مقدمة
هذه ليست رواية و إن اشتملت على بعض سماتها، وهذا ليس كتاباً أو بحثاً بالمعنى المألوف، و إنما حوارات في العشق، و رحلات في الهوى.
شخص عادي، نشأ في بيئة عادية، تعلم في مدارس عادية، يعيش حياة عادية، يشغل وظيفة عادية، تزوج فتاة عادية، و أنجبوا أولاداً عاديين، و ينتظر أن يموت ميتة عادية.
هذه هي قصة حياة "راغب غريب"، و ربما تكون قصة حياتك و حياتي أيضاً، نصف قرن على ظهر البسيطة لم تغير من مضمون القصة شيئاً، و لم يبق إلا الفصل الأخير، فصل "الميتة العادية"، و لكن شيئاَ ما في صدره يرفض هذه الخاتمة، شيءٌ ما يأبى أن يستسلم لهذه النهاية العادية، هل سيخرج من الدنيا كما دخل؟ إذا كان دخول الحمام ليس كالخروج منه فما بالك بالحياة؟ هل تحققت الحكمة من وجوده؟ هل قام بدوره الذي خلق له؟ و هل نفذ دوره؟ و هل انتهى أمره؟
أسراب من الأسئلة تطوف في سماء ذهنه، كلما حاول أن يدرك سرباً منها تحول السرب إلى سراب، هناك أمر غائب عن حياته يجعلها بلا معنى، هناك معنى تائه لا يستطيع أن يجده و لا أن يجد نفسه بدونه، هناك شعور غائب عن قلبه لا يستطيع أن يحيا دون أن يحسه و لا يريد أن يموت دون أن يتذوقه، هناك قيمة مفتقدة لابد من حضورها ليصبح لعمره قيمة.
ربما ينقصه العلم و المعرفة... و قد يكون مفتقداً لمعاني البطولة و التضحية... أو لعله يحتاج الحب و الهوى.
ماذا كان ينبغي على "راغب غريب" أن يعرف خلال تلك العقود الخمسة و لم يعرفه؟
يقول في نفسه: قد عرفت أن لهذا الكون إلهاً واحداً، و أن الدنيا دار بلاء و أن الآخرة دار جزاء، و قد عرفت الخير و الشر، و عرفت ما أمرني به وما نهاني عنه، قد عرفت إجابة الأسئلة المصيرية الثلاثة: من أين؟ و إلى أين؟ و لماذا؟ فلماذا لا أشعر بالارتواء و الاكتفاء؟
قد عرفت تلك الإجابات منذ سنوات، ثم ماذا بعد؟ لماذا عشت بعدها؟
ربما هناك أسئلة لم أعرف إجاباتها بعد، ربما الإجابات ليست النهاية و إنما البداية، المعرفة تتطلب اللزوم "عرفت فالزم"، و اللزوم لا يثبت و لا يتأكد إلا بالنجاح فيما سيلي المعرفة من الاختبارات، كشأن كل مؤسسة معرفية معتمدة تعلم منسوبيها ثم تمتحنهم ثم تجيزهم، و عند الامتحان تبرز الحاجة إلى قيمتي التضحية و البذل، و بقدر ما يعطي الإنسان من الغالي و النفيس بقدر ما تعلو قيمة حياته، فالبلاء هو المعيار الحقيقي لقدْر الإنسان لأنه الكاشف عن معدنه و المسفر عن صدقه و المبين لمنزلته، و لما كانت حيوات الأنبياء أشرف و أكرم الحيوات قيمة و كانت أقدارهم هي الأعلى و الأنفس كان نصيبهم من البلاء هو الأوفر و الأعظم، ثم الأمثل فالأمثل.
في النهاية التضحية موقف و ليست قراراً، بمعنى أن هناك مواقف معينة تواجه الإنسان و تتطلب منه التضحية و عليه أن يلبي أو يولي، وقتها سيعلم مقدار هذا المعنى في حياته، و عندها سيعلم أيضا قيمة حياته، و كذلك البلاء قدر و ليس اختياراً حتى و إن تعمد الإنسان السير في طريق المنايا فلن تفارقه الأماني، و لن يفتر حديث نفسه له بالنجاة، فإن أصابه البلاء نتيجة لسيره في تلك الطريق فلا يقال قد اختار إلا مجازاً، لا تقل شئنا فإن الحق شاء.
ماذا لو لم تعرض له هذه المواقف و لم ينزل عليه ذاك البلاء؟ أيطلبها؟ أيتمناه؟ أيتعرض لها أو له؟ كلا.. ما كان "راغب" ليفعل، لقد مضت سنون الشباب، و لم تعد هناك فسحة للتجارب، و قد علمته كهولته ألا يتمنى لقاء العدو، و أن يسأل الله العافية، و أن يعرض نفسه للنفحات لا أن يذلها بتعريضها لما لا تطيق من البلاء.
لم يبق إذن سوى الحب، ربما يكون أقصر الطرق و أيسرها، و ربما يكون أشقاها و أطولها، و ربما إذا أدركه فاز بالثلاثة، فمن ذاق عرف، و من حب بذل، لماذا غاب هذا المعنى عن حياته؟ لماذا لم تهتز أوتار قلبه و لم تُنقر دفوف وجدانه؟ لماذا لم تذب روحه يوماً عشقاً، و لم يملأ نور الحب دوماً كيانه؟
لا يزال يذكر بيتين لإيليا أبي ماضي من شعر الغربة و الاغتراب يقول فيهما:
إن نفساً لم يشرق الحب فيها هي نفس لم تدر ما معناها
أنا بالحب قد وصلت إلى نفسي و بالحب قد عرفت الله
و هو لا عرف و لا وصل، هناك فارق بين أن يعرف الإنسان شيئا أو أشياء عن ربه و بين أن يعرفه هو، و هناك بون بين أن يعرف الشخص نفسه المزيفة و بين أن يعرف نفسه على حقيقتها، أحيانا يرى "راغب" الحيوانات و النباتات و الجمادات رموزا و إشارات تشير إلى حقائق البشر، و ما الغريب في ذلك؟ ألسنا كلنا ننتمي إلى أمنا الأرض؟ من رحمها خرجنا و إلى بطنها نعود، بل يظن إنه يستطيع أن يرى تلك المخلوقات بوضوح داخل قلوب بعض "الآدميين" ، فهناك من لهم وجوه البشر و قلوب الذئاب أو الضباع، و هناك من لهم قلوب من زهر أو من ذهب و من لهم أفئدة كأفئدة الطير.
ترى لو فُتح قلبُه و نظر فيه فأي صورة سيجد؟ أسد أم غزال أم حمار؟
لا بد من فتح الصندوق الأسود، لا بد من فتح القلب صندوق الأسرار، لا مفر من الارتحال و البحث عن إجابة السؤال، ماذا يوجد داخل الصندوق؟ و لماذا؟ و لماذا لا يوجد غير ما يوجد؟ و كيف يوجد ما ليس بموجود؟ كثيرون من الناس يقطعون الفيافي و القفار في مشارق الأرض و مغاربها بأبدانهم و لا يتقدمون خطوة واحدة بأرواحهم ، و قليلون من لا يخطون خطوة واحدة على الأرض و يعرجون في السماء، و هو يريد أن يكون من هؤلاء القليلين، يريد أن يعرف نفسه، أن يدرك الغاية من حياته، أن يقدم على ربه يوم يقدم عليه و هو يعرفه إذ كيف يرجو رضوان من لم يعرفه؟ و ماذا لو كان تصوره عن الله تعالى غير صحيح و ظل يعبد هذا الإله المتصور في ذهنه طوال حياته حتى إذا وقف بين يدي الإله الحق يوم القيامة اكتشف أنه ليس كما كان يظن أو يدرك أو يتخيل و أن من كان يعبده في الدنيا غير من وجده في الأخرة، فكيف يطلب ثواب من لم يعبده؟ إن كان الحب سبيلاً فأين السبيل إلى السبيل؟
من أين يبدأ؟ و كيف يبدأ؟ و مع من؟
إيهٍ يا "راغب".. متى ترغب إلى ربك؟ إنك لن تجد ما تطلب إلا عنده، و لن تعرف ما تريد إلا منه، و لن تصل إلى غايتك إلا به، و لن يكون المنتهى إلا إليه، فاعبده و توكل عليه، ها أنت قد عبدته ببدنك كلفة، و عبدته بنفسك مجاهدة، و عبدته بعقلك قناعة، فلم يبق إلا أن تعبده بقلبك حبا، و بروحك شوقا، و بسرك قدسا، عندها تكتمل ذاتك و يتحقق و جودك، فهل أنت إلا بدن و نفس، و عقل و قلب، و روح و سر.
علامة أن تعبده بقلبك أن يدق فتطمئن، و علامة أن تعبده بروحك أن تذكر فتحن، و علامة أن تعبده بسرك سر خفي، دَقة القلب أن يلين بعد أن يقشعر و يضطرب مع الذكر حتى يطمئن، و ذكر الروح أن تذكر الميثاق الأول و قولها "بلى" لربها فتشتاق و تحن.
إيهٍ يا "راغب".. متى تعرف أن الذي في السماء إله هو الذي في الأرض الإله؟ على مدى العصور و الدهور يجادل أهل الأرض في ألوهية الله فيها و يشركون غيره معه، و لكنهم يقفون أمام ألوهيته في السماء مبهوتين، فبهت الذي كفر و الله لا يهدي القوم الظالمين، كم إلها تعبد يا "حصين"؟ قال: سبعة في الأرض و واحد في السماء.
و ما ذلك إلا لأنهم يظنون أن لهم في الأرض فعلاً مع فعله و إرادةً مع إرادته و اختياراً مع اختياره و تصرفاً مع تصرفه و تدبيراً مع تدبيره، و لكنهم يوقنون أن ليس لهم من ذلك شيءٌ في السماء، ليس لهم إلا أن ينظروا إلى أبراجها و أفلاكها و نجومها و أقمارها يتمتعون و يتفكرون، و يتعلمون و يتعجبون، و يتحيرون ويستهدون، و يأملون و يتأملون، ثم يرتد إليهم البصر خاسئاً و هو حسير.
كم من صديق رافقني ثم فارقني، و كم من أخ اصطفيته ثم تركته، و كم من موقف أضحكني و لم يضحك غيري، و كم من حادث أبكى غيري و لم يذرف له دمعي، و كم من أشياء علمتها دون أن أتعلمها و كم من أشياء طلبت تعلمها و لم أعلمها، و كم من طريق ظننتها تقربني فأبعدتني رغم أنني رأيتها تقرب غيري، و كم من قصةٍ حكيت لي فأرشدتني مع علمي بأنها أضلت غيري، و كم من سيئة جاهدت للتخلص منها فغلبتني و ركبتني، و كم من معصية دون عناء اجتنبتني و تركتني، كم من حسنة طلبتها ففاتتني و كم من طاعة بغير طلب أدركتني، و كم من سهام تفاديتها فأدمتني و كم من سنان فاتكة أخطأتني.
شغلت التطورات في العلاقات بين البشر ذهن صاحبنا و حيرته، و كلما تأمل في مساراتها أضلته، متى تفتر و متى تشتد؟ و لماذا بعد التوثق تنفك؟ و كيف يستمر الحب إذا كان من طرف واحد؟ و هل إذا نال المحب محبوبه ذبل الحب؟ قصة مجنون لبنى تنفي ذلك و لله الحمد.
و لكن هل يتصور الحب بين عبقري و أحمق، أو بين حكيم و أخرق، لقد صدق الشعراني رحمه الله عندما تصور أنه ما كان لله أن يتخذ جاهلا وليا، فأكمل له شيخه على الخواص رحمه الله الصورة بعد ما قرأ ما في نفسه بقوله: إن شاء علمه ثم اتخذه.
و لكن الله تعالى وصف العلماء بالخشية (إنما يخشى الله من عباده العلماء) و وصف المؤمنون بالحب ( و الذين أمنوا أشد حبا لله). و قد علمنا من السيرة و التاريخ أن الجبل و الجمل و النخل يحبون و يئنون و يحنون، فالحب لا يعرف الفوارق و لا توقفه الحواجز و لا تمنعه الحجب.
و هكذا وجد صديقنا "راغب غريب" بعد رحلته في ذاكرته أن جميع اللحظات السعيدة و الجلسات الممتعة و الحوارات الشيقة و اللقاءات الباهرة و النظرات الساحرة و المشاعر الدافقة و الأفكار الرائقة و اللمسات الدافئة و اللمحات الخارقة و العزمات النافذة التي عاشها مع أحبائه و أصفيائه لم تكن منهم و لكن كانت من تجليات الله فيهم، فهؤلاء الأحباء و الأصفياء الذين أضاءوا ماضيه بالأنوار الساطعة لا يزالون أحياء يرزقون و يلتقي بهم بين الحين و الحين و لكن لا يجد في الحاضر ما وجده حيناً من الدهر، و إنما بقية أثارٍ من الأنوار الباهتة.
و قريب من هذا ما يتحدث به العديد من المتصوفة عن إغاثة الأولياء لهم أو إرشادهم إياهم في زمانٍ غير زمانهم أو مكانٍ غير مكانهم، هي في جوهرها تجليات لرحمات أو هدايات من رب الأرض و السموات تنزلت على بعض العباد في صورة محببة لهم كشيخ كريم أو ولي صالح يعرفونه، و قد يعلم بهذا صاحب الصورة و قد لا يعلم.
لا تسألوني... ما اسمهُ حبيبي
أخشى عليكمْ.. ضوعةَ الطيوبِ
والله.. لو بُحتُ بأيِّ حرفٍ
تكدَّسَ الليلكُ في الدروبِ
ترونَهُ في ضحكةِ السواقي
في رفَّةِ الفراشةِ اللعوبِ
في البحرِ، في تنفّسِ المراعي
وفي غناءِ كلِّ عندليبِ
في أدمعِ الشتاءِ حينَ يبكي
وفي عطاءِ الديمةِ السكوبِ
محاسنٌ.. لا ضمّها كتابٌ
ولا ادّعتها ريشةُ الأديبِ
كفاكم لا تسألوني... ما اسمهُ
فلن أبوح باسمه حبيبي
و لكن من هذا الحبيب الذي لن يبوح باسمه؟ و كيف يبوح باسم من لا يعرف اسمه؟
* * *
كان "راغب" يمشي على شاطئ البحر بعد منتصف الليل في ليلة بلا قمر يراقب الأمواج المتتابعة على الضوء الخافت المنبعث من شرفات بعض المنازل القريبة من الشاطئ في تلك القرية السياحية التي اعتاد أن يمضي فيها بعض أيام الصيف يفكر فيما مضى و فيما هو آت، و بينما هو يسعى بين ذكرياته و تأملاته انقطع التيار الكهربي عن القرية فغرقت في الظلام الدامس، فتوقف يفكر هل يعود إلى بيته أم يكمل ما بدأ من تريضه؟ و قرر بعد لحظات أن يكمل و أشعل ضوء هاتفه ليبصر ما تحت قدميه، ثم بدا له أن الظلام من حوله ليس بأشد مما بداخله فقرر أن يطفئ المصباح ليتساوى لديه الخارج و الداخل، و بدأ يجرب السير في الظلام محاولا قدر المستطاع أن يحافظ على الخط الذي كان يسير فيه حتى لا يصطدم بالعوائق و كي لا تعرقله العقبات، لكن بعد مسافة قصيرة اصطدم بشيء أجبره على التوقف و إعادة اشعال المصباح فأدرك أنه قد انحرف عن الطريق انحرافا بعيدا في زاويته رغم قرب مسافته، و تبين له أن ما أوقفه كانت احدى حاويات القمامة، أعاد المحاولة كرتين مع مزيد من الحرص و التركيز كي لا ينحرف عن خط سيره لكنه لم يفلح، ففطن إلى أن السير على الخط المستقيم في الظلام مستحيل، نظر في اتجاه البحر فلم يفرق بين السماء و الأرض و لم يميز بين البر و البحر، لو لم يكن للنور من فائدة سوى أن يجعل الإنسان يعرف بره و بحره و يرى سماءه و أرضه لكفى بها نعمة.
عاد "راغب" إلى مسكنه و دخل غرفته في هدوء حتى لا يوقظ زوجته، و لم يجد لديه الرغبة في النوم، فجلس علي كرسي أمامه مرآة كبيرة و بينه و بين المرآة السرير الذي تنام عليه زوجته و بجانبه مصباح صغير خافت الإضاءة، و بدأ ينقل بصره بين زوجته و صورته في المرآة عدة مرات متأملا، ثم قال محدثا صورته هامسا: هل تحبها؟
أجابه انعكاس صورته في المرآة: أجل.
- فلما تبحث عن الحب إذن؟
- لأنني لا أعرف ماهيته؟ ما حقيقته؟ ما سره؟
- كل الناس يعرفون الحب فلماذا تعقد الأمور؟
- لخصه لي في كلمة إن كان حقا ما تقول.
- ..........
- أين فصاحتك يا صاح؟ يبدو أن ما بين الحاء و الباء كما بين الكاف و النون، سر من أسرار الكون.
- الناس مفطورون على حب الجمال و الإحسان، فكل من يرى في قرينته جمالاً أو يلمس منها أحساناً عاش معها على الحب.
- إذا كان الأمر كذلك فلما قال الفاروق رضي الله عنه: فإن أقل البيوت الذي يبنى على الحب، ولكن الناس يتعاشرون بالإسلام، والإحسان؟
- قال هذا لأن بعض الناس يظنون أن الحب هو فقط ما كان بين قيس و ليلى، أو جميل و بثينة، أو عنتر و عبلة، و ما دون ذلك ليس بحب، و ليس هذا بصحيح، فالصور السالفة هي الصور المتطرفة من الحب التي و إن ملأت قلوب المحبين و امتلكت خيال العاشقين و سرت بذكر أصحابها في العالمين فإنها أيضا قد أفسدت حياتهم و أذاقتهم الأمرين.
- تريد أن تقول أن أرسطو و الفارابي و ابن سينا كانوا فلاسفة و حكماء و لكن لا يعني هذا أن غيرهم هم الحمقى و البلهاء، و أن ابن الهيثم و ابن حيان و اينشتين كانوا من أفذاذ العلماء الأذكياء و ليس كل من دونهم مجموعة من السفهاء و الأغبياء، و بالتالي فكل الناس محبين و إن لم يكونوا في درجة مشاهير العاشقين.
- نعم. هذا ما أردت و قصدت.
- لا. الحب يختلف، هؤلاء ساحتهم العقل و الحب ميدانه القلب.
- أنت تراوغ. هذه القاعدة تنطبق على كافة الصفات الإنسانية سواء كانت عقلية أو قلبية أو غريزية، كلها تظهر فيها الفروق الفردية و لا يغير ذلك من جوهرها شيئا، فالرحمة على سبيل المثال هي الرحمة و لكنها مائة جزء، و كل الخلائق تحيا في ظل جزء واحد منها على درجات متباعدة و صور متباينة منها العظمى كرحمة الرسول صلى الله عليه و سلم بأمته، و منها الصغرى كرفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه.
- يا لك من مدلس، أين الثرى من الثريا؟ أين رحمة المصطفى بإمته من رحمة الدابة بولدها؟ أين حب "عنترة" لعبلته من حب راغب لزوجته؟
- المهم أن تحبها.
- إن كنت تقصد تمني الخير لها و الشعور بالامتنان نحوها و الحرص على راحتها و الاجتهاد في رعايتها و نحوه فكل ذلك يدخل في تعاشر الناس بالحسنى، و لكن ليس هذا هو الحب الذي ابحث عنه، و ليس هذا هو الحب الذي نقرأ عنه في تراجم المحبين و العاشقين لمحبوباتهم أو أوطانهم أو آلهتهم.
- بل أقصد ما هو أبعد من ذلك، أقصد بذل النفس من أجلها، أليس لدى كل واحد منا الاستعداد للتضحية بنفسه من أجل أهله؟
- بلى، و لكن ما يدريك أن ذلك بدافع من الحب و ليس بدافع من الواجب أو الحمية أو الغيرة؟
- أيا كان الدافع أليست النتيجة واحدة؟ ما يضيرك أن تصل إلى أعلى درجات البذل و التضحية بدافع من الحب أو غيره من الدوافع طالما كانت تلك الدوافع معتبرة و محمودة؟ إنما يبكي على الحب النساء.
- لا يا صاح.. بل يبكي على الحب كل إنسان له من اسمه عنوان، يبكي على الحب كل من يريد أن يطلق لروحه العنان، يبكي على الحب كل عبد يبحث عن حلاوة الإيمان، يبكي على الحب كل من يرنو إلى الجنان، و كل من يريد الوصول إلى الرحمن.
- و ماذا تنوي أن تفعل يا حيران؟
- الخوض في بحور الحب عسى أن أنال اللؤلؤ و المرجان.
- إذا ابشر بالصعاب والأهوال.
- الله المستعان و عليه التكلان.
أدرك "راغب" الصباح، فسكت عن الحوار و الأفكار، و سمع صوت الأذان يأتي من بعيد كأنه لحن الخلود ينسكب في أرجاء الوجود ليبعث فيه الحياة من جديد و يبشره ببداية يوم جديد، و بعدما ردد الكلمات و الدعوات أخرج مفكرته الصغيرة من جيبه و أخذ يراجع أسماء الحكماء الذين يرغب في الالتقاء بهم و اختار أقربهم مسافة منه و أيسرهم وصولا إليه فوضع حول اسمه دائرة بالقلم ثم رفع المفكرة أمام ناظريه و أخذ ينطر إليها بإمعان حتى تلاشت بقية الأسماء و لم يعد يرى سوى الدائرة المحيطة بأول حكيم وقع عليه اختياره.. الحكيم السكندري.
شعر "راغب" بالارتياح و الانشراح فأغلق المفكرة و قام للصلاة و قد عزم على زيارة الحكيم في أقرب وقت ممكن و أول فرصة متاحة.
* * *
الفصل الأول
الحكيم السكندري
يحكى أن شابا من أهل الإسكندرية أحب فتاة إغريقية، ولما حان أوان الوصال و ركبت السفينة لتعبر البحر إليه، اصطدمت السفينة بالصخور في ظلمة الليل و غرقت قبل أن تصل إليه، فحزن عليها حزنا شديدا و أحب أن يخلد ذكراها و أن يمنع غيرها من أن يلقى مصيرها فوضع تصميما لبناء شاهق يضيء للسفن في الظلام من مسافات بعيدة فيكون هداية للمسافرين و مرشدا للمبحرين و مؤنسا للعابرين و دليلا للضائعين و نورا للمستوحشين، فكانت منارة الإسكندرية التي أصبحت احدى عجائب الدنيا السبع.
تلك القصة التي سمعها "راغب" من حكايات والدته صغيرا، لم يعرف لها أصلا و لم يجد لها مصدرا، و لكنه شغف بها و وجد فيها لونا بديعا من ألوان الوفاء للمحبوب، و صورة جميلة من صور استحالة الحب إلى خير يعم الشعوب.
* * *
"راغب" مخاطبا "الحكيم السكندري": حدثني يا سيدي عن صور الحب و ألوانه.
تجاهل "السكندري" طلبه و سكت برهة ثم قال: صف لي ما أمامك.
نظر "راغب" أمامه فلم يجد شيئا يمكن أن يصفه للحكيم فقال: لا أرى إلا البحر.
أشار "السكندري" برأسه و قال: صفه لي.
تذكر "راغب" الوصف المنسوب لعمرو بن العاص رضي الله عنه حين سأله الفاروق رضي الله عنه ليقرر أيحمل المسلمين فيه للجهاد أم لا؟، فأجابه: (يا أمير المؤمنين، إني رأيتُ خلقاً كبيراً يركبه خلق صغير، ليس إلا السماء و الماء، إن ركنَ خرق القلوب، وإن تحرك أزاغ العقول، يزداد فيه اليقين قِلةً، والشك كثرةً، هم فيه كدودٍ على عودٍ، إن مال غرق، وإن نجا برق)، ثم قال في نفسه: ما أبعد موضوعنا عن الجهاد من ناحية و ما أبعدني عن فصاحة الأقدمين من ناحية أخرى، ترى ماذا يريد الحكيم من وصف البحر؟ ثم قرر أن ينسى وصف من سبقه و أن ينظر و ينتظر ما يفتح الله عليه به من وصفه، و بعد لحظات من التأمل قال:
جميل بديع رائع.. خطير عميق واسع.. غادر هادر كاسر.. لا تُعد أمواجه و لا تؤمن تقلباته.. من خاضه بغير سفينة غرق و من لزم الشاطئ لم ينل الغرض.. مليء بالكنوز تسكنه الوحوش.. طهور لا يدنسه شيء.. تهطل عليه الأمطار و تصب فيه الأنهار و لا تنقص من ملوحته شيء.. بينه و بين القمر سر وجلال و بينه و بين الشمس ود و جمال.. لا تنتهي أسراره و لا تسبر أغواره.. منافعه كثيرة و بوائقه وفيرة.. فيه الموت و فيه الحياة.. و به الهلاك و به النجاة.
“السكندري”: ها قد أجبت نفسك.. ما صور الحب و أشكاله إلا نحوا مما ذكرت.
"راغب" متعجبا: و لكني لم أكن أعرف أن الجواب عندي.
“السكندري”: كثير من الألغاز التي نبحث عن حلها خارجنا جدير بنا أن نفتش عن حل لها داخلنا.
“راغب”: هل يعني هذا أن ذواتنا هي مصدر علومنا؟
“السكندري”: لا و إنما يعني أنها مستودع لكثير من المعارف و الأسرار التي تلقى إلينا و نحن عنها غافلون.
“راغب”: تلقى إلينا من أين؟
“السكندري”: من عوالم الله العظيم.. عشرات الرسائل بل ربما المئات تصلنا عبر الساعات و لا نستقبلها.
"راغب" متفهما: (سنريهم آياتنا في الأفاق و في أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق)
"السكندري" مسترسلا: آيات القرآن و آيات الأفاق و آيات النفوس ليست متباينة بل متطابقة.
“راغب”: كيف؟
“السكندري”: القرآن كتاب الله المسطور و الكون كتاب الله المنظور و النفس كتاب الله المكنون، فما تقرأه من الوحي تراه حولك و تجده داخلك، أو إن شئت قلت تبصره ظاهرا و تدركه باطنا، فإذا قرأت قول الحق: (قل هو الله أحد) ثم نظرت إلى الآفاق شاهدت الأحدية واضحة ظاهرة فإذا فتشت داخلك وجدتها مستقرة باطنة، فعندما يطالبك القرآن بإعلانها و الجهر بها فإنما يطالبك بأمر سمعته و شهدته و ذقته.
“راغب”: لله در أبي العتاهية حين قال:
فيــا عجبــا كـيف يعصـي الإلـه أم كـــيف يجحـــده الجـــاحد
وفــي كــل شــيء لــه آيــة تـــدل عـــلى أنـــه واحــد
“السكندري”: أتظنه أقرب إليك من حبل الوريد ثم لا يجيبك و لا يخاطبك، تعلم أن تنصت لكلام الحق داخلك و أن تميز بينه و بين وساوس النفس و الشيطان، و تعلم أن تسأله عند الحاجة، و لا تظن أنك عقلك، فذاتك ليست عقلك و إنما هي ما وراء العقل، و العقل وسيلة فاستخدمها و أداة منحها الله لك و ليس سيدا عليك، ثم أردف مدندنا:
دواؤك فيك وما تشعر *** وداؤك منك وما تُبصر
وتحسب أنّك جرم صغير*** وفيك انطوى العالم الأكبر
وأنت الكتاب المبين الذي*** بأحرفه يظهر المُضمَر
فلا حاجة لك في خارج *** يُخَبَّر عنك بما سُطًرُ
“راغب”: يا سيدي إذا كان كل ما نطلبه داخلنا فما دور الأنبياء و العلماء و الحكماء إذن؟
“السكندري”: دورهم أن يدلوك عليه و يرودوك إليه و يصلوك به.
“راغب”: على أي شيء يعود الضمير في عليه و إليه و به؟
"السكندري" باسما: كل الاحتمالات التي دارت بخلدك قصدتها، و أضيف إليها أنه يعود على (كتابه أو كتابك المكنون) فهو كتابك باعتبار المحل و هو كتابه باعتبار المصدر، فكلا الضميرين المخاطب و الغائب صادقان، و لكن لا تنس أن الطهور شرط الوصول للكتاب المكنون.
“راغب”: نعم. (لا يمسه إلا المطهرون)... عندما أجبت طلبك يا سيدي بوصف البحر لم أكن أعلم أن لدي الجواب، و عندما وجدت الجواب لم أعرف أنه إجابة سؤالي عن وصف الحب، و عندما أخبرتني أجدني لست متأكدا هل هو الجواب الشافي الكافي؟
“السكندري”: اقرأ كتابك. كتابك الذي في داخلك، هل تجد جوابا ثانيا؟
“راغب”: نعم أشعر أن هناك جوابا ثانيا و ثالثا و رابعا، و أن أوجه التشابه بين الحب و البحر متعددة، و أن ألوان الحب و صوره و أشكاله قد تلتقي مع البحر و قد تلتقي مع غيره.
“السكندري”: ها قد أجبت نفسك نزلة أخرى، فما تحصل لك في المرة الأولى الجواب الابتدائي و ليس الجواب الكافي.
“راغب”: إنما تحصل لي يا سيدي مزيد حيرة، و لست أدري أي ألوان الحب أرجى عندي و لا أي صوره أنسب لي؟
“السكندري”: أنت لا تختار لونا منه و لا صورة له، بل هو الذي يختار لك.
“راغب”: و على أي أساس سيختار السيد المطاع؟
“السكندري”: قالوا فيما قالوا إن العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك، فالحب أولى بذلك.
“راغب”: كنت أحسب أن الحب عطاء بلا مقابل.
“السكندري”: هذا بعد أن يأتي أما قبل ذلك فلا بد من تقديم القرابين، انظر إلى حب الأم لولدها كيف يملأ قلبها لحظة تبصره عينها فتنسى متاعب الحمل و آلام المخاض، و لكن قبل هذه اللحظة يعتصرها الألم و لا يصبرها سوى الأمل.
“راغب”: و ماذا عن حب الأب لابنه؟ لماذا لا تسبقه تلك المعاناة؟
“السكندري”: ألم أقل لك إن الخيار له و ليس لك، فالحب الأبوي له صورة أخرى و لون مختلف عن الحب الأمومي.
“راغب”: فرق لي بينهما يا سيدي.
“السكندري”: حب الأم مطلق، إنه شامِل لكل الحماية، ومستحوذ على كل المحيط. ولما كانت الأم تحب أطفالَها لأنهم أطفالها، وليس لأنهم مطيعون أو "طيبون" أو يحققون رغباتها و أوامرها، فإن حب الأم هنا قائم على المساواة. كل الأبناء متساوون لأنهم جميعًا أطفالها.
أشار السكندري بيده إلى البحر و أكمل قائلا: كهذا البحر يعطي أسماكه لكل طالب سواء منهم من ألقى فيه بالمجوهرات أو النجاسات، أما الحب الأبوي فطبيعته أنه يضع مطالِب ويؤسِّس مبادئ وقوانين، و يرتبط بالأمر و النهي و الثواب و العقاب، و من هنا يبدأ التمايز بين الأبناء.
“راغب”: و هكذا يمكن القول أن حب الأم مناسب لمرحلة الفطرة التي يتساوى فيها الخلق جميعا (كل مولود يولد على الفطرة)، و الحب الأبوي مناسب لمرحلة التنشئة التي يتمايز فيها الأطفال، و يكلفون ببعض الواجبات.
“السكندري”: نعم لكني لم أقصد هذا، إنما قصدت أن تدرك أن حب الله لا يمكن أن ينفصل عن حب الإنسان لوالديه، فمن حب الأم نتعلم حب الرحمة و الفضل و من حب الأب نتعلم حب الحق و العدل، و أسماء الله و صفاته تشتمل على النوعين في امتزاج عجيب، فإن ذكرت العزيز الرحيم، وجدت "العزة" في الحب الأبوي و "الرحمة" في الحب الأمومي، و إن قلت الحميد المجيد، لم يخف عليك التناسب بين "الحمد" و الأمومة، و بين "المجد" و الأبوة، باختصار تستطيع أن تقول أن "الأب" تتجلى فيه صفات "الجلال" و "الأم" مستقر تجليات صفات "الجمال".
“راغب”: و لذلك اختار الرسول صلى الله عليه وسلم رحمة الأم ليضرب لنا بها مثلا يقربنا من فهم رحمة الله في قصة المرأة التي ضاع ولدها فانطلقت تبحث عنه في لوعة جارفة و لهفة فائقة حتى إذا وجدته أخذته و ألصقته بصدرها، لله أرحم بعباده من هذه بولدها.
“السكندري”: فما تقول في قوله: "و رحمتي سبقت غضبي"؟
سكت "راغب" برهة ثم انتبه فجأة لمقصد الحكيم و شعر كأن طاقة من نور فتحت أمام بصيرته فهتف: الله أكبر.. الله أكبر.. غلب الجمال الجلال.. غلب الجمال الجلال.
انتظر "السكندري" برهة حتى يعود جليسه إلى حاله الأولى ثم سأله: هل يكفي حب الوالدين في الوصول إلى حب رب العالمين؟
"راغب" بعد لحظات من التفكير: هل حب الوالدين يحوي جميع ألوان الحب و صوره و اشكاله؟
“السكندري”: لا تجب السؤال بسؤال.
“راغب”: إذاً.. لا.. لا يكفي.
“السكندري”: لابد إذا من حب الناس أجمعين لتصل لحب أحسن الخالقين، أليس كذلك؟
“راغب”: بلى.
“السكندري”: لا.
“راغب”: لمَ؟
“السكندري”: لا بد من حلقة وصل.. لا بد من واسطة.. لا بد من وسيلة.. لا بد بين الشمس و الأرض من قمر.. لا بد من مرآة ينعكس فيها الحب فيتجلى.
“راغب”: و ما هي؟
" السكندري": بل قل من هو؟
"راغب" مردداً في تعجب: من هو؟
“السكندري”: الحبيب الأعظم، و المحب الأكبر، و المحبوب المبجل صلى الله عليه و سلم القائل: لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده و ولده و الناس أجمعين.
“راغب”: هذا يتطلب أن أحب من في الأرض جميعا أولاً !
“السكندري”: هذا يا ولدي يتطلب أن تحب الماضي و المستقبل و الحاضر، هذا يتطلب أن تحب من هو فوقك و من هو دونك و من هو ندك، هذا يتطلب أن تعرف حب الاحترام و التبجيل و حب الشفقة و الرحمة و حب الإخاء و المودة، و بعد ذلك تحبه أكثر من كل ذلك.
"راغب" في يأس: جئتك يا سيدي لتدلني على حب واحد يسد ثغرة قلبي و يملأ فراغ روحي و يجعل لحياتي معنى، فإذا بي مطالب بحب من مات قبلي و من سار جنبي و من جاء بعدي ! أي ماضٍ تقصده يا سيدي؟ الماضي الذي يخصني أم الذي يخص عشيرتي أم الذي يخص بلدي أم أمتي؟ و كذلك الشأن بالنسبة للحاضر و المستقبل؟ الخلاصة أنني يجب أن أحب مليارات البشر من السابقين و اللاحقين !
“السكندري”: لا تحزن إذا أخبرتك أن كل هذا لا يكفيك، فما هؤلاء جميعا إلا عالم واحد من العالمين، و أنت تطلب رب العالمين، ألا يجدر بك أن تحب العوالم كلها أولا ثم تطلب حب ربها؟ إن أحببت عالم الإنس فما موقفك من عالم الجن و الملائكة؟ و ما شعورك تجاه عالم النباتات و الحيوانات و الجمادات؟ و كيف تنظر إلى عالم الغيب و الشهادة؟
“راغب”: لا لن أحزن يا سيدي، سأقنط فقط و ربما انتحر.
"السكندري" باسما: لقد دللتك على حب واحد كما طلبت و لكنك أغرقت نفسك في بحر التفاصيل، أرشدتك إلى العروة الوثقى و الطريقة المثلى و الوسيلة العظمى و البدر الأنور و الباب الأوحد، أول الخلق و أفضلهم و أكرمهم و أرحمهم و سيدهم خير الخلق كلهم، إن أحببته أحببت فيه العوالم كلها، و إن أحببت العوالم كلها أوصلتك إلى حبه، انظر لعلاقته بأمته عبر الماضي و الحاضر و المستقبل، أنظر لارتباطه بعالم الإنس و الجن و الملائكة، لاحظ صلاته بعالم الغيب و الشهادة، استحضر تعاطيه مع عوالم النباتات و الحيوانات و الجمادات.
"راغب" مدندنا:
و مبلغ العلم فيه أنه بشر و أنه خير خلق الله كلهم
مولاي صل و سلم دئما أبدا على حبيبك خير الخلق كلهم
ثم أردف: طالما أنك من بلدة الإمام البوصيري يا سيدي فلابد أن تقول هذا، و هذا الذي قلته يا سيدي أعتقده و أعتنقه لكني لا أحسه و لا أشعر به، يعني لا أستطيع نقله من رأسي إلى صدري، و لا أجد له قناة من عقلي إلى قلبي.
“السكندري”: أنعتقد ما نشعر أم نشعر ما نعتقد؟
“راغب”: أنا عن نفسي اعتقد ما لا أشعر به و أشعر بما لا أعتقد فيه، فعلى سبيل المثال أعتقد بوجود الحب و لكني لا أشعر به، و أشعر بالخوف في الأماكن الموحشة المظلمة رغم اعتقادي بعدم وجود الخطر فيها.
“السكندري”: و لعلك أيضا تعتقد بوجود الظلم و تشعر به إذا وقع، و تشعر بالرحمة و تعتقد بلا شك في وجودها، أليس كذلك؟
“راغب”: بلى.
“السكندري”: إذاً فالاحتمالات الأربعة قائمة، و التلازم الزمني بين الإدراك و العاطفة ليس لازما، فقد تشعر غدا بما أدركته بالأمس، و لما يدخل الإيمان في قلوبكم، و عندها تدرك أنك لم تدرك ما ظننت أنك تدركه.
“راغب”: أوَ وارد هذا؟
“السكندري”: نعم كما حدث للفاروق رضي الله عنه بعد انتقال النبي صلى الله عليه و سلم عندما سمع الصديق رضي الله عنه يتلو قوله تعالى: ( و ما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل.. الآية ) فأدركها بغير ما أدركها به من قبل و شعر كأنها انزلت الساعة.
“راغب”: إذاً فما زال الأمل حاضرا، فحدثني عن صور الحب الأخرى ربما أدركها اليوم وأحسها غدا.
“السكندري”: عن أي الصور تريد أن نتحدث؟
“راغب”: حدثتني يا سيدي عن الحب الأم و الحب الأبوي، فحدثني عن حب الزوجة و الحب الأخوي.
“السكندري”: الحب الأخوي يتضمن جميع أنواع الحب، والمقصود به الشعور بالمسؤولية والرعايَة والاحترام والمعرفة و الرحمة إزاء أي كائن إنساني آخَر، والرغبة في نفعه و تمني الخير له... الحب الأخَوي هو حب لكل البشَر الآخَرين، و هو بدهي بطبيعة المنشأ (هو الذي خلقكم من نفس واحدة)، ففيه توجد تجربة الاتحاد بكل الناس، توجد تجربة التضامُن الإنساني، حيث يقوم الحب الأخوي على تجربة أننا جميعًا واحد.
“راغب”: هذا الكلام النظري يا سيدي الذي يتغنى به أصحاب الملل و النحل المختلفة يناقضه تاريخ الصراع البشري منذ بدء الخليقة، فأول جريمة قتل كانت قتل أخ لأخيه.
“السكندري”: الاستثناء يثبت القاعدة و لا ينفيها.
"الراغب": أي استثناء يا سيدي؟ أنا أحدثك عن تاريخ البشر منذ ابني آدم و حتى يومنا هذا.
“السكندري”: هذا لأن التاريخ فيه آفة الإعلام، تعلم المثال الشهير لاهتمام وسائل الإعلام بالرجل الذي عض الكلب و تجاهلها التام لألاف البشر الذين عقرتهم الكلاب، أفتظن أن التاريخ سيسجل لنا أخبار التعارف و الوئام بين الشعوب و القبائل و الأفراد أم أخبار التصارع و الاقتتال؟
“راغب”: و السيرة أليست جزءً من التاريخ؟ أفتندرج تحت هذه القاعدة؟
"السكندري": بلى السيرة جزء من التاريخ، لكنها لا تندرج تحت هذه القاعدة لخلوها من تلك الآفة، فكتاب السيرة و السنن نقلوا لنا حياة سيد البشر صلى الله عليه و سلم كاملة و لم يقتصروا على جوانب أو لمحات منها، و هذا ما لم يتوافر لأي شخصية تاريخية أخرى، لسبب بسيط هو أنه المثل الأعلى و الأسوة الحسنة، و لذلك وجدوا الكمال و الجمال في شخصية خير الأنام يغطيان كافة الجوانب و يبرزان في أدق التفاصيل، و مما نقلوه لنا: كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي دُبُرِ صَلَاتِهِ: " اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، أَنَا شَهِيدٌ أَنَّكَ أَنْتَ الرَّبُّ وَحْدَكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ، رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، أَنَا شَهِيدٌ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ، رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، أَنَا شَهِيدٌ أَنَّ الْعِبَادَ كُلَّهُمْ إِخْوَةٌ، اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، اجْعَلْنِي مُخْلِصًا لَكَ وَأَهْلِي فِي كُلِّ سَاعَةٍ مِنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، يَا ذَا الْجِلَالِ وَالْإِكْرَامِ، اسْمَعْ وَاسْتَجِبْ، اللَّهُ الْأَكْبَرُ الْأَكْبَرُ، اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، اللَّهُ الْأَكْبَرُ الْأَكْبَرُ، حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، اللَّهُ الْأَكْبَرُ الْأَكْبَرُ ".
ألا تجد في هذا الدعاء إشارة إلى الحب الأخوي الذي تنكره؟
“راغب”: لا أنكره و لكن أتعجب من ندرة وجوده مع كثرة مدعيه.
“السكندري”: وجوده متربط بوجود الإنسان، فحيثما وجد الناس وجد الحب الأخوي بينهم.
“راغب”: فلماذا نرى الناس من كل حدب ينسلون و لا نراه معهم يقوم حيث قاموا و لا يدور حيث داروا؟
“السكندري”: لأن أكثر الناس لا يعقلون و لا يذكرون و لا يعلمون و لا يشكرون، و لذلك كان وجوده مؤشراً لنسبة الإنسانية في البشر.
“راغب”: و طالما أن المؤشر منخفض فهذا معناه أن أكثر البشر ليسوا أناساً، الآن أدركت ماذا كان يقصد جدي رحمه الله بقوله الذي كان يكرره كثيراً: يا بني هناك ناس أولاد ناس و هناك ناس أولاد كلب.
حك "راغب" رأسه كأنما يحرك الأفكار فيها ثم أضاف: فما بال الكل إذا ذكر هذا اللون من الحب يدعيه و يحرص على إثبات أنه فيه؟
“السكندري”: ليثبت لنفسه أنه مازال يحتفظ بإنسانيته، و لكنه في الواقع يقصره على طائفته أو عرقه أو ملته، و هذا ما أشار إليه رحمة الله للعالمين، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يَضَعُ اللَّهُ رَحْمَتَهُ إِلَّا عَلَى رَحِيمٍ " , قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُلُّنَا يَرْحَمُ، قَالَ: " لَيْسَ بِرَحْمَةِ أَحَدِكُمْ فِي خَاصَّةِ صَاحِبِهِ حَتَّى يَرْحَمَ النَّاسَ كَافَّةً " و في رواية: قَالَ: " لَيْسَ بِرَحْمَةِ أَحَدِكُمْ صَاحِبَهُ يُرْحَمُ النَّاسُ كَافَّةً ".. فالمقصد أن تعم الرحمة الناس كافة.
“راغب”: و لكن الآيات و الأحاديث في وصف و إثبات الأخوة بين المسلمين أو المؤمنين دون غيرهم مكرورة و مشهورة.
“السكندري”: أنت تتحدث عن الأخوة الخاصة و أنا أحدثك عن الأخوة العامة، فكلنا لآدم و آدم من تراب، و لا يمكن أن تتحقق الإخوة بين المؤمنين قبل أن يحققوا الأخوة بينهم و بين العالمين، فكيف تصل إلى الأعلى و لما تكمل الأدنى، ألا تتأسى بالرحمة المهداة؟ ألا تتعلم من ربك الذي يرحم المؤمن و الكافر ثم يخص المؤمنين برحمة أخرى لأنه الرحمن الرحيم، و رسوله صلى الله عليه و سلم رحمة للعالمين و لكنه بالإضافة إلى ذلك بالمؤمنين رءوف رحيم.
أطرق "السكندري" برهة ثم رفع رأسه و قال: أليس للجار الكافر حق و للجار المسلم حقان و للجار ذي القربى ثلاثة حقوق؟ فلما تريد أن تحرم غير المسلمين حق الإخاء الأول؟
“راغب”: معاذ الله يا مولانا لا أريد أن أحرم أحدا شيئاً و لكني أريد أن أفهم، فما بال البغض في الله؟ ألسنا مطالبين به أيضا؟
“السكندري”: لا شك أن كل إيمان مطلوب أمامه كفر مقصود، فمن يكفر بالطاغوت و يؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى، و كذلك كل حب منشود يعادله و يكمله بغض مطلوب، و كل رحمة مبذولة تتطلب شدة مرصودة كما في الطبيب الرحيم بالمريض الشديد على المرض، و هذا المعنى لابد أنه مر عليك في كتب التزكية و في كلام الأولياء عن بغض المعصية و حب العاصين، بل لعلك تدرك أن من العاصين من يحب رب العالمين.
“راغب”: لعلك تشير يا سيدي إلى قصة شارب الخمر الذي شهد له الحبيب بحب الله و حب رسوله؟
“السكندري”: نعم.
“راغب”: و هل يجتمع الحب و المعصية؟ ألم تقل السيدة رابعة:
تعصي الإله و تزعم حبه هذا لعمري في القياس شنيع
لو كان حبك صادقا لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع
فمتى يلتقي الحب و المعصية و متى يفترقان؟
“السكندري”: الحب يا ولدي درجات و مراتب، و المعصية تطعن في كمال الحب لا في أصله، و المرء المحب قد يبتلى بالمعصية و يرجو المعافاة و لو ببذل الغالي و النفيس، أما من تمكن الحب من قلبه فلا تجد المعصية فيه مكاناً فلا تخطر عليه و لا يفكر فيها، و إن فاجأته رأى برهان ربه، و يبقى قدر الله غالب، كما سئل: الجنيد رحمه الله: أيزني الولي؟ فأجاب بقوله: و كان أمر الله قدرا مقدورا، كثير من الناس اليوم يستشنعون هذه الإجابة و يفوتهم أن أدنى الصحابة منزلة هو أفضل من أعلى الأولياء مرتبة، و قصة ماعز و الغامدية حجة للجنيد قوية.
“راغب”: المعصية المرتبطة بالضعف يمكن التعاطف مع صاحبها و تحقيق معادلة حب مرتكبها و كراهتها، أما المعصية التي تنعكس فيها تجليات الشر في الكون و ما يصاحبها من القهر و العدوان و الظلم و الإفساد التي يرتكبها ذئاب البشر و حثالتهم فأنى يتسع الحب الأخوي لهؤلاء ذوي الشر المطلق؟
“السكندري”: لا يوجد شر مطلق، الشر النسبي موجود و أقصد بالشر النسبي ما ظاهره شر و باطنه خير، حتى الشيطان ليس شرا مطلقا تخيل لو لم يوجد الشيطان كم من آيات القرآن الكريم و ما تحتويه من المعاني كنا سنفتقد، و لو كان الشيطان شرا مطلقا لاستحق العبادة لأنه على البشر في هذه الحالة أن يعبدوا الله طلبا لخيره و يعبدوا الشيطان اتقاء لشره، و هذه الازدواجية موجودة في بعض الديانات القديمة و موجودة إلى حد ما في الغرب حاليا فيجعلون من الشيطان ندا لله في القدرة و القوة و لكن في جانب الشر، منشأ الشر مرتبط بنعمة الإرادة و الاختيار و المعرفة يعني يمكنك اعتباره الأثر الجانبي لدواء الحرية أو ضريبة الإرادة و الاختيار، و هو أيضا مرتبط بحكمة الابتلاء التي بنيت عليها الحياة الدنيا و بالتالي يمكنك أيضا اعتباره ضريبة العبور إلى الآخرة و فيها سيتضح الوزن النسبي الحقيقي للشر فكل من تعرض للظلم و العذاب و البلايا و الرزايا في الدنيا بعدها بسنوات تتحول هذه الأحداث لمادة للاعتبار أو الدراسة أو حتى التندر و التفكه، و هي مهما طالت تمثل نسبة محدودة من عمر الإنسان الدنيوي، فما بالك بنسبتها لعمر الإنسان الأخروي الخالد و لذلك جاء في الحديث أن أشقى أهل الأرض عندما يغمس في الجنة غمسة واحدة ينسى كل ما مر به من الشقاء في الدنيا و يقسم أنه في النعيم منذ خلقه الله، و مع ذلك الشر أصيل في النفس البشرية في الدنيا و ليس طارئا عليها، فكل تصرفات النفس البشرية مبنية على ما ألهمها الله من الفجور و التقوى و لاحظ أن الفجور مقدم على التقوى و لذلك كانت النفس البشرية في حاجة مستمرة إلى التزكية لتغليب التقوى على الفجور.
“راغب”: كنت أحسب أن الأصل في الإنسان الخير، أليس كل مولود يولد على الفطرة؟
“السكندري”: بلى هذا من الناحية الاعتقادية الأصل فيها التوحيد و ليس الشرك و الفطرة في الإنسان الإسلام لا الكفر و لذلك لا يوجد أي دافع داخلي للإلحاد أو الشرك لأن كل إنسان لو فتش في نفسه أو في الكون فلن يجد سوى إله واحد يخاطبه بآياته دون منازع، و عليه فالإلحاد غباء و مغالطة للفطرة و الشرك تناقض يستحيل معه المنطق أو الإدراك لأنه طالما آمنت أن هناك إله قادر رازق مدبر حكيم فوجود أي شريك معه هو اتهام له بالعجز و بالتالي اسقاط استحقاق العبادة عنه، أما من الناحية السلوكية فما ذكرت لك من اجتماع الأصلين و تقديم الفجور على التقوى.
“راغب”: هذا يفسر وجود الخير و الشر في المسلمين و غير المسلمين.
“السكندري”: وصف غير المسلمين بالخير يندرج تحت قاعدة خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا، و كل من لم تصله الدعوة أو وصلته بطريقة مشوهة يدخل تحت قاعدة و ما كنا معذبين حتى نبعث رسولا و يعتبر من أهل الفترة، و هذا يعني أن الجنة قد تحتوي أعدادا هائلة ممن يعدون في الدنيا كفارا.
“راغب”: الآن أدركت لماذا أصبحت خطبة الجمعة عبءً كبيراً على كثير من المسلمين، لأنها في الغالب الأعم تتبنى خطاباً لا يعزز الحب الأخوي لا على المستوى الإنساني و لا حتى على المستوى الإسلامي.
“السكندري”: الخطاب الذي احبذه لخطبة الجمعة هو الخطاب الكوني أو الأممي، الأول يسع العالمين فيقبله المسلمون و غير المسلمين، و الثاني يسع الأمة بأسرها فيقبله الشيعي و السني، و لا ينفر منه الصوفي و السلفي.
“راغب”: بهذا يا سيدي لن تخرج خطب الجمعة عن إطار الحديث عن مكارم الأخلاق و فضائل مكة و المدينة.
“السكندري”: غير صحيح، الأطر المتاحة لهذا النوع من الخطاب كثيرة و واسعة، و لكن الأزمة في الخطباء.
“راغب”: و حتى لو توافر هؤلاء الخطباء لن تعدم من يرفض و ينفر و من يطعن و يقدح في هذا الخطاب الأخوي الكوني الأممي.
“السكندري”: نعم و لكن هذا لا يعني أن هذا النوع من الخطاب معيب و إنما يعني أن العيب منهم، كما قال صاحب البردة:
لا تعجبن لحسودٍ راح ينكرهــــــــــا تجاهلاً وهو عين الحاذق الفهـــــم
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد وينكر الفم طعم الماءِ من ســــــقم
و ما أن سمع "راغب" البيتين حتى شارك "الحكيم" ترنمه، فقال معه:
مولاي صلــــي وسلــــم دائمـــاً أبــــدا علـــى حبيبــــك خيــر الخلق كلهـم
ثم أستأنف "السكندري" قائلا: إذا لم تكن خطبة الجمعة مجمعة لا مفرقة فكيف يظن الإمام و المأموم أنهم قد أدوا الفريضة ! لست أدري لماذا يصر المصلون على جعل جمعتهم مجمعة للأبدان مفرقة للقلوب؟
“راغب”: أترانا يا سيدي لو التزمنا بهذا النوع من الخطاب في الجمعات و الأعياد سيرتفع الخلاف و تختفي الشحناء، و يحل الوئام و الإخاء؟
“السكندري”: أتفهم أن الخلاف قد لا ينحسم في الدنيا أبداً، و لكن هل يعني هذا أنه لا مناص مما يترتب عليه من المآسي؟ و لا مجال لتقليص دائرته التي لا تكف عن الاتساع بمرور الأجيال؟
ثم أردف مجيبا على السؤال الذي طرحه: أحسب أن الأمرين كليهما قابلين للتحقيق – تجاوز الحالقة أي فساد ذات البين التي تحلق الدين و تقليص الدائرة أي دائرة الشقاق- و لكنهما يتطلبان أرضية نادرة الوجود في هذا الزمان، إذا وقفت الأمة عليها أدركت المراد: وحدة الظاهر و سماحة الباطن، فلن يصوم المسلمون في يوم واحد حتى يكونوا أمة واحدة لها مرجعية ظاهرة، و لن تَصْفُ النفوس حتى تتسع لتاريخ و تراث المسلمين كلهم لا لتاريخ طائفة منهم أو تراث فئة منهم. يظن البعض أن ابن عربي بعيد كل البعد عن نهر التراث، و يظن أخرون أن ابن تيمية خارج كل الخروج عن محيطه، و الحق أن التراث لا يكتمل إلا بهما.
“راغب”: ليس لدي غضاضة في تصور الحب الأخوي على المستوى الفكري و لا أجد تناقضا بين احترام النتاج الفكري لابن تيمية و لابن عربي، بل أظن أن ابن تيمية نفسه أثنى على بعض ما كتبه ابن عربي و ذم بعضه مما يدل على إمكانية وجود مساحات مشتركة بينهما و أنهما ليس على طرفي النقيض كما يظن البعض، و بحر الحب الأخوي يتسع لكليهما، لكن الغضاضة عندي على المستوى السلوكي فما زلت لا أستطيع التعاطف مع المجرمين و المفسدين و لا أرى البحر يسعهم أبدا.
نظر "السكندري" نظرة ثاقبة لـ "راغب" شعر أنها تنفذ إلى بقعة عميقة في كيانه لم يبلغها هو نفسه من قبل ثم قال: تعلم قصة الرجل الذي قتل مائة نفس، أليس كذلك؟
أومأ "راغب" برأسه أن بلى، فأكمل "السكندري" قائلا: عندما سمعت هذه القصة للمرة الأولى ألم تشعر بالتعاطف معه، و تمنيت أن تفوز به ملائكة الرحمة لا ملائكة العذاب؟
أومأ "راغب" مرة أخرى بالإيجاب.
“السكندري”: لما؟ لمَ رجوت له الرحمة و قد قتل مائة نفس؟
“راغب”: لأنه جاء تائبا مقبلا بقلبه على الله.
“السكندري”: أي أنك تبنيت منطق ملائكة الرحمة، فماذا لو أدخلت في دائرة اعتباراتك ضحايا إجرام ذلك الرجل، الأنفس التي أزهقت بغير حق، لعل منهم من قتله شنقا أو طعنا أو حرقا أو غرقا أو سحلا أو دهسا، و ربما منهم من قتله أمام ابنه أو ابنته، و قد يكون منهم من له أبوين شيخين كبيرين في أمس الحاجة إليه، فانظر كم من القلوب دميت و كم من الظهور قصمت و كم من الكواهل أثقلت و كم من الأرواح اعتصرت، و انصت إلى صرخات اليتامى و نشيج الأرامل و نحيب الأمهات الثكالى و زفرات الآباء المكلومين، أما زلت عند رأيك؟
شعر "راغب" بغصة في حلقه و حرقة في قلبه و هو يستحضر كم الأحزان و المآسي الذي تسبب فيه هذا الرجل، و مقدار الظلم و القهر و الكمد الذي وقع على ضحاياه و ذويهم فابتلع ريقه بصعوبة ثم قال: بل أجدني الآن أكثر ميلا لمنطق ملائكة العذاب، فهو لم يفعل خيرا قط.
“السكندري”: القصة لم تتغير فما الذي غير اتجاهك؟
“راغب”: زاوية الرؤية، كنت أراها من وجه نظر القاتل و أضع نفسي مكانه، فأصبحت أراها من وجهة نظر المقتول و أضع نفسي مكانه و مكان ذويه.
“السكندري”: الحب الأخوي مبني على قاعدة حب لأخيك ما تحب لنفسك، و لذلك عندما أدخلت الرجل في تلك الدائرة قدمت اعتبار التوبة و الاقبال على الله على الاعتبارات الأخرى و شعرت بالتعاطف معه و عندما أخرجته منها رأيته بغير العين الأولى.
“راغب”: و ضحاياه ألا يستحقون أيضا أن أحب لهم ما أحب لنفسي؟
“السكندري”: كلما اتسع علمك اتسع حلمك، و كلما اتسع صدرك اتسع بحرك، انظر الآن من الزاويتين معا، و ضع نفسك مكان الطرفين، و تعلم من مدعي النبوة طليحة بن خويلد بعدما أسلم، ثُمَّ خَرَجَ مُحْرِمًا بِالْحَجِّ، فَقَدِمَ فِي خِلافَةِ عُمَرَ مَكَّةَ، فَلَمَّا رَآهُ عُمَرُ ، قَالَ: يَا طُلَيْحَةُ، لا أُحِبُّكَ بَعْدَ قَتْلِكَ الرَّجُلَيْنِ الصَّالِحَيْنِ عُكَّاشَةَ وَثَابِتِ بْنِ أَقْرَمَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ رَجُلَيْنِ أَكْرَمَهُمَا اللَّهُ بِيَدَيَّ، وَلَمْ يُهِنِّي بِأَيْدِيهِمَا، وَمَا كُلُّ الْبُيُوتِ تَنْبُتُ عَلَى الْحُبِّ وَلَكِنْ صَفْحَةٌ جَمِيلَةٌ، فَإِنَّ النَّاسَ يَتَصَافَحُونَ عَلَى السِّنَانِ.
“راغب”: أيتطلب الحب الأخوي أن أحب الطغاة و السفاحين؟ أيتطلب أن أحب أمثال ستالين و موسوليني و شارون؟
“السكندري”: لا.. لا يتطلب هذا.. كل ما في الأمر أن عليك أن تفرق بين المجرم حال تماديه في غيه و حال رجوعه إلى الجادة، و أن تضع في الاعتبار أن الله يغير الأحوال بين عشية و ضحاها، ألم يكن عمر بن الخطاب و عمرو بن هشام من أشد الكفار على الإسلام؟ فلما أصاب دعاء الرسول صلى الله عليه و سلم أحدهما و لم يصب الأخر، أصبح الأول فاروق هذه الأمة و أضحى الثاني فرعونها.
“راغب”: يعني أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما، و أبغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما.
"السكندري": نعم فالحب الأخوي لا يقتضي أن تحب المجرمين و لكن يتطلب أن تكون لديك القابلية لحبهم إذا تابوا عن إجرامهم.
“راغب”: فما سمات هذا النوع من الحب يا سيدي؟
“السكندري”: الشوق و الأنس، و الاحترام و التعاون، و الحلم و الوقار، و الأخذ و العطاء، و تآلف الأرواح و تلاقح الأفكار، و تبادل الخبرات و تجاوز العثرات، و رفع الكلفة.
“راغب”: حسبت أن الإخاء قائم على الإيثار فلا مجال للأخذ فيه.
“السكندري”: الإخاء قائم على التفاعل و هذا أروع ما فيه، فالمؤاخاة تخرج منك أعمق الأفكار و أزكى المشاعر و أرقى التصرفات، بمجرد المجالسة و التزاور و التعامل الطبيعي مع الأخ أو الصديق، و هذا ما تناله منه أن تتعرف داخلك على أفكار عميقة و تتذوق مشاعر رقيقة و تسلك مسالك دقيقة و كل منها له حلاوة و أعلاها من وجدها ذاق حلاوة الإيمان.
“راغب”: و هكذا يتدرج الإنسان في مدراج الحب مذ يولد، و يتنقل بين ألوانه و أشكاله، فمن حب الأم يتذوق الرحمة و الفضل، و من حب الأب يتعرف على الحق و العدل، و من الحب الأخوي يتنعم بالأنس و الصدق، فماذا عن حب الأزواج؟ ما له و ما فيه؟
“السكندري”: تسأل عن حب الأزواج أم حب الرجال للنساء؟
فكر "راغب" قليلاً ثم قال: عن كليهما أسأل يا سيدي.
“السكندري”: أنحب ما نشتهي أم نشتهي ما نحب؟
“راغب”: أنا أعرف الشهوة يا سيدي و لا أعرف الحب، فكيف أفرق بينهما؟
"السكندري" مشيرا إلى الشمس: دعنا نودع الضياء و هو يجري إلى مستقره ثم نصلي بجوار صاحب البردة فمسجده ليس ببعيد، ثم استضيفك في بيتي المتواضع لنكمل الحوار و نجيب السؤال.
راقب "راغب" و "الحكيم" ذلك المنظر المهيب الذي يلخص حقيقة الظاهر و الباطن فما تراه ببصرك من غرق الشمس في اليم تدرك ببصيرتك أنه ضرب من المستحيل، و الفصل بين الليل و النهار بهذا المشهد البديع الذي يتكور فيه الليل على النهار و النهار على الليل أبلغ تصوير للتكامل و التقابل بين جنسي البشر، فما أشبه المرأة بالليل و الرجل بالنهار، المرأة بسكونها و سحرها و رقة نجومها و الرجل بكده و سعيه و قوة إشراقه.
وصل الرفيقان إلى المسجد بعد أن فرغ الناس من صلاتهم فصليا معا في جماعة ثانية و قرأ “السكندري”: (و الليل إذا يغشى و النهار إذا تجلى و ما خلق الذكر و الأنثى إن سعيكم لشتى.. ) و عندما فرغا من صلاتهما تناهى إلى سمعيهما أبيات لصاحب البردة تنبعث من حلقة في احدى زوايا المسجد:
فلا ترم بالمعاصي كسر شهوتهــــــــــا
إن الطعام يقوي شهوة النَّهـــــــــمِ
والنفس كالطفل إن تهملهُ شبَّ علــــى
حب الرضاعِ وإن تفطمهُ ينفطــــمِ
فاصرف هواها وحاذر أن توليــــــــــه
إن الهوى ما تولى يصم أو يصـــــمِ
جلس الرفيقان في شرفة منزل الحكيم المطلة على الشاطئ، و أشعل المضيف مصباحا على الطاولة و تناول باليد الأخرى كتابا من وسط عدة كتب كانت عليها و قال لضيفه:
هذا كتاب بعنوان "عصر القرود" للدكتور مصطفى محمود رحمه الله، سأقرأ لك منه بعض الفقرات تتناول طرفا مما كنا نناقشه ثم نكمل حوارنا إن شاء الله.
“راغب”: على الرحب و السعة.
استبدل الحكيم نظارات القراءة بنظارات المسافات ثم أخذ في القراءة بصوت عميق هادئ، فقرأ ما يلي:
عند بعض الناس الحب هو الشهوة عينها، لأنهم يرون دائما أن حبهم للمرأة يتداعى إلى اشتهائها، و لأنهم يرون أن الحب و الشهوة يلتقيان في لحظة الجنس فيذوبان في سبيكة واحدة و كأنهما معدن واحد ذو وجهين، كل وجه يقتضي الآخر بالضرورة، و قد رأينا كثيرا من المفكرين الماديين يقولون نفس الكلام، و رأينا رجلا مثل فرويد يقول: بأن الحب يخرج من ينبوع الجنس، بل إنه عين ذلك الينبوع.. و الفكرة خاطئة و هناك التباس. و قد نشأ الالتباس من هذه اللحظة التي يتداعى فيها حب الرجل للمرأة إلى الشهوة.. لحظة تذوب الحوافز و تتداخل الدوافع و يلتقي النزوع العاطفي بالنزوع الغريزي البهيمي، في ذلك العناق الملتهب الذي يهدف إلى الانجاب و التكاثر. و نسوا أنها لحظة خاطفة لا تلبث أن تنتهي بانتهاء غرضها، وتعود الحوافز فتفترق و يمضي كل منها إلى طريق مضاد، النزوع العاطفي الذي حركه الجمال نراه يتجاوز نقطة الشهوة و يتخطاها في صعود إيجابي، و خطى خلاقة نحو المودة و الرحمة و التحرر النفسي و الانعتاق من الظلمة البهيمية، و نحو الانطلاق من ربقة الغريزة إلى أفق العقل و الوجدان و الصداقة العميقة.. في حين نرى النزوع الشهواني ينزل إلى طريق عكسي هابط ماضيا إلى تجديد اللذة بالسعي إلى مثيرات شهوانية جديدة، و موضوعات جنسية جديدة، بعد أن استشعر الضجر من الموضوع الأول و بعد أن أدركه الشبع، محاولا أن يجدد الطبق و يعدد المأكولات، ثم يعود فيشبع فيقلب المائدة و يبحث عن غيرها، و قد يهبط إلى درك الشذوذ و الانحراف سعيا وراء مثيرات وهمية جديدة، و هكذا يهبط من ظلام إلى ظلام أشد في نزوع شهواني إلى محض الشهوة و بلا هدف و إنما لمجرد قصور ذاتي و آلية مادية مودعة في الحشوة الطينية، فذلك طريق هابط إلى الغلظة و الآلية و العبودية و الظلمة، في حين أن طريق الحب طريق صاعد إلى التحرر و الانعتاق و الانطلاق و النورانية و المودة و الرحمة، و إنما جاء الخلط بين الطريقين بسبب ذلك اللقاء بين النزعتين عند هدف مشترك في لحظة خاطفة، فخيل للناظر في أعماق النفس أنه أمام نوعية واحدة من الشعور منبثقة من عين واحدة، و الحقيقة أننا أمام نوعيتين متناقضتين تنبع كل منهما من عين مختلفة، الشهوة تنبع من عين طينية مادية، و الحب ينبع من عين نورانية صافية علوية.
و لهذا نرى الشهوة يمكن أن تشتعل بدون حب بل أحيانا مع الكراهية، و أحيانا نرى الرجل يطلب إشباع شهوته بالثمن، و نرى المرأة تزاول شهوتها بالحرفة، و كلها أمور مستحيلة في حالة الحب، فالحب لا يشترى و لا يمكن أن يكون حرفة أو تجارة، و لا يصلح فيه تمثيل أو ادعاء.. ثم إن لحظة الشهوة تنسى بعد دقائق على حين نرى ذكريات الحب تلازم صاحبها سنوات عمره.
رفع "السكندري" بصره من صفحة الكتاب إلى وجه جليسه ثم قال: إلى هنا ينتهي الكلام المنقول فانظر يا صاح ما تقول؟
“راغب”: ملخص الكلام هو وصف الصراع الأزلي بين قبضة الطين و نفخة الروح، الحب إيثار وعطاء و الشهوة أثرة و استلاب، الحب قرين المودة و الرحمة، و الشهوة قرينة العنف و القسوة، الحب يقنع بالكلمة الطيبة و اللمسة الحانية و النظرة الشاكرة، و الشهوة لا تقنع و لا تشبع أبدا.
“السكندري”: نعم.. فلا يملأ عين ابن آدم إلا التراب.
“راغب”: و لكن كل ما ذكره صاحب الكتاب لم يُزل عنائي و لم يرفع بلائي، ألم يذكر – و أراه صادقا – أن الحب لا يشترى و لا يمكن أن يكون حرفة أو تجارة و لا يصلح فيه تمثيل أو ادعاء؟ فأين السبيل بين الحب الذي لا يتقد عندي أبدا و بين الشهوة التي لا تنطفئ أبدا؟
“السكندري”: لذلك كان حب النساء أشق أنواع الحب، الأب و الأم و الأخ يسهل إرضاؤهم، و المرأة رضاها لا يرام، حب المرأة يقلب كيان الرجل بالكلية و قد يذهب بالعقل، فلم يحدثنا التاريخ مرة عن مجنون الأم أو الأب أو الأخ، لكن لم يزل يحدثنا عن مجنون ليلى و لبنى و عزة و عبلة.
“راغب”: و لم يرافق الحب الشقاء؟ و لماذا يقترن بالجنون؟
“السكندري”: يصاحب الشقاء الحب حتى لا ينسى المحب أن حبه هناك و ليس هنا، و أن نقاء الحب محله دار البقاء لا دار الأكدار، و من غفل عن حقيقة الجمال المطلق من وراء الجمال الظاهر في محبوبه و انشغل بهذا الجمال الزائل و توقف عنده كان كمن غرق في تقبيل نحاس الضريح في حين أن المحبوب الحقيقي هو روح الحسين رضي الله عنه على سبيل المثال الذي أورده صاحب الكتاب، و تلك وثنية قد يسقط فيها العاشق و لا يدركها.
“راغب”: فلماذا يقترن الحب بالجنون؟
“السكندري”: حتى لا يركن البشر إلى العقول في الوصول، ففي طريق الحب ما يقطعه القلب في سِنة يقطعه العقل في سَنة، و الصادقين من المحبين لم يكن جنونهم نابعا من الحماقة و البله و إنما غاية الأمر أنهم نجحوا في إخراج العقل من ساحة لا ناقة له فيها و لا جمل، ثم أسر السكندري كلمة قال فيها: اذكر الله حتى يقال مجنون.
“راغب”: يا للنساء و حبهن.. ما رأيت أذهب للب الرجل الحازم من إحداهن.
“السكندري”: حبهن نار و جنة، رحمة و قسوة، مودة و جفوة، سكن و شهوة، ذكرتني بقصة الشاعر الذي مر بنسوة فأعجبه شأنهن و شعر بفتنتهن فجعل يقول:
إن النساء شياطين خلقن لنا... نعوذ بالله من شر الشياطين
فأجابته واحدة منهن وجعلت تقول:
إن النساء رياحين خلقن لكم... وكلكم يشتهي شم الرياحين
ضحك "راغب" قائلا: ما أراهما إلا صادقين، ثم أردف: فما جواب سؤالكم أنحب ما نشتهي أم نشتهي ما نحب؟
“السكندري”: جواب اللاحق كجواب السابق، كل احتمال من الأربعة وارد، لا جرم أننا نحب ما نشتهي فقد زين لنا حب الشهوات، و بحكم الطبع نشتهي ما نحب، و كثيرا ما نشتهي ما لا نحب و نحب ما لا نشتهي.
“راغب”: الاحتمالان الأولان واضحان مفهومان، و الاحتمالان الآخران يحتاجان مزيد بيان.
“السكندري”: الفاصل الفارق هو التوافق مع ما نعتقد، فطالما نحن في دائرة الشرع فما أعظمها من نعمة أن يوافق الحق الهوى كما في حديث و في بضع أحدكم صدقة، و ما أحسنها من منة أن نحب ما لا نشتهي ابتغاء رضاه، و لقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه، يعني أننا نحب الشهادة رغم بغضنا للموت، و إذا دخلنا دائرة النفس الأمارة أجبرتنا على اشتهاء ما لا نحب من المعاصي و زينتها لنا و عندها يبقى لنا حظنا من جهادها و ما أكرمها من نعمة أيضا.
“راغب”: جهاد النفس و حب التضحية لدرجة تمني الموت خصلتان تميزان المؤمنين فماذا عن غيرهم؟
“السكندري”: بل هما خصلتان تميزان البشر جميعا، فلا يكون الإنسان إنسانا إلا إذا كان يقاوم ما يحب و يتحمل ما يكره، و بقدر ما تنتقص هاتان الخصلتان بقد ما تنحط إنسانية الإنسان.
“راغب”: و كلا الخصلتين تجتمعان في حب النساء، أليس كذلك؟
“السكندري”: بلى و لكن ليس كذلك فحسب، فحب النساء شأنه شأن ألوان الحب الأخرى كلما أضفت لها لونا كلما ازدادت كمالا و جمالا، فإذا أحببت في زوجتك الزوجة فحسب تنعمت بلون واحد من الجمال فإذا وجدت فيها الأم و الأخت و الصديقة و الحبيبة تنعمت من الجمال بألوان عديدة فترات مديدة.
“راغب”: و كذلك الحال في حب الأم و الحب الأبوي؟
“السكندري”: بلا شك، فالأب الذي يقوم بدور الأب فقط لا يقارن بالأب الذي يلعب دور الأب و الأخ و الصديق و الشيخ و المعلم و هكذا.
“راغب”: نعم.. و هكذا نفهم وصية الإمام علي رضي الله عنه (لاعبه سبعا و أدبه سبعا و صاحبه سبعا) ما أعمقها من حكمة.
“السكندري”: الحب يعلم الجمال، و معرفة الجمال طريق الكمال، وطريق الوصول للكمال يعلم الحكمة، و من يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا.
“راغب”: إذا ما يميز حب النساء عن غيره من أشكال الحب هو ارتباطه بالجمال.
“السكندري”: نعم و يتجلى فيه الجمال في صور متعددة من السكن و المودة و الرحمة إلى العشرة الطيبة إلى التفاعل و المشاركة إلى نظم الشعر و نثر الحكمة.
“راغب”: و هكذا تتنامى و تتكامل دائرة الحب في الحياة البشرية، من حب الرحمة و الفضل المتمثل في الأم إلى حب الحق و العدل المتمثل في الأب إلى حب الأنس و الصدق المتمثل في الأخ إلى حب الحسن و الجمال المتمثل في الزوجة.
"السكندري" مكملاً: إلى حب الكمال و الجلال و الجمال المتمثل في خير الأنام عليه أفضل الصلاة و أزكى السلام و هو بابك الأوحد لحب الحنان المنان.
“راغب”: عادة ما تصوغ الشعوب تصوراتها عن الموت و الحياة و الحب و الكره و غيرها في حكاياتها و قصصها و أساطيرها، فهل تجد في أسطورة إيزيس و أوزوريس الشهيرة عندنا كأقباط انعكاس لطبيعة الحب في تراثنا؟
“السكندري”: لا.. لا أجد ذلك، لأنني لا أجد في الأسطورة الشهيرة قصة حب بقدر ما هي نظرية سياسية، تنتصر للملكية و تدين الفوضى، و تم اختزال دور إيزيس فيها في البحث عن عضو التخصيب ليستمر الملك و ينتقل للوريث الشرعي.
“راغب”: إذا فالسياسة أفسدت حتى الحب.
“السكندري”: إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها و جعلوا أعزة أهلها أذلة و كذلك يفعلون. فما بالك بقرية الحب.
“راغب”: صدقت يا سيدي.
“السكندري”: هل اكتفيت؟
“راغب”: اكتفيت و ما ارتويت، و مازال لي من اسمي نصيب.
"السكندري" باسماً: "إنا إلى الله راغبون".
“راغب”: أجل و الله.
“السكندري”: إن أحببت أعدنا الكرة و إن أحببت دللتك على حكيم أخر قد يجعلك تنظر للصورة من زاوية أخرى.
“راغب”: بل دلني و أنا لك من الشاكرين.
“السكندري”: عليك بالحكيم الفارسي.
* * *