ربما تسري كل خاطرة في هذا الكتاب كقبسٍ من نور داخل كل روح شاهدت الحق في مرآة تجليه فحلّقت مع أسراب المهاجرين إلى قيعان ذواتهم واطلعت على سر الأبدية الأعظم، وذاقت معنى السكون، وأرست زوارق خوفها شطان المآل، ثم نمت أجساد تسجن تلك الأرواح ونبتت من عالم الذر في عالم المادة والأسباب فوجدت نفسها أسيرة الأشياء، وجرّعت كؤوس الوحدة بعد أُنس القرب وأنفاس الحريه وعلمت أن سجن الجسد هو سر الشقاء ولكن لا حيلة لها بامتطاء جياد السفر سوى الحلم؛ فقررت أن تبقى سجينة جسدها وترى الكون عندما تُغمض عينيها رافعة رايات التمرد على كل ما هو مادي، فلا تفتح عينيك..
قد كنت فيما مضي تسرق الحلم، ثم تسير مشتتًا بين البين وأعمدة النور التي تُضئ فراغك، والآن شردت آخر أوهام حلمك العابر قبل أن تملأه بترهاتك الواهية فهنيئًا لك بمفترق طرق الوحشة، واستنشاقك كل يوم غبار غربة أزلية ورأس مليء بأنقاض وأطلال. فلتُخرج كل ما حوت جعبة أيامك من توالي دقَّات ساعات الملل ولترمي بها جانبًا، وافرش لما جهلت من أيام زهرًا؛ عساها تأتي إليك محملة بالندى.
فكل ما هو قصي صغير جدًا، وكل ما هو دانٍ كبير جدًا؛ لنبتعد قدر المستطاع عن طلاسم حيرتنا التي سكنت عقول تدبير لم نُكلّف به وأخاطت بنا متاهات تُحيط أرواحنا منذ سكنتنا فكبّلت أسفارها وخرّبت معالمها..
لتعلم جيدًا يا من تبحث عن وطن لروحك أنها لم تُخلق لتؤسر بهذا الجسد البالي. هي دائمة التخبّط داخلك دون أن تدري؛ يُفسّر ذلك ضيقك المفاجئ ولهاث أنفاسك حين تشعر بغربة داخليّة تُخفيها عمن حولك، وكذلك ارتباطك الكامن بالسماء وكأنك تطمئن كل حين على عائلتك التي تنتظرك هناك بعد أن تقضي مدة منفاك بهذا الكوكب. _هذا إن كنت ممن يحنّون دومًا إلى السماء_.
لا ضَير أن يحتفظ كل منا بلثام يُخفي معالمه الحقيقة عمّن حوله ممن لا يتشبّعون بنفس لون روحه. سوف تحتفظ بأعلى درجة من تركيز لونك طالما كان مغطى ومحفوظ عن العيون التي صارت كل همها أن تبعث بسهامها القاتلة إلى كل ما لا يُشبهها فترديه قتيل اختلافه؛ فتنفذ رويدًا أساطير الزمان الجليّة بفعل مؤامرة جهل سريع الانتشار ككل ما هو خاطئ.
لا بُد وأن كل منّا لاحظ أننا نعيش وقتًا لا ينتشر سريعًا مثل النار في الهشيم إلا كل ما هو خاطئ وضال.. فإن كنت ممن لا يموتون من أجل الحق؛ فكن على الأقل ممن يحيا الحق في ذواتهم ويرتحلون إليه بروحهم متى شاؤوا.