بسبب دغدغة "ندى" لها، فحاولتُ سريعًا التخلص من دهشتي تلك حتى لا ينتبه من حولي ويتساءلون "ماذا بكِ؟"
فجلسنا جميعًا نتبادل الحديث، وكما ظننتُ أن زيارة شقيقي تلك لها علاقة بالحديث عن زواجي، فظَلَلْتُ منصتة جيدة لا أناقش ولا أجادل، حقًّا مرهقة الفكر فكل ما عليَّ فعله هو إيماءات الوجه والرأس ورسم الابتسامة المصطنعة، حتى أعلنت الساعة الحادية عشر مساء ورحل شقيقي وزوجته والصغيرتان، وأصبحت بمفردي حيث ذهبت كلٌّ من أمي و"ندى" إلى غرفتها، فذهبتُ أنا الأخرى إلى غرفتي وأنا أحمل من دهشتي الكثير لما حدث فاستلقيت على فراشي متعبة للغاية، وتساءلتُ كالمعتاد في داخلي هل ما حدث حقيقة أم مجرد خيال؟
فكيف لي أن أتخيل ما سيحدث قبل أن يحدث؟! فمن الممكن أن عقلي الباطن أوهم لي ذلك الحدث الذي من الممكن أن يكون متوقعًا من خلال معرفتي بأشقائي وأفعالهم وردود أفعالهم، فتنهدت ثم حاولت أن أتجاهل ما حدث ولكني كنت في حيرة منه، وأنا في حيرتي تلك جاءني النوم.
..............................