AELTOHAMY

Share to Social Media

الفصل الخامس
الحكيم اليماني



"تريم" و ما أدراك ما "تريم"، مدينة يمنية يقطن فيها "الحكيم اليماني"، تقع في محافظة حضرموت وتشتهر بكثرة مساجدها حيث يبلغ عددها نحواً من ثلاثمائة و ستين - على عدد أيام السنة - وكذا تشتهر بالعلم وعلماء الدين، ويوجد بها كثير من المعاهد العلمية والأراضي الزراعية والبساتين، سميت باسم بانيها - تريم بن حضرموت - في القرن الرابع قبل الميلاد، و قيل غير ذلك.

قص "راغب" قصته على "الحكيم اليماني"، و أخبره عن سفره و ترحاله، و ختم كلامه بقوله: فما زادني السفر إلا نصبا، و لا العلم إلا حيرة، و لا الورد إلا عطشا، و ما زلت أرجو أن أقطف من الحب ثمرة.

"اليماني" بلهجة أهل اليمن المحببة: تقطف ثمره و لم تحذر خطره؟

“راغب”: و هل للحب من خطر؟ و هل فيه من ضرر؟

“اليماني”: بل أخطار و أضرار، و لكنه مع ذلك أحلى الأقدار.

استعاد "راغب" في نفسه لحن القصيدة المشهورة:
و برغم الريح و برغم الجو الماطر و الإعصار فالحب سيبقى يا ولدي أحلى الأقدار
ثم قال: و أين يكمن خطره، و متى يقع ضرره؟

“اليماني”: ألم تر كم من الجرائم ترتكب باسمه، و كم من دماء سالت بسببه؟

“راغب”: يا سيدي و كم من الجرائم ترتكب باسم الحرية، و كم من الكوارث حلت بسبب العلم، فهل المشكلة في البشر أم في تلك القيم؟

“اليماني”: المشكلة في تعاملات البشر مع تلك القيم، و إصرارهم على تسخيرها لأهوائهم، و الانفلات منها بها، فإذا نظرنا إلى مسألة الحب من هذه الزاوية فيمكنك أن تقول إن مشكلة الهوى في الهوى، هنا مكمن الخطر، و هنا موقع الضرر.

“راغب”: إذا صدقت تلك القاعدة على كل القيم التي أساء الناس استخدامها فكيف تصدق على الحب، و هل الحب إلا الهوى؟

“اليماني”: تلك آفة البشرية، ظنهم أن بإمكانهم و من حقهم استخدام القيم، و أن التفاوت بينهم إنما يكون في الإحسان أو الإساءة في الاستخدام، يا عزيزي القيم تَستخدم و لا تُستخدم، مجرد إرادة استخدام القيم ينطوي على الرغبة في تطويعها و تحقيق المكاسب من ورائها، أخبرني بربك كيف يفلح من يريد أن يكون العدل أو الحق خادما له؟

“راغب”: صحيح كيف لم أنتبه لهذا المعنى من قبل؟ الناس بلسان المقال يقولون: اللهم استخدمنا و لا تستبدلنا و لسان حالهم يوحي بأنهم يريدون أن يستخدموا ربهم لتحقيق مأربهم، و تكتمل الصورة القاتمة بخروج متبجحٍ معتوه يصيح متسائلا: هل الرب خلقنا أم نحن من خلقناه؟

“اليماني”: لا شك أن كثيرا من الآلهة التي عبدها البشر كانت من خلقهم، و تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

“راغب”: لطفا يا سيدي نعود إلى قضية الحب، و هل الحب إلا الهوى؟

“اليماني”: الحب هوى الروح فإذا جعلته هوى النفس فسد، و لذلك قلت لك إن مشكلة الهوى في الهوى، أي أن مشكلة الحب في الأهواء حين تتلاعب بالمحبين و تعصف بهم، سواء أكانت تلك الأهواء نابعة منهم أو من حاسديهم.

“راغب”: و لكن لماذا يحسد الناس المحبين؟

“اليماني”: يحسدون المحب لأنه يبصر ما لا يبصرون، و يعرف ما لا يعرفون، و يشعر بما لا يشعرون، و لأنه وهب قلبه لما خلق له فحقق الغاية من وجوده.

“راغب”: هذا عن المحب فماذا عن المحبوب؟

“اليماني”: المحبوب مرآة حبيبه، و يرون فيه ما لم ينالوا فيحسدونه، كما حسد إبليس أول البشر، و حسدت اليهود سيد البشر.

“راغب”: و كيف يسير المرء في طريق الحب بلا خطر؟

“اليماني”: الحذر يجنبك الخطر، و الصبر يمنع عنك الضرر.

“راغب”: مما الحذر؟ و على ما الصبر؟

“اليماني”: الحذر مما يعكر صفوه، و الصبر على ما يصيبك بسببه.

“راغب”: و ماذا يمكن أن يصيب المرء بسبب حبه؟

“اليماني”: انظر ما أصاب يوسف عليه السلام من الحب، أحبه أبوه فحسده أخوته فكادوه، و في الجب ألقوه، و بالثمن البخس باعوه، و أحبته امرأة العزيز فدعته إلى الفجور، فلما استعصم اتهمته زورا و سجنته سنينا.

“راغب”: العجيب أن الناس يحسدون المحبوب و لا ذنب له، و ما أساء يوسف عليه السلام لإخوته حين أحبه أباه، و أنا إذا خيرت بين أن أكون محبا أو أكون محبوبا لاخترت أن أكون محبا.

“اليماني”: و لما؟

“راغب”: يحسد الناس ليلى على حب قيس لها، و أنا أغبط قيسا على حبه لليلى، فلولا حبه لها لما ترقى في المعاني، و لما أبدع في القصائد.

“اليماني”: المحب يكابد الصعائب، و المحبوب ينال الكرامات و العطايا و الرغائب، و الأجمل و الأكمل و الأفضل أن تكون محبا و محبوبا، و طالبا و مطلوبا، و سالكا و مجذوبا.

“راغب”: و ماذا غير الحسد و الكيد و الاتهامات الباطلة و السجن، أهناك مصائب أخرى غير ذلك؟

“اليماني”: ويحك و ماذا تريد أكثر من ذلك.

“راغب”: أريد أن أكون على بينة من كل أضرار الحب و أخطاره.

“اليماني”: ها قد عرفت أمهات الأضرار، و بقي أن تعرف أمهات الأخطار.

“راغب”: قال أحدهم لو أني أعرف أن الحب خطير جدا ما أحببت، و أنا أحسب أن خطره يزيد من جماله، فالخطر هنا جاذب لا مانع.

“اليماني”: لا تتعجل بالحكم قبل معرفة الخبر، و لا تتمنى الحب قبل معرفة الخطر، أنت اليوم تتكلم من منطلق كل ممنوع مرغوب، وربما غدا تتكلم من منطلق لو عرفتم الغيب لاخترتم الواقع.

“راغب”: فأخبرني عن الأخطار لعلي أحذرها.

“اليماني”: إياك أن تحب بالعقل، فالحب نعيم الروح و جحيم العقل.

“راغب”: هذه ليست بالهينة.

“اليماني”: و إياك من إساءة الأدب مع من تحب أو في حضور من تحب.

“راغب”: و هذه أشق من اختها.

“اليماني”: و إياك من الظلم في الحب.
“راغب”: الظلم لمن؟

“اليماني”: الظلم للحب أو للمحبوب، و الظلم من أجل المحبوب.

“راغب”: و هذه ثالثة الأثافي.

“اليماني”: و إياك و الدعاوى الكاذبة.

“راغب”: و من أين تأتي تلك الدعاوى يا سيدي؟

“اليماني”: من الشكوك و الظنون و الأوهام الساترة و الأماني الخادعة.

“راغب”: لنعد إلى البداية يا سيدي و لنأخذ الأخطار واحدا واحدا، لماذا ترى أن الحب جحيم العقل؟

“اليماني”: لأنه ليس من شأن العقل أن يحب، و إن أحببت بالعقل فقد قيدت الحب بعقال، و جعلته عملية حسابية، العقل لا يستطيع أن يشعر، و لا يمكنه أن يفسر أحوال المحبين و مواقفهم.

“راغب”: أليس الاستحسان العقلي نقطة البداية، عندما يستحسن العقل صفات شخص ما و يدرك ما فيها من الجمال و ما في تصرفاته و أفعاله من الجودة و الرقي فإن القلب تلقائيا يميل إليه و يهواه، أكذلك هو؟

“اليماني”: لا.. ليس كذلك.. العقل على سبيل المثال يستحسن صفة الذكاء فهل كل الأذكياء جديرون بالحب؟ و العقل يستحسن صفة القوة لكن القلب يميل إلى الضعفاء، أليس كذلك؟

“راغب”: المسألة ليست في صفة بعينها و لكن في المحصلة النهائية لصورة هذا الشخص أو ذاك الشيء هل هي إيجابية فتستحسن أم سلبية فتستقبح.

“اليماني”: قديما سئلت امرأة عربية عن أحب أبنائها إليها فقالت: الصغير حتى يكبر، و المريض حتى يشفى، و الغائب حتى يحضر، و قديما قال الإمام علي رضي الله عنه: لو كان الدين بالعقل لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره، و أنا أقول لك: لو كان الحب بالعقل لكان الكبير و الصحيح و الحاضر أولى بالحب لنفعهم لأمهم و حمايتهم لها، و هذا المنطق هو ما أوقع إخوة يوسف عليه السلام في الشر و كاد أن يهلكهم حين قالوا: ليوسف و أخوه أحب إلى أبينا منا و نحن عصبة، إن أبانا لفي ضلال مبين... فأيهم كان في الضلالة حينها من وجهة نظرك يعقوب عليه السلام حينما أحب بقلبه أم إخوة يوسف عندما حكموا على الحب بعقولهم؟

“راغب”: هذا الكلام أفهمه على المستوى النظري أما في الواقع العملي فأجدني أعقل بقلبي و أشعر بعقلي، و في النهاية فالقلب و العقل و الروح و النفس كلها تعبر عن الجوهر أو الذات، أي أن العقل عقلي و القلب قلبي و الروح روحي و النفس نفسي فهي أنا و أنا هي.
"اليماني" منشدا:
هلا هلا هيّا اطوى الفلا طيّا وقربي الحيّا للنازح الصب
جلاجلٌ في البيدْ شجيّةُ الترديدْ كرنّة الغِّريدْ في الفَنن الرَّطب
أناح أم غنّى أم للحمَى حنّا جُلَيجلٌ رنّا في شُعَب القلب

هلا هلا سيري وامضي بتيسير طيري بنا طيري للماء والعشب
طيري اسبقي الليلا وأدركي الغَيلا العهدَ من ليلى ومنزلَ الحبِّ
بالله يا حادي فتِّشْ بتْوباد فالقلب في الوادي والعقلُ في الشِّعب

ثم استرسل "اليماني" قائلا: القلب في الوادي و العقل في الشعب، صدقت يا شوقي. ثم تطلع إلى عيني محاوره و أضاف: نحن في واقع طغت فيه المادية فأصبح من الصعب علينا التعامل مع حواسنا الباطنة، و لذلك سأضرب لك مثلا بالحواس الظاهرة، فالبصر بصرك أيضا و السمع سمعك، و لكن هل يعني هذا أنه يمكنك أن تسمع ببصرك و تبصر بسمعك؟ و هل يمكنك أن تشم بلسانك و تتذوق بأنفك؟ نعم كلها حواسك أنت و لكن لكل منها وظيفته، و كل ميسر لما خلق له، و كذلك حواسك الباطنة أو اللطائف التي اودعها اللطيف فيك، العقل و القلب و النفس و الروح، و لكنك لا تجيد التعامل معها فتختلط عليك الأمور.

“راغب”: هذا أول الأخطار فماذا عن ثانيها؟ حذرتني يا سيدي من إساءة الأدب مع المحبوب أو في حضوره، فهل تذهب إساءة الأدب بالحب؟

“اليماني”: إساءة الأدب البسط منبعها، و مظنة رفع الكلفة مدادها، و هتك الستر و كشف السر نتاجها.

“راغب”: و هل هناك كلفة بين المحبين؟

“اليماني”: الحقيقة أنه ليس هناك كلفة بين المحبين، و كما قالوا قديما إذا اكتملت الألفة ذهبت الكلفة، و لكن ذهاب الكلفة لا يعني التهاون في الاحترام أو النقصان في الحياء، و بعض المحبين يظنون أنهم معذرون بالحب عن الإحسان، و الإحسان لا ينفصم عن الحب، فيسيئون التصرف بتكلفهم سلوك ما ليس لهم أن يسلكوه.

“راغب”: و من هنا يبدأ الظلم.

“اليماني”: أجل. و هو ثالث الأخطار كما أخبرتك.

“راغب”: فما ظلم المرء للحب؟

“اليماني”: أن ينسب له ما ليس منه، أو أن يثبت له ما ليس فيه، أو يقول فيه بغير علم.

“راغب”: فما ظلم المحب للمحبوب؟
“اليماني”: أن يتحدث باسمه، أو أن يتصرف دون إذنه، أو يُمضي حكمه و يقول إنه حكمه.

"راغب”: أبا العامرية قلبُ الفتاةِ يقول وينطقُ عن نبله
فأصغِ له وترفّقْ به ولا يَسْعَ ظُلمك في قتله

أأظلم ليلى؟ معاذَ الحنان متى جار شيخٌ على طفله؟
هو الحُكْمُ يا ليلَ ما تحكمين خُذي في الخطاب وفي فصله

ثم استرسل "راغب" قائلا: فلما أخذت في الخطاب و في فصله، خالفت ما في قلبها و حكمت بغير حكمه، و لكنها بهذا ظلمت نفسها قبل أن تظلم قيسها.

“اليماني”: إذا ظلمت المحبوب فقد ظلمت نفسك، و إذا فقدته فقدتها.

"راغب" مستدركا: و لكن الظلم أحيانا لابد منه، و لو لم تفعله ليلى لنالها و أهلها من الهوان ما لا تحتمله الجبال ، و قد ظلمها أبوها حين ادعى أن الحكم لها و أن فصل الخطاب في يدها و الحقيقة أنه في يده و الحكم قد قرر سلفا.

“اليماني”: ها أنت قد بدأت تلتمس لها العذر.

“راغب”: لست متأكدا، قلبي يميل إلى اجتماع المحبين، و عقلي لا يريد لهما الضرر.

“اليماني”: إذا بدأت تميز بين بكاء القلب و نداء العقل، و أدركت أن القلب في الوادي و العقل في الشعب.

أومأ "راغب" برأسه موافقا ثم قال: فماذا عن الظلم من أجل المحبوب؟ كيف يكون؟

“اليماني”: عندما ينسى المحب كونه محبا و يقوم بدور القاضي و الشرطي، فيصدر الأحكام على العباد و ينفذها على الرقاب، و عندما يظن أنه أعلم و أحرص على المحبوب حتى من نفسه، و عندما تداس القيم الباقية من أجل القيم البالية.

“راغب”: أوَ كل هذا في الحب يقع؟

“اليماني”: بلى. و هو منبع الجرائم التي ترتكب باسمه ، باسم حب الله أو حب الوطن أو حب الدعوة و هلم جرا.

“راغب”: بقيت الرابعة.. الدعاوى الكاذبة.. خافضة أكيد لا رافعة.

“اليماني”: أشنعها و أشدها خطرا، يندرج تحتها ما سبق و تزيد عليه في الكذب، فمما سبق يتبين لك أن بعض الناس قد يقعون في الظلم من أجل حب صادق و هؤلاء يظلمون و يفجرون و يفتكون من أجل حب كاذب، و قد يسئ بعض البشر الأدب بدافع من حب حقيقي و هؤلاء يسيئون و يتطاولون بل و يتمرغون في الوقاحة بدعاوى حب وهمي.

“راغب”: اللهم الطف بنا في حبنا، إن الفرق واسع و البون شاسع إذن.

“اليماني”: أجل.. الفرق بين المحبين و مدعي المحبة كالفرق بين النبيين و مدعي النبوة.

“راغب”: أشعر أنني سمعت هذا الكلام من قبل.

"اليماني" مسترسلا: و البون بينهم كالبون بين الحكماء و الحمقى، و النبلاء و السفلة، و المشايخ و قطاع الطرق، و الأطباء و الحلاقين، و المسيح بن مريم و المسيح الدجال.

“راغب”: صفهم لي أعرفهم.

“اليماني”: التكلف ديدنهم، و الوضاعة شأنهم، و الروغان صنعتهم، و التخليط حالهم.

"راغب": زد في وصفهم.

"اليماني": يتمثلون أقوال المحبين و يتمسكون بشطحاتهم، و هم أبعد ما يكونون عن أعمالهم و أحوالهم، فيكرهون الناس في أحلى الناس.

“راغب”: أيزيدون أم ينقصون؟

“اليماني”: بل يزيدون و يقلد بعضهم بعضا حتى يصبح المحب الصادق بينهم غريبا و متهما، تماما كما ترى على سبيل المثال الصورة المكرورة الممجوجة لشخصية الريفي أو الصعيدي أو اليهودي في الأعمال الفنية، و طريقة كلامهم و ترديد ألفاظ بعينها بمناسبة و بغير مناسبة، و السبب أن اللاحق يقلد السابق و لم يتكلف مؤنة الانتقال إلى الريف أو الصعيد ليعاشر أهلها و يسمع منهم و يرى، حتى إذا جاء فرد من أهل هذه المناطق الأصليين ظنه الناس من المدعين.

"راغب" منشدا: إنما الدنيا على ما جبلت***جيفة نحن عليها نصطرع

فسد الناس وصاروا إن رأوا***صالحا في الدين قالوا مبتدع

“اليماني”: نعم و إن رأوا صادقا في الحب قالوا مدع.

“راغب”: و هذه الأخطار و تلك الأضرار أما لها من علاج؟
“اليماني”: درهم وقاية خير من قنطار علاج، فاحذر منها و فر.

“راغب”: و إن وقع المحذور فأين المفر؟

“اليماني”: لا مفر.

“راغب”: لا المفر من جحيم العقل..! لا المفر من سوء الأدب..! لا المفر من وقوع الظلم..! لا المفر من الدعاوى و الكذب..! أهذا ما تقوله يا سيدي؟

“اليماني”: فأخبرني أنت على سبيل المثال كيف تفر من عقلك؟

"راغب" متحيرا: لست أدري.

“اليماني”: ألم أقل لك. إنك لن تستطيع منه فرارا؟ لكن على الأقل تستطيع أن تعلم أن عقلك يحيا داخلك فلا تحيا داخل عقلك.

“راغب”: يعني ينبغي أن يكون العقل أداة للإنسان لا أن يكون الإنسان أداة للعقل حتى يفر من الوقوع في أسره. فأين المفر من سوء الأدب؟

“اليماني”: ألا يغيب الحياء عن قلبك طرفة عين، و أن تحفظ السر فلا تبوح ببنت شفة.

“راغب”: فماذا عن الظلم في الحب؟

“اليماني”: الفرار من الظلم على عكس الفرار من العقل، فعليك أن تحيا داخل الحب لا أن يحيا الحب داخلك.

“راغب”: يعني على المرء أن يسلم نفسه كاملة للحب لا أن يحاول أن يحتويه، لم يبق سوى الدعاوى الكاذبة؟

“اليماني”: لا تقبل في الحب سوى الحقائق و اجتنب الظنون و الشكوك و الأوهام و الأماني، و لا تسمع فيه إلا شهود العدل و الصدق و احذر كل الحذر من شهود الزور و الكذب من داخل نفسك أو من خارجها.

“راغب”: يبدو أنه بالفعل لا مفر، فكل ما ذكرت يقع في دائرة الوقاية بأكثر مما يقع في دائرة العلاج.

“اليماني”: هل اكتفيت؟

“راغب”: ليس بعد. فقد عرفت طرفاً من قصص المحبين الذين أصابتهم الأضرار، و الآن أريد أمثلة من قصص المحبين الذين وقعوا في الأخطار.
“اليماني”: هذه ليلى حَكَّمت عقلها في حبها ففقدت قيسها، و هذا الحلاج باح بما لا يجوز البوح به، فكان ذلك في شريعة الحب إساءة، فاستباح القوم دمه، و ذاك عطيل قتل حبه بيده من جراء ظلمه حين أعمته الغيرة، و أما أصحاب الدعاوى الكاذبة فحدث و لا حرج، فهم كُثُر لكن لا أحب أن يكون لهم شأن يذكر.

“راغب”: تذكر يا سيدي ما بدأت به حواري معكم؟

“اليماني”: أجل يا ولدي، قلت: (فما زادني السفر إلا نصبا، و لا العلم إلا حيرة، و لا الورد إلا عطشا، و ما زلت أرجو أن أقطف من الحب ثمرة).

“راغب”: و قد حكيت لي عن أخطاره، و قصصت على من أضراره، فهلا كشفت لي عن ثمرة من ثماره؟

" اليماني": في عام 1631 م كان شاه جاهان - حاكم إمبراطورية مغول الهند في أوج عزها- كئيباً عندما ماتت زوجته ممتاز محل – أي مختارة القصر - وذلك أثناء ولادة طفِلهما الرابع عشر، فبدأ بناء تاج محل في عام 1632 م، و تم الانتهاء من الضريح الرئيسي في عام 1648 م والمباني والحديقة المحيطة انتهت بعدها بخمسة سنوات. الإمبراطور شاه جيهان نقش على تاج محل هذه الكلمات:

هل يجب على المذنب أن يلجأ إلى هنا
ليصبح مثل المعفو عنه خاليا من الخطيئة
هل يجب على الآثم أن يشق سبيلا لهذا القصر
ليتم التخلص من جميع خطاياه السابقة بعيداً
مرأى هذا القصر خُلِق من تناهيد الأسى
والشمس والقمر تذرف الدموع من عيونهم
في هذا العالم تم بناء هذا الصرح
لإظهار مجد الخالق فيه.

فهذا القصر ثمرة من ثماره، كقصائد المجنون، و صرخات الحلاج.

“راغب”: صرخات الحلاج و قصائد المجنون ثمارا معنوية، و القصر ثمرة مادية، فهل يستويان؟

“اليماني”: في الحب تمتزج المعاني و المباني، فهو القنطرة بين البدن و الروح، و بين الدنيا و الآخرة، و بين الماضي و المستقبل، و بين الحقيقة و الخيال، و بين البصر و البصيرة، بل بين العبد و الرب.

“راغب”: و أين تجد هذا المزج في ذاك القصر؟

“اليماني”: كما ترى اللوحات الفنية في أبيات المجنون، و كما تسمع السيمفونيات الموسيقية في صرخات الحلاج، تجد في تاج محل المزج بين بحيرات الهند و أنهار الفردوس، و بين المآذن و الأضرحة، و بين تدرج ألوان الزهور و تدرج ساعات النهار، و مع انعكاس أشعة الشمس الذهبية على الأعمدة و الأسطح الرخامية، و تجد أيضا المزج بين الفن الهندي و الفارسي و التركي و العربي.

“راغب”: لا زلت أجد صعوبة في قبول فكرة المبالغة في المباني للتعبير عن المعاني الرقيقة.

“اليماني”: لو كانت المسألة هي رغبة المحب في تكريم جسد المحبوب بعد وفاته فإكرام الميت دفنه، و لا يتطلب هذا كثير بناء، و لكن الفكرة فيما سكن قلب المحبوب من معاني تضيق لها العبارات، و لا تتسع لها المباني.

“راغب”: و هذا يعني أن حجم تاج محل هو تعبير عن حجم الحب و الوفاء في قلب شاه جيهان تجاه زوجته ممتاز محل؟

“اليماني”: لا. إنما هو تعبير عن قدرة و إمكانات الرجل و عصره، فأقصى ما استطاعه وقتها أن يستخدم عشرين ألف عامل لمدة عشرين سنة، و لو كان أوسع سلطانا أو في عصر أكثر تقدما لزاد في البناء و الزخرفة، يعني يمكنك أن تقول إن المباني هنا على فخامتها مجرد إشارات لما سكن القلب من المعاني و ليس تجسيدا لها.

“راغب”: إذن فالبناء يأتي على قدر الوسع لا على قدر العشق، يا حسرة على من لا وسع لهم.

“اليماني”: هؤلاء تبقى مبانيهم حبيسة صدورهم، و لو أطلعت عليها ربما تجدها أكثر جمالا و أضخم بناء من تاج محل.

“راغب”: أخطار جسيمة، و ثمار جميلة، هذا هو الحب.

“اليماني”: و الآن بعدما عرفت ما عرفت، هل اكتفيت؟

“راغب”: اكتفيت و ما ارتويت.

“اليماني”: و مازال لك من اسمك نصيب؟

“راغب”: نعم. (إنا إلى الله راغبون).

“اليماني”: فإلى أين؟

“راغب”: لست أدري.. دُلني.

“اليماني”: لم يبق لك سوى طيبة الطيبة تلقى فيها الحكيم المدني، إن لم تجد بغيتك عنده فلن تجدها عند غيره.

ﻳﺎ ﻗﻠﺒﻲ ﻋﻠﻰ أﻫﻞ ﺍﻟﻤﺪﻳﻨﺔ
ﻗﺎﻟﻮﺍ: ﺍﻟﺮﻭﺡ ﺃﻏﻠﻰ
ﻗﻠﺖ: ﻭ ﺍﻟﻤﺪﻳﻨﺔ ﺃﺣﻠﻰ
ﻗﺎﻟﻮﺍ: ﺍﻟﻌﻤﺮ ﺭﺍﻳﺢ
ﻗﻠﺖ: ﻓﺮﺍﻕ ﺍﻟﻤﺪﻳﻨﺔ ﺟﺎﺭﺡ


يا طيبة والله أنت الحبيبة*** مهما بَعَدنا عنك قريبة
في جوارك أغلى الأحبة *** في قلب الروضة الرحيبة

* * *
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.