MazagElkotob

Share to Social Media

كان يومًا باردًا من أيام أبريل بسمائه الصافية، وكانت الساعة تدق الواحدة بعد الظهر، عندما كان "ونستون سميث" بذقنه المنسدلة على صدره اتقاءً لريحٍ بارد، يسرع عبر الأبواب الزجاجية لمبنى النضر، ولم يمنع اندفاعه السريع دخول دوامة من الريح المحملة بذرات الغبار.
كان الممر الذي يجتازه ممتلئًا بروائح الملفوف المسلوق والفرش المهترئ، وعند نهاية هذا الممر كانت هناك صورة ملونة وذات حجمٍ كبيرٍ لا يتناسب مع ذاك الممر الضيق، وكانت تمثل وجهًا ضخمًا يزيد عرضه عن المتر، وهو وجه رجلٍ في الخامسة والأربعين، ذو قسماتٍ جميلة، وإن كانت لا تخلو من خشونة وصرامة، ويبرز فيه شاربان أسودان كثان. اتجه "ونستون" نحو السلالم للصعود، فالمصعد نادرًا ما كان يعمل، إما بسبب عطل وإما لانقطاع التيار الكهربائي معظم ساعات النهار، انسجامًا مع خطة توفير الطاقة استعدادًا لفعاليات «أسبوع الكراهية». كانت الشقة التي يقصدها "ونستون" في الطابق السابع، وكان عليه أن يصعد سُلمًا طويلًا، ولأنه في التاسعة والثلاثين من عمره ويشكو من دوالٍ فوق كاحله الأيمن، فقد راح يرتقي درجات السلم بخطى وئيدة متوقفًا للاستراحة عدة مرات.. وعند كل منعطف من منعطفات السلم السبعة، وعند كل محطة من محطات المصعد وبمواجهة الباب، كانت تنتصب صورة الوجه الضخم لتُحدّق في وجه كل قادم.
إنها واحدة من تلك الصور المرسومة على نحوٍ يجعل المرء يعتقد أن العينين تلاحقانه أينما تحرك. وكان يوجد أسفل تلك الصورة عبارة بارزة تقول: «الأخ الكبير يراقبك».
سمع "ونستون" صوتًا عند دخوله الشقة، كان هذا الصوت منبعثًا من جهازٍ يُسمى (لوحة السرد) وهو عبارة عن لوحة معدنية مستطيلة كمرآةٍ معتمة معلّقة على الحائط، وكانت تسرد قائمة أرقام تتعلّق بإنتاج الحديد الخام، قام "ونستون" بخفض صوت ذاك الجهاز قليلًا فلم يستطع غلقه.. كان "ونستون" نحيلًا والزي الأزرق الذي يرتديه زاد من ضآلة جسده، وكان شعره مائلًا للشقرة ووجهه شديد الاحمرار، أما بشرته فكانت خشنة متأثرة ببرودة الجو، وشفرات الحلاقة الباردة، والصابون الرديء.
وقف "ونستون" أمام النافذة المغلقة، فكان الجو باردًا خارج النافذة والشوارع مليئة بالرياح المحملة بالأتربة. كانت الرياح شديدة، فكانت تحمل أوراق الشجر المتناثرة فتتصاعد لأعلى في أشكالٍ حلزونية، وعلى الرغم من سطوع الشمس وصفاء السماء إلا أن كل الأشياء باهتة عدا تلك الصورة المعلقة في كل مكان، ومن كل زاوية كان يحدق هذا الوجه ذو الشارب الأسود في المارة.. كما كانت معلقة على المنزل المقابل ومكتوب تحتها نفس العبارة «الأخ الأكبر يراقبك».
فكانت هاتان العينان السوداوان ينفذان إلى أعماق "ونستون"، وفي الأسفل كانت هناك صورة ممزقة تحركها الريح من آنٍ لآخر فيكشف عن كلمة واحدة «اشتنج» ثم يخفيها، وكانت هناك طائرة حوامة على بعدٍ تطير على ارتفاعٍ منخفض من أسكنة المباني. حامت الطائرة للحظة ثم ابتعدت في مسارٍ منحنٍ، كانت دورية من دوريات الشرطة تتجسس على الناس عبر النوافذ، ولكنها لا تشغل البال، فلا خوف إلا من شرطة الفكر.
كان الصوت المنبعث من شاشة الرصد مستمرًا في تكرار إحصائيات إنتاج الحديد الخام، ويعيد خبر تحقق أهداف الخطة الثلاثية التاسعة، وكان الجهاز يرسل ويستقبل في آنٍ واحد، فيستطيع التقاط كل صوتٍ يصدر عن "ونستون"، يتجاوز حد الهمسات الخافتة، بالإضافة إلى أنه يبقى مراقبًا بالصوت والصورة ما دام موجودًا في مدى رؤية هذه الشاشة المعدنية. ولم يكن هنالك بالطبع من طريقة لمعرفة ما إذا كنت في مرمى المراقبة أم لا في أية لحظة. أما كم مرة أو كيف يمكن أن تخترق شرطة الفكر حياتك الخاصة فهذا أمر لا يمكن التنبؤ به، وإن كان من المفروض أنها ترصد الناس جميعًا بلا انقطاع، إذ باستطاعة هذه الشرطة أن تدخل متى شاءت، على خط أي مكان. وعليك أن تعيش كما اعتدت دائمًا مع فكرة أن كل صوتٍ يصدر عنكَ مسموع، وأن كل حركة مرصودة.
وقف "ونستون" مديرًا ظهره لشاشة الرصد، فقد كان يعتقد أن هذه أفضل عاقبة، بالرغم من أن أمر المرء يمكن أن ينكشف من ظهره أيضًا.. وكان مركز عمله يبعد بحوالي كيلو متر واحد عن (وزارة الحقيقة) التي يرتفع مبناها ذو اللون الأبيض وسط منظرٍ طبيعيٍ كالح. وفكر "ونستون" وفي نفسه شيئًا من التقزز والامتعاض، «أهذه هي «لندن»؟ المدينة الرئيسية في القطاع الجوي رقم واحد؟ وثالث أكبر مقاطعات أوشینیا سكانًا».
حاول "ونستون" جاهدًا استرجاع بعضًا من ذكريات الطفولة، محاولًا أن يتبين ما إذا كانت هذه هي صورة «لندن» في كل الأوقات؟ أكانت بمثل هذه الطرقات المزدحمة والمنازل المتهالكة؟ أكانت على هذه الحال في القرن التاسع عشر، حيث تظهر على جوانبها الدعائم الخشبية، ونوافذها مدعومة بقطعٍ من الكرتون، وسقوفها مصنوعة من صفائح الحديد المنبعج، وأسوار حدائقها مهدمة ومبعثرة في كل الاتجاهات؟ أكانت موجودة تلك الأماكن التي أحدث القصف فيها حفرًا كبيرة تعبق بالغبار، وتبدو للعين أوراق الصفصاف مختلطة بأكوام النفايات، وقد ظهرت هناك مجموعة من الأكواخ الخشبية أشبه بأقفاص الدجاج؟ ولكن عبثًا حاول، فلم يكن باستطاعته أن يتذكر شيئًا عن ذلك الماضي.. إذ لم يبقَ له من ذكريات الطفولة إلا صور غير واضحة المعالم.
كانت تختلف (وزارة الحقيقة) - مينيترو في اللغة الجديدة - اختلافًا واضحًا عما حولها من مبانٍ، فهي مبنى هرمي ضخم من الأسمنت الأبيض اللامع، وكان باستطاعة "ونستون" وهو في مكانه أن يقرأ ما على الحائط، وهو شعار الحزب المكون من ثلاث جمل وهي:
«الحرب هي السلام».
«الحرية هي العبودية».
«الجهل هو القوة».
كانت (وزارة الحقيقة) تتكون من ثلاث آلاف غرفة فوق الأرض، وعدد من السراديب التابعة لها تحت الأرض، ولم يكن في جميع أنحاء «لندن» سوى ثلاثة مبان أخرى تشبه (وزارة الحقيقة) من حيث المظهر والحجم، وهذه البنايات كانت تحجب ما حولها من منازل، ولذا كان من الممكن لمن يقف فوق سطح مبنى النصر أن يرى البنايات الأربع في آنٍ واحد. وكان يشغل هذه البنايات أربع وزارات تشكل الجهاز الحكومي، فـ (وزارة الحقيقة) تختص بشؤون الأخبار ووسائل اللهو والاحتفالات والتعليم والفنون الجميلة، ثم (وزارة السلام) التي تعني بشؤون الحروب، ثم (وزارة الحب) وهي المسؤولة عن حفظ النظام وتطبيق القانون، ثم أخيرًا وزارة الوفرة وهي ترعى الشؤون الاقتصادية.
كانت وزارة الحب تعتبر مصدرًا للرعب والخوف، فهي عبارة عن بناءٍ بدون نوافذ على الإطلاق. لم يسبق لـ "ونستون" دخول هذه الوزارة، بل لم يحدث أن اقترب منها حتى مسافة نصف كيلو متر، إذ كان لا يسمح بدخولها إلا في مهمة رسمية، وحتى هذا الدخول يكون عبر سياجٍ من الأسلاك الشائكة والأبواب الحديدية، مرورًا بمرابض للمدافع والرشاشات المرعبة، كما أن الطرقات المؤدية إلى المبنى كانت دائمًا مراقبة، من قبل حرس ذوي وجوهٍ صارمة يرتدون ملابس سوداء ويحملون العصي المدببة.
استدار "ونستون" بعد أن رسم ببراعة تعبيرات التفاؤل التام على وجهه، وهو ما كان يستحسن فعله عندما يواجه المرء شاشة الرصد، واجتاز الغرفة متجهًا إلى المطبخ الصغير، إذ فاته موعد تناول طعام الغداء في المطعم لتأخره في الوزارة.. وكان يعلم أن المنزل خالٍ من الطعام إلا من قطعة خبز سوداء كان تركها لتكون إفطارًا له في صباح الغد، تناول عن أحد الرفوف زجاجة تحتوي على سائلٍ لا لون له، وقد ألصق على الزجاجة ورقة كتب عليها «جن النصر»، وكانت تفوح منه رائحة ممرضة أشبه برائحة الزيت وكأنه كحولٌ مستخرجٌ من الأرز الصيني، وبالرغم من ذلك صب "ونستون" القليل منه في كوب شاي، ثم استجمع قواه لیحتسیه كما لو أنه دواءٌ مرغمٌ على تناوله.
وفي الحال احمر وجهه وسالت الدموع من عينيه، فقد كان مذاقه شبيهًا بحامض الصوديوم، فضلًا عن أنه عندما ابتلعه شعر كما لو أنه ضُرب على مؤخرة رأسه بعصا مطاطية. لكن بعد لحظات قليلة خفّت حدة الألم الذي شعر به في جوفه، ليحل محله الشعور بالراحة والانشراح، وعندها مد يده ليأخذ علبة السجائر، وهي أيضًا تحمل اسم «سجائر النصر» وأخذ منها سيجارة واحدة، يتناثر ما فيها من تبغ على الأرض، فوضعها جانبًا متناولًا سيجارة أخرى أحسن حالًا. ثم عاد إلى الغرفة فجلس إلى طاولة صغيرة كانت إلى يسار شاشة الرصد، وفتح درجًا كان بها فأخرج ماسكة قلم ومحبرة ودفترًا صغيرًا ذا ورقٍ سميك وخلفية حمراء وغلاف رخامي اللون.
ولسببٍ ما، كان الجهاز في غرفة الجلوس موضوعًا في مكانٍ غير اعتيادي، فبدلًا من أن يوضع - كما جرت العادة - عند نهاية الجدار حيث يستطيع كشف الغرفة كلها، وضع الجهاز في الجدار الأطول مقابل النافذة، الذي كان في جانبٍ منه تقعر خفيف جلس فيه "ونستون". ولعل هذا التقعر قد قصد به أن يكون مكانًا لخزانة الكتب، وهكذا بجلوسه في ذلك المكان وظهره مسند إلى الوراء، كان "ونستون" خارج مدى رؤية شاشة الرصد، مع أن الجهاز كان باستطاعته التقاط ما يصدر عن "ونستون" من أصوات.
وقد كان تصميم الغرفة ومظهرها هو ما ألهم "ونستون" ليقوم بذلك العمل الذي كان ينوي القيام به في تلك اللحظة. ولكن هذا الإيحاء كان مصدره أيضًا ذاك الدفتر الذي أخرجه من درج المنضدة، وقد كان دفترًا جميلًا للغاية، إذ كان ورقه الناعم ذو اللون الأبيض - والذي أكسبه القدم اللون الأصفر- من نوعٍ تم التوقف عن إنتاجه منذ أربعين عامًا على أقل تقدير، ومع ذلك كان بالإمكان التكهن بأن الدفتر أقدم من ذلك، وكان قد عثر عليه معروضًا في واجهة حانوت خردوات صغير في حي من الأحياء الفقيرة - لا يتذكر اسمه أو موقعه -، وما إن وقعت عليه عيناه حتى تملكته رغبة عارمة في امتلاكه، ورغم أنه لم يكن مسموحًا لأعضاء الحزب بالتردد على مثل هذه الحوانيت العادية الكائنة في الأسواق الحرة، كما كانت تسمى، فلم يكن هذا القانون يُطبق بصرامة، لأنه كانت هنالك أشياء كثيرة، مثل أربطة الأحذية وشفرات الحلاقة، يتعذر على المرء الحصول عليها بغير هذه الطريقة.
وكان "ونستون" وهو في طريقة إلى هذا الحانوت يتلفت ذات اليمين وذات الشمال وهو يتوجس خيفة، بل ولم يدلف إليه حتى اطمأن إلى أن أحدًا لا يراقبه، ثم اشترى الدفتر بدولارين ونصف الدولار، دون أن يكون لديه هدف محدد من وراء شرائه، وتأبط الدفتر مخفيًا إياه بعناية وحمله إلى منزله كمن يحمل إثمًا، إذ كانت مجرد حيازة مثل هذا الشيء يدعو للشبهة حتى لو كان خاليًا من أي كتابات.
وهنا راودته فكرة ألا وهي أن يستعمله كمفكرة، ولم يكن في ذلك ما يخالف القانون (ليس لأن ذلك مسموح به، بل لأنه لم يكن هناك قانون في الأصل يحدد ما هي المخالفات)، ومع ذلك إذا ما افتضح أمره فإنه كان حتمًا سيُحكم عليه بالإعدام أو السجن لخمس وعشرين سنة في معتقلٍ من معتقلات الأشغال الشاقة. وضع "ونستون" ريشة في ماسكة القلم ثم مصها قليلًا ليخلصها مما علق بها. كان القلم أداة زخرفية قديمة نادرًا ما استعمله حتى في التوقيع.. لقد حصل عليه بشكلٍ سري وبصعوبة بالغة، إذ كان يشعر أن ورقًا ناعمًا أبيض اللون مثل هذا الورق يجب أن يُكتب عليه بريشة حقيقية لا أن يخربش عليه بقلمٍ جف حبره.. كان "ونستون" في الواقع غير معتاد على الكتابة باليد إلا في حالة تدوين بعض الملاحظات القليلة، لقد كان معتادًا على أن يملي كل شيء على «الآلة الكاتبة الناطقة»، وهذه بالطبع كان من غير الممكن أن يسجل عليها ما يريد تسجيله في مفكرته، ثبّت الريشة ثم غمسها في المحبرة، وبدا كما لو كان مترددًا في أمرٍ ما للحظة واحدة، وسرت القشعريرة في جسده، فمجرد أن يخط بيده على الورقة كان يُمثل له قرارًا حاسمًا وخطيرًا، وكتب بأحرف صغيرة غير مقروءة جيدًا على صدر الصفحة.. «4 أبريل 1984».
ثم اعتدل في جلسته، وقد تملكه بالعجز التام.. فقبل كل شيء لم يكن متأكدًا أن العام كان 1984، فقد يكون الزمان قريبًا من ذلك التاريخ، لأنه كان متأكدًا أن عمره لم يتجاوز التاسعة والثلاثين، وكان يعتقد أنه من مواليد 1944 أو 1945، ومع ذلك كان من المستحيل في هذه الأيام تحديد أي تاريخ مضى عليه سنة أو سنتان.
بعد ذاك راح يتساءل: "لمن يكتب هذه المذكرات؟ أيكتبها للمستقبل؟ أم للأجيال القادمة؟».
وأطرق للحظة وهو يفكر في هذا التاريخ المشكوك في صحته، والذي دوّنه في صدر الصفحة الأولى، وسرعان ما امتدت يده ليتناول قاموس اللغة الجديدة وبحث باهتمامٍ عن كلمة «التفكير المزدوج»، فلأول مرة يستشعر خطورة ما أقدم أو ما هو مقدم عليه، وتساءل في نفسه: "كيف يمكن أن يتسنى له الاتصال بالمستقبل؟».، إن مثل هذا العمل مستحيل في حد ذاته، إذ إن المستقبل إما أن يكون شبيهًا بالحاضر وبالتالي لن يتجاوب معه، أو مغايرًا له وحينئذ لن يكون لتكهناته التي يعيش من أجلها أي معنى.
مضت لحظات وهو يحدق في الورقة التي أمامه ببلادة.. وكانت شاشة الرصد قد انتقلت لإذاعة موسيقى عسكرية صاخبة، وقد تولاه الفزع، ليس لأنه فقد القدرة على التعبير عما تجيش به نفسه فحسب، بل لأنه نسي كليًا ما كان يحيك في صدره ويهيئ له نفسه منذ أسابيع، لقد كان يظن أنه لن يحتاج إلى شيءٍ آخر غير الشجاعة والإرادة، إذ الكتابة أمرٌ يسير لا يحتاج إلى كثيرٍ من العناء، وما عليه إلا أن ينقل ما كان يجول بخاطره لسنوات من حواراتٍ طويلة مع النفس إلى الورق، تلك الحوارات التي كانت تعتمل في رأسه وتسبب له القلق وعدم الارتياح، بيد أنه في هذه اللحظة بدا له كما لو أن ينابيع هذه الأفكار قد جفت، بل لقد بدأ يشعر بألم الدوالي في ساقه اليمنى، ولم يجرؤ على حكها خوفًا من أن تلتهب كالسابق.
كانت الثواني تمضي بسرعة، ولكنه لم يكن يعي من حوله غير الصفحة البيضاء التي أمامه، والألم الذي في كاحله، وصوت الموسيقى الصاخبة وشعور خفيف بالدوار بتأثير شراب الجن.
وفجأة وجد نفسه يكتب، وقد تملكته حالة من الرعب. لم يكن يُدرك تمامًا ما كان يفعله. كان خط يده الشبيه بخط الأطفال يميل في تعرجاتٍ إلى أعلى وإلى أسفل، وقد انفصلت الأحرف الأولى والنقط وعلامات الوقف عن الكلمات، وقد كتب ما يلي:
«الرابع من أبريل 1984، ذهبت الليلة الماضية لأحد دور العرض، كانت جميع الأفلام المعروضة حربية، وكان هناك فيلمًا عليه إقبالٌ كبير، فكان يعرض قصة سفينةٍ ضخمة محملة باللاجئين تتعرض للقصف بالقنابل في مكانٍ ما بالبحر الأبيض المتوسط، وقد سُر المشاهدون بمشهد رجلٍ ضخم كانت تلاحقه الطوافات وهو يحاول النجاة بنفسه مبتعدًا عن السفينة، فكان يسبح بصعوبةٍ كالسلحفاة.. إلى أن تم إطلاق وابل من الرصاص عليه، فامتلأ جسده بالثقوب، فتحول البحر من حوله إلى اللون الأحمر وغرق على نحوٍ مفاجئ، كما لو أن الماء تسرب إليه من خلال تلك الثقوب، انفجر المشاهدون ضحكًا عند غرقه، وبعد ذلك رأيتُ قارب نجاة محملًا بأطفال، وكانت هناك طوافة تُلاحقه، وكان في مقدمة المركب امرأة في منتصف العمر يبدو وكأنها يهودية، تحتضن طفلًا في الثالثة من عمره، كان يصرخ خوفًا.. وكان يُخبئ رأسه بين ثدييها، وكأنه يحاول أن يجد لنفسه مكانًا بداخلها، فكانت تحتضنه بين ذراعيها وتهدّئ من روعه رغم أنها كانت ترتعد خوفًا هي الأخرى ، فكانت تحاول تغطيته بذراعيها طوال الوقت لحمايته من الطلقات، ولكن في تلك اللحظة أُلقيت عليهم قذيفة تزن 20 كيلو جرام، فغرق القارب بمن عليه، ولم يتبقَ منهم سوى ذراع طفل تطاير في الهواء، ويبدو أن الطوافة كانت مزودة بكاميرا في مقدمتها، فكانت تتبع الذراع لأعلي، وهنا علا تصفيقٌ حادٌ من مقاعد رجالِ الحزب، إلا أن امرأة من النساء في مقاعد العمال ظلت تصرخ وتضرب الأرض بقدمها قائلة: "لا يجوز عرض هذه المشاهد في وجود الأطفال».
واستمرت في ترديد ذلك حتى استوقفتها الشرطة وأخرجتها من القاعة، فلا أظن إن حدث لها شيء، فلا يهتم أحد بما يقوله عامة الناس».
هنا توقف "ونستون" عن الكتابة، وأغلب الظن أنه كان يتألم من الدوالي، ولم يكن يدري ما الذي جعله يكتب مثل هذا السيل من الهراء. غير أن الشيء الغريب هو أنه بينما كان يقوم بذلك، إذا بحادثةٍ تلمع بجلاءٍ ووضوحٍ في ذاكرته، إلى حد أنه انكب على كتابتها بلا تردد، وقد كانت تلك الواقعة كما تبين له هي التي دفعته لأن يسرع إلى المنزل ويشرع في تسجيل مذكراته في هذا اليوم.
لقد حدثت تلك الواقعة في صباح ذلك اليوم حينما كان موجودًا بالوزارة، إذا صح أن أمرًا غامضًا كهذا يمكن أن يحدث.
«كانت الساعة الحادية عشر تقريبًا، حينما بدأ الموظفون في قسم السجلات حيث يعمل "ونستون" في جر مقاعدهم من مكاتبهم ليصفوها وسط القاعة في مواجهة شاشة الرصد لبدء فعاليات «دقيقتي الكراهية». اتخذ "ونستون" مكانًا في المنتصف حين دخل إلى القاعة شخصان لا يبدو أن أحد ينتظرهما، يعرفهما "ونستون" من بعيد، ولكن لم يسبق له وأن تحدث مع أحدٍ منهما من قبل، أحدهما فتاة لم يكن يعرف اسمها، فكان كثيرًا ما يلتقي بها في الممرات، ولكن ما يعرفه عنها أنها تعمل في دائرة الإثارة، فكان يُخمن ذلك لأنه كان دائمًا يرى يديها متسختين بالزيت وتحمل مفك براغي، مما جعله يظن أنها من اللواتي يعملن في قسم الميكانيكا على آلات طباعة الروايات، كانت فتاة في السابعة والعشرين من عمرها تقريبًا، جريئة المظهر، لها شعرٌ طويل ونمش في وجهها، وحركاتها السريعة تدل على أنها رياضية.. كانت تتوشح بحزامٍ قرمزي، فكان ملفوف حول خصرها عدة لفات فوق ملابس العمل، مما يبرز حدود جسدها، وكان هذا الوشاح يرمز إلى رابطة الشباب المناهض للجنس، ومنذ أن رآها "ونستون" وهو ينفر منها، لأنه يعرف ما يحيط بها من أجواء ملاعب الهوكي، وحمامات الماء البارد، والرحلات الجماعية، فكانت تلك عقيدتها التي تعتنقها، فقد كان يكره النساء خاصة الجميلات، فقد كن أكثر أعضاء الحزب إخلاصًا وتمسكًا بمبادئه، ولكن هذه الفتاة بالأخص كانت توحي له بأنها أخطرهن، فعندما التقى بها مصادفة في إحدى المناسبات وألقت عليه نظرة جانبية، فشعر أنها اخترقته وملأت قلبه بالرعب، وظن أنها إحدى عميلات شرطة الفكر، فكلما رآها شعر بعدم ارتياح وخوفٍ ممزوجٍ بعداء».
وأما الشخص الآخر فكان رجلًا يدعى "أوبراين"، وهو عضو في الحزب الداخلي، ويشغل منصبًا ذات أهمية كبيرة وصلاحيات واسعة، ولم يكن لدى "ونستون" فكرة واضحة عن طبيعته أو منصبه.. وما كاد الحضور يرى البزة السوداء التي يرتديها أعضاء الحزب الداخلي حتى خيم الصمت للحظة عليهم... كان "أوبراين" رجلًا ضخم الجسم، قوي البنية، غليظ العنق، وذا وجهٍ وحشي ساخر، ولكنه ورغم مظهره الذي يلقي بالروع في النفس فقد كان يحظى بشيءٍ من الجاذبية ودماثة الخلق، وكان من عادته المبالغة في تحريك وتثبيت نظارته على أنفه بطريقةٍ مهذبة جاذبة، وكانت حركته تلك تشبه ما كان يقوم به أحد نبلاء القرن الثامن عشر عندما يقدم علبة سعوطه إلى رجلٍ آخر. وكان "ونستون" قد التقى "أوبراين" عشرات الممرات على مدى سنوات، وكان يشعر في أعماقه بشيءٍ من الانجذاب نحوه، ولم يكن سبب هذا الانجذاب راجعًا في الأساس للتناقض الواضح بين أخلاق "أوبراين" المهذبة وشكل جسمه الذي يشبه أبطال المصارعة، وإنما كان بسبب اعتقاد داخلي، أو ربما لم يكن اعتقادًا بل مجرد أملٍ يحدوه، بأن ولاء "أوبراين" السياسي للحزب لم يكن تامًا. فقد كان ثمة شيء في وجهه يوحي بذلك إيحاء لا يقاوم، ولكن ربما كان ما يبدو على وجهه ليس انحرافًا عن ولائه للحزب وإنما كان مجرد ذكاء. بيد أنه وعلى أي حال كان يتمتع بمظهرٍ يوحي بأنه شخصٌ يمكنك أن تتحدث إليه مطمئنًا إذا استطعت خداع شاشة الرصد والانفراد به.
ولم يحدث أن كلف "ونستون" نفسه أبدًا أدنى عناء للتحقق من ظنونه ولم يكن في الحقيقة أمامه من سبيل إلى ذلك، وفي هذه اللحظة تطلع "أوبراين" إلى ساعته فرأى أنها قد قاربت الحادية عشرة، فقرر البقاء داخل قسم السجلات إلى أن تنتهي فعاليات «دقيقتي الكراهية». وقد جلس على كرسي في الصف نفسه الذي جلس فيه "ونستون" يفصل بينهما كرسيان، كان يشغل أحدهما امرأة ذات شعرٍ رملي تعمل في مكتبٍ مجاورٍ لمكتب "ونستون"، في حين جلست الفتاة ذات الشعر الأسود خلفه مباشرة.
وفي اللحظة الثانية انبعث صوتٌ مزعجٌ ومخيف من شاشة الرصد في طرف القاعة، كما لو أنه يصدر عن آلة قد جف زيتها. كان صوتٌ تصطك له الأسنان ويقف له شعر الرأس.. ولم يكن ذلك إلا إيذانًا ببدء فعاليات الكراهية.
ظهر على الشاشة كالعادة وجه "إيمانويل غولدشتاين"، عدو الشعب، سرت همسات في القاعة هنا وهناك، في حين صدرت صيحه مملؤة بالخوف والاشمئزاز من المرأة ذات الشعر الذهبي.. كان غولدشتاين هو المرتد الخائن ذات يوم منذ زمن بعيد - لا أحد يتذكر متى تحديدًا كان ذلك -، كان أحد رموز الحزب القيادي، وكان في نفس مكانه الأخ الأكبر تقريبًا. فقد تورط في عدة نشاطات معادية للثورة وتآمر على الحزب، فحُكم عليه بالإعدام، ولكنه استطاع الهروب واختفى على نحوٍ غامض. كانت برامج «دقيقتي الكراهية» متنوعة وتتغير يوميًا، ولكن كان "غولدشتاين" المحور الرئيسي لأي برنامج، فقد تآمر على الحزب وكان أول خائن للثورة وكل ما يحدث من جرائم وخيانات وأعمال تخريبية وهرطقة وانحرافات عن مبادئ الحزب، كانت نابعة من تعاليمه المباشرة، فما زال حيًا يدبر المكائد من مكانٍ ما فيما وراء البحار تحت حماية الأجانب المسؤولين عن تمويله، فمن حينٍ لآخر يُشاع انه مُختبئ في مكانٍ ما داخل «أوقيانيا» نفسها.
شعر "ونستون" بغُصة، فلم ير وجه "غولدشتاين" إلا ويشعر بمزيجٍ مؤلم من المشاعر. كان وجهه وجه يهودي هزيل، كان هناك هالة من الشعر الأشيب تعلو رأسه، وله لحية صغيرة تشبه لحية (التيس)، ذو وجهٍ يوحي بالذكاء.. ولكنه مثال للخسة، له أنفٌ طويل ترتكز نظارته عليه، وكان أشبه ما يكون بالخراف، وصوته أيضًا كالخراف.
كان "غولدشتاين" يلقي كالعادة خطابه الذي يشن فيه هجومًا شرسًا على مبادئ الحزب، وكان هجومه مليء بالتحامل والمبالغات، حتى أن الطفل ليستطيع أن يفهم ذلك، إلا أنها مع ذلك كانت معقولة لدرجة تثير الفزع لدى المرء، حينما يتنبه إلى أن هنالك أناسًا بسطاء وأقل إدراكًا لحقائق الأمور قد ينخدعون بها. كان يصبح متهجمًا على الأخ الكبير ويستنكر ديكتاتورية الحزب، ويطالب بإرساء السلام مع «أوراسيا» على الفور، كما كان يطالب بحرية التعبير وحرية الصحافة وحرية عقد الاجتماعات وحرية الفكر. وكان يصيح بحماسٍ منددًا بالخيانة التي تعرضت لها الثورة من الداخل، كل ذلك بكلمات سريعة متلاحقة في محاكاة للأسلوب الخطابي الذي اعتاده خطباء الحزب، بل وكانت خطبه تتضمن كلمات من اللغة الجديدة تفوق ما اعتاد على استخدامه أي من أعضاء الحزب أنفسهم، وفي أثناء ذلك، ومخافة أن يكون البعض قد انخدع بأكاذيبه الخافية وراء خطبته المنمقة، كانت تظهر على الشاشة وراء رأس "غولدشتاين" جحافل جرارة من جنود «أوراسيا»، صفوف متراصة من رجالٍ ذوي وجوهٍ كالحة وحشية يظهرون على وجه الشاشة، كتائب متلاحقة ما إن تختفي واحدة إلا وتظهر أخرى أكثر وحشية وهمجية. وكان الإيقاع الرتيب لأحذيتهم العسكرية بمثابة الخلفية الصوتية لخطاب "غولدشتاين" وصوته الثغائي.
وقبل أن تمضي الثلاثون ثانية الأولى من فعاليات الكراهية، بدأت تتعالى صرخات غاضبة منفجرة من نصف الحضور في القاعة، إذ كان الوجه الأشبه بوجه الخروف والمعتد بنفسه لدرجة الغرور فضلًا عن الفزع الذي تثيره مشاهد جيش «أوراسيا» على الشاشة أكثر مما يمكن أن يحتمل، هذا إلى جانب أن رؤية "غولدشتاين" أو حتى مجرد التفكير فيه كانت تملأ قلوب المشاهدين بحالة من الخوف والغضب.. لقد كان ما يثيره من كراهية يفوق تلك التي لـ «أوراسيا» أو «إستاسيا». وقد جرت العادة على أنه عندما تكون «أوقيانيا» في حربٍ مع إحدى هاتين الروايتين فهي في سلامٍ مع الأخرى، ولكن الغريب في الأمر أن "غولدشتاين" هذا ورغم كونه مكروهًا وممقوتًا من الجميع، ورغم أن نظريات كانت في كل يوم وفي كل لحظة تتعرض للدحض والنقد وتصبح مثارًا للاستهزاء على صفحات الصحف والكتب وشاشة الرصد ومنابر الحزب، كما تقدم للرأي العام باعتبارها هراء وتخرص، بالرغم من كل هذا، كان تأثيره شديدًا لا يعف. فقد كان هناك دائمًا أغرار ينخدعون به، فلا يكاد يمر يوم إلا وتلقي شرطة الفكر القبض على جواسيس ومخربين يعملون تحت إمرته. لقد كان "غولدشتاين" قائدًا لجيشٍ خفي كبير وشبكة سرية من المتآمرين تعمل في الخفاء، ولا هدف لها إلا الإطاحة بنظام الحكم، والتي كان يعتقد أنها تسمى رابطة «الأخوة». كذلك كان أناس يتهامسون ويتناقلون القصص حول كتابٍ مخيفٍ يضم كل الهرطقات التي ألفها "غولدشتاين" والتي يتم تداولها بصورة سرية هنا وهناك. كان كتابًا بلا عنوان، ولذا كان الناس يشيرون إليه، إذا أشاروا إليه أصلًا باسم الكتاب. وكانت الشائعات المبهمة هي المصدر الوحيد لأي معرفة عن هذا الكتاب، إذ لم يكن أي من أعضاء الحزب العاديين يجسر على الإشارة في حديثه إلى «الأخوة» أو الكتاب إلا اضطرارًا.
وفي الدقيقة الثانية تصاعدت الكراهية حتى صارت سعارًا، وراح الناس يثبون إلى أعلى من مقاعدهم ثم يجلسون وهم يصيحون بأعلى صوتهم حتى يطغى على الصوت الثغائي الصادر عن "غولدشتاين" من الشاشة.
وكان وجه المرأة الصغيرة ذات الشعر الذهبي قد احتقن واكتسى باللون الأحمر القاني، فيما كان فمها يُفتح ويُغلق كسمكةٍ طرحها الموج على الشاطئ، وكذلك احمر وجه "أوبراين" الضخم. أما "ونستون" فكان يجلس منتصبًا فوق مقعده فيما كان صدره يعلو ويهبط مع كل شهيقٍ وزفير، كما لو كان يتأهب لمواجهة موجة عاتية. وراحت الفتاة ذات الشعر الأسود التي تجلس خلف "ونستون" مباشرة تصرخ:
«وغد! وغد! وغد!».
ثم فجأة التقطت معجمًا للغة الجديدة وقذفت الشاشة، به فأصابت "غولدشتاين" في أنفه ثم سقط أرضًا، إلا أن صوت "غولدشتاين" استمر.. وفي هذه اللحظة ألفى "ونستون" نفسه يصرخ مثل الآخرين ويضرب الأرض وحافة المقعد بقدميه في عنف. ولعل أفظع ما في «دقيقتي الكراهية» هو أن المرء لم يكن مجبرًا على تمثيل دورٍ ما، ومع ذلك كان من المستحيل عليه أن يتجنب الانخراط في هذا المشهد، ففي غضون ثلاثين ثانية لن تصبح المشاركة في «دقيقتي الكراهية» بالأمر الضروري، ذلك أن نشوة من الخوف والرغبة في القتل والانتقام والتعذيب وتهشيم الوجوه بالمطرقة كانت تتملك الحضور وتسري في أوصالهم، وكأنها تيارٌ كهربي يدفع بالمرء رغمًا عنه للصراخ والصياح كمن أصابه مس من الجنون.. ومع هذا فإن الغضب الذي كان يشعر به المرء آنذاك كان انفعالًا طائشًا وغير محدد الوجهة ومن الممكن تحويله من وجهة إلى أخرى، مثل لسان لهب متصاعد. وهكذا لم تكن كراهية "ونستون" في لحظة من اللحظات موجهة ضد "غولدشتاين" إطلاقًا، وإنما على النقيض من ذلك كانت موجهة ضد الأخ الكبير والحزب وضد شرطة الفكر، ففي مثل هذه اللحظات كان قلبه يخفق تعاطفًا مع هذا المنبوذ الذي يظهر على الشاشة متهمًا بالهرطقة ومثارًا للسخرية، وهو الوحيد الذي يقف حاميًا للحقيقة والحكمة في عالمٍ زاخرٍ بالأكاذيب والتزوير. ومع ذلك فقد كان في اللحظة التالية يشعر بما يشعره الآخرون نحو "غولدشتاين"، وبأن كل ما قيل عن "غولدشتاين" هو حقيقة لا ريب فيها. وفي تلك اللحظات كان مقته المكنون للأخ الكبير ينقلب إعجابًا يقارب العبادة، وكان الأخ الكبير حينذاك يعلو مقامًا ويصبح كحامي الحمى الجسور، الذي لا يُقهر وكأنه طود عظيم يقف في وجه جحافل الجيوش الزاحفة من (آسيا)، بينما "غولدشتاين"، ورغم العزلة التي فُرضت عليه، وحالة العجز التي يعيشها، بل ووجوده الذي أصبح موضع شك، فإنه يبدو مثل ساحرٍ شرير قادر بقوة صوته فقط أن يقوض بنيان الحضارة.
لقد كان بمقدور المرء أن يحول كراهيته هذا الاتجاه أو ذاك بمحض إرادته، وفجأة وبالقوة العنيفة التي يرفع المرء بها رأسه من على الوسادة حينما يستولى عليه كابوس، استطاع "ونستون" أن يحول كراهيته من الوجه الظاهر على الشاشة إلى تلك الفتاة ذات الشعر الأسود الفاحم الجالسة وراءه.. وطافت برأسه تخيلات جميلة وقوية، كانت تراوده الرغبة في أن يضربها ضربًا يفضي بها إلى الموت بهراوة من المطاط، أو يقيدها عارية إلى عمود ثم يرميها بزخة من السهام مثل "القديس سباستيان». كم ود لو استطاع أن يغتصبها ثم يحز رقبتها عند بلوغه لحظة النشوة.. والآن أدرك "ونستون" أكثر من ذي قبل سبب كراهيته لها، لقد كان يبغضها لجماله وصغرها وعزوفها عن الجنس، ولأنه كان يمني نفسه بأن يكون معها في فراشٍ واحد لكن ذلك لم يكن ممكنًا، فقد كانت تحيط خصرها الممشوق الناعم، الذي كان يغري المرء أن يلف ذراعه حوله، بحزامٍ قرمزي كريه هو رمز العفة.
وبلغت الكراهية ذروتها، وأصبح صوت "غولدشتاين" ثغاء خروف حقيقي، بل تحول وجهه للحظة إلى وجه خروف. ثم لم يلبث أن تلاشى ليحل محله وجه جندي من جنود «أوراسيا»، كان يندفع كالعملاق فينشر الرعب وهو يحمل في يده بندقية آلية تهدر، ويبدو وكأنه سيثب من الشاشة، حتى أن بعض المشاهدين الذين كانوا في المقاعد الأمامية كانوا يجفون للوراء وهم في مقاعدهم. ولكن وفي اللحظة نفسها تنفس الجميع الصعداء، إذ تلاشت هذه الصورة وحلت محلها صورة الأخ الكبير بشعر رأسه الأسود وشاربه الكث ورزانته الغامضة وقوته الفياضة، وكان وجهه من الضخامة بحيث ملأ الشاشة كلها.. لم يكن ثمة من يسمع ما كان يقوله الأخ الكبير، فقد كانت مجرد كلمات تشجيعية معدودة من تلك التي يتمتم بها في معمعة المعارك لا يستطيع المرء تمييزها، بيد أنها كانت تعيد الثقة إلى النفس بمجرد التلفظ بها، ثم تلاشى وجه الأخ الكبير وظهرت شعارات الحزب الثلاثة بأحرف الكبيرة بارزة:
«الحرب هي السلام»..
«الحرية هي العبودية»..
«الجهل هو القوة»..
لكن وجه الأخ الكبير، ورغم زواله عن الشاشة، بقي منطبعًا عليها لثوانٍ أخر، كما لو أن تأثيره الذي تركه في أعين الحضور أقوى من أن ينمحي دفعة واحدة وعلى الفور.. أما المرأة ذات الشعر الذهبي فقد انحنت في مقعدها إلى الأمام وصدرت عنها همهمة كأنها تقول: «أيها المخلص»، ومدت ذراعيها باتجاه الشاشة، ثم دفنت رأسها بين راحتيها.. وكان يبدو من ذلك أنها تتلو بعض الصلوات.
وفي هذه اللحظة، انخرط جميع الحاضرين في ترديد إيقاعي لترنيمة الكبير.. الكبير، كانوا يرددونها ببطءٍ ووضوح ويتوقفون للحظات بين المرة والأخرى.. كان صوت الهمهمة ثقيلًا ومفعمًا بشيءٍ من البربرية، ومن خلفيته كان ينبعث صوت يحسبه السامع وقع أقدام عارية أو دقات طبول بعيدة، استمر ذلك الصوت ثلاثين ثانية، إنه عبارة عن لازمة تكرارية كتلك التي تسمع عادة في لحظات الانفعال الغامرة، أو ترنيمة تتغنى بحكمة الأخ الكبير وجلاله، والأرجح أنه شكلٌ من التنويم الذاتي المغناطيسي وحالة من تغييب الوعي من خلال الإيقاعات الرتيبة.. أما "ونستون" فقد بدا أن البرد قد أخذ يسري فيه حتى نفذ إلى أحشائه، ومع ذلك لم يكن أمامه بد من المشاركة في حالة الهيجان العامة. أما تلك الترانيم الكبير.. الكبير.. فقد كانت دائمًا تملأه رعبًا.
نعم، لقد كان يترنم مع الآخرين، فقد كان مستحيلًا أن يفعل غير ذلك، فإن تخفي مشاعرك الحقيقية وأن تتحكم في انفعالات وجهك، وأن تفعل ما كان يفعله كل شخص آخر، كل ذلك كان فعلًا غريزيًا. ولكن هنالك لحظات يمكن فيها أن تكون تعبيرات عينيه قد كشفت حقيقته، وفي هذه اللحظات تحديدًا حدث ذلك الشيء الهام، هذا إن كان قد حدث فعلًا.
لقد التقت عيناه عيني "أوبراين" الذي كان قد انتصب واقفًا وهو يرفع نظارته عن أنفه ثم يعيد تثبيتها بإيماءته المميزة.. ورغم أن أعينهما لم تلتق إلا لأجزاءٍ من الثانية، فقد كان ذلك كافيًا حتى يدرك "ونستون" أن "أوبراين" كان يفكر في نفس ما يفكر فيه "ونستون". لقد كانت تلك النظرة بمثابة رسالة لا يمكن أن يخطئها المرء، وبدا كما لو أن عقل كما منهما قد انفتح على عقل الآخر، فتدفقت الأفكار من واحدٍ لآخر عبر أعينهما. وخُيل لـ "ونستون" أن "أوبراين" يقول له: «أنا معك، إنني على معرفة دقيقة بمشاعرك، وأعرف كل شيء عما تضمره من ازدراءٍ وكراهية واشمئزاز، ولكن لا عليك فأنا في صفك».
عندئذ خبا بريق التخاطر الفكري وبدا وجه "أوبراين" خاليًا من أي تعبيرٍ كسواه من وجوه الآخرين.
هذا كل ما حدث.. ولم يكن "ونستون" متأكدًا من أن كل ذلك قد حدث فعلًا، لأن مثل هذه الحوادث تمر عادة دون أن تكون لها نتائج، وكل ما فعلته هو أنها أبقت على اعتقاده أو أمله بأن هنالك أيضًا آخرين لديهم مشاعر العداء نفسها نحو الحزب، ولربما كانت الشائعات عن وجود مؤامرات سرية واسعة النطاق صحيحة، بل ربما كانت رابطة «الأخوة» موجودة حقًا. لقد كان من المستحيل عل المرء بالرغم من الاعتقالات اللانهائية والاعترافات المتتالية وأحكام الإعدام، أن يؤمن بأن «الأخوة» إن هي إلا خرافة.
وكان "ونستون" يؤمن أحيانًا بوجوده وأحيانًا بعدم وجودها. لم يكن هنالك دليل، بل مجرد إشاعات قد تعني شيئًا وقد لا تعني شيء، فالمكالمات المسترقة، أو الكتابات المسجلة على جدران المراحيض العامة، أو حتى لقاء غريبين أو إشارة يد تبدو كأنها إشارة سرية للتعارف، كل ذلك مجرد تكهنات، ومن المحتمل جدًا أن يكون الأمر كله محض خيال لا يوجد إلا في مخيلة "ونستون".
عاد "ونستون" إلى مكتبه دون أن يلتفت مرة ثانية إلى "أوبراين"، ولم تخطر بباله فكرة متابعة هذا التواصل العابر. كان الأمر ينطوي على مخاطر شديدة حتى لو عرف كيف يحتاط لها، لقد تبادلا نظرة غامضة وخاطفة لم تدم أكثر من ثانيتين وهذا كان كل ما في الأمر، ولكن حتى ذلك الأمر العابر كان حدثًا يستحق الذكر في مثل هذا الجو الانعزالي الذي كان يتحتم على المرء العيش فيه.
نهض "ونستون" من مقعده ثم جلس منتصبًا، ثم تجشأ، فقد كان الشراب يغلي في معدته.
أعاد التحديق في الصفحة التي أمامه فاكتشف أنه عندما كان مستغرقًا في التفكير كتب على الصفحة شيئًا ما بدافعٍ عفوي لا إرادي، ولم تكن الكتابة هذه المرة كتلك التي كانت حروفها غير مقروءة جيدًا، فقد جرى قلمه هذه المرة بسهولة على الورق الناعم وبأحرف كبيرة أنيقة:
«ليسقط الأخ الكبير..
ليسقط الأخ الكبير..
ليسقط الأخ الكبير..
ليسقط الأخ الكبير».
وظل يكتب هذه العبارة حتى ملأ بها نصف الصفحة.
وما إن استفاق لما يخطه بيده حتى تملكه شعور بالفزع والهلع.. إن الأمر لا يعدو أن يكون هراء إذ إن كتابة هذه الكلمات لم تكن أشد خطرًا من مجرد اقتنائه مفكرة والبدء في تسجيل مذكراته. وقد راودته الرغبة في تمزيق كلمة الأخ التي كتبها ومن ثم التخلي عن مشروع المغامرة ذلك برمته.
ولكنه لم يفعل ذلك لإدراكه أن تمزيقها لن يجدي فتيلًا، وسيان أكتب ليسقط الأخ الكبير أو أحجم عن كتابتها، سواء احتفظ بالمفكرة أو لم يحتفظ بها، فإن شرطة الفكر ستعتقله.. فقد اقترف، وما زال يقترف جرمًا، بل وحتى لو لم يضع القلم على الورق، فقد اقترف أم الجرائم التي تنطوي على جميع الجرائم، إنهم يطلقون عليها «جريمة الفكر»، وهي جريمة ليست بالأمر الذي يمكن إخفاؤه إلى الأبد، فربما يمكنك مواراتها عن الأعين لحينٍ من الزمن أو لسنوات، ولكن إن عاجلًا أو آجلًا لابد أن تقع في قبضتهم.
كانت الاعتقالات تقع دائمًا تحت جنح الليل، حيث يفزع صاحب الجرم من نومه على يدٍ خشنة تهزه بغلظة، فيفتح عينيه على ضوء ساطع مسلط على عينيه، ويجد مجموعة من رجالٍ ذوي وجوهٍ عابسة يتحلقون حوله وهو ما يزال في فراشه. وكانت أغلب هذه الحالات تمر دون محاكمات أو حتى محاضر اعتقال، حيث كان الناس يختفون أثناء الليل. وكان اسمك يشطب من السجلات ويشطب معه كل شيء يتعلق بك أو لك فيه ذكر، حتى إن النكران يطال فكرة وجودك أصلًا ثم يتم نسيانك. لقد انتهيت ثم تلاشى ذكرك وكأنك تبخرت، نعم أنك تبخرت لقد كانت هذه هي الكلمة التي يصفون بها عادة ما حدث.
وانتابت "ونستون" للحظة من الزمن نوبة هستيرية، وراح يكتب بسرعة وبخطٍ متعرج:
«سيرمونني بالرصاص، بيد أنني لا أبالي.. سيطلقون النار عليّ من الخلف غير أنني لا أبالي، وليسقط الأخ الكبير.. إنهم دائمًا يطلقون النار عليك من الخلف، لكنني لا أبالي، ليسقط الأخ الكبير».
ثم اتكأ في مقعده وقد شعر ببعض الخجل من نفسه، ووضع القلم جانبًا. وفي اللحظة التالية استأنف الكتابة بنشاط ولكن سرعان ما سمع طرقًا على الباب.
ظل "ونستون" على سكونه كفأرٍ مذعور في حجره، يحدوه أملٌ واهٍ بأن الطارق سينصرف بعد المحاولة الأولى، بيد أن الطرق توالى.. ولأن أسوأ ما يمكن أن يفعله في مثل هذا الظرف هو التلكؤ في الاستجابة فقد أخذ قلبه يدق كالطبل.. ولكن وجهه كان بحكم العادة جامدًا وخاليًا من أي تعبير. ثم وقف ومشى متثاقلًا صوب الباب.
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.