طريق كينج ستريت هو طريقٌ سريع، ينعطف بمحاذاة قمة المنحدر الصخري الرائع
الجمال الكائن في الركن الجنوبي الشرقي من مقاطعة ويستتشستر؛ إذ ينحرف ويتلوَّى
مع كفاف الأرضويسمح، في هذه الانعطافات المفاجئة من اليمين إلى اليسار، برؤية مناظر
خلابة للمياه البعيدة الواقعة خلفتلال لونج آيلاند الزرقاء الراسخة والضبابية. وهوطريقٌ
فخمٌ فسيح؛ إذ كان الرجال، في أيام المستعمرات التي أنُشئ فيها هذا الطريق، أسخياء
بأراضيهم. وتنتصب على جانبيه، كالحراس، أشجارُ الدردار السامقة المتهدِّلة الأغصان
وتتناثر بينها أشجار البلوط الملأى بالنتوءات. ولا يكتفي الطريق بتحقيق الغرضالأصلي
منه؛ وسيلةً للعبور من وإلى الميناء في الجنوب والوادي الخصيب الرومانسي إلى الشمال،
ولكن يُعتمَد عليه أيضًا في بعضالأماكن كحد؛ بحيث إنه إذا ركب أحدهم من وايت بلينز
إلى البحر وقابل آخر يسير شَمالًا، فصار على أحدهما أن ينعطف يمينًا، وعلى الآخر أن
ينعطف يسارًا تيسيرًا لمرورهما، فإن أحدهما سيكون عند الطرف القصِيِّ للحد الشرقي
لولاية نيويورك، وسيكون الثاني عند أقصى الحافة الغربية لولاية كونيتيكت. وفي نقطةٍ
ما، على بُعد نحو ستة أميال من البحر، ينعطف الطريق انعطافةً هائلة من الشرق إلى
الغرب، كاشفًا منظرًا بانوراميٍّا للبحر البعيد شرقًا وصولًا إلى الجُروف التي تطوق خليج
هنتينجتون، وغربًا إلى أن تبدو المياه وكأنها قد اختفت فجأةً بفعل حصن سكايلر الموحش،
في حين يضفي مشهد بعيد لصخور كونيتيكت المنحوتة تباينًا على هذا المشهد. ومن
هذه النقطة تظهر الأطلال الكئيبة لمنزل يقع في منتصف حقل موحش مهجور، تخفيه عن
الطريق السريع غابةٌ حرشية. كانت الأطلال غاية في الضعف والتحلُّل بفعل الزمن والإهمال
لدرجةٍ تجعلك تتعجب من أن نسمات الهواء، حتى الخفيفة منها، لم تُسوِّها بالأرضمنذ
وقتٍ طويل. ومع ذلك فقد قاومت العواصف والعزلة لأكثر من مائة عام، وحينما تندثر في
توءما آل فانشر
نهاية الأمر سيكون ذلك بتحللها المفاجئ إلى عناصرالطبيعة. إنها الآن أشبه بهيكلٍ عظميٍّ
لكائن كان حيٍّا. ثقوب مفتوحة كبيرة تعلوها ألواح خشبية بُنِّيَّة مهترئة كالحواجب الكثيفة
الشعثاء، كانت في يوم من الأيام نوافذ، وأسفلها فجوة كهفية فاغرة، تميزها أعمدةٌ ولوحٌ
خشبي مهترئ مثبت بمسامير مثنية صدئة، تخبرك بالمكان الذي كان مثبتًا فيه باب ثقيل
من خشب البلوط في يوم من الأيام، وقد سقط الآن فوق درجات السلم الصخرية التي لا
تبدو عليها علامات الزمن، بخلاف أنها قد اختفت تحت طبقة من الطحالب الخضراء.
تبدو الرياح وكأنها تعوي على الدوام في هذه الأطلال، وفي الليل يوقظ نعيق البوم
أصداء قرن من الزمان، فلم يُسمَع في هذه الجدران أي صوت آخر طوال أكثر من مائة
عام، بخلاف أصوات الخشخشة والقرقرة التي تُحطِّم بها قوى الطبيعة ما صنعه البشر
وأهملوه، أو التغريد أو الصياح الجَسور للطيور التي تحتل المكان حين يهجره البشر.
ولكن لماذا تُهجَر مثل هذه البقعة التي كانت لا محالة في يوم من الأيام ساحرة مبهجة
— وربما تصبح كذلك مرة أخرى — كما لو كان قدضربها الطاعون؟ لم يجد هذا السؤال
إجابةً حتى الآن. هل كان ثمة تأثيرات خفية حاضرة دومًا مع توءمي آل فانشر، كغلاف
جوي ثانٍ، هي التي أودت بها لمصيرها المحتوم؟ فإذا كان هذا هو السبب الحقيقي، رغم
أنه ربما يكون سببًا غير مُدرَك بالعقل الواعي، أفلا يكون حقيقيٍّا أنه حتى في العوالم التي
تنهزم فيها الخرافات، وتحكم فيها الحقائق وحدها، يظل هناك في الطبيعة البشرية قرابين
غامضة غير معترف بها تُقدَّم للقوى التي يعبدها مُنجِّمو الشرق وسحرته؟ من المؤكد أنه
ما من أحد سكن هذه البقعة بعد أن هجرها توءما آل فانشر، ويحق للمرء بعد قراءة هذه
السيرة لحياتهما أن يحكمَ بنفسه عما إذا كانت الأسباب التي دعت للتفكير في أن الناس في
الماضياعتقدوا أن هذا المنزل قد ألُْقِيَت عليه لعنةشريرة هي أسباب وجيهة أم لا.
عندما أظلمت الأرضواكْفَهَرَّتْ في الكسوف العظيم الذي حدث عام ١٧٣٣ ، استحوذ
الرعب على البشر، فقد بدا لهم أن الطبيعة انقلبت رأسًا على عقب، وخيَّم على كل الأشياء
سكونٌ خانِق، حتى إن الحيوانات في الحقل كانت تُطلِق صيحاتِ رعبٍ، والكلاب تعوي،
والطيور الداجنة تأوي لأعشاشها حتى في منتصف النهار؛ إذ كان البشر، حتى ذلك الحين،
غير مستعدين كما هم الآن لدقة العلم، ولمشاهدة هذا الدليل المخيف على قوى لله الهائلة
وقوانينه.
في تلك الساعة بالضبط اجتمع الجيران في منزل آل فانشر، وانحنوا بعطف يمدون
يد العون لشخص كان في أَمَسِّ وأقدس حاجة للمساعدة. وحينما بدأت العتمة تجتاح
الأجواء في منتصف النهار، وتزداد عمقًا وكثافة، وكشف الضوء الشاحب المشاهِد الأخرى
غير المعتادة في الخارج، قبع الجيران بعضهم بالقرب من بعضأمام النار العظيمة الموقدة
في غرفة المعيشة، لا يتحدَّثون إلا بالهمس، مُلقين نظرات خاطفة من النافذة على الضوء
الغريب المنبعث منها. ولكن فجأةً ظهرت من الغرفة الداخلية امرأة مُسنَّة تبدو على مُحيَّاها
«. كان من الأفضل له أن يموت؛ لأن هذا سيفسد حياته » : أمارات الكآبة والحزن قائلة
إنها لا تعرف » : وسأل الجيران في همس، ليس عن الطفل بل عن الأم، أجابت السيدة
«. أن الشمس غربت حين خرج الطفل إلينا
بعد قليل دَلفت السيدة إلى الغرفة الكبيرة حاملة بين ذراعيها حِملًا، وبعد أن أزالت
البطانية المصنوعة من الصوف الناعم، سمحت لصديقاتها بالنظر إلى الطفل الصغير.
«؟ هل … هل هو حي » : سألت إحداهن
للأسف نعم. إنه ولد، وسيكون داكن البشرة قويٍّا، ومن يعلم ماذا أيضًا؛ فهل تظنون »
«؟ أن مثل هذا الشيء الذي حدث للشمسلن يؤثر على شخصٍخرج إلى الدنيا في تلك اللحظة
عندئذٍ فتح الرضيع عينيه لهم، ورأوا ذلك؛ فرغم أنه حسب ما تتذكره النساء لم يكن
في آل فانشر أو في أقاربه من ناحية الأم أحد إلا ويملك عينين زرقاوَين وديعتَين، فحين
أزُيحت تلك الجفون كشفت عن عينين قاتمتين تَعِدان، عند انقضاء فترة تغير لون العيون،
بأن تُصبحا في سواد الليل الحالك، وحتى خصلات الشعر البسيطة التي كانت تُكلِّل رأسه
كانت قاتمة، وأكدت بعض النساء العجائز أن عيونهن الثاقبة تكشف لونًا تحتيٍّا غامقًا
تحت بشرة الخد الناعمة.
«. إنه لا يبكي » : قالت إحداهن
«. لا، ولكنَّ قبضتيه مغلقتان » : وقالت أخرى
فردَّت «. جميعهم يغلقون قبضاتهم: ليس هذا دليلًا علىشيء » : قالت السيدة العجوز
لو أنه بكى، لكنت » : واستطردت الأولى «. نعم، ولكن ليس بهذا الإحكام والقوة » : السيدة
«. أحببته
«. أشك في أنه سيذرف دمعة طوال حياته » : ردَّت السيدة التي تحمله على ذراعيها
«. سأسميه دانيال » : بعد ذلك جاء الأب ونظر إلى ابنه البكْر عدة لحظات، وأخيرًا قال
بعدئذٍ، حينما انقشعت الغيوم التي تُغطي الأرضوكانت النسوة على وشك الرحيل،
جاءت لحظة ثانية عندما نظرت السيدة العجوز من الغرفة الداخلية لوهلة، ورغم أنها لم
تنبسببنت شفة، فإنه ما من امرأة كانت موجودة عجزت عن قراءة أفكارها، فحدْسالمرأة
يكون قويٍّا جدٍّا في مثل هذه الأوقات، واجتمعن حول النار مرةً أخرى يتحدَّثن بأصواتٍ
هامسة وينظرن بعضهن إلى بعض نظرات تنم عن القلق. وفي الوقت الذي كانت الشمس
فيه على وشك الاختباء وراء تلال وايت بلينز، جاءت العجوز مرة أخرى، حاملةً حِملًا آخر
خرج هذا إلى دنيانا حينما كانت » : بلطف وقالت وهي تُزيح طرف الغطاء عنه لتريهنَّ إياه
الشمس ساطعةً في السماء، وسوف يكون جميلًا وديعًا هادئ الطبع، ولكنَّ ظِلَّ مولد أخيه
«. سيُلْقَى عليه طوال حياته
حينما رأت النساء هذا الرضيع قلن إنه ورث عيون آل فانشر … أي إنَّ عَيْنَيْه كانتا
زرقاوَيْن صافيتَيْن، وكان شعره كشعاع الشمس، ناعمًا كشعر أمه وكل أهلها.
«. سأسميه ديفيد » : وعندما نظر الأب إلى هذا الطفل قال
بطبيعة الحال كان الحدث استثنائيٍّا للغاية؛ بحيث كثر الحديث عنه لدى القاصي
والداني، وكان توءما آل فانشر مراقَبَين أكثر من غيرهما من الأطفال في تلك الأنحاء؛ فقد
كان الفضول يتملَّك الجميع لملاحظة تأثير ذلك الحدث الغريب غير الطبيعي الذي وقع
عليهما عند مولدهما. ومع تقدمهما في العمر اتفق الناس جميعهم على أن دانيال وديفيد
كان الأفضل أن يُسمَّيا عيسو ويعقوب؛ إذ كان دانيال داكن البشرة كبعض الهنود الذين
يعيشون على مقربة منهم، وكان أسود الشعر أشعثه. كان عنيفًا مهيمنًا، تنم سيماه عن
أنه سيكون صيادًا قويٍّا أو ربما محاربًا؛ إذ كان يتحدث عن الحرب وإراقة الدماء، وقبل
أن يبلغ العاشرة قاد أخاه إلى مكانٍ ناءٍ بحثًا عن هنود ليحارباهم وينتصرا عليهم. أما
ديفيد فكان وديعًا. كان يحب المزرعة والغنم، ولكنه لم يهتم يومًا بأيِّ رفقاء آخرين؛
لأنه كان مكتفيًا بدانيال. وهكذا ترعرع الأخوان التوءمان، فكان ديفيد معتمدًا على أخيه
الأسمر وخاضعًا له، كما يعتمد النبات المتسلق على الشجرة التي يُعانقها. كانا ينامان
معًا، ويأكلان معًا، ويتعلمان الحروف والحساب من الكتاب نفسه؛ ومِن ثَمَّ كان ما يعرفه
أحدهما يعرفه الآخر، ورغم اختلافهما الشديد الذي يجعلهما يبدوان من عرقَيْن مختلفَيْن،
ستظل غيوم الأخ تُخيِّم على » : كان لهما عقل واحد وهو عقل دانيال، وكان الجميع يقولون
«. ديفيد إلى أن تنطفئ شمس حياته
أخشى أن عاصفة ستهب » : ذات مرة قال أبوهما وهو يتطلع إلى مزرعته في الصباح
«. قبل الليل، فالرياح قادمة من الجنوب الشرقي. وربما تمطر أيضًا
«. ليس من الجنوب الشرقي، بل من الجنوب الغربي » : عارضه دانيال قائلًا
«. أنت مخطئ يا بني »
لست مخطئًا. أنا لا أخطئ أبدًا. لم أكن لأنطق إن كنت مخطئًا. اسأل ديفيد وسوف »
«. يخبرك
«. ديفيد سيقول ما تقوله؛ فأنتما جسدان بعقلٍ واحد »
«. إننا بعقل واحد؛ لأننا نقول الحق ونفكر في الحق »
ابتسم الأب وهو يسمع ما يقوله ابنه الصغير العنيد، ثم انصرف، وعندما خرج قال
«. دانيال، سوف ننتصرعلى أبينا وسيتبيَّن أنه مخطئ وأننا على حق » : ديفيد
«. إذا لم يصدق كلامنا فلن يصدق شيئًا »
«. إذًا سيرى. سنصنع ديك الرياح »
«. لن يكون ديكًا يا ديفيد »
«؟ نعم، لن يكون. ماذا سيكون إذن »
«. سيكون محاربًا »
«؟ سيكون كذلك. وهل نستطيع أن نصنعه »
ستصنع أنت الرأس والذراعين؛ لأنك تتمتع بمهارة في استخدام السكين، وسوف »
أصنع أنا الجسم والساقين. وبعدها سوف نجمع الأجزاء، وإذا صنعت الذراعَيْن بسيفَيْن
عريضَيْن، فسوف تضربهما الريح ويشيران إلى الاتجاه الذي أتت منه. يجب ألَّا يظن أبونا
«. أننا نهذي حين نعارضه
وهكذا ذهب الصَّبِيَّان إلى الورشة، وبحلول الظهر كانا قد صنعا هيكلًا رائعًا وأطلقا
عليه المحارب، وأطالا ذراعَيْه بسيفَيْن عريضَيْن مصنوعَيْن من أخشاب الشوكران القوية،
وعندما ترتفع إحدى ذراعَيْه فوق رأسه تُشير الأخرى إلى الأرض، وفي حالة وجود نسيم
تدور الذراعان بسرعة مذهلة.
«. يجب أن يُلَوَّن المحارب يا دانيال » : قال ديفيد، وهما ينظران إلى الصورة
«. يجب أن يرتدي معطفًا أحمر » : أجاب دانيال
«؟ ماذا عن بنطاله »
«. سيكون أبيض، ويجب أن يكون لديه لحية ثقيلة وعينان صارمتان »
وهكذا لوَّنا الجسم وثبتاه على حافة الورشة وعندما رآه والدهما كان ذراعاه وسيفه
يدوران بفعل النسيم المتجه للجنوب الغربي، وكانت عيناه تُحدِّقان بإصرار — رغم أنهما
لم تُرسما بدقة — إلى الأفق البعيد حيث تلمستلال لونج آيلاند السماء. ظل المحارب هناك،
بعد بدء العاصفة بوقت طويل، وحتى أصُيبت ذراعاه في حربهما مع الريح إلى أن تقلقلتا
في ليلة من الليالي وسقطتا إثر عاصفةٍ قويةٍ ورقدتا على الأرض دون دفنٍ حتى أكلتهما
عندما تنظر إليه تذكَّر ألا تجادلنا أنا » : الديدان. قال دانيال لأبيه حين رأى أبوه المحاربَ
«. وديفيد مرةً أخرى
الغيوم تخيم على الصبيين. تُرى ماذا يمكن » : سمع الجيران قصة المحارب هذه وقالوا
«؟ أن يحدث
حين اشتد ساعدا دانيال، ذاع صِيتُه كرجل ذي بأسٍ شديدٍ لدى القاصي والداني،
وقيل إنه أسقط ثورًا بلكمة، وإنه قبضعلى لصَّيْن من المدينة بقبضة من حديد، كل واحد
منهما بيد، ولم يكن أحد ليجرؤ على أن يُظهر وجهة نظره في أي شأن إلا بعد أن يتأكد أولًا
من رأي دانيال ورغباته. أما ديفيد فكان محبوبًا لوداعته، ومحترمًا لمهارته في استخدام
الأدوات، وكان طيب المعشر حتى إنه ما إن يدرك بحدسه رغبة لدى أحد الجيران حتى
يحاول جاهدًا أن يُلبيها له؛ ومِن ثَمَّ عندما كان الجيران يرغبون في أن يصنع دانيال شيئًا
أو يقدم يد العون، كانت رغبتهم تُنقل لديفيد وعندئذٍ يخضع دانيال لرغبة أخيه. وكلما
مضىبهما العمر بدا أنهما يقتربان أكثر وأكثر من الاتحاد في النزعات والغايات، رغم أن
الناسأكدوا أن الغيوم تزداد سيطرةً عليهما أكثر فأكثر، وأن قلب ديفيد وعقله يضمحلان
بكلِّ تأكيد، وأنه قبل انقضاء سنوات كثيرة لن يكون سوى مجرد ظل لأخيه.
على بُعد عدة أميال، عاشت في بلدة بدفورد الآنسة بيرشا رولاند، وقيل عنها إنها لم
تكن توجد من تضاهيها، رغم أن جمالها كان يُعادل جمال الفتيات الأخريات، وإنها كانت
تعرف ذلك، وسعيدة به، وإنها لم تكن تتوق فقط لكسب إعجاب الآخرين، ولكن أيضًا
لاعترافهم بذلك؛ ومِن ثَمَّ منحها الكثيرُ من الشباب الأشداء مطلبَها، الأمر الذي جلب عليهم
الشقاء.
في يوم من الأيام استدعت الآنسة بيرشا أحد معجبيها الذين يُطيعونها طاعةً عمياء،
عما قريب سيُقام الحفل الكبير للعام في عشية عيد الحب، وسيطيب لنا التزحلق » : وقالت له
«. على الجليد
سيكون هذا رائعًا يا حبيبة القلب. ولكن سواء أكان التزحلق جيدًا أم لا، فسيأتي »
«. بلا شك، فالشتاء ممل » : ردت «. الشباب لهذا التجمع من شتى الأماكن على بُعد أميال
نعم، ولكن ليس هذا، فأنتِ تعلمين تمام العلم يا حبيبتي لمَ يأتون، ولمَ سيغادرون »
«. سريعًا، إذا لم يجدوكِ هناك
ولكنني أسأم من رؤية الوجوه نفسها، بأعينهم المحدقة الولهى. ليس بهم روح. »
سمعت عن شاب في بلدة مجاورة يقولون إنه لا يسمح لنفسه أبدًا بأن يوجه نظره إلى فتاة؛
ليس بدافع الخجل، ولكن لأنه لا يهتم بهنَّ على الإطلاق، لولعه الشديد بظله … أو أخيه
«. التوءم. سيسعدني أن أرى مثل هذا الرجل
«. آه، لعله لم يركِ يا حبيبتي، فلو أنه رآك، لذهب أخوه في طي النسيان »
«؟ هل رأيته »
«. كثيرًا »
«؟ وما شكله؟ أهو قوي وشديد، أهو عبوس، أهو ملتحٍ »
إنه كل هذه الأشياء، ويبدو أن كلَّ الرجال يخافون منه ما عدا أخاه، وهو لا يتحدث »
«. إلى النساء مطلقًا
إذا كنت تود إسعادي، كما تؤكد دومًا، فاحرصعلى أن يحضرهذا الكائن الغريب »
«. وأخوه الحفل. قلت إن التزلج سيكون ممتعًا
ولرغبة الشاب الشديدة في أن تُغدق تلك الشابة عليه ولو حتى بابتسامةسريعة، اقترب
بحذرٍ من ديفيد وفاز أخيرًا بوعدٍ منه أن يحضر هو وأخوه الحفل. ولكن عندما تحدث
لقد قلتَ إننا سنذهب؛ ولذا فسوف نذهب. ولكن » : ديفيد وأخوه عن هذا الأمر، قال دانيال
لمَ يكثرون من الثرثرة حول هذه الفتاة؟ أهي مختلفة عن الأخريات؟ ألا يمتلكن جميعًا
أعينًا يضعنها على الفتيان يا ديفيد؟ ألا يضممن جميعًا شفاههن كي تبدو ابتساماتهن
أجمل؟ حمقى هم من يُفتنون بهذه الأشياء، ولكنك قلتَ إننا سنذهب، ونحن نفعل ما نقول
«. يا ديفيد
بينما كان الشُّبان والشابات منشغلين في رقصة المينيويت الهادئة في قاعة الاحتفال
الكبيرة، انضم إليهم توءما آل فانشر. وقفا جنبًا إلى جنب في الطرف الأقصىللغرفة، حيث
كان النور الناجم عن احتراق الحطب يكشفهم بوضوح. كانا يتمتعان بالطول نفسه، ولكن
أحدهما كان مفتول العضلات قوي البنية، وبدا وجهه في الضوء الخافت أكثر سُمرة من
حقيقته، ووقف شعره الأسود الخشن متكتلًا أشعث، كما خلقته الطبيعة، دونما تصفيف
منمق كما كان سائدًا في ذلك الوقت. أما الآخر فكان نحيلًا جميلًا كفتاة، تشع ملامحه
بابتسامة، فقد كانت الوجوه المشرقة والفساتين المبهجة والرقصووميضالشموع تُسعده.
رأتهما الآنسة بيرشا يدخلان، ورغم أنها بدت منشغلة برزانةٍ وكياسةٍ بتطورات
الأسمر، » : الرقصة، فقد رأتهما على الفور. وعندما انتهت الرقصة استدعت عاشقها وقالت
هذا من أقصده. لمَ تتركهما واقفَين هناك؟ هل سيكون أخوه هو رفيقه في الرقصة التالية؟
«؟ لا يصح. لمَ لا تحضره إليَّ
وهكذا ذهب الشاب، الذي كان يرتدي شعرًا مستعارًا متيبسًا وجوارب حريرية وبنطالًا
«. أخشى أن هذا ممل بالنسبة لك » : من الساتان، إلى دانيال وانحنى له وهو يقول
«. إن كان كذلك، فيمكننا أن نذهب من حيث أتينا »
«؟ ولكن ليس قبل التعارُف، أليس كذلك »
«. جئنا كي نَرَى، لا لكي نُرَى »
«. إنه يودُّ أن يُقدِّمَك يا دانيال » : فقال أخوه التوءم ديفيد
«. حسنًا، فليفعل »
ولكن الفتى ببعضالحرج أدرك أن دانيال لم يكن ينوي أن يتحرَّك قيد أنملة ما دام
«. الفتى الجميل هو ظل الآخر » ديفيد هنا، وفكر في المرات الكثيرة التي سمع فيها عبارة
ومع ذلك فقد قادهما هما الاثنين إلى المقعد العالي الظهر الذي كانت تجلس فيه الجميلة
بيرشا، ورغم أن دانيال وقف أمامها محدقًا فيها بفظاظة دون خجل، وديفيد انحنى
لجمالها بالتواضع اللائق، فإنها لم تُعر انتباهًا للفتى الجميل وإنما تحدَّثت مع الفتى
الأسمر فحسب.
«؟ لقد سمعنا عنكما، ولكننا لم نَرَكما قط من قبل، فما السبب في ذلك » : قالت
«. لأن هذه لم تكن رغبتنا » : أجاب دانيال بكبرياء رزين
لكن كان الأحرى أن تكون كذلك؛ فالرجال أمثالكم يسيئون إلى أنفسهم والآخرين »
كانت تدرك أنها لن تحظى باهتمام هذا الرجل إلا بالجرأة والثقة «. بعيش حياة الرهبان
تعالَ معي. أعطني ذراعك، إذا تكرمت. أرى أنها ذراع قوية. لا عجبَ » : في النفس. وأردفت
أنهم يحكون عن قوتك الشديدة. أود أن أسمعك تتحدث، وإنه لمن الأمتع أن نتحدث ونحن
نتمشَّى. والآن دعني أقدم أخاك لشابة جميلة. لمرة واحدة يا سيدي، امنحني الشرف واسمح
«. لأخيك أن يُرافق الآنسة نانسي برَش
وقبل أن يُدرك ما يحدث كان دانيال الصارم يتنزه مع هذه الجميلة متأبطة ذراعه،
بينما ديفيد … لأول مرة نسي دانيال أمره تمامًا.
إنه لمن دواعي سرورنا أن نرى رجلًا قويٍّا هنا؛ فالمرأة تكاد تفقد إيمانها في » : قالت
«. الرجال إذا لم يظهر من هم على شاكلتك من آنٍ لآخر
«؟ إن قوتي لي، ولديفيد. ما لكِ أنت بها » : أجابها
ما لي أنا؟ متعة الشيء غير المألوف. يقولون إن الحرب على الأبواب، والقوات بدأت »
بالفعل الحرب في بانكر هيل. إن هذا هو ما يمنحني ويمنح جميع النساء شعورَ الأمان؛
لأنني أعرف الآن أن ثمة رجالًا شجعانًا جسورين، على استعداد لمواجهة العدو؛ ومِن ثَمَّ
«؟ نستطيع أن نعيش في أمان. يا إلهي! لماذا خُلِقتُ امرأة
«. تتحدثين عن القوة، مع ذلك من الضعف أن تتحسري على نصيبك وقدرك »
وماذا كنتِ » : أجابها متسائلًا «؟ ألم تكن لتتحسر أيضًا إذا وُلدت دون ذراعين »
«؟ ستفعلين لو كنتِ رجلًا
سأتمتع بالقوة وأحظى بالشهرة والمجد. وفي حالة الحرب كنت سأقود جيشًا، كما قد »
تفعل أنت، وفي حالة السلم كنت بلا شك سأجبر أي فتاة جميلة على أن تمنحني احترامها
«. وحبها
«. قيادة الجيش أمر طيب، أما التودد للفتيات فهو تسلية للمراهقين وليس للرجال »
أنت لا تدرك سوى أقل القليل عن سطوة القوة. إن أعظم انتصار يستطيع الرجل »
أن يحققه هو ذلك الذي يُمكِّنه من أن يتقرب إلى من تحلو له من النساء اللائي يَراهُن
ويخطب ودها. فإذا كانت ذات كبرياء يستطيع أن يُخضع كبرياءها، وهذا إنجاز أعظم من
الفوز في معركة. وإن كانت مغرورة يستطيع أن يكسرشوكتها. وإذا كانت أنانية يستطيع
أن يجعلها تنسى نفسها. وإذا كانت تفوق غيرها من الفتيات، جمالًا وفتنة، يستطيع أن
«. يتأكد إذا تزوجها أن هذا الجمال وهذه الفتنة ملكه. وهكذا ينتصرعلى غيره من الرجال
وبينما كانت تقول هذا، تطلعت إليه وهي تثني عنقها الجميل حتى تتمكن من رؤية
وجهه العابس الصارم بالكامل وتكرهه بذلك على أن ينظر إليها. وعندما رأى صفحة
وجهها وجمالها الفتان، لم ينبس ببنت شفة، وإنما قادها نحو الركن القصي من القاعة
الكبيرة، وبعد أن حرر ذراعه منها، استدار ليقف في مواجهتها مباشرة، وحدق في وجهها
بثبات للحظات لم تبدُ عليها خلالها أي علامات على الخوف. وبعدها بادرت هي بسؤاله:
«؟ ما الأمر؟ لِمَ تنظر إليَّ بكل هذه القسوة »
بما أنكِ قلتِ هذا القول، وبما أني أدُرك الآن قوة جمال المرأة، ألا تتمتعين إذًا بقوة »
«؟ أنا؟ أنا أقوى منك » : فتساءلت «؟ أكبر من قوتي
نعم، أنتِ تعتقدين ذلك. وأنا أعتقد أنكِ قد تكونين على حق، ولكنك رقيقة وذكية. »
فهل هذا شكل من أشكال القوة؟ هل يوجد رجل هنا، أو حتى رجل قابلتِه في أيِّ مكان،
يجرؤ على ألا يطيعك عن طيب خاطر؟ وإذا كان الأمر كذلك، أفليس هذا راجعًا إلى القوة
«؟ نفسها التي أشدتِ بها في الرجال
ربما يوجد البعض، مَن يعلم؟ أستطيع أن أضاهيك في الصراحة. يوجد رجل هنا لم »
«. يكن ليطيعني
«. لا أعرف إذا كنتُ لن أطيعكِ، لأنكِ تقصدينني »
نعم، وأنت لا تعرف؟ حسنًا، سأجربك. لديَّ حصان قوي لكنه وحشي، ولا يجرؤ »
«؟ رجل على الاقتراب منه. أعتقد أن لديك الجرأة. هلَّا تأتي غدًا وتروضه لي
«. سآتي مع أخي »
«. إذًا فأنت لا تجرؤ على المجيء وحدك »
«. سآتي وحدي » : نظر إليها لحظةً نظرةً يشوبها الغضب، ثم قال
الآن اذهب وأحضرأخاك لي؛ فهو يقف هناك وحيدًا، ويركز نظراته عليك. هل هناك »
«؟ ثمة رابط غير ملموس بينكما
«. أخي هو أنا، وأنا هو »
إذًا أسرع بإحضاره، واتركنا قليلًا لعلي أفهم كيف يسلك دانيال سلوك ديفيد؛ لأنني »
«. شاهدت بالفعل من خلال اعترافك الغريب كيف يبدو ديفيد في شخصدانيال
قال وهو يتطلع إليها بصرامةٍ بعينَيْن في سواد الكهرمان الأسود الذي ترتديه، وتبرقان
ولكنه جلب لها ديفيد، وتنحى جانبًا ليراقب «. أنتِ امرأة غريبة » : بريقًا أشد من بريقه
ذلك الجسد اللين الضئيل، يتأبط ذراع ديفيد، وهي تتهادى في مشيتها كما تنساب البجعة
على سطح الماء دون هدف واضح، ورأى مدى بياض عنقها ورشاقته إذ ينكشف فوق
الثوب المخرم الذي ترتديه، وكيف يتجمع شعرها الأسود الفاحم كأنه تاج على رأسها،
يتلألأ بالحُلِي التي زُيِّن بها كالنجوم في ليلة شتوية، وكان يستطيع سماع حفيف ثوبها
الحريري وهي تَخطِر بجواره، ناظرة لأعلى إلى عينيه بوجه تُغطيه تعبيرات الجد، ورأى
قدميها الصغيرتين تبزغان أحيانًا في حذائهما الأبيض اللدن من تحت تنورتها كما تُبرِز
الفراخ الصغيرة رءوسها أحيانًا من تحت جناح أمها ثم تعود لتخبئها.
ما قوتي وعزمي أمام هذه السلطة؟ أستطيع أن أَسحق، ولكن هذا الشيء » : خطر له
«. اللين يستطيع إرغامي
من يظن أنكما أنت وهو » : بينما كانت الآنسة بيرشا تسير بصحبة ديفيد قالت
«؟ شقيقان
«؟ ولمَ لا » : سأل ديفيد
«؟ ألم تتأملا على الإطلاق نفسيكما جنبًا إلى جنب في المرآة » : قالت
ولمَ نفعل ذلك؟ أظن أن المرايا تكذب؛ ولذا ما من مرآة ستجعلني أفقد إيماني بأنني »
«. أشبهه وأنه يُشبهني. إننا لا نستطيع رؤية أنفسنا
آه، ما هذا إلا الجانب » : فردَّ قائلًا «. ولكنَّ أخاك شديد العنف والعبوس والاستبداد »
«. الآخر من نفسي
«. وأنت، هل لي أن أقولها؟ يقال إنك لطيف وطيب ومُسالم »
«. آه، ولكن هذا هو الجانب الآخر منه »
«. وبما أن كلٍّا منكما يُكمل الآخر، فأنتما تكونان معًا رجلًا واحدًا » : قالت
ولكنكما لا تستطيعان العيش دومًا بهذه الطريقة. » : ضحك، فواصلت هي حديثها
أخبريني مَن في اعتقادكِ » : فتساءل «. هناك من هم أفضل من الأخ يمكن أن يكملوكما
«. أفضل
فتاة جميلة، وسوف تدرك هذا لاحقًا. ولكنك منعزل عن جيرانك تمامًا. فنحن لم »
نَرَك إطلاقًا من قبل. تعالَ وسوف نُكوِّن صداقة قوية. تعالَ لأنني أريد أن أتحدث معك
«؟ أكثر. هلَّا تأتي
«. سوف نأتي »
ليس معًا. سوف تحرجني بهذه الطريقة؛ لأنني لن أعرف إلى من منكما أوجه »
ونظرت إليه «. الحديث. تعالَ أنت بعد غدٍ وزُرني في منزلي. سيُسر والدي بالتعرف إليك
مستعطفةً إيَّاه بابتسامة ماكرة، ولم تتظاهر بالجدية والحياء كما كانت تفعل عندما
حصلت على وعد دانيال بالحضور. وهكذا وعدها.
كان التوءمان صامتَيْن لفترة طويلة في طريق العودة إلى المنزل في تلك الساعة الهادئة
السابقة لبزوغ الفجر، ربما لأن دانيال كان يقود العربة بسرعة جنونية. وأخيرًا قال دانيال:
«. إنها ليست كالنساء الأخريات يا ديفيد »
«. ليست مثلهن يا دانيال »
«. لها عينان لامعتان »
فقال «. ووجنتان ورديتان كالأصداف التي تُزين غرفة المعيشة في منزلنا يا دانيال »
نعم إنها » : ردَّ ديفيد «. وابتسامتها، إنها ابتسامة مبهجة لأن لها معانيَ يا ديفيد » : دانيال
«. مبهجة، ولكن الأجمل منها وجهها وهي جادة
«. نعم هو أجمل بالفعل، وليونة حركتها لها قوة عظيمة »
«. هكذا أظن أيضًا »
في ظهيرة اليوم التالي اعتلى دانيالصهوة جواده وانطلق عبر كينج ستريت إلى بدفورد،
وعندما عاد كان يعرج كما لو كان أعرج، ولكنه لم ينبس ببنت شفة.
«. أنت تعرج » : قال ديفيد
«. نعم، رفسني حصان ولكنني روضته