وفي اليوم التالي اعتلى ديفيد صهوة الجواد وغادر دون أن يعبأ دانيال بمغادرته.
وعندما رجع لم يقل أيَّشيء.
«؟ هل ستذهب للفراش دون عشاء » : سأله أخوه التوءم
«. تناولت العشاء مع أصدقاء » : قال ديفيد بهدوء
بعد ذلك وإلى أن استسلم صقيع الشتاء أمام شمس الصيف كان دانيال وديفيد
يأكلان وينامان ويعملان معًا، ولكن فيصمت، وتقريبًا كل يوم يتوجَّه أحدهما مسرعًا نحو
الشمال، ولكن لم يذهب كلاهما معًا قط.
ذات يوم بعد أن غادر ديفيد، تبعه دانيال بعد ساعة. وشقَّ طريقه إلى باب قصر
إسكواير رولاند مباشرة، ودخل دون استئذان، متوجهًا إلى غرفة المعيشة. وهناك شاهد
ديفيد جالسًا إلى جوار بيرشا الجميلة التي لم تسمع صوت دخول دانيال.
ديفيد، لقد جلست في هذا المكان بالأمس، » : وقف على عتبة الغرفة للحظة ثم قال
وسوف أجلس فيه غدًا. هل ستكون لعنتنا أننا لا نملك إلا رغبات مشتركة؟ تعالَ يا أخي،
«. قلت لك تعالَ
لم يتحدث إلى بيرشا وإنما نكصعلى عقبيه بسرعة وخرج من المنزل، أما ديفيد، فقد
نهضمن مقعده وتبعه دون أن يفتح فمه بكلمة.
جلست الفتاة في مكانها مذهولة مصعوقة، وعندما استعادت رشدها أخيرًا أدركت أن
الأخوين قد قطعا بالفعل مسافة بعيدة على الطريق السريع.
قالت الفتاة وهي تُحدِّق من الشباك الصغير متابعة التوءمين إلى أن غابا عن ناظرَيها:
«. آهٍ لو أن هناك واحدًا فقط، وهو هذا الأسمر »
لم ينطق دانيال ولا ديفيد بكلمة إلى أن وصلا إلى منزلهما. ثم قال دانيال:
ديفيد، نحن نتفق في هذا كما نتفق في كلِّ شيء. أنت تحب الفتاة، كما أحبها. وإذا »
كنت كرهتها كنت سأكرهها أنا أيضًا. لكن رغم أننا قد نكون واحدًا فنحن في نظر العالم
«. شخصان. نحن نحبها، ويجب أن نعترف بذلك
هذا صحيح يا دانيال. وهي لا تستطيع أن تفصم عرى الرابط الذي يربط أحدنا »
«. بالآخر
أحبك كما أحب نفسي يا ديفيد، وأنت تحبني بالقدر نفسه؛ لأننا حقٍّا واحد في كلِّ »
شيء عدا الجسد؛ لذا يجب ألا نراها ثانية. وكما تفرق العادات والتقاليد المتناقضة بين
الرجال وترسل كلٍّا في اتجاه، ربما تتغلب على أحدنا رغبته المحمومة، ويزور الفتاة مرة
أخرى. في هذه الحالة، أيٍّا كان من سيفعل ذلك، فعليه أن يذهب إلى أخيه ويعترف ويقول:
«. وسوف يفعل بالضبط ما يقوله أخوه «؟ ماذا أفعل؟ ماذا ستفعل معي »
«. ثمة منطق وغاية وراء هذا العهد يا دانيال، وسوف نصونه وننفذ ما جاء فيه »
ديفيد، إذا كنت أنت من ستأتي إليَّ، فسوف أطلب منك ما أتمنى أن تطلبه مني إذا »
«. أخللتُ بالعهد
«؟ وهو أن أنُهي حياتي »
«. نعم، هذا هو »
في أحد الأيام بعد عدة أسابيع توجَّه دانيال إلى ديفيد وقاده إلى الوادي المنعزل الذي
لا زال يُرى حتى ذلك اليوم خلف المنزل القديم.
ديفيد، أنا شخص بائس ضعيف الشخصية. لقد رأيتُها أمس ثانية، وأنت تعرف »
وهنا سحب دانيال مسدسًا من جيبه. «. عهدنا
نظر ديفيد إلى أخيه مفجوعًا، في حين وقف دانيال أمامه متجهمًا صارمًا، ومسودٍّا
جدٍّا. كانت يده تضغط على الزناد.
«. لا أستطيع، لا أستطيع يا دانيال » : قال ديفيد
بل تستطيع؛ لأنني لو كنت مكانك كنت سأستطيع وكنت سآمرك أن تفيَ بوعدك »
ورفع المسدس. «. وتفعل ما أمرتك بفعله. لا مفرَّ من أن تفعل ما اتفقنا عليه
لا، لا أستطيع أن آمُرَك بأن تفعل » : قال ديفيد وهو يضع يديه على عينيه ويهز كتفيه
«. ذلك، رغم أننا تعاهدنا عليه
«. يا لكَ من طفل » : قال له دانيال بازدراء
ولكن يا دانيال، هناك شيء آخر يمكن فعله. لقد اندلعت الحرب، وواشنطن صار »
قاب قوسين أو أدنى منا. فلتتطوع في الجيشوتصبح جنديٍّا. ربما تصير قائدًا عظيمًا، كما
«. كنت تحلم دومًا
وفي هذه الليلة ترك دانيال منزله وفي «. تأمرني بأن أتطوَّع في الجيش؛ سأفعل إذًا »
غضون ثلاثة أيام كان مع واشنطن في هارلم.
بعد بضعة أشهر كان الجيش مجتمعًا بالقرب من الحصن الطبيعي في وايت بلينز،
يستعد لمقاومة تقدُّم جنود الملك جورج. كان زمنًا الرجال فيه متشائمون، ولكن أولو عزم؛
إذ كان ظل الحرب يُخيِّم عليهم، وكانت شجاعتهم أكبر من آمالهم. في صبيحة أحد الأيام
جلب الحارس الواقف على أقصىالجناح الأيسر — والذي كان مُعسكِرًا في أطراف مدينة
بدفورد — رجلًا حزينًا متجهم الوجه. وأخبروا الضابط القائد أنه كان هاربًا من الجندية،
فقبضوا عليه في تلك الليلة.
«؟ مَن أنت » : سأل الضابط
«. أدُعى ديفيد فانشر »
«؟ هل سمعت الاتهام المُوجَّه لك »
إنه حقيقي، فافعل بي ما شئت. ولكن دعني أقُل لك شيئًا واحدًا … لم يكن هروبي »
«. نابعًا من جُبن
«؟ إن لم يكن كذلك، فماذا إذًا »
«. هذا شأني »
«؟ أتعرف العقوبة لو لم يكن هناك سببٌ وجيه » : سأله
«؟ أعرف العقوبة. وربما أكون سعيدًا بها، مَن يعلم »
أخذوه بعيدًا، وبينما يمثل أمام ضباط المحكمة العسكرية عابس الوجه، اعترف
بجريمته دون أن يُبررها بكلمة واحدة؛ فصدر ضده حكمٌ بالرمي بالرصاص في مطلع
شمس صبيحة اليوم التالي.
وفي المساء أرسل ديفيد رسالة إلى الضابط قائلًا: إذا لم يكن الوقت قد فات فهو
فلتحققوا » : يود التحدث إلى أحد الجنود الذين اختيروا لتنفيذ حكم إعدامه. وقال الضابط
«. رغبته
وهكذا أحُضرأحد الجنود إلى مكان احتجاز السجناء العسكريين وسُمح له بالدخول
مَن الذي أرسل » : في جُنح الليل. وقف بالباب؛ إذ لم يستطع رؤية من بالداخل، ولكنه قال
«؟ بطلبي ولماذا
«. هذا أنا يا دانيال »
«. هذا صوت ديفيد »
نعم يا دانيال. دانيال، هل تتذكر كيف كنت تُصيب قطعة خشبية لا يزيد حجمُها »
«؟ عن حجم يدي بالبندقية من بُعد ٥٠ خطوة
«. أتذكر ذلك »
«. تذكَّر ذلك غدًا عندما ترى يدي »
«. لا تتحدث بالألغاز يا ديفيد »
هل تذكُر العهد الذي قطعناه على أنفسنا وتذكُر أنك وعدتني أنه إذا أتيتُ لك وقلتُ »
«؟ فسوف تفعل ما أَمرتُ به جزاءً لي ،« دانيال لقد رأيتُها ثانية »
ولكنك قلتَ إنك كنتَ ستنفذه إن » : فرد ديفيد «. أذكر أنك لم تنفذ ما تعاهدنا عليه »
«. كنتَ مكاني. دانيال لقد رأيتُها ثانية
«. كنت أعلم أنك ستفعل، وأنا أيضًا إذا عِشت. فهذه رغبة مشتركة لدينا »
دانيال، عندما يأخذونني غدًا، وتقف في مواجهتي، عدني بأنك ستُصيب المكان الذي »
«. أضع فيه يدي بدقة. سأضعها على قلبي
«؟ هل يتفق هذا مع عهدنا »
«. نعم »
إذًا سأفعل. ولكن انتظر: ثمة أمر عسكري بخصوص هذا. سوف يُحدَّد الشخص »
«. المنوط بالمهمة
«. لقد سبق وحُدِّد، وأنت هذا الشخص »
«؟ وكيف عرفت »
إذًا فسوف أفعل » : فأجاب دانيال «. لأنه أمر محتوم. لم يخبرني أحد، ولكنني عرفت »
انتظر يا دانيال. ما يَحدث » : ثم استدار عائدًا من حيث أتى. قال ديفيد «. ما تأمرني به
«. أعلم هذا. لا مناصَمن ذلك » : فرد دانيال «. لأحدِنا، يحدث للآخر
«. دانيال، سيكون في يدي خصلة شعر »
لقد أعطتك إياها، أعطني إذًا نصيبي منها على الفور … لا، بل احتفظ بها. ماذا يهم »
«؟ إن كانت في يدي أو في يدك
عندما تطوَّعتُ في الجيش كان عليَّ أن أتبعك ورغم أني لم أستطع أن أعثر على »
«. كنت أعرف ذلك » : رد دانيال «. كتيبتك، فإنني كنت على يقين من أننا سنلتقي معًا
كنا في معسكر بالقرب من بدفورد، وبالصدفة، كانت تتجول مع بعض رفقائها »
بالقرب منا. رأتني أولًا، وتوسلت إليَّ أن أعود معها. ورغم أني كنت في الحراسة، فلم
أستطع أن أقاوم، وذهبت معها. عثروا عليَّ وأحضروني إلى هنا، وغدًا صباحًا سيُحَل لغز
«. حياتنا معًا
«. هذا أفضل يا ديفيد. أنا سعيد بذلك »
«؟ أكنت تحبها يا دانيال »
«. أكثر من حبي لنفسي، ومِن ثَمَّ أكثر من حبي لك »
وهكذا بطبيعة الحال كان الأمرُ معي. وأخبرتها في نوبة جنون أنني أحبها أكثر من »
«. نفسي
«. وكذلك فعلتُ أنا في اليوم الذي جئتُ إليك فيه وطلبت منك أن تنفذ وعدك لي »
«. قالت إننا لو كنَّا شخصًا واحدًا لنال رضاها. إنها لا تستطيع الزواج باثنين »
كانت تلك هي كلماتها لي. إننا لا نستطيع أن نهرب من قدرنا يا دانيال. لقد جئنا »
«. إلى الدنيا معًا، وحجبت عنا الطبيعة نورها وغيمت علينا بسحابة غامضة
وسوف نخرج منها معًا يا ديفيد. ولنأمل أن يجتمع شملنا ثانية، إذا كان هذا ممكنًا »
«. وصادف أن كانت أرواح البشر تعيش بعدهم
«. اجلس هنا بجواري يا دانيال قليلًا. لستَ حزينًا لأنني لستُ كذلك »
«. نعم يا ديفيد، نحن راضيان »
جلسا جنبًا إلى جنب لدقائق عديدة، إلى أن أتى الحارسوأخرج أخا المُدان من الحجز.
في الصباح أخرجوا ديفيد إلى المرج الموجود خلف المعسكر، وتبعه طابور من الجنود،
سار في مقدمته رجل أسمر قوي البنية لم يكن أحد من كلِّ هذا الجَمْع يعرف أنه أخو ذلك
الرجل العاري الرأس الذي كان يركع بإباء ورباطة جأش دون أن يهتزَّ له جفن، على بُعد
نحو عشرين خطوة، وأخبرهم أنه سيكون جاهزًا حينما يضع يده على قلبه.
وقفت المجموعة المختارة من الجنود أمامه رافعين بنادقهم في انتظار الأمر، ونظر
ديفيد إلى دانيال للحظة … ويقول الجنود إنه ابتسم … ثم وضع يده على قلبه.
سُمعصوت طلقات نارية مُتعجلة؛ فقد أطلق الجندي الأسمر النار قبل أن يصدر أمر
الضرب، ثم تلاه وابل من الرصاصمن الآخرين، ولكن ديفيد فانشركان قد سقطصريعًا
قبل أن تصل إليه رصاصاتهم.
ثم رأى الجنود شيئًا غريبًا. اتجه زميلهم الأسمر، ضاربًا عرضالحائط باللوائح، إلى
الرجل الصريع وبدا أنه قد انحنى عليه، ثم انبطح بجواره، وعندما ذهب الجنود إلى هناك
وجدوا أن الاثنين قد لقيا حتفهما، وليس أحدهما فحسب.
ورغم أن الجنود كانوا معتادين على الأشياء المفزعة، فإن هذا الحادث كان بمنزلة لُغز
غامض بالنسبة لهم؛ مما استدعى الكثير من التحقيق والبحث. وأخيرًا جاء أحدهم ونظر
إلى وجهَي الميتَين.
«. هذان هما توءما آل فانشر » : وقال