MazagElkotob

Share to Social Media

الإسكندرية - ديسمبر ٢٠٢١
تحت أمطار ليلة إسكندرية عصيفة وبالكاد يُرى الطريق للحظات كلما تُزيح مساحات السيارة المياه عن الزجاج الأمامي، يقود محمود الصاوي ذو الثلاثة وأربعين عامًا سيارته على طريق البحر عند الشاطبي بعد منتصف الليل بينما يُدندن مع الأغاني التي يستمع إليها رائقَ البال مستمتعًا بأجواء الإسكندرية الشتوية الساحرة.

وأثناء سيره في الطريق الذي بالكاد يراه من ضوء كشافات السيارة الخافت إذ بشخصٍ يظهر أمامه على الطريق فجأة، فهَمَّ الصاوي بتحريك مقود السيارة بسرعة شديدة ليتفادى ذلك الرجل، أوقف السيارة وبقي متسمرًا لعدة ثوانٍ دون حراك يُحاول السيطرة على أعصابه بعد ذاك الفزع الذي قد ملأ قلبه بالرعب.
وبعدما أفاق قليلًا من الفجعة، فتح باب السيارة وخرج منها ليرى ما أمر ذلك الرجل، كانت السماء تُمطر سيولًا والجو قارس البرودة بدرجة لا تُحتمل.
حاول محمود إلقاء نظراته بصعوبة شديدة وعيناه شبه مغلقتين بسبب الرذاذ ليرى الرجل، حتى استطاع رؤيته واقفًا بالجوار في اتجاه البحر معطيه ظهره.

اقترب منه بخطوات ثقيلة يُحارب بها ضد الرياح القوية التي تُعيقه وتقذف قطرات المطر نحوه، ثم نادى عليه بصوتٍ عالٍ مرتعشًا من البرودة:
إنت كويس يا؟

ظل واقفًا في مكانه على نفس الوضع ولم يُجبه، اقترب محمود أكثر حتى صار بجانبه فوجده يقف في مكانه بالقرب من كازينو الشاطبي دون حراك ينظر ناحية البحر وعيناه مثبتتان نحوه وكأنه دمية لا روح فيها غير أنه يرتعش من الداخل بشدة بينما يُردد كلامًا خافتًا بالكاد يستطيع سماع صوته دون أن يفهم ما يخرج من فمه من كلمات.
واضعًا ذراعيه على صدره وكأنه يحمل شيئًا ما ولكن ثيابه المهترئة المتسخة التي رغم غرقها بمياه الأمطار لم تستطع تنظيفها ولو قليلًا- تحجب عنه رؤية ما يحمل.

كرّر عليه السؤال وهو يخطو ليكون أمامه وجهًا لوجه:
هاه. إنت كويس؟

ولكنه لم يرد عليه أيضًا وظلّ على نفس الحالة ينظر نحو البحر ومقلتاه تكاد لا تتحرك وكأن شخصًا غير واقف أمامه، مكملًا همهمته غير المفهومة تلك التي حاول الصاوي فهمها حتى استطاع التقاط منها كلمة واحدة يُرددها بصوتٍ مرتعش كصوت أم تاهت ابنتها الصغيرة تجوب الشوارع والطرقات بحثًا عنها: "ليل. ليل. ليل"
وقف محمود يُحاول أن يُدقق في وجهه الذي بالكاد تظهر منه عيناه لكثافة شعره ولحيته المبعثرة، خصلاتهما المجعدة المغطاة بالوحل ومن تحتهم فمه غير الظاهر من أسفل شاربه ما زال يُتمتم بذلك الاسم.

ظل ينظر إليه محمود مدققًا وعلى وجهه علامات الدهشة، جحظت عيناه عندما اتضح له أنه يعرفه، أيُعقل أن يكون هو؟ هل ذلك حقيقي؟ نعم، إنه هو. قال بنبرة مفزوعة والدهشة تملأ دماءه:
عصام!!!!!
وضع يديه الاثنتين على كتفيه بقوة ثم أتبع:
هو إنت؟! إنت عصام؟!

وأيضًا ظل على نفس الوضع ولم يُجبه، بل إنه لم ينظر إليه حتى وظل يحدّق في البحر وأمواجه الهوجاء تشتد وتشتد لتتراقص مع الرياح العاصفة لتُكمل السيمفونية التي يعزفها شتاء عروس البحر.

دخل محمود في حالة ذهول مما رآه، إنه هو. إنه عصام صديق طفولته وزميله في الدراسة حتى الجامعة. ولكن كيف، كيف أصبح هكذا؟ لقد كان رسامًا موهوبًا وطالبًا مجتهدًا وذكيًا، لقد كان يأخذ دائمًا مكانًا في ترتيب الأوائل منذ أن كانوا في المدرسة وحتى الكلية، طوال عمره كان اجتماعيًا وعلاقاته كثيرة ومتعددة في كل مكان ومجال، كانت حياته طبيعية بل رائعة، فكانت مليئة بالأحداث الجيدة فلم تكن مملة.

لقد كانوا ثلاثة هم أصدقاء العمر، يقضون الوقت كله سويًا، يفعلون كل شيء معًا، يلعبون، يدرسون، يحلون مشاكلهم. ولكن بعد التخرج افترق الأصدقاء كلٌ في طريق حياته التي تُلهي وتُشغل وتُفرّق ما كان يظنه الناس لا يفترق أبدًا.. فقلّت الاتصالات ومنهم من انتقل للعيش في مكان آخر، ومنهم من سافر ليُكمل دراسته خارج البلاد حتى انقطع التواصل تمامًا بين الجميع.

ولكن ماذا حدث.. كيف أصبح عصام على هذا الوضع. كيف تبدّلت أحواله بهذه الطريقة ولماذا.
تساؤلات كثيرة تتصارع داخل رأس محمود في الوقت ذاته حتى كاد رأسه ينفجر.

ربت محمود على كتف عصام بحزنٍ عميق ممزوج بشفقة على الحال الذي أصبح به وقال له مشيرًا برأسه نحو السيارة:
يلا يا عصام تعالى معايا.
ولكنه كالعادة لم يُعره أي انتباه، فأمسك بذراعه وجذبه برفق ليسير معه، فحاول التشبّث بالبقعة التي يقف عليها بقوة وبدأ صوته يرتفع وهو يُعيد ترديد كلماته بقوة وكأنه يُنادي على شخص: "ليل. ليل"
حاول محمود تهدئته وهو ممسك به حتى بدأ يمشي معه ببطء إلى السيارة وركباها ليحتميا من الأمطار الشديدة التي بللت ملابسهما بالكامل والبرودة التي جعلت عظامهما كقطعٍ من الجليد الصلب.

جلس عصام في المقعد الخلفي وظل ينظر من وراء النافذة المغلقة المشبرة وقطرات المطر تتزحلق من فوقها في نفس الاتجاه نحو البحر وما زال يُتمتم بكلماته بصوتٍ خافت، بينما يرتجف جسده بقوة وذراعاه ما زالت ملتفة حول صدره مخفيًا من ورائها ما يُخفيه.

مدّ الصاوي يده نحو تابلوه السيارة وعبث في الأغراض التي بها يُقلّب فيها يبحث عن شيء ما حتى أخرج يده ممسكًا بكارت أبيض اللون مكتوب عليه (د. إبراهيم عطية - أخصائي الأمراض العقلية والنفسية)
أخرج هاتفه من جيبه وبدأ يكتب الرقم المطبوع على الكارت ثم اتصل به، وما من ثوانٍ قد مضت مع صوت رنين الهاتف الذي اختلط بصوت قطرات المطر وهي ترتطم بالسيارة من كل اتجاه حتى رد على الاتصال:
ألو؟
أيوه يا إبراهيم، أنا الصاوي.
ياااااه! لسه فاكر تتصل بيا دلوقتي يا جدع!
معلش بقى الدنيا لهتني، انت عارف الحياة ومشاكلها.

ثم أتبع:
المهم، أنا عايزك تجيلي على البيت ضروري.
أجابه دكتور إبراهيم بنبرة قلقة:
خير فيه إيه؟
تعالى بس وأنا هفهمك كل حاجة.
طيب العنوان إيه ما أنا معرفش.
أيوه صحيح، معلش نسيت. أنا ساكن في محرم بك. هبعتلك العنوان بالظبط في رسالة.
ياااه! انت لسه ساكن هناك؟
ابتسم محمود وأجابه بنبرة هادئة محملة بعبق الذكريات:
لا أنا رجعت سكنت في المنطقة تاني، لكن في بيت جديد.
صمت قليلًا ثم أتبع:
يلا تعالى بسرعة أنا مستنيك متتأخرش.

انتهيا من المكالمة التي تركت في قلب دكتور إبراهيم القلق والحيرة وبعضًا من الفضول. قام من سريره الدافئ بعد يوم عملٍ شاق في مستشفى الأمراض العقلية التي يعمل بها. ارتدى معطفه سريعًا وأخذ سيارته المركونة بجوار بيته القاطن في منطقة سيدي بشر واتجه في طريقه إلى محرم بك حيث العنوان الذي قد أرسله له محمود للتو.

كانت تلك المكالمة غير متوقعة على غير موعد، فقد نسي إبراهيم الأمر منذ أن أعطى الصاوي الكارت الخاص به حين التقاه بالصدفة منذ ما يقرب من أربعة أشهر، وكانت أول مرة يلتقيا منذ أيام الدراسة أي ما يقرب من العشرين عامًا، بعد أن انقطع التواصل بينهما لسنوات، كحال جميع الرفقاء القدامى، فإبراهيم كان أيضًا صديق محمود وعصام ومن شلتهم، ولكنهم الثلاثة كانوا الأقرب لبعضهم البعض، ولكن كما ذكرت من قبل فالدنيا لا تترك شيئًا على حاله أبدًا.

كان محمود قد تحرّك في طريقه إلى منزله، وفي تلك الأثناء حل الصمت السيارة غير همهمات عصام المسكين وأنظاره التي لم تُفارق النظر من النافذة حتى بعد اختفاء البحر، لم يُحاول محمود النطق بكلمة فعلم أن جميع محاولاته ستبوء بالفشل والجواب في المقابل سيكون الصمت كما المرات السابقة، فاكتفى بسرقة النظرات عليه من مرآة السيارة الأمامية أثناء الطريق، وهو يرى عصام المرتعش المسكين في تلك الحالة المزرية المثيرة لعواطفه فتدمع عيناه وهو يتذكر لقطات من ذكرياتهما معًا التي لا تُمحى أبدًا من وجدانه.

فلم ولن ينسى قط لعبهم في شوارع محرم بك حيث كان الثلاثة يقطنون في شوارع متقاربة، يركضون ويلعبون الكرة في شوارعها الإسفلتية وإصاباتهم المتكررة التي لم يكونوا يلقون لها بالًا ولا يوقفون اللعب إلا لسيدة أو عجوز يمر بجوارهم، ورسمهم على الإسفلت بالطباشير أو الحجر الجيري الأبيض ليلعبوا السيجا ويقفزون فوق المربعات وكأنهم يُحلّقون في الهواء كالفراشات الصغيرة فكانت روح الطفولة تزهو ألوانها بداخلهم وقتما كانوا لا يحملون همًا، وإيمانهم القاطع ببقائهم سويًا طوال العمر دون فرقة ولا شجار، فيبتسم محمود ابتسامة أثقلها الحزن على حال الدنيا وتقلباتها المستمرة غير المتوقعة.
***
وصل محمود إلى شارع حسن الإسكندراني حيث يقع منزله ذو التصميم العتيق الكلاسيكي كحال أغلب بيوت منطقة محرم بك بجانب الفيلات الأثرية القديمة حيث سكن أثرياء الإسكندرية وكبار العائلات الأجنبية منذ زمن مضى حتى تركوها فبقت تُزيّن شوارع وزقائق الحي الهادئ الجميل قبل أن تُصيبه فيروسات العشوائيات التي أحاطت به.

صعد الصاوي إلى الطابق الرابع حيث شقته ومعه عصام ممسك بيده وما زال يُمارس طقوسه الباثّة للتوتر والقلق في عروق كل من يراه. دخل محمود الشقة ثم دخل وراءه عصام بترددٍ بعدما طلب منه محمود الدخول عدة مرات.
أحضر محمود قطعة من المشمع ووضعها فوق الأريكة ثم استراحا عليها حتى لا تبل ملابسهما الأثاث، وجلسا في هدوء بانتظار دكتور إبراهيم، ومحمود يُلقي النظرات على عصام يتأمل حاله بحزنٍ وشفقة بينما يبدو وكأنه في عالم آخر ليس معه.

ما مرت قرابة الربع ساعة حتى دقّ دكتور إبراهيم جرس الباب، فتح له محمود، فوجد وجهه المستدير يبدو عليه القلق، والعرق يهبط من جبينه حتى لغده المتدلي أسفل ذقنه، يأخذ أنفاسه بصعوبة وجهد، ينهج من أثر صعود درجات سلم البيت القديم المرتفعة وهرولته من منزله سريعًا بعدما أثارت المكالمة قلقه الشديد:
خير يا محمود فيه إيه؟

قال له محمود وهو يُشير بيده إلى الداخل:
تعالى يا إبراهيم ادخل.

دخل دكتور إبراهيم ووراؤه محمود صالون البيت فتفاجأ إبراهيم من وجود ذلك المشرّد في بيت الصاوي. توقف عن المشي ثم نظر على يمينه لمحمود قائلًا في دهشة:
إيه ده!! مين ده يا محمود؟
بص كده وركز في وشه كويس.
ثم أتبع:
ما تخافش مش هيعملك حاجة.

اقترب دكتور إبراهيم ناحيته بينما يخلع نظارته عن وجهه ليمسح بمنديل العرق الذي يتصبب من وجهه كالشلال. مسح عدسات نظارته ثم ارتداها بينما كان قد اقترب من عصام، وقف أمامه ثم أحنى رأسه وقرّبها نحوه ليتفحص ملامحه التي يحجبها شعره وذقنه الكثيفان، لم يتعرف عليه في البداية ثم بدأ يُغلق عينيه جزئيًا ضامًا حاجبيه محاولًا التركيز والتدقيق في ملامحه. ظل يتفحّص ويتمحّص لبضعة ثوان، وعصام لا يُعيره أي اهتمام ناظرًا بعيدًا نحو سقف الغرفة ويُهمهم بكلماته. حتى جحظت عيناه فجأة مندهشًا وقطرات العرق تتسابق على الهبوط من فوق جبينه.. أبقى عينيه مسلطة على وجهه بينما قال بنبرة محملة بالدهشة والرعب:
مش معقول! أكيد مش هو لا..
صمت قليلًا وعيناه تكاد تقفز خارج رأسه من الدهشة، ثم أردف:
عصام! ده إنت فعلًا؟!

حلّت بضع ثوانٍ من الصمت التام، ثوانٍ تملؤها الحيرة ومشاعر الحزن المتدفقة من ينابيع الذكريات القابعة في عقول الأصدقاء القدامى، حتى فاضت من عيونهم على هيئة دموع لم يستطع إبراهيم كبحها وكذلك محمود الذي كان قد أخذته الصدمة والهوجة ومنعته من البكاء حتى أفاضت مشاعره بعدما اختلطت بمشاعر أصدقاء عمره، وأجهشا بالبكاء على الحال التي وصل إليها صاحبهما، والزمن الذي قد بلاه، ولطّخ قلبه النقي برماده كما فعل المطر والطين بجسده وما يُغطيه.

أردف دكتور إبراهيم باكيًا:
إيه اللي حصل له! إيه اللي حصل لك يا عصام؟!
ظلّ الصمت والذهول مسيطرًا عليهما، يتبادلان نظرات الصدمة والحيرة بينهما ونظرات الشفقة والحزن على عصام، يضربان الكف على الكف تعجبًا للحال الذي ما بأيديهما شيء حياله.
حاولا استجماع أعصابهما وتمالك قوتهما ليفكرا كيف سيتدبران الأمر وماذا سوف يفعلان حياله.. مسحا أدمعهما التي قد غطّت وجهيهما لتعمل طبقة عاكسة بلمعان ضوء كشافات الشارع الليلية الخافت المتسللة من النافذة لتمتزج مع ضوء الغرفة الخفيف.
اقترب دكتور إبراهيم من عصام محاولًا تشخيص حالته، اقترب من وجهه وما زال يُبدّل نظراته ما بين السقف والنافذة ويُهمهم. رفع إبراهيم سبابته أمام وجهه وبدأ يُحرّكها يمينًا ويسارًا ولكن عينيه لم تتبع إصبعه وظلّت ناظرة بعيدًا.. أخفض يده ثم نظر إلى محمود وقال:
ده مش معانا خالص، مش بينجذب لأي مؤثرات. عقله في حالة غياب شبه تام.
رد محمود بنبرة مهتزة قلقة:
طب وده ليه علاج؟
ملأ صدره بكمية كبيرة من الهواء المحمّل بالحزن والضيق، كالبالون، ثم قال وهو يزفره:
للأسف، حالته متأخرة جدًا.
صمت قليلًا بينما يبتلع ريقه ثم أتبع:
محاولات العلاج هتكون مجرد محاولات ميؤوس منها.
ساد الحزن في المكان، بين استقبال محمود للأمر وتشخيص دكتور إبراهيم العليم بتلك الأمور بحكم مهنته.
بخوفٍ وترقّب قال محمود:
والعمل طيب؟

تنهّد إبراهيم ثم أجابه:
مينفعش نوديه المستشفى يا محمود، انت ماتعرفش إيه اللي بيحصل هناك. عمري ما أقبل صاحبي يحصل له كده.
رد محمود باندفاع وخوف:
لا، مش هنوديه طبعًا.
أيوه مش هنوديه.
ثم أتبع دكتور إبراهيم:
يا ألله بس نخليه يستحمى ويغير هدومه دي بدل ما يعيى.
تمام هدخل أشوف له حاجة يلبسها من عندي، وهغير برضو عشان البلل اللي أنا فيه ده.

ثم اتجه إلى غرفته مسرعًا، بينما قام دكتور إبراهيم يُحاول خلع الملابس المهترئة المبتلة التي تشرّبت الطين والأوساخ من على عصام، وعندما مدّ يده لينزعها برفقٍ من عليه انتفض عصام وأبعد يده بضربة سريعة غير قوية رافضًا نزع ملابسه، ثم ضمّ ذراعيه مجددًا على بطنه وكأنه يُحاول أن يحمي شيئًا ما ممسكًا به، فحاول إبراهيم أن يُفهمه أنه يُريد منه الاستحمام وتبديل ملابسه، برفقٍ، وتهدئته.
وبعد محاولاتٍ لإقناعه، هدأ وترك إبراهيم ينزع عنه القميص المهترئ الذي يرتديه، وعندما نزعه عنه، وجد ما يُشبه كتابًا غلافه بني داكن، فحاول الإمساك به، ولكن ثار عصام مجددًا بعصبية فحاول إبراهيم مجددًا أن يُفهّمه أنه سيضعه إلى جواره فقط حتى يستطيع الاستحمام، حتى اقتنع وتركه يأخذه. أمسك إبراهيم به ونظر إليه فوجده دفتر قديم ذو غلاف جلدي لونه بني داكن، مهترئة حوافه وبه بعض الشقوق والتقشيرات، فوضعه على المنضدة بجوار الأريكة التي يجلس عليها عصام.

عاد محمود بعدما قد بدّل ملابسه، ثم أخذا عصام واتجها نحو الحمام. أشعل محمود سخان الغاز وبدءا يحممان صديقهما عصام بالماء الدافئ والصابون من الطين الذي يُغطي كامل جسده وكان مبتسمًا قليلًا ويبدو سعيدًا على الرغم من وعيه الغائب، بينما محمود وإبراهيم تذرف أعينهما بالدموع وهما يريان حال صاحبهم وما الذي فعله الزمن به، فكان أمرًا شديد الصعوبة عليهما وهما يتذكران الأوقات الجميلة بينهم في الماضي.

انتهيا من تحميمه وألبساه الملابس النظيفة الثقيلة التي أحضرها محمود له ثم أخذاه إلى غرفة من غرف الشقة، حضّر محمود السرير له ثم استلقى عليه وكان يشعر بالخدر والنعاس، تغطى بالبطانيات في ذلك البرد الشديد بعد حمامه الدافئ، حتى غلبه النعاس وغطّ في نومٍ عميق.
خرج محمود وإبراهيم من الغرفة بعدما نام وأغلقا الباب. جلسا على الأريكة متعبين ليستريحا بعد تلك الليلة العصيبة التي نهرت أعصابهما، وأعينهما التي احمرت شرايينها فجعلتها ككرات دموية شديدة الحمرة.

ألقى محمود بنظره إلى يساره فرأى الدفتر موضوعًا على المنضدة، لفت نظره، فمدّ يده متعبًا ببطءٍ وأمسك به، نظر إلى إبراهيم وسأله عن ماهية هذا الدفتر، فقال له إنه وجده مع عصام يُخبّئه تحت ملابسه، تحسّس بيده على غلافه الجلدي المشقق ثم فتحه، وجد صفحاته مصفرة عتيقة، ورائحتها عطنة من القدم، تحسسها فكانت مندية شبه مبتلة قليلًا، قلّب الصفحة الأولى الفارغة، فوجد في الصفحة التي تليها كلامًا مكتوبًا بخط اليد.

نظر إلى إبراهيم وقال له:
الحق! دي شكلها مذكراته.
اقترب دكتور إبراهيم وعيناه مفتوحتان بتلهف ليرى الدفتر في يد محمود، والذي قد غمره الفضول هو أيضًا، لمعت عيناهما، فربما يقرءان شيئًا يُفيدهم، أي شيء عن عصام، يُشفي فضولهما لا حزنهما، يُزيح قليلًا ستائر الحيرة التي غطّت كل شيء، يُفهمهما ماذا حدث، وكيف، ولماذا.
ليبدءا قراءة صفحات الدفتر.
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.