الفصل الثالث
الغابة
- سنبدأ المناقشة بعدما تشاهدون تلك المقاطع المسجلة من داخل الكهف.
قالها "لبيب" بأسلوبه المعتاد في محاضراته الجامعية عبر السماعات المتصلة بمكبر الصوت الموجود في غرفة القيادة ليصل صوته لمن بالمقطورة ، و فور انتهاء عبارته بدأت الشاشة المثبتة داخل المقطورة في عرض أهم الأحداث و الحوارات التي دارت بين أصحاب الكهف خلال اليومين السابقين، أي منذ الدخول إلى الكهف و حتى فجر اليوم، التفت الجميع باهتمام بالغ وظلت عيونهم مثبتة على الشاشة طوال فترة العرض، فقد كان الشباب متلهفين للاطمئنان على أصدقائهم و معرفة ما مر بهم، و حتى "هانئ" رغم مشاهدته لعدة أجزاء منها من قبل فقد كان يتابع بشغف لربط الأحداث ببعضها و الإحاطة بما استجد منها و محاولة اكتشاف ثغرة تمكنهم من الخروج من الأزمة.
بعد انتهاء العرض مباشرة انتقل "لبيب" إلى داخل المقطورة، و جلس على كرسي في الجزء الخلفي منها، بحيث يكون "هانئ" و "ماهر" على يمينه، و "ليلى" و "حنان" على يساره، و الشاشة أمامه مباشرة، و بدأ الحديث دون مقدمات قائلاً: أحسب أنه أصبح واضحاً لديكم أن المشاكل و الأضرار التي وقعت لم تكن مقصودة، و لم تكن من ضمن الخطة، لم يكن من المفترض أن يكون هناك نقصاً في الطعام و الشراب، لم يكن من المفترض أن تكونوا خارج الكهف و أن يتعرض "ماهر" للإصابة، كل ما في الأمر أنني أعددت لكم مسرحاً فائقاُ للتعلم.
"ليلى": لا أستطيع أن أنكر أن المغامرة كانت شائقة، و أن الحوارات التي دارت في الكهف كانت رائعة.
نظر "لبيب" إلى "هانئ" نظرة انتصار، و قال: ألم أقل لك أن الشباب أكثر تفتحاً و تفهماً منك.
"حنان" موجهة الحديث لـ "ليلى": ماذا تقولين؟ هل يسعدك أنه أعد لنا مسرحاً للعرائس، و جعل منا دمى يراقبها و الحبال تحركها؟
"ماهر": الحقيقة أنني لا أستطيع أن أخفي رغبتي في وجودي داخل الكهف و خوض تلك التجربة مع أصحابنا.
"هانئ" بانزعاج: أفق يا "ماهر" و لا تجعل الانبهار و الرغبة في المغامرة يجذباك إلى النزق، و تذكر أنك لو تأخرت في القفز لحظات للقيت حتفك تحت الصخرة.
"لبيب": كف عن القيام بدور حامل لواء الأخلاق، و حامي حمى الفضيلة، إنما لذة الحياة في المغامرة، و لا توجد خبرة بلا ثمن ، و لا معرفة بلا تضحية، لاحظوا أن أحداً لم يصب إصابة خطيرة، و أن الجميع حتى الآن بخير.
"حنان": حولتنا إلى فئران تجارب، و تُعرض فريقاً منا للهلاك بالموت البطيء، و تقول إن الجميع بخير! لست أدري أحماقة هذه أم وقاحة!
رمقها "لبيب" بنظرة نارية و لم يفلح هذه المرة في الحفاظ على أسلوبه الهادئ المستفز، فقال بعصبية: على كل حال أنتِ لا تمثلين إلا نفسك، بينما "ليلى" و "ماهر" يوافقان على التجربة، يعني الشباب في صفي بنسبة الثلثين إلى الثلث.
"ماهر": رغبتي في خوض التجربة لا تعني أنك على حق، و هذا التصويت الزائف الذي أجريته لا قيمة له، فمتى كان للأسرى حق التصويت؟ إن كنت متأكداً من صواب موقفك فلما أفقدتنا الوعي؟ و لما تكبلنا في المقاعد؟
نظر "هانئ" إلى "لبيب" بشيء من السخرية، و قال: يبدو فعلاً أن الشباب أكثر تفتحاً و تفهماً منك.
لم يعقب "لبيب" على كلام "هانئ"، و التفت إلى "ماهر" قائلاً: أعتذر لكم بالفعل، لكنها كانت الطريقة الوحيدة لكي أشرح لكم الموقف و أوضح لكم الملابسات، و أمنعكم من التصرف باندفاع يفسد الأمر برمته.
"ماهر": و ها أنت قد شرحت و أوضحت، فلما لا تحل وثاقنا؟
"لبيب": سأفعل لكن في الوقت المناسب.
"هانئ": لن يفعل يا شباب، إنما يتلاعب بكم لكسب الوقت لإتمام تجربته الفاشلة.
أصابت كلمة "هانئ" هدفها، فقد كان "لبيب" يدرك أن التجربة لم تؤت ثمارها، و أنها لا تصلح أن تبنى عليها نظرية علمية، و لكنه كان يريد الاستمرار فيها حتى الرمق الأخير فقال بعناد لا يخلو من اضطراب: لا تتعجل الحكم، لم تفشل التجربة بعد.
"هانئ": بل فشلت، و انحرفت عن مسارها، و عليك أن تتحلى بالشجاعة العلمية و تعلن انتهاء التجربة قبل أن تحدث الكارثة، فأنت لا يمكنك التحكم الآن في عناصر الموقف خاصة بعد أن أوشك الزاد على النفاد، و لا تستطيع التكهن بتصرفاتهم في الساعات القليلة القادمة، فإياك و المقامرة بحياة الأولاد.
"لبيب": الشباب أقوياء و مثابرون، و يمكنهم الاحتمال ليوم أو يومين آخرين.
"ليلى" و كأنما تحررت من السحر: صحيح العناد يورث الكفر.
"حنان": أي يومٍ أو يومين تتحدث عنهما؟ آخر ما شاهدناه كان يدور في الساعات الأخيرة من ليلة أمس، دعنا نرى أولاً ما حدث في الساعات الأولى من هذا اليوم، و أرجو ألا يكون قد وقع المحذور.
انتبه "لبيب" أن النقاش قد شغله عن مراقبة ما يدور في الكهف، فقام مسرعاً إلى الشاشة لتعرض ما سجلته الكاميرا في اليوم الثالث، و للمرة الثانية التفت الجميع بجميع حواسهم و انتقلوا عبر الشاشة إلى داخل الكهف.
* * *
تفرق الرفاق في أرجاء الكهف، يحملون بعض المصابيح اليدوية بالإضافة إلى المصباحين الكبيرين من النوع المخزن للطاقة، يبحثون عما لا يعلمون، و يفتشون عن أمل مجهول، الأرضية و الجدران و النتوءات الصخرية، شبراً بشبر، و ذراعاً بذراع، و زاوية بزاوية، و تأكد لهم بالفعل أن الكهف أوسع مما يظنون، و أعمق مما يحسبون، و بعد ساعة من الزمان مرت عليهم كعام، انطلقت صيحة من حنجرة "جميلة"، تردد صداها في أرجاء المكان و التقطتها جميع الأذان: هلمَّ يا رفاق، إليَّ إليَّ يا صحاب.
أسرعوا إليها و أحاطوا بها كزهرة تغلق أوراقها، ثم سلطوا الأضواء على البقعة التي أشارت إليها، و وقفوا مشدوهين برهة لا يحركون ساكناً، فما شاهدوه كان مذهلاً، فعند هذه النقطة يصبح جدار الكهف له مستويان أحدهما أعمق من الآخر، و المسافة بينهما مترٌ، إذا نظرت من أية زاوية حسبت أنها مجرد تعرجات أو نتوءات في الجدران، خاصة مع وجود الظلام، لكن إذا وقفت أمامها مباشرة و استخدمت الإضاءة، تبين لك ممر بين المستويين يتسع لمرور شخص واحد.
انطلقت صيحات الفرحة و قفزات السعادة، و تبادلوا العناق و عبارات التهنئة، ثم ماذا؟ كالعادة ذهبت السكرة و جاءت الفكرة، و كان أول المتحدثين "عادل"، فقال: ماذا يعني هذا؟
"عاطف": ربما يكون منفذاً للسلامة.
"عاصم": و قد يكون طريقاً للندامة.
"ماجد": لعله ممر مسدود في النهاية.
"سارة": و ربما تكون المتاهة.
"حورية": إذا ظللنا في أماكننا فلن نصل إلى إجابة.
"عادل": صدقت، لا بد من سبر غور هذا الممر.
"ماجد": أنا سأتطوع.
قالها و عبر إلى داخل الممر مباشرة، معه المصباح اليدوي، و رفاقه يساعدونه بالمصباحين الكبيرين عند مدخل الممر، مشى عدة أمتار ثم اختفى عن الأنظار، فناداه "عاطف": لا تبتعد كثيراً، هل وجدت شيئاً؟
جاءهم صوت ماجد من بعيد: لا شيء حتى الآن، لكن يبدو أنه شديد العمق، يضيق أحياناً و يتسع أحياناً أخرى.
"عاصم" صائحاً: يكفي هذا، ارجع و لنفكر في وسيلة أخرى.
شعر "ماجد" أن الصوت يأتي من بعيد جداً، و أدرك أنه لو استمر عدة أمتار أخرى سيفقد التواصل مع رفاقه، فشعر بالرهبة و هم بالعودة، لكن قبل أن يدور للخلف وجه ضوء المصباح لأبعد مسافة ممكن لينظر النظرة الأخيرة قبل المغادرة، فلاحظ شيئاً جعله يستمر و يتقدم، و في تلك الأثناء علت أصوات أصحابه بالنداء لكنه لم يعد يسمعهم فلم يجبهم، فازداد قلقهم، و اشتد ندمهم أن تركوه يدخل وحده دون أية إجراءات احترازية.
"عاطف" في جزع: هل فقدناه؟
"جميلة" و قد كادت تبكي: ما كان ينبغي أن نسمح له بالمحاولة.
"عاصم": و ما كان يدرينا أنه سيتهور، المفترض أنه كان سيتفقد الممر لبضعة أمتار ثم يرجع.
"عادل": سأذهب للبحث عنه.
"سارة" بحزم: لا نريد أن نفقد واحداً أخراً منا.
"عادل": لا يمكننا أن نتركه.
"حورية": أجل. و لكن دعونا نأخذ الاحتياطات الممكنة، يوجد معنا حبال، يمكننا الاستعانة بها.
لف "عادل" الحبل حول قبضته اليمنى، و أمسك المصباح اليدوي بيده اليسرى، و تقدم نحو الممر، و قال: إن احتجت للمساعدة سأجذب الحبل مرتين.
قبل أن يدلف إلى الممر، سمعوا صوت "ماجد" يصيح من الداخل: أنا قادم، معذرة يا رفاق، أعلم أنني أثرت قلقكم.
و بعد لحظات كان بين ظهرانيهم، فتنفسوا الصعداء و حمدوا الله، ثم سألوه عن الخبر، فقال: وصلت إلى أبعد مسافة يمكن أن تصلني فيها أصواتكم ثم هممت بالرجوع، لكني لاحظت أن الممر يتفرع إلى فرعين بعد عشرة أمتار تقريباَ من نقطة فقدان الصوت، فتقدمت و ألقيت نظرة فاحصة، فوجدت أن كلا الفرعين يمتد بعمق إلى الداخل، و كأنهما لا نهاية لهما، فتقدمت بضعة أمتار في الفرع الأول فإذا به يتفرع أيضاً في النهاية إلى فرعين، و كررت المحاولة مع الفرع الثاني فوصلت إلى نفس النتيجة إلا أنه يتفرع إلى ثلاثة أفرع، يعني أصبح لدينا خمسة طرق فرعية حتى الآن، يبدو أنها متاهة بالفعل.
"عادل": إذاً ما يتناقله الناس حول حوادث الاختفاء في هذه المنطقة حقيقة و ليس إشاعات.
"عاطف": معنى هذا أننا عدنا إلى نقطة الصفر مرة أخرى، و ليس في مقدورنا سوى الانتظار: النجاة أو الوفاة.
عاد الأصدقاء إلى وسط الكهف، وسط شعور بالإحباط و الحيرة، و القلق الشديد من الساعات القادمة، استلقى "ماجد" على ظهره، عاقداً كفيه تحت رأسه، شاخصاً إلى السقف ببصره، يفكر في لا شيء، و قد أحاط الصمت بالمكان، و أصبح الحديث ثقيلاً على اللسان، حتى قطع "عادل" هذا الصمت و قاوم ثقل الكلام على صدره، فقال ناصحاً لرفاقه: حاولوا الاقتصاد في الإضاءة قدر الإمكان.
أغلق "عاطف" ضوء المصباح بعصبية و قال: دعونا نتعود من الآن على الظلام.
"عادل": أنا لم أقصد هذا ، فقط أردت خفض الإضاءة لتستمر معنا أطول فترة ممكنة.
"عاطف" بيأس: لم يعد هناك فارق، فالظلام قادم لا محالة.
"عاصم" بغيظ: و إذا كان قادم بنفسه فلما تتعجله؟ افتح المصباح و لا تأتِ بالبلاء قبل وقوعه.
صاح "ماجد" فجأة: لا. انتظر لا تفتح المصباح، أظن أنني لمحت ومضة من الضوء في سقف الكهف.
رفع الجميع رؤوسهم، و ظلوا يحملقون بأبصارهم، ثم قالت "حورية": نعم يبدو بالفعل أن هناك شيء ما يومض ومضات خافتة متقطعة.
قالت "سارة" بمزاح لا يخلو من المرارة: ربما نسي أحدكم هاتفه المحمول على الشاحن.
"جميلة" بجدية: هل يمكن أن يكون هناك أحد الأجهزة الكهربية هنا؟
صاح "عادل": نحن فتشنا كل شبر في الجدران و الأرضية لكن لم ننتبه إلى السقف، أضيئوا كل ما معكم من المصابيح حتى اليدوية منها، و دعونا نلقي نظرة على السقف.
أضاء "عاطف" المصباح الذي بجانبه قائلاً: اغلق المصباح، افتح المصباح، اغلق المصباح، افتح المصباح، استقروا على رأي.
أضاء الجميع ما لديهم من المصابيح تباعاً، و أخذوا يقربوها من السقف و يتفحصون الجهة التي انبعثت منها الومضة، و فجأة صرخت "جميلة": ها هي. إنها كاميرا.
نظر "ماجد" إلى العدسة و قال: أيها الوغد. أنت معنا من البداية إذن.
"عادل": أي شيطان هذا الذي يراقب هلاكنا و لا يتدخل لإنقاذنا.
"عاصم": لا بد أن ينتهي هذا الأمر.
قالها و التقط حجراً من الأرض و قذفه نحو الكاميرا لكنه لم يصبها، انتقلت العدوى للشباب و سرت فيهم سريان النار في الهشيم، فأخذوا يلتقطون كل ما تقع عليه أيديهم من الحجارة و علب العصير الفارغة بل و حتى الأحذية، و يصوبنها إلى الكاميرا و كأنما يرجمون صاحبها، و لكنها كانت مثبتة في مكان يصعب الوصل إليه ، و مخفية بمهارة فائقة بين النتوءات الصخرية فلم تفلح محاولاتهم، و هنا تقدم "عاطف" بغتةً و حمل "ماجد" فوق كتفيه و هو يقول: لا بد من التصويب عن قرب.
التقط "عاصم" حجراً من الأرض و قذفه إلى "ماجد" الذي التقطه بيده اليسرى ثم قذفه إلى اليمنى ليحكم التصويب، ثم سدد رميةً وضع فيها كل حنقه و حنكته، فانطلقت القذيفة نحوها هدفها و فجرته.
* * *
أغمض "لبيب" عينيه كأنه يتفادى الحجر الذي أصاب الكاميرا، و توقفت الشاشة عن البث، و تبادل "هانئ" و الشباب النظرات ثم قال: أما زلت تكابر في انتهاء التجربة؟ أحسب أنها فرصتك الأخيرة للتراجع.
نكس "لبيب" رأسه لحظات تذكر فيها تفاعله مع طلابه في محاضراته ثم قال بحسرة: نعم. لقد انتهت التجربة، و علينا إنقاذ الشباب قبل أن يضيعوا.
نظر الشباب إلى "لبيب" ثم إلى القيود التي تكبل أيديهم و أرجلهم، ففهم مغزى نظراتهم و قام يحل وثاقهم، بدأ بالفتاتين ثم "ماهر" و أخيراً "هانئ" الذي قال فور تحرره: هل كنت تعلم بأمر المتاهة.
"لبيب": لا. و هذا أشد ما يقلقني، فقد يدفعهم اليأس إلى محاولة اجتيازها.
"ماهر": هل لديك وسيلة لإزاحة الصخرة؟
"لبيب": أفضل وسيلة هي الحفار المفترض أن يصل مع رجالي بعد غد.
صرخت "ليلى" و "حنان" في صوت واحد: بعد غد!
"هانئ": في وجود المتاهة و عدم وجود الماء فالكارثة محققة، لا بد من إيجاد وسيلة أخرى.
"ماهر": نجتمع كلنا على زحزحتها و لو شبراً واحداً نمدهم من خلاله بالضوء و الأمل و الماء.
"لبيب": لو اجتمع عليها عشرة رجال أشداء لما أفلحت محاولتهم.
"ليلى": لا مفر من طلب النجدة من أقرب قرية.
"لبيب": أقرب قرية تبعد أكثر من مائة ميل، و لن تجدوا فيها حفاراً بالمواصفات المطلوبة، و إذا أخبرتم أهلها البسطاء عن مقصدكم فلن يأتوا معكم، فسمعة هذا المكان لديهم غاية في السوء.
"حنان": و الحل؟
"ماهر": الحل أن نذهب إلى أقرب مكان يمكننا منه الاتصال بالشرطة.
رمقه "لبيب" بغضب، و قال بحزم: لن نفعل. سنخرج من الأزمة دون اللجوء للشرطة، سأذهب إلى أقرب مكان فيه تغطية من شبكات الهواتف المحمولة، و أتصل بالرجال لجلب الحفار الآن، نحن ما زلنا في الساعات الأولى من النهار، و إذا تحركوا فور اتصالي بهم فسيصلون في الثلث الأول من الليل.
"ماهر": لم تعد أنت صاحب القرار، و لن نسمح أن يستمر أصحابنا في هذا الخطر حتى الثلث الأول من الليل، يمكننا الحصول على مفتاح المقطورة عنوة، و استخدامها في الوصول إلى الشرطة رغماً عنك.
"لبيب" و لم يبد عليه الاكتراث بالتهديد: لا. لا يمكنكم.
"ماهر" بتحدي: ماذا يمنعنا؟
اقترب "لبيب" من "ماهر" و وقف في مواجهته مباشرة، و فتح سترته و أشار إلي المسدس المعلق في الحزام، و قال كلمة واحدة: هذا.
اشتد الفزع بالفتاتين، و تدخل "هانئ" مسرعاً لتهدئة الموقف، فقال: لا داع يا دكتور، نحن نريد حل الأزمة لا أن نزيدها تعقيداً، دعنا نحاول زحزحة الصخرة باستخدام المقطورة أولاً، ثم افعل ما بدا لك بعد ذلك.
"لبيب": لا بأس، و إن كنت أظن أن هذه المحاولة لن تنجح.
"هانئ": لديك وصلة حديدية أليس كذلك؟
"لبيب": بلى لدي وصلة طويلة تنتهي بخطافين في الطرفين.
"ماهر": الطريق إلى الكهف ضيقة و لا يمكن للمقطورة أن تمر خلالها.
"هانئ": سنصل إلى أقرب نقطة ممكنة و نجري المحاولة.
ثبت "لبيب" الخطاف في الحلقة المخصصة له في العمود الأفقي الخلفي للمقطورة، بينما تعاون "هانئ" و "ماهر" على إحاطة الصخرة بحبل متين ثم أدخل "هانئ" الحبل داخل الخطاف الثاني، و أعطى "ماهر" إشارة البدء ليتحرك "لبيب" بالمقطورة، في حين أحاط الأربعة الأخرون بالصخرة يحاولون دفعها في نفس اتجاه حركة المقطورة، تحركت المقطورة ببطء، و وصلت الوصلة لأقصى امتداد لها، و بدأت تجذب الحبل المحيط بالصخرة، و في نفس الوقت بدأ الرفاق في الدفع بأقصى طاقتهم، و لكن الصخرة لم تتزحزح قيد أنملة، فزاد "لبيب" من الضغط على دواسة الوقود ليزيد من قوة الجذب، فلم تتحرك الصخرة أيضاً إلا أن الحبل انقطع.
كرروا المحاولة للمرة الثانية لكن هذه المرة قاموا بتثبيت الخطاف الثاني في نتوء بارز من الصخرة، فانتهت المحاولة بكسر النتوء، و في المرة الثالثة تمكنوا من تثبيت الخطاف بطريقة أكثر إحكاماً في نتوء أكثر عمقاً، و بدأت المقطورة في إصدار أصوات أشبه بالصراخ، و بدا لهم أن الصخرة على وشك أن تتزحزح، فازدادت حماستهم، و علت صيحاتهم، و ارتسمت على وجوههم أشد علامات العزم و التصميم، لكن قبل أن تتحرك الصخرة انكسرت الحلقة المثبتة في العمود الخلفي للمقطورة، و اندفعت المقطورة للأمام بسرعة بالغة و قد فقد "لبيب" السيطرة عليها لعدة ثوانٍ، ثم استعاد التحكم فيها بصعوبة بالغة و تمكن من إيقافها في اللحظة الأخيرة قبل اصطدامها.
جلس الرفاق يلتقطون الأنفاس بين شهيق الأسى و زفير الاحباط، و قد تمكنت علامات خيبة الأمل من قسمات الوجوه، و "لبيب" يشير لهم مودعاً، و هو يقول: لا مجال لمحاولة أخرى، سأذهب لتنفيذ ما اتفقنا عليه، تأكدوا أنني لن أخذلكم، أنا من أدخلتكم في هذه الورطة، و أنا من سيخرجكم منها.
لم يرد عليه واحد منهم، و جلسوا في صمت يراقبون المقطورة و هي تبتعد.
* * *
"عاصم": الأمر يستحق محاولة ثانية، فهذه المتاهة أصبحت الأمل الوحيد لنا.
"جميلة": ماذا تقصد؟
"عاصم": نحاول اكتشاف الفروع الخمسة بحذر ربما أحدها يؤدي إلى الخروج من الكهف.
"ماجد": يمكننا أن نذهب نحن الأربعة، و نتفقد فرعاً فرعاً من فروع المتاهة الخمس فعند أول تفرع يقف أحدنا و يمضي الثلاثة، و عند التفرع الثاني يقف أحدنا و يمضي الاثنان، و عند التفرع الثالث يتوقف واحد و يستمر الآخر، و هكذا نفعل مع كل طريق من الطرق الفرعية الخمسة لنرى إلى أين ستنتهي بنا.
"عادل": و يكون التواصل بيننا بالأصوات و الحبال في حدود المسافات التي تسمح بها علو الأولى و طول الثانية، فكرة لا بأس بها.
"سارة": و ماذا عنا نحن الثلاثة؟
"عاصم": ماذا عنكن؟ ستنتظرن هنا بالطبع، أم تردن المشاركة؟
"جميلة": أنا لا قدرة لي على المشاركة في هذه المخاطرة، و أفضل الانتظار هنا عسى أن يأتي الفرج من طريق غير المتاهة.
"حورية": أما أنا فأريد المشاركة.
"سارة" و هي تقلب النظر بين "حورية" و "جميلة": أنا مترددة.
"جميلة" بتوسل: أرجوكِ، لا تتركيني وحدي.
"سارة": حسناً. سأكون في ذيل القافلة بحيث أقف على مسافة يمكنني فيها التواصل و الحديث معك و أنت عند مدخل الممر، و في نفس الوقت التواصل مع "حورية" و هي تقف عند أول تفرع، و ليكمل الرجال الطريق.
هز الرفاق الرؤوس بالموافقة، و أخذوا في تجهيز الحبال و المصابيح، ثم شرعوا في تنفيذ الخطة، و بعدما وصلوا إلى أبعد نقطة ممكنة في كل فرع من الطرق الخمسة، عادوا أدراجهم إلى الكهف بوجبة دسمة من خفي حنين مضاف إليها الاحباط و التعب و الظمأ.
كانت المحاولات الصاخبة لزحزحة الصخرة تتم أثناء وجود الأصدقاء في المتاهة لاستكشافها، و حتى "جميلة" التي انتظرتهم على بابها كانت بعيدة عن الصخرة، فلم تلتقط أذانها صراخ المقطورة، و صياح زملائها.
تحلق الأصدقاء كعادتهم في وسط الكهف ينظرون في أمرهم، فقالت جميلة: معنى هذا أن جميع الطرق تتفرع تفرعات لا نهاية لها؟
"ماجد": لا نستطيع الجزم بهذا فنحن لم نصل إلى نهايتها، و لكن المسافات التي قطعناها داخلها توحي بذلك.
"عادل": ما عدا الطريق الأوسط من الفرع الثاني، لم يتفرع حتى اللحظة التي غادرته فيها، و لكنه أيضاً لم يبد له نهاية.
"عاصم": ربما كان سيتفرع بعد مسافة طويلة نوعاً ما بعكس الطرق الأخرى.
"حورية": و ربما كان مستقيماً حتى النهاية.
"سارة": في هذه المسألة لا أحد عنده فصل الخطاب.
"جميلة" و قد أثارت عبارة "حورية" قلقها: و لنفرض أنه مستقيم حتى النهاية، فماذا يعني هذا بالنسبة لكِ؟
"حورية": يعني أنه يستحق التجربة.
انتفض "عاطف" بعاطفته المعهودة و قال: ماذا تقصدين؟ إياكِ أن تفكري.
"حورية": من حقي أن أفكر و من حقي أن أتخذ القرار.
"عاصم": المسألة خطيرة يا "حورية"، و نحن نخشى عليكِ الهلاك.
"حورية" بهدوء: أقدر حسن نواياكم جميعاً، لكن هذا لا يعطيكم الحق في الحجر على حريتي في الاختيار.
"عادل": بل يعطينا، إذا وجدنا إنساناً مقدماً على الانتحار بإرادته فهل نتركه احتراماً لحريته؟
"سارة": و ما يدريكم؟ لعل الانتحار هو في الانتظار.
"ماجد": جميع الاحتمالات قائمة، لكننا نرجح أن اختبار المتاهة أشد خطورة من الانتظار في الكهف.
"حورية": طالما الأمر قابل للاحتمالات و الترجيحات، فمن حق كل واحد منا أن يرجح ما يشاء منها، لا تنسوا أننا لم نشارك في هذه الرحلة و لم نصل إلى هنا إلا من أجل الاقتراب من كنه الحرية، أفحين تحين ساعة الجد نلقي بها خلف ظهورنا.
"جميلة" بقلق بالغ: هل ستفعلينها حقاً؟
"حورية": لم أقرر بعد و لكني احتفظ لنفسي بهذا الحق، و ما زالت الفكرة قيد الدراسة.
مال "عاطف" على "عاصم" هامساً: وقتها سأمنع هذه المجنونة بالقوة لأريح ضميري.
فأجابه "عاصم" هامساً أيضاً: و هل حين تراها تلفظ أنفاسها الأخيرة هنا في الكهف ستشعر بالراحة، عقولنا تخبرنا أن المتاهة هي الاحتمال الأضعف في النجاة، لكننا جميعاً نعلم أن الاحتمال الأضعف ينجح أحياناً.
توجهت "حرية" إلى الزاوية القريبة من المصباح كعادتها كلما أرادت القراءة، و أخرجت المذكرات و قبل أن تبدأ لحقت بها "سارة" مسرعة و قالت: أنتِ إنسانة غريبة جداً، كيف يمكنكِ القراءة الآن، أنتِ غير طبيعية قطعاً.
"حورية": لم يتبق سوى جزء يسير من مذكرات جدي، و قلبي يحدثني أنني قد أجد فيها ما يساعدني على اتخاذ القرار.
"سارة": لم يعد لدي أدنى قدرة على الجدال، أنتِ و شأنك.
* * *
مرت حوالي الساعتان على رحيل "لبيب" بالمقطورة، و أوشك النهار على الانتصاف، فجلس "هانئ" و "ماهر" و "ليلى" و "حنان" في ظل شجرة بالقرب من الصخرة التي تسد مدخل الكهف، ثم قال "ماهر" موجهاً حديثه لـ "هانئ": كيف تركته يمضي بتلك البساطة؟
"هانئ": ألم تر أنه كان مسلحاً؟
"ماهر": و إن يكن، كان يمكننا التحايل بأية وسيلة، ربما هرب و تركنا لمصيرنا، كيف تضمن عودته؟
"هانئ": سيعود لا شك عندي في ذلك.
"ليلى": من أين لك تلك الثقة؟ ما الذي سيدفعه للعودة؟
"هانئ": غروره العلمي، فهو ما زال يرى نفسه عالماً لا مجرماً، و لو كان يريد هلاكنا لما أطلق سراحنا.
"حنان": العجيب أنه مع كل تلك الجلبة التي أحدثناها، لم تأتنا أية إشارة من داخل الكهف تفيد أن أصدقاءنا قد شعروا بمحاولاتنا!
"ماهر": ربما لم يسمعوا.
"ليلى": و ربما سمعوا لكن ليس لديهم وسيلة لإشعارنا.
"هانئ": أرجو فقط أن يكونوا لا يزالون بخير.
"حنان": و ماذا في أيدينا أن نصنع الآن؟
"ماهر": لا شيء سوى الانتظار.
"ليلى": لما لا نحاول الوصول إلى النجدة سيراً على الأقدام؟
"هانئ": هذا قد يتطلب قطع مسافة طويلة جداً، و الوقت الذي سنقضيه في قطع هذه المسافة سيراً على الأقدام أطول بكثير من الوقت المتوقع لوصول الحفار.
"ماهر": هذا إن وجدنا بعد تلك المسافة من يمكنه مساعدتنا.
"حنان": يبدو أنه ليس في أيدينا شيء بالفعل.
* * *
سرعان ما اندمجت "حورية" مع البقية الباقية من مذكرات جدها، و ما كانت تقرأه منها لم تكن تراه ببصرها و إنما تسمعه بجنانها و تشاهده بوجدانها، فأخذت تراقب الكلمات الصادرة من حنجرة جدها و هي تتحول إلى صور ناطقة أمامها:
(... تعددت اللقاءات و توطدت الصلات بيني و بين الفتى، فقصصت عليه و أنصت له، و جمعتنا هواية المشي عدة مرات، و في احدى هذه المرات جلسنا على أريكة في إحدى المنتزهات العامة التي تطل على المحيط في قلب العالم، و وضع الفتى حقيبته بيننا و أسند إليها ذراعه، ثم سألني الفتى:
- و لذلك قلتَ إن قصتك هي قصتي؟
- نعم.
- و لكنها ليست كذلك.
- نعم.
- معنى هذا أنك تراها هي هي و في نفس الوقت تراها ليست هي؟
- نعم. فكما لا تتطابق بصمتان لا تتطابق قصتان، فكل واحد على ظهر البسيطة من بني جنسنا نسيج وحده، لم يتكرر في من مات قبله، و لن يتكرر مع من ولد بعده.
- و تعتقد أن كل واحد من هؤلاء له قصة تستحق أن تكتب!
- هذا السؤال إن كان استنكارياً فهو يعكس شعوراً يستوجب طلب المغفرة.
- أي شعور هذا؟
- الشعور بأن الكثير من بني البشر لا نفع لهم، و لا لزوم لوجودهم، و لا طائل من معرفة قصصهم، و أن الحياة كانت ستصبح أجمل بدونهم.
- هذه حقيقة رأيتها بعيني.
- أنت رأيت لقطات و مشاهد من سلوكهم و تصرفاتهم في أجزاء من حيواتهم، هذه النظرة الجزئية القاصرة لا يمكن أن تعكس الحقيقة الكاملة.
- هب أنني رأيت الحقيقة الكاملة ألن أجد جماً غفيراً منهم لا جدوى من وجودهم سوى الضرر و التعاسة لمن حولهم؟
- ربما. و لكن تذكر أن حتى هؤلاء الأشقياء وقفوا بين يدي الذات العلية، و خاطبتهم يوم "ألست؟" و أجابوا الجواب الصحيح، فكل هؤلاء حضروا هذا المشهد و أصبحوا من أصحاب الميثاق الأول، أتريد أنت محوهم من الحياة بالممحاة؟
سكت الفتى برهة، ثم بدا له أن يعود إلى النقطة الأولى، فقال: و كيف انتهت قصتك؟ و ما الذي وصلت إليه في رحلتك؟ هل أدركت الحرية؟
- لم تنته قصتي طالما لم تنته حياتي، أما عن الحرية فلم أجد لها مدركاً، كل ما أستطيع أن أقوله لك إنها موجودة و حقيقية و لكني لا أستطيع أن أراها بعيني و لا أن ألمسها بيدي، و لا يمكنني إدراك ماهيتها و لا الإحاطة بكنهها.
- هذا ليس بجواب، هذا عجز عن الجواب.
- العَجْزُ عَنْ دَرَكِ الإِدْرَاكِ إدْرَاكُ وَالبَحْثُ عَنْ سرِّ ذات السرِّ إشْرَاكُ
وفي سَرائرِ هِمَّات الورى هِمَمٌ عن دركها عجزت جنٌّ وأمـــــلاك
- و هكذا أضفت حضرتك ركناً سابعاً لأركان الإيمان، الإيمان بالحرية، نؤمن بها لكن لا نحيط بها.
- حضرتك، أنا لم أضف شيئاً، فمبحث الحرية وثيق الصلة بالقضاء و القدر، و القدر ركن من أركان الإيمان، شأنه شأن بقية الأركان، من ذا الذي يستطيع أن يدعي أنه قد أحاط بها علما؟ و كما يشعر الإنسان بالعجز أمام الذات المقدسة العلية، و أمام شخص الرسول الكريم، و أمام آيات الذكر الحكيم، و أمام إدراك الملائكة المقربين، و أمام فهم الحياة الآخرة، فعليه أن يشعر بالعجز أمام تصاريف الأقدار، و حظه من الاختيار. ثم أشرتُ إلى المحيط و أضفتُ: ها هو المحيط أمام ناظريك، هب أنك أحرزت منه دلواً، أو حتى جمعت منه بحراً، هل يعني هذا أنك سبرت أغواره و كشفت أسراره؟
- كلامك عن المحيط يذكرني بحكيم القرية، يبدو أن جيلكم كله يفكر بنفس الطريقة.
- و كيف تفكر أنت؟
- أفكر بلا حدود، و أشعر بلا حدود، لا أنوي العيش في دوامة العجز، أدرك أن حريتي في التصرف مقيدة لأن هناك قوة أكبر مني لم تأذن لي في التصرف، و لو أذنت لأصبحت حريتي في التصرف مطلقة و لاستطعت تغيير قلب العالم كما أردت، لكني أدرك أيضاً أن حريتي في التفكير و الشعور مطلقة من البداية، قد وهبت لي منذ خلقت إنساناً.
- كيف تكون حريتك في التفكير مطلقة و هي مقيدة بنسبة الذكاء التي ورثتها، و العلوم التي درستها، و الخبرات التي نلتها؟ كيف يكون العقل مطلقاً و منه اشتق الاعتقال و المعتقل؟
- و هكذا ترى المشاعر أيضاَ؟
- كما يمكن خداع العقل يمكن خداع المشاعر، و كما يزيغ العقل تزيغ المشاعر، و لو مدحت لك شخصاً و أنشدت لك الأشعار في جميل خصاله ستحبه، و لو ذممته لك و نظمت لك القصائد في قبيح فعاله ستبغضه، و أعدك أنني في الحالين لن أكون كذاباً.
- أرجوك لا تفرض علي نتائجك، أخبرتك أن قصتي ليست قصتك، و أن رحلتي ليست رحلتك.
- صدقت يا صادق، أنا بدأت رحلتي في خريف العمر و أنت بدأتها في ربيعه، و فررت أنا إلى قريتك و فررت أنت منها، و قصتي أوشكت على نهايتها بينما قصتك لا تزال في بدايتها، أدرك هذا جيداً. أطرقتُ لحظات ثم رفعتُ رأسي و سألتُه: هل فتحت الصندوق؟
- أجل. و طالعت الوصايا، لكني لم أعرف أين السفينة التي علي أن أركبها، و لم أحدد الأصنام التي يجب أن أكسرها، و لم أجد العصا التي لا بد أن ألقيها.
- ستعرف يوماً و ستجد حتماً.
- و هل عرفت أنت و وجدت؟
- ألم تخبرني أن قصتك غير قصتي؟
- بلى.
- و أنا بدوري أخبرك أن سفينتك غير سفينتي، و أصنامك غير أصنامي، و عصاك ليست عصاي.
- نعم، كل واحد من بني جنسنا نسيج وحده.
- أجل.
- و بما تنصحني؟
- العودة إلى القرية.
- هل هذا ما طلبته منك أمي؟
- لا.
- إذن لا.
- و إلى متى ستظل منقطعاً عنها، و لا تراسلها؟ أتظن أنها تحتمل تلك القسوة؟
- أنا لم أنقطع عنها سوى ستة أشهر من بعد الحادثة، و كان ذلك رغماً عني، و قد عاودت مراسلتها منذ ذلك الحين و حتى الآن، فأنا ليس لدي أعز منها.
- فلما لا تعود إليها؟
- عودتي معناها نهاية رحلتي، معناها فشلي في مهمتي.
- و ما معنى بقائك في تلك المصيدة؟ و حتام ستظل أسيراً لقلب العالم؟
- حتى أفهم سر نفاق هذا القلب و قسوته.
- أيهما أولى: أن تفهم سر القلب القاسي أم العودة إلى القلب الحنون؟
- القضية ليست أن تعود إليه و إنما أن تحمله معك، و ليست أن تعيش فيه و إنما أن تعيش به.
- و متى تظن أنك ستفهم هذا السر؟
مد الفتى يده إلى الحقيبة، و وضعها على ركبتيه، و فتحها ليخرج منها صندوقين، أحدهما الصندوق الذي أرسلته والدته السيدة "رحيمة"، و الآخر مماثل له تماماً إلا أنه حديث الصنع، و فتح الصندوق الأول و أخرج منه القطع الجلدية التي تحتوي الوصايا الثلاث، و أخرج من الآخر ثلاث قطع جلدية أيضاً إلا أنها خالية من الكتابة، ثم أعاد الصندوقين إلى الحقيبة مرة أخرى و أغلقها، و استخدمها كطاولة وضع عليها من الجهة اليمنى الوصايا الثلاث، و من الجهة اليسرى وضع القطع الجلدية الخالية، ثم قال: كما أرسلت لي أمي تلك الوصايا الثلاث، أرسل لي قلب العالم ثلاث رسائل أيضاً شعرت بها في عقلي مع أعنف ثلاث لكمات تلقيتها في الحادثة الأخيرة منذ عامين تقريباً لكني لم استطع أن أتبينها وقتئذ، و لم أتمكن من فك طلاسمها، و منذ ذلك الوقت و أنا أحاول حلها و كشف سرها، و عندما أنجح في حل تلك الشفرة سأتحرر من أسر قلب العالم.
- الصندوق الأول أعرفه تمام المعرفة، أما الثاني فمن أين لك به؟
- صنعته بنفسي، ألم أخبرك عن مدى شغفي بهذا الصندوق، و ما له من ذكريات عندي.
- يبدو أنك ورثت تذوق الجمال و صناعته من جدك.
- أشكرك.
- و كيف كانت محاولاتك لفهم رسائل القلب القاسي، قلب العالم الحالي؟
- كنت أستحضر الأحداث التي مرت بي قبل الواقعة ثم أستعيد المشهد و أحاول أن أنصت و أفهم.
- و هل كنت تشعر بألم الركلات و اللكمات وقتها؟
- نعم.
- لا يمكن الفهم وقت الألم، لا بد أن تتحرر من الألم أولاً.
- و كيف يمكن ذلك؟
- أنت كنت تستعيد المشهد من الداخل، تشاهده من خلف ضلوعك المحطمة، و تشعر أنك داخل هذا الجسد و الركلات و اللكمات تأتيك من الخارج. أليس كذلك؟
- بلى.
- أريدك الآن أن تستعيد المشهد من الخارج، أخرج من خلف أضلاعك المحطمة، و شاهد هذا الجسد من الخارج و كأنه ليس جسدك أنت، و انظر إلى وجوه المهاجمين إلى عيونهم إلى أفواههم، ستقرأ فيها الرسائل التي أرادوا إيصالها.
أغمض الفتي عينيه، و أراح رأسه إلى الخلف، و بعد عدة دقائق لاحظت دمعتين تفلتان من قبضتي جفنيه، ثم فتح عينيه و التقط قلمه من جيب قميصه، و بدأ يسجل ما وصل إليه على القطع الجلدية المرصوصة على الجهة اليسرى من الحقيبة، ثم قال و هو يجفف دمعه: كنت كلما استعدت هذا المشهد أشعر بالألم لكن دون بكاء، و هذه هي المرة الأولى التي استعيده فأبكي لكن دون ألم.
التقطت الحقيبة منه و وضعتها على ركبتي، و أخذت أطالع القطع الجلدية و ما كتب فيها، فوجدت الوصايا التي أحفظها عن ظهر قلب على الجهة اليمنى:
(لكي تجد الحرية يجب أن تركب سفينة النجاة)
(لكي تعيش حراً يجب أن تحطم جميع الأصنام)
(لكي تظل حراً يجب أن تلقي عصاك)
و على الجهة اليسرى وجدت ما سجله الفتى منذ لحظات:
إن أردت أن تعيش في قلب العالم فعليك أن تكون تابعاً لا متبوعاً.
إن أردت أن تنجح في قلب العالم فعليك أن تقبل بالتاريخ المزور.
إن أردت أن تستمر في قلب العالم فعليك أن ترضى بالاختيار الزائف.
قلت: أحسب أن الشفرة قد حلت، و أن الصورة أمامك قد اكتملت، فماذا أنت صانع؟
- سأنطلق.
- إلى أين؟
- إلى المحطة التالية في رحلتي.
- أما زلت تريد أن تصلح العالم و تحرره؟ أما زلت ترى أن مكتبة الحكيم فيها الكفاية؟
- إذا أردت أن تعيش سعيداً فيجب أن تسعد من حولك، و كذلك إذا أردت أن تحيا حراً فعليك أن تحرر من حولك.
- الإشكالية يا صديقي أن الأولى عكس الثانية.
- كيف ذلك؟
- لا يسعد الإنسان حقيقة إلا بعد أن يسعد من حوله، بينما لا يمكنه أن يحرر من حوله إلا إذا تحرر هو أولاً، يعني الحالة الأولى تتوافق مع قاعدة ساقي القوم آخرهم، بينما الثانية تتلاءم أكثر مع قاعدة ابدأ بنفسك فانهها عن غيها، فإن انتهت حقاً فأنت حكيم. ففي أي السبيلين ستمضي: سبيل السعادة أم سبيل الحرية؟
- أنا ما زلت في رحلتي مع الحرية، و لن أنتقل منها لغيرها حتى أصل فيها إلى نتيجة مرضية، أعلم أنني تعثرت كثيراً و توقفت طويلاً، لكني سأبدأ من جديد، و سأصطحب معي نصيحة حكيم قريتي، و وصايا أسرتي، و أحسب أنني حين أجدها و أدل عليها من حولي سأكون سعيداً أيضاً.
- فما هي محطتك التالية إذاً؟
- محطتي التالية هي الوصية الأولى التي جئتني بها، سأبحث عن سفينة النجاة.
- و أين تتوقع أن تجدها.
- من ضمن ما قرأت في مكتبة الحكيم كتاب قديم جداً و عجيب جداً، يتحدث عن منطقة كانت مأهولة ثم أصبحت مهجورة، كانت مقصداً للرحالة و السالكين الذين يبحثون عن أرض تجتمع فيها التناقضات، و تنفك فيها المعضلات، ظاهرها غير باطنها، من يصلها يشعر أنه انتقل من بعد إلى بعد، و من أرض إلى أرض، و من زمان إلى زمان، و من حياة إلى حياة، كأنها جسر بين عالمين، أو برزخ بين حياتين، لكن الخطورة تكمن في أن الغالبية يصلون إلى ظاهرها و لا يصلون إلي باطنها، و من يصلون منهم غالباً لا يعودون منها، و من يعودون منها لا يتكلمون عنها، و قد ارتبط اسم تلك المنطقة ببعض حوادث الاختفاء، قيل إن ذلك من الأساطير، و قيل بل إشاعات، لكن في النهاية توقف السالكون عن قصدها، و لم يكشف حتى الآن عن سرها، لا أعرف اسمها، و لم أجد رسمها، لكن إن عثرت عليها فأحسب أني سأجد فيها سفينة نجاتي.
مع كل جملة نطقها الفتى كان ضربات قلبي تتصاعد و أنفاسي تتلاحق، فلما انتهى من كلامه قلت له:
- هذه المنطقة تقع في بلادنا، و نطلق عليها غابة الجبل، الآباء و الأجداد يذكرون عنها أشياء من قبيل ما ذكرت، و الأبناء و الأحفاد لا يكادون يعرفون عنها شيئاً مما قصصت، و مما يذكره الأجداد عنها أن فيها عدة متاهات تصل ظاهرها بباطنها، لكن عبور بحر الظلمات أيسر من عبور إحدى هذه المتاهات، أفتطمع أن تتخذ من متاهة الهلاك سفينة للنجاة؟
- أجل. فالكتاب الذي ذكرته لك يحتوي على خريطة لإحدى هذه المتاهات.
- و كيف ستحصل على هذا الكتاب الآن؟
- لا أحتاج إلى الكتاب، تكفيني الخريطة.
قال العبارة السابقة، ثم فتح الحقيبة مرة أخرى، و أخرج من أحد جيوبها ورقة مطوية، نشرها بين أيدينا و هو يقول بحماس و عيناه تشعان بريقاً: نقلتها خطاً بخط، و نقطة بنقطة.
- هذه مخاطرة كبيرة، و العواقب فيها قد تكون وخيمة، ما يدريك صدق الكتاب و الخريطة، و ما يدريني دقة نقلك لها؟
- الأمر يستحق المخاطرة، و المسألة تستحق التجربة.
فكرت في نهيه و محاولة منعه، لكني تذكرت أن السيدة "رحيمة" لم تفعل ذلك في رحلته الأولى، و تذكرت قولها:( رغبته في السفر أضحت كالشجرة المحرمة التي يعجز عن الصبر عنها البشر)، فقلت: هل تأذن لي بمرافقتك؟
أجاب ببساطة ممتزجة بالمودة: يسعدني ذلك، و قد أحتاج عونك، فهي بلدك على كل حال، و أهل مكة أدرى بشعابها.
- ما عدا هذا الشعب يا ولدي، ما عندي فيه تجربة، و لا عهد لي به من قبل.
ابتسم الفتى ابتسامة مشرقة، ثم أعاد الخريطة إلى الحقيبة، و أخرج منها الصندوقين مرة أخرى، و وضع في الأول القطع الجلدية الست التي تشتمل على وصايا القرية و رسائل قلب العالم، و أعاده إلى الحقيبة، ثم التقط الصندوق الثاني و قدمه إلي قائلاً: لاحظت مدى إعجابك به، أرجو أن تقبله مني هدية.
بادلت ابتسامته المشرقة بابتسامة واسعة، و لمعت عيناي و تهلل وجهي من فرط السعادة، و التقطت منه الصندوق، و أنا أتذكر أول مرة رأيته فيه في بيت السيدة "رحيمة"، ثم و هي تخرج منه الوصايا على شاطئ بحيرة القرية و تسلمه لي، ثم عندما رفعته فوق رأسي و أنا أصيح على الفتى حتى لا يهرب مني للمرة الثانية، ثم قلت: هدية فريدة من شخص فريد، و هبة غالية من صديق غال، و ذكرى جميلة لأحداث و أيام جميلة.
تهيأ الفتى للانصراف و هو يقول: ما زالت لدي بعض الأمور التي يجب أن انتهي منها في قلب العالم قبل المغادرة، عندما أتجهز للسفر سأتصل بك.
- سأكون في انتظار اتصالك.
انصرف الفتى، و بقيت جالساً أمام المحيط فترة من الزمن متأملاً الماضي و مترقباً الآتي، ثم أخذت أكتب رسالة إلى السيدة "رحيمة" أنبئها فيها أنني قد وفيت بوعدي و أتممت مهمتي و أوصلت الأمانة إلى ولدها، و أطمئنها بأنني سأرفقه في رحلته الثانية، ثم شرعت في كتابة الصفحات الأخيرة من تلك الورقات و وضعتها في التحفة الفنية التي أهداها لي الفتى، ثم توجهت إلى أقرب مكتب للبريد لأرسل هذه الهدية لابني الوحيد، و كان آخر ما كتبته ما يلي من السطور:
ولدي الحبيب.. حفيدتي الغالية:
هذه الورقات خلاصة رحلة امتدت لخمس سنوات، أبحرت فيها و أنا أحملكما في عقلي و قلبي، حاولت فيها الرسو على شاطئ الحرية لكني لم أجد لها شاطئاً، فالحرية ليست قرية و لا بلدة و لا مدينة، ليست بقعة من المكان كما أنها ليست فترة من الزمان، كما أخبرت الفتي لا يمكنك أن تراها بعينيك أو تلمسها بيديك لكنك تقترب منها و تشعر بها خاصة في البدايات المشرقة التي يكون الدافع لها الخير المطلق و في النهايات المفرحة التي تقترب فيها من الحقيقة المطلقة، هي محصلة قد تصل إلى الصفر و قد تستمر إلى ما لا نهاية، و تضيق أحياناً حتى تصل إلى العدم و تتسع أحيانا حتى تقترب من المطلق، يستحيل في ظني تفسيرها و إدراك كنهها بقوانين كوننا و قدرات عقولنا، فهي تحتاج إلى جوهر آخر من وراء العقل، و إلى عالم آخر من وراء الكون.
أحسب أن رحلتي قد انتهت، و أن مهمتي قد أنجزت، و أن أجراس العودة قد قرعت، و لكن بقيت لي مهمة واحدة، أن أساعد الفتى على الوصول لغابة الجبل، هو يظن أنه سيجد هناك حلاً للغز، أنا لا أظن ذلك و لكني لا أستطيع أن أتركه، سأنهي مهمتي الأخيرة ثم نلتقي.
عندما تصلك هذه الهدية ستكون حوريتك الجميلة قد بلغت ربيعها الخامس عشر من عمرها المبارك، أرجو أن تشاركها تلك الهدية، ثم تعيد الكرة عند تمامها العقد الثاني من حياتها السعيدة، إن كنت معكما وقتها سأعيد قرأتها معها، و إن لم أكن ففيكما الكفاية و اذكراني بالخير.
محبكما
الجد نادر
* * *
قبيل العصر وصل صوت هدير سيارة إلى أسماع الرفاق خارج الكهف، و بعد لحظات ظهرت المقطورة على مرمى البصر، فقال "هانئ": ألم أقل لكم. ها هو قد عاد.
فهبوا مسرعين و اجتازوا الممر الذي يفصل ساحة الجبل عن المقطورة ليعرفوا ما جد من الأخبار، فترجل "لبيب" من المقطورة ملوحاً بيده و هو يقول: اطمئنوا كل شيء سيكون على ما يرام.
"ماهر": ماذا فعلت.
"لبيب": الحفار في الطريق، و أتوقع أن يصل بعد ست ساعات من الآن.
"هانئ": ستكون أطول ست ساعات في حياتنا و حياتهم.
"ليلى": المهم أن يصل قبل فوات الأوان.
"لبيب": قلت سيصل.
"حنان": لماذا تأخرت؟
"لبيب": اشتريت المزيد من الماء و الغذاء، و المستحضرات الطبية و المصابيح الكهربية، و كل ما يمكن أن نحتاج إليه بعد تحرير الشباب.
* * *
طوت "حورية" أوراقها و الأسئلة تدور في رأسها، ما هذه الأحاجي يا جداه؟ هل أنت هنا في "غابة الجبل"؟ لماذا لم تعد طوال تلك السنين؟ هل فقدت الخريطة؟ هل اختفيت أنت أيضا مع من اختفى؟ لماذا لم يخبرني أبي؟
يبدو أنه لا بد مما ليس منه بد، قالت هذه العبارة ثم قامت و توجهت نحو فتحة الممر، لمحها "عاطف" من الجهة الأخرى للكهف و فهم قصدها، فنهض ليحول بينها و بين مرادها، أدركت ما نوى فأسرعت الخطى و كذلك فعل، زادت من سرعتها فزاد من سرعته، ركضت فركض بدوره، سابقته فسابقها ثم سبقها، فوصل إلى مدخل المتاهة قبلها ثم استدار و عقد ساعديه أمام صدره حائلاً بينها و بين خيارها، و تجمع الرفاق من أرجاء الكهف ليلحقوا بهما.
"حورية" بغضب: لا وصاية لك علي، و ليس من حقك منعي.
"عاطف" بانفعال: إنما أفعل ذلك حرصاً على مصلحتك.
"حورية": و ما يدريك أين تقع المصلحة في هذا الموقف؟ أتظن نفسك أرجح عقلاً و أكثر ذكاء مني؟
"عاطف": أنا لم أقل هذا يا "حورية".
"حورية": فما هي المزية التي لك حتى تمنعني من خياري و تجبرني على خيارك؟
"عاطف": لقد أخبرتك. إنه الحرص ليس إلا.
"حورية": بل أنا أخبرك، إنه ليس الحرص إنها القوة، فهب أنني الأقوى و أنني أرى المصلحة في اجتياز المتاهة، أيعطني ذلك الحق في جرك من قفاك لعبورها رغم أنفك؟
"عادل": رويدك يا "حورية"، لا يحق لك هذا، و لا يليق بك.
"حورية": اعتذر عن الإساءة، لم أقصد الإهانة، فقط أردت أن أضرب مثلاً يوضح ما عنيت.
"عاصم": دعها يا "عاطف"، قد أديت ما عليك من النصح لها، و كل واحد له عقل في رأسه يعرف به طريق خلاصه.
"ماجد": رغم فجاجة المثال الذي ذكرته، إلا أنها محقة، فلو كنا نمثل مجتمعاً أو دولة لكان الفصل في هذا النزاع للقوانين و النظم و الحكومة و البرلمان، و كانت ستجري قاعدة الانتقاص من حرية الفرد لصالح المجتمع، و قاعدة التنازل عن قدر من حرية الفرد في سبيل الاستفادة من منافع الدولة، و لكن هذا الوغد الذي نصب لنا هذا الشرك، تعمد ألا تكون هناك سلطة، و أن نكون مجرد أفراد متساوون، و بالتالي ليس أمامنا إلا إقرار حق الاختيار المطلق أو استخدام القوة.
أفسح "عاطف" الطريق أمام "حورية" و هو يقول: بل حق الاختيار، فما جئنا هنا إلا من أجل الحرية.
"حورية": شكراً لكم جميعاً، و أرجو أن تسامحوني.
و عندما خطت "حورية" نحو المتاهة، تعلقت بها "سارة" و "جميلة"، فقالت الأولي: أرجوك أن تعيد التفكير.
"حورية": قد فعلت مراراً.
"جميلة": أرجوك لا تتركينا.
"حورية": لو علمت نفعاً لكم في بقائي معكم لما تركتكم.
"سارة": سأرافقك حتى تتفرع بنا المتاهة.
"جميلة": ليتني استطيع التغلب على رهبتي من دخول المتاهة.
"حورية" و هي تعانقها: لا عليك، لن تصنع هذه المسافة القليلة فارقاً كبيراً.
تقدم "عادل" و مد يده بمصباح كهربي إلى "حورية" و هو يقول: احتفظي به، من المؤكد أنك ستحتاجين إليه.
"حورية": معي واحد بالفعل.
"عادل": من الأفضل أن يكون معك اثنان.
التقطت "حورية" منه المصباح، و قالت: شكراً لك.
"عادل": في أمان الله.
"عاصم": أرجو لك النجاة و التوفيق.
"عاطف": لا تترددي في العودة إن أحسست بالخطر، تصحبك السلامة.
"حورية": شكراً لكم جميعاً، أرجو أن تصلكم النجدة سريعاً.
عبرت "حورية" و "سارة" من مدخل المتاهة الذي بدا كفك وحش عملاق يلتهم فريسته، و سارتا حتى وصلتا إلى نقطة التفرع الأولى، فقالت "حورية" لصديقتها: حسبك هنا.
"سارة": بل سأكمل معك حتى التفرع الثاني.
و عند التفرع الثاني، تعانقتا ببكاء صامت حتى انتقلت دموع كل منهما إلى كتف الأخرى، ثم افترقتا، فسلكت "سارة" طريق العودة إلى الكهف، و تقدمت "حورية" نحو الفرع الأوسط الذي أخبرها رفاقها أنه لم يتفرع حتى أقصى موضع تمكنوا من الوصول إليه داخله، و أخذت تعد خطواتها لتتمكن من تقدير المسافة التي ستقطعها، و لتزيل عن نفسها بعض الشعور بالرهبة، و هي تقول لنفسها: ها نحن ننتقل من عد الأنفاس لتقدير الساعات إلى عد الخطوات لتخمين المسافات.
طالت بها الطريق، و كانت تميل بها أحياناً ذات اليمين و ذات الشمال و لكن لا تتفرع، و استمرت في السير حتى أحصت عدة آلاف من الخطوات ثم يئست من العد، و كلما طالت بها الطريق زاد رجاءها و عظم خوفها، و كانت الاحتمالات الثلاثة تتناوب أمام عينها، إما أن تكون الطريق مسدودة في النهاية، و عندها ستواجه صعوبة العودة بعد قطع هذه المسافة الشاسعة، و إما أنها ستتفرع ثانية، و عندها ستواجه صعوبة الاختيار و معضلة الترجيح بين الفرعين الجديدين بغير مرجح، و إما أنها ستحقق أملها في نيل المطلوب و درك المقصود، و عندها أيضا ستواجه صعوبة العودة إلى الديار بعد اجتياز الاختبار.
بدأت تشعر بالإرهاق الشديد، و بدأ يتمكن منها الظمأ، و اضمحلت عزيمتها فتثاقلت خطواتها، و لاح الاحتمال الرابع أمام مخيلتها، احتمال أن تكون المتاهة لا نهاية لها و أن تقضي فيها نحبها، فأخذت تنظر حولها بعينين زائغتين مخافة أن تجد هيكلاً عظمياً لمن سبقها يؤكد لها أنها وصلت قبرها، استمرت الوساوس في صحبتها، و لم تتنازل المخاوف عن رفقتها، و تضاءلت الأماني عندها حتى أصبح منتهى أملها أن تموت في الضوء على ظهر الأرض لا أن تموت في الظلام في بطن الجبل.
توقفت لتقرر هل تجلس لتنتظر الموت دون بذل المزيد من الجهد و التعب أم تستمر في السير حتى أخر رمق؟
جلست بالفعل و شعرت بشيء من الراحة بعد طول المشي، لكنها سرعان ما اكتشفت أن انتظار قدوم المنايا أقسى من الذهاب إليها، فقامت و أطلقت شعاع المصباح لأبعد مسافة ممكنة، فلاحظت أن الطريق تتسع بالتدريج عند هذه النقطة، فتجدد الأمل في روحها، فبثت العزيمة في نفسها، و القوة في بدنها، فواصلت سيرها حتى تأكد لها ما لاحظته عينها، و كلما تقدمت كلما اتسعت الطريق أمامها، حتى انتهت إلى ساحة فسيحة، فوقفت في وسطها، و أضاءت المصباح الإضافي الذي أعطاه لها "عادل"، و على ضوء المصباحين تفقدت الجدران المحيطة بها من اليمين إلى الشمال، فوجدت في أقصى اليمين طريقاً فرعية جديدة، و كلما سار الضوء على الجدار كلما رأت طريقاً أخرى، حتى أحصت منها سبعاً، فجثت على ركبتيها و دفنت وجهها في كفيها، و بكت بحرقة على الحال التي وصلت إليها، كانت تتوقع طريقين، و كانت تحمل هم الاختيار بينهما، و ها هي تجد نفسها مطالبة بالاختيار بين سبعة خيارات لا اثنين، و شعرت أنه كلما اتسعت حريتها في الاختيار ضاقت فرصتها في الصواب، فما فائدة الاختيار بغير علم، و ما قيمة الحرية بلا عرفان، فرفعت وجهها نحو السماء و قالت: أرجوك. . لا أريدها. . لا أريد الحرية، أريد الهداية.
* * *
تحلق الرفاق أمام الممر المؤدي إلى الوادي الواقع أمام الكهف قبيل الموعد المتوقع لوصول السيارة التي تحمل الحفار، و أضاءوا جميع ما معهم من المصابيح ليسهلوا على السائق التعرف على موقعهم عن بعد، فبدت البقعة التي يجلسون فيها كقطعة من النهار المشرق وسط الليل المظلم، و جلسوا يترقبون مرور الدقائق الأخيرة من الساعات الست لتحين ساعة الصفر، مرت الدقائق ثقيلة بطيئة و دقت ساعة الصفر و لم تظهر السيارة و لم يصل الحفار، أرهفوا السمع و أطلقوا البصر لعلهم يسمعون الموسيقى الصاخبة الصادرة عن محرك السيارة أو يشاهدون الأضواء الراقصة المنبعثة من مصابيحها، لكن لا الأولى شنفت أذانهم و لا الثانية خطفت أبصارهم، و استمرت الدقائق في المرور البطيء المسعر للقلق المدمر للأمل، و أربعة أزواج من العيون تنقل البصر بين الجهة المترقب وصول الحفار منها بتربص و شغف و بين النظر للدكتور "لبيب" بغيظ و غضب، ثم مال "ماهر" نحو "هانئ" و همس في أذنه: ( لو لم تصل النجدة فلن يكفني قتله).
ألقى "ماهر" عبارته و لم ينتظر جواب صاحبه، و إنما توجه نحو صخرة مرتفعة إلى حد ما و تسلقها رغم إصابته لتتيح له مساحة أوسع و مسافة أبعد من الرؤية، و في نفس الوقت تسلقت "ليلى" إحدى الشجيرات على الجهة المقابلة لنفس الهدف، و بعد حوالي نصف ساعة، صاحت بمزيج من الفرح و الجزع: أرى أضواء سيارة من بعيد، لكني لا أدري هل هي متجهة إلينا أم لا؟
"حنان": يجب أن نجبرها على التوجه إلينا. قالت عبارتها و التقطت أحد المصابيح القوية و أخذت تطفئه و تشعله عدة مرات في الاتجاه الذي أشارت إليه صديقتها.
"ليلى": أشعر أنه يقترب، لكني لا أدري هل التقط إشارتك أم أنه طريقه بطبيعة الحال.
"لبيب": لا بد أنها سيارة الحفار، من سيأتي لهذا المكان في هذا الوقت غيرهم.
صاحت "ليلى" بفزع: إن كان كذلك فلما يبتعد الآن!
في هذه اللحظة كان "لبيب" يمر أسفل الصخرة التي يجلس "ماهر" فوقها، فلم يفلت الأخير الفرصة وقفز نحوه كالصاعقة فطرحه أرضاً و اشتبكا في الصراع، حاول "لبيب" أن يدفعه من فوق صدره، لكن "ماهر" كان يعرف تماماً ما يريد، فلكمه بيده اليمنى في نفس اللحظة التي سلب فيها سلاحه بيده اليسرى، اشتد فزع "هانئ" و توجه نحوهما مسرعاً لمنع وقوع جريمة محتملة، و لكن قبل أن يصل إليهما، سمع صوت انطلاق رصاصة أحدثت دوياً مدوياً، فصاح بأعلى صوته: لا.
صاح "ماهر": حنانك يا دكتور "هانئ". أنا أطلقت رصاصة في الهواء للفت انتباه السيارة إلينا فهي أملنا الأخير.
و في نفس الوقت صاحت "ليلى": السيارة توقفت بالفعل، و ها هي تغير اتجاهها نحونا.
"حنان" بفرح: لقد نجحنا.
"ليلى": لكنها ما زالت بعيدة و أخشى أن تحيد عنا مرة أخرى.
قام "لبيب" و هو ينفض الغبار عنه و قفز في المقطورة و أدار محركها و أشعل مصابيحها الأمامية، و بدأ يستخدم آلة التنبيه لجذب السيارة نحو موقعهم.
"ليلى": لقد انحرفت السيارة عن مجال رؤيتي، لكني أحسب أنه يمكن متابعتها من فوق الصخرة المقابلة.
أعاد "ماهر" تسلق الصخرة، و لحق به "هانئ"، فقال الأول: أجل. يمكن رؤيتها من هنا. فأضاف الثاني: و يبدو أنها متوجهة إلينا بالفعل.
استمر هذا المشهد لبضع دقائق، كلما تقدمت السيارة كلما اشتعل حماسهم و علا صياحهم، و كلما أبطئت أو توقفت كلما اشتد جزعهم و علا صراخهم، حتى وصلت أخيراً و ترجل قائدها و مساعده، فأسرع الجميع إلى استقبالهم.
تقدم السائق نحو الدكتور "لبيب" و صافحه قائلاً: معذرة للتأخير، الطريق ليلاً في غاية الصعوبة، لقد كدنا أن نضل لولا أننا سمعنا صوت مدوياً يأتي من جهتكم، و لاحظنا بعدها بعض الأضواء، ففهمنا الإشارة، و توجهنا نحوكم.
"لبيب": ليس لدينا مزيداً من الوقت لإضاعته، هل أنتم جاهزون؟
"السائق": نعم.
و بدأ الرجل على الفور و معه مساعده في إنزال الحفار على عربة صغيرة تعمل بالكهرباء، و قاما بتوصيل الأسلاك بالمولد الكهربي الموجود في السيارة الناقلة، و اجتازوا الممر المؤدي إلى الكهف و خلفهم المجموعة كلها، و في يد كل منهم مصباح، و في اليد الأخرى حقيبة صغيرة ممتلئة بالماء و بعض الأطعمة.
أشار لهما "لبيب" على الموضع الذي يريدهما أن يبدأ منه الحفر، فقاما بتثبيت الحفار عنده، و أتخذ كل منهما الموضع المناسب، ثم قام السائق بسحب اليد المخصصة لبدء التشغيل.
و بدا صوت الحفار المزعج الصاخب كأعذب لحن سمعته أذانهم.
* * *
كان الجهد قد بلغ بأصحاب الكهف كل مبلغ، و مع ذلك تفرق كل منهم في ركن من أركانه ينظر في حاله، فعادت "جميلة" إلى التضرع و الدعاء، و عادت "سارة" إلى التضجر و الاضطراب، و غرق "عاطف" في المخاوف، و دخل "عاصم" في الوساوس، و فقد "عادل" القدرة على التفكير، و أسقط "ماجد" محاولات التدبير.
و بينما هم على تلك الأحوال، تسللت الاهتزازات لأبدانهم، و الذبذبات لأسماعهم، فقاموا جميعاً من فورهم، و أقبل بعضهم على بعض من كافة أرجاء الكهف، فالتقوا في وسطه على ضوء المصباح الضعيف الذي بقي معهم، ثم توجهوا إلى بابه، حيث تقبع الصخرة العملاقة، و كلما اقتربوا منها زاد شعورهم بالاهتزازات و سمعاهم للذبذبات، فانطلقت حناجرهم:
- أنها النجدة.
- لقد نجونا.
- إنه الحفار.
- لقد فعلها أصدقاؤنا.
- مرحى مرحى.
- الحرية الحرية.
- الحمد لله.
ثم بدأت موجة من الصيحات و القفزات و الضحكات و التصفيق تنتشر بينهم رغم الجوع و العطش و التعب، و تزداد حدتها كلما اقترب الحفار من أنجاز مهمته.
و عندما استسلمت الصخرة، و انكشفت حصونها، و سقطت راياتها، التقى الجمعان وسط الغبار الكثيف و الأتربة، و قد سلطت عليها الأضواء الكاشفة الساطعة فبدت ذرات الغبار بأحجامها و ألوانها المتباينة و كأنها مزيج من اللؤلؤ المنثور و اليواقيت و الأحجار الكريمة.
و وسط هذا المشهد الذي ظاهره يزكم الأنوف و باطنه يسعد النفوس، تصافحت الأيدي و تعانقت الأعناق، و التقت الوجوه و تشابكت القلوب، و تداولوا الزجاجات و الكؤوس، فلما انقشع النقع، و سكن الجمع، اختفى ما كان ظاهراً، و ظهر ما كان خافياً، فانطلق سؤالان من جهتين متقابلتين، أحدهما على لسان "هانئ" و الأخر من حنجرة "ماهر":
فقال الأول: أين "حورية"؟
و قال الثاني: أين "لبيب"؟
أطرق أصحاب الكهف وجوههم، ثم قال "ماجد" بمزيج من الحزن و الحذر: لقد اختارت اختبار المتاهة.
و تلفت أصحاب المقطورة حولهم ثم قالت "ليلى" بمزيج من الدهشة و الغيظ: لقد اختفى هو و صاحبيه، يبدو أنه قد هرب.
قال "هانئ" بحزم مشوب بالجزع: أين مدخل المتاهة.
أشار "عادل" إلى المدخل، فأنزل "عاطف" يده قبل أن تكتمل إشارته، و قال: أرجوك يا دكتور "هانئ"، لا تجعلنا نفقد صديقين، و نخسر خسارتين فادحتين.
اغرورقت عينا "هانئ" بالدموع، لكن لم يبد أثر ذلك على صوته و هو يقول: لا يمكنني العودة دونها، إما أن أذهب معها، و إما أن آتي بها.
فأشارت له "سارة" نحو المدخل، فالتقط حقيبتين من حقائب الماء و الطعام، و حمل معه مصباحين من المصابيح القوية الكاشفة، و انطلق دون أن يلتفت.
* * *
خرج الرفاق من الكهف و كأنما عادوا إلى الحياة بعد الموت، فشعروا بمدى لطف الهواء و جمال السماء، و توجهوا نحو الموضع الذي تركوا فيه السيارات عند مجيئهم، و أثناء مشيهم كانوا يسمعون ألحاناً عذبة لا يعلمون مصدرها، تبدو و كأنها تأتي من ثنايا الصخر و أغصان الشجر، فلما وصلوا وجدوا مفاجأة في انتظارهم، فقد كانوا يتوقعون أن يجدوا سيارة "ماجد" فقط، و لكنهم وجدوا المقطورة أيضاً، فقالت "حنان": يبدو أنه لم يهرب.
"ماهر": هل بلغ به الجنون هذا الحد؟
"عاطف": هل من المعقول أن ينتظرنا و هو يدرك ما قد نفعله به.
"ماجد": نحن بالفعل في حاجة بالغة للمقطورة، فالسيارة الجيب لن تكفينا جميعاً.
"عاصم": لعله يريد التفاوض معنا.
"عادل": أياً كان ما يريده سنعلمه بعد لحظات.
حثوا الخطى نحو المقطورة، فلما وصلوا عندها لم يجدوا أحداً داخل موضع القيادة، فصعدوا داخلها فلم يجدوا أحداً أيضاً، نزل "ماجد" من المقطورة، و صعد إلى موضع قيادتها فوجد المفتاح في موضعه، فصاح بفرح: أبشروا يا رفاق، حصلنا على وسيلة مواصلات جاهزة للانطلاق.
نطق عبارته السابقة و هو يدير المفتاح ليتأكد من ذلك، و بالفعل بدأ المحرك في الدوران، و فور تشغيل المحرك، اشتغلت الشاشة أيضاً داخل المقطورة، و ظهر عليها الدكتور "لبيب" و هو يوجه رسالته الأخيرة لهم، قائلاً:
لقد أبليتم بلاء حسناً يا شباب، و أداؤكم داخل الكهف كان رائعاً، رغم أنني لم أتمكن من تفسير قرارات و خيارات كل منكم ربما لأنني لم أعرف ما دار في خبايا نفوسكم، يبدو أن الحرية ليست أكبر خدعة في تاريخ البشرية كما ظننت و لكنها أكبر لغز فيه.
أعتقد أنه من الواضح الآن لديكم أنني لم أتخل عنكم، و هذه المقطورة دليل إضافي على حرصي عليكم، ما واجهتموه من المشاق لم يكن بسبب التجربة، أنا أردت أن أعلمكم و أراد القدر أن يختبركم، لو اكتملت التجربة لكان جدير بكم أن تشعروا بالرضا عما أنجزتم في مجال النفس و أن تشعروا بالفخر لما قدمتم لساحة العلم، لقد أنهيت التجربة و لا يعني ذلك الاعتراف بالفشل، فهي التجربة الأولى من نوعها، و في المرة القادمة سأكون أكثر حرصاً، فالمدة الزمنية يجب أن تطول، و على أن أجد طريقة لتسجيل ما دار داخلكم كما تكمنت من تسجيل ما دار بينكم، و لا بد بالطبع من وضع كاميرا احتياطية في التجربة الثانية، فكونوا مستعدين.
ثم ابتسم ابتسامته المستفزة المعهودة و أضاف:
تذكر يا "ماهر" أنني عالجت قدمك و أنك لكمت وجهي.
هذا هو الفارق بين العالم و المتعلم.
انتهى التسجيل و انطفأت الشاشة، و تناثرت النظرات بين الأصدقاء، و تباينت التعبيرات على وجوههم، ثم توالت التعليقات:
"ماهر": المجرم يريد أن يجعل من نفسه قديساً.
"عاطف": و يريد أن يعيد التجربة كرة أخرى.
"ليلى": هو ليس مجرما، بل هو مجنون.
"حنان": في كلا الحالين سنبلغ عنه الشرطة، إما أن يدخلوه السجن و إما أن يودعوه مستشفى الأمراض العقلية.
"جميلة": لقد فقدنا بسببه "هانئ" و "حورية".
"سارة": لقد ظن نفسه إلهاً.
"عاصم": لكن كلامه يستحق شيئاً من التأمل.
"عادل": التجربة كانت بشعة في قسوتها، لكن لا يمكنني إنكار فائدتها.
توزع الأصدقاء بين المقطورة و السيارة الجيب، فاستقلت الفتيات المقطورة التي تطوع "عاطف" و "عاصم" بالتناوب على قيادتها، بينما توجه "عادل" و "ماهر" لمرافقة "ماجد"، و انطلقت القافلة.
"عادل" مخاطباً "ماجد": هل استمعت لرسالة "لبيب"؟
"ماجد": نعم. فهناك شاشة صغيرة أيضاً في مقدمة المقطورة.
"عادل": و ما شعورك نحو ما قال.
"ماجد": أريد أن أشكره و أقتله.
و أخذت القافلة تشق ظلام الليل بأنوارها و هي تبتعد عن غابة الجبل رويدا رويدا.
* * *
استجمعت "حورية" ما تبقى لها من قوة و قامت تتفقد الممرات السبعة لتحاول الاختيار فيما بينها، فوقفت أمام مداخلها و أخذت تسلط ضوء المصباحين- مصباحها و المصباح الذي أعطاه لها زميلها- على جدران الممرات و أرضها و سقفها، فلاحظت أن أرضية الممر الثالث تبدو و كأنها مبللة، فجثت على ركبتيها مرة أخرى و لمستها بيديها فتأكدت مما لاحظت، و قررت أن تسلك هذا الطريق، على أمل أنه حيثما وجد الماء وجدت الحياة، فالتقطت صخرة من الأرض و رسمت بها سهما على الجدار و كتبت عليه اسمها ثم شرعت في اجتياز الطريق التي اختارتها، هذه المرة لم تكن الرحلة طويلة كسابقتها، و كان هذا من رحمة ربها بها، فبعد دقائق وصلت إلى نهايتها، فوجدت عيناً من ماء مساحتها ليست بالكبيرة و محاطة بالكهف من جميع الجهات و لا توجد فتحات سوى الممر الذي جاءت منه، كاد اليأس أن يحيط بها كما أحاط الكهف بعين الماء، إلا أنها تساءلت بينها و بين نفسها ما مصدر هذا الماء و من أين جاء؟
بعد لحظات من التردد خاضت "حورية" في الماء حتى وصل إلى جذعها، تناولت غرفة منه و تذوقته بحذر فوجدته عذباً، فشربت منه قليلاً رغم عطشها مخافة ما يمكن أن يسببه من الضرر، ثم وضعت حقيبتها على رقبتها كالسلسلة و غاصت في الماء، و على ضوء مصباحها تمكنت من رؤية الفتحة التي ينبع منها الماء، كانت على عمق ثلاثة أمتار تقريبا، أخرجت رأسها من الماء و التقطت نفساً عميقاً ثم حبسته و غاصت هذه المسافة في محاولة لمعرفة إلى أين تؤدي الفتحة التي ينبع منها الماء، وصلت إلى فوهة الفتحة تحت الماء و سلطت عليها الضوء لكنها لم تستطع أن تحدد مدى عمقها و لا المسافة المطلوب سباحتها تحت الماء لاجتيازها، فصعدت إلى سطح الماء مرة أخرى لالتقاط أنفاسها، و التفكر في أمرها، و بعد دقائق حزمت أمرها.
فتحت حقيبتها و أخرجت منها كيساً و نفخته حتى امتلأ ثم قبضت على فوهته بقوة لتمنع تسرب الهواء منه، و قبضت بيدها الأخرى على المصباح، ثم أخذت تملأ رئتيها بالهواء و تخرجه عدة مرات و كأنما تودعه، و في المرة الأخيرة حبسته و لم تخرجه و غاصت في اتجاه الفتحة التي ينبع منها الماء و أخذت في السباحة بأقصى سرعتها و أشد قوتها، و كانت كلما تفتقر إلى الهواء تثبت فوهة الكيس على فمها بإحكام و ترخي قبضتها قليلاً ثم تقوم بالشهيق و تحاول أن تحتفظ به في رئتها قدر المستطاع، لم تتمكن من تكرار هذا الأمر أكثر من مرتين ثم تركت الكيس يفلت من قبضتها، و أخذت تصارع الماء لتتجنب الغرق، و عندما شعرت بأن قواها تخور و أنها على وشك الهلاك لمحت بصيصاً من الضوء مصدره ليس الصباح الذي تحمله، فمدت يدها إلى أعلى تبحث عن أي شيء تتعلق به قبل أن تغيب عن الوعي، فعلقت يدها بشيء عرفت فيما بعد أنه كان مجدافاً.
في تلك الأثناء كان الجد "نادر" و رفيقه الفتى "صادق" يستقلان قارباً في وسط البحيرة التي تقع في باطن غابة الجبل، كان الفتى واقفاً في مقدمة القارب يقوم بالتجديف بينما الجد جالساً في الجهة المقابلة، كان الفتى يجدف يمنة مرة و يسرة مرة ليحافظ على توزان القارب، و فجأة و قبل أن ينقل المجداف من الجهة اليمنى للجهة اليسرى شعر بمقاومة عنيفة كأن جسم ثقيل تعلق بالمجداف، فاختل توازنه و سقط في الماء، لكنه قبل يسقط لمح يداً بشرية قابضة على المجداف، كان أثناء سقوطه يجذب طرف المجداف إلى الأسفل بينما الطرف الأخر يرتفع إلى الأعلى و معه صاحبة اليد التي بدت و كأنها حورية البحر الأسطورية، و أخيراً سقط الفتى على الجهة اليسرى بينما كانت اليد تسحب المجداف من الجهة اليمنى لتغوص به مرة أخرى، تحرك الجد بسرعة ليلتقط المجداف قبل أن يغوص و جذبه ناحيته بيده اليمنى و استمر في جذبه ليصل إلى اليد التي تعلقت به، و لكنه قبل أن يصل إليها أفلت المجداف منها، فقبض على معصم الفتاة بيده اليسرى مسرعاً ليمنعها من الغرق، و جذبها ناحية القارب حتى ظهرت رأسها من الماء لكنه لم يستطع أن يحملها وحده إلى داخل القارب فاستنجد بالغلام، الذي سبح أسفل القارب إلى الناحية التي فيها الفتاة و دفعها إلى الأعلى حتى تمكن الجد من جذبها إلى داخل القارب، ثم صعد بدوره إلى القارب و تناول المجداف و أخذ في التجديف بقوة ناحية الشاطئ بينما الجد منهمكاً في محاولة إسعاف الفتاة.
نجحت محاولة الجد و أخرجت الفتاة بعض الماء من فمها و بدأت في السعال، ثم فتحت عينيها و نظرت إلى الجد و أرادت أن تقول شيئاً لكن خارت قواها مرة أخرى و استسلمت للإغماء، فسأله الفتى: هل ستنجو؟
"نادر": أرجو ذلك، فهي لا زالت تتنفس.
رمقها "صادق" بطرف عينه و هو يقول بشيء من الخوف: هي؟ من هي ؟ و هل هي إنسية أم جنية؟
نظر "نادر" إلى الوجه الذي امتزج فيه الجمال بالبراءة، و قال: ألم تعلمك السيدة "رحيمة" أن تميز بين الملائكة و الشياطين؟ هذا وجه "حورية" من الجنة لا "جنية" من النار.
"صادق": و هل من عادة حوريات الجنة الغرق في غابة الجبل؟
"نادر": ها قد وصلنا إلى الشاطئ فلا تكثر الكلام و هات بعض الأغطية من الخيمة.
أحاط الجد جسد الفتاة بالأغطية و نقلها بمساعدة الفتى إلى جوار الخيمة، ثم أشعل النار لتدفئتها و في نفس الوقت أخذ يعد بعض الأطعمة و الشراب الساخن و هو يقول: يبدو عليها الضعف الشديد كأنها لم تذق طعاماً منذ أيام.
بعد فترة وجيزة أفاقت الفتاة بالتدريج، و عندما اكتمل وعيها نظرت إلى جدها و قالت: توقعت إن نجوت من المتاهة أن ألتقي بك يا جدي في باطن الغابة.
عقد "نادر" حاجبيه متعجباً، ثم خطر في ذهنه أن الفتاة تهذي من شدة الإرهاق، فابتسم ملاطفاً و قال: يشرفني يا ابنتي أن تكون لي حفيدة مثلك.
اعتدلت "حورية" في جلستها، و قالت مؤكدة: أنا "حورية" يا جدي. ألم تعرفني؟
كاد عقل "نادر" أن يطير مغادراً رأسه، و هو يقول: أنا بالفعل لدي حفيدة بهذا الاسم، و لكنها تبلغ من العمر خمسة عشر ربيعاً، و أنتِ يا ابنتي تبدين قد تجاوزت العشرين من عمرك.
انتقلت الدهشة إلى "حورية" و أسقط في يدها فلم تدر ما تقول، ثم تذكرت حقيبتها فصاحت فجأة: أين حقيبتي؟
"نادر" و هو يناولها الحقيبة: ها هي لا تقلقي، نزعتها من رقبتك لأتمكن من إسعافك.
التقطت "حورية" الحقيبة بلهفة و فتحتها و أخرجت منها مذكرات جدها التي وضعتها داخل كيس من البلاستيك حتى لا يصل إليها الماء، و نشرتها أمام جدها و هي تقول: أليست هذه مذكراتك؟
نظر "نادر" إلى المذكرات في ذهول و هو يقول: بلى. كيف حصلتِ عليها؟
و هنا تدخل "صادق" في الحوار لأول مرة بعدما تغلب على دهشته هو الأخر و قال: تقول لك إنها حفيدتك، فتقول لها: كيف حصلتِ عليها؟
"حورية": و أنت "صادق" ابن السيدة "رحيمة" أليس كذلك؟
"صادق" و قد عاودته فكرة أنها قد لا تكون من البشر: لا أريد أن أتدخل في أموركما العائلية، أرجو أن تخرجيني من الموضوع.
"حورية": منذ متى و أنتما في غابة الجبل؟
"نادر" و هو لا يزال غارقاً في ذهوله: منذ خمسة أيام؟
"حورية" في فزع: بل منذ خمسة أعوام.
"نادر" و "صادق" في آنٍ واحد: ماذا تقولين!
التقطت "حورية" الحقيبة مرة أخرى و أخرجت منها بطاقتها الجامعية، و وضعتها أمام جدها و هي تقول: انظر إلى الاسم يا جدي؟ انظر إلى تاريخ السنة الدراسية؟
أمسك "نادر" المذاكرات بيد، و البطاقة باليد الأخرى، و أخذ ينقل النظر من التاريخ الذي سجله بخطه على المذاكرات و التاريخ المدون على بطاقة "حورية" الجامعية، ثم هز رأسه كأنما يحاول أن يطرد الفكرة التي تفسر المسألة، لكنه لم ينجح في طردها لأنه لم يجد تفسيراً غيرها، ثم نظر إلى الاسم المدون على البطاقة، ثم رفع بصره بنظرة حانية إلى صاحبة هذا الاسم، و قام إليها يضمها إلى صدره و يقبل رأسها و هو يقول: حورية التي تركتها بالأمس و قد أتمت العقد الأول من عمرها، ألقاها اليوم و قد تجاوزت العقد الثاني! ثم أضاف ببطء كأنه لا يريد لجملته أن تكتمل حتى لا يواجه تبعاتها: يبدو أن اليوم داخل غابة الجبل بعام خارجها.
"صادق" مكرراً نفس المعنى: يعني اليوم في بطنها بسنة على ظهرها.
"نادر" و قد أخذ يستوعب الأمر و يحاول التعامل معه: يبدو أنك بدلاً من أن تجد سفينة النجاة، وجدت سفينة الزمان.
"حورية": رغم أن الأمر لا يكاد يصدق، إلا أنه يفسر لماذا لم تعد كما ذكرت في مذكراتك، لكنه لا يفسر لماذا لم يأت أبي للبحث عنك منذ خمس سنين؟ و لماذا لم يبلغ السلطات؟
"نادر": أنا طلبت منه ذلك. عندما وصلنا إلى المطار و قبل أن نتوجه إلى هنا اتصلت بأبيك هاتفياً، و أخبرته أننا لا نعلم ما قد نواجه في تلك الرحلة، و لكننا نعلم أن المتاهة هي طريقنا الوحيد للعودة، و لو تأخرنا لأي سبب و علمت السلطات باختفائنا فسيقومون بسد جميع المتاهات حتى لا تتكرر حوادث الاختفاء، و بهذا سنكون فقدنا وسيلتنا للعودة إلى الأبد.
"صادق": لدي خيمة إضافية، سأبدل ملابسي ثم أنصبها لحفيدتك لترتاح فيها بعد رحلتها الشاقة التي لا نعرف عنها شيئاً، بينما هي تعرف كل شيء عن رحلتك و عني، بل و حتى عن أمي السيدة "رحيمة" بفضل مذكرات سعادتك.
"نادر": دعها تتناول شيئاً من الطعام و الشراب الساخن، و تنال قدراً من الراحة، ثم تحكي لنا قصتها.
قام "صادق" لينفذ ما قاله، و شرعت "حورية" في تناول ما أعده لها جدها، ثم قالت: أنا بالفعل أعرف قصتكما قبل وصولكما إلى هنا، لكني لا أعرف التطورات التي واجهتكما بعد ذلك، كيف تعاملتما مع غابة الجبل؟ و ماذا وجدتما فيها؟
"نادر": المكان كما ترين مكون من تلك البحيرة، و خلفها- على الشاطئ المقابل- توجد حديقة رائعة ممتدة بعمق بين جبلين، و على هذا الشاطئ – الذي نصبنا عليه خيامنا- تقع المتاهة التي قدمنا منها، و الجبال الشاهقة تحيط بالبحيرة و الحديقة من كل جانب، فترسم هذا المشهد البديع، و في نفس الوقت تعزل الغابة و تخفيها تماماً عن العالم الخارجي.
"حورية": و كيف أمضيتم الأيام أو الأعوام الخمسة الماضية؟
"نادر": لا شيء سوى التجول في الحديقة، و لكن هذا اللا شيء هو كل شيء، فهذه الحديقة أعجوبة من أعاجيب الزمان و المكان، فور دخولك إليها يصعب عليك مغادرتها، فأنتِ تجدين فيها خلال لحظات ما كنت تبحثين عنه طوال سنوات، لا أستطيع أن أصف لكِ، لا بد من التجربة الشخصية.
"حورية": حتماً سأفعل.
انتهى "صادق" من نصب الخيمة، و انتهت "حورية" من طعامها، و قامت لتستريح و تصلح من شأنها، و عادت بعد فترة و قد استعادت نشاطها و نضارتها، فجلست مع جدها و رفيقه و قصت عليهما رحلتها، بداية من محاضرة الدكتور لبيب ثم الوصول إلى الكهف و نهاية بالمتاهة و ما أدراك ما المتاهة، أنصتا لها بجميع حواسهما، ثم قال جدها: لقد عانيت كثيراً يا ابنتي، و لكنك في النهاية نجوت.
"حورية": أرجو أن تكون النجاة قد حالفت أصدقائي أيضاً.
"صادق" كأنما يحدث نفسه: كل هذا من أجل متاهة الحرية! أتراها تستحق؟
غرق ثلاثتهم في التأمل برهة، ثم قطعت "حورية" الصمت و قالت لجدها: سأتجول قليلاً في الحديقة.
"الجد": يمكنك السير حول البحيرة و لكن ذلك سيستغرق بعض الوقت، الأفضل عبور البحيرة بالقارب، و يمكننا مرافقتك، أليس كذلك يا "صادق".
"صادق": بالطبع، و هل هناك ملاح غيري ابتعتماه هنا؟
ترجلت "حورية" و جدها على الشاطئ المقابل، بينما بقي "صادق" في القارب، فأشار الجد إلى الحديقة، و قال: ها هي بغيتك، فانطلقي إليها.
"حورية": ألن ترافقني.
"الجد": لا أريد أن أشوش عليك تجربتك، و لا أن أفسد عليك خلوتك. ثم جلس على صخرة ملساء، و أخرج من جيبه قلما و دفتراً صغيراً و قال: سأنتظرك هنا، فلدي ما أريد أن أدونه.
"حورية": لعله الجزء الثاني من رحلات السندباد.
"الجد" مبتسماً: ربما.
"صادق": و أنا سأعود إلى وسط البحيرة في محاولة جديدة للصيد.
ما أن وطئت قدماها أرض الحديقة حتى بدأت تشعر بخبرة شعورية لم تمر بوجدانها من قبل، و مع كل خطوة داخلها كانت تجد داخلها مزيجاً من الصفاء الذهني الفريد، و الإشراق الروحي العجيب، و بدأت تعيش حالة من ذوبان الجليد و زوال الحجب، فما كان قاسياً أصبح ليناً، و ما كان كثيفاً أضحى لطيفاً، و ما كان معتماً أمسى زاهراً، و ما كان غائباً بات حاضراً.
كان المكان شبيهاً بحديقة الخالدين التي اعتادت أن ترتادها للترويح أو التأمل أو المطالعة، حتى تماثيل العلماء و الأدباء و الشعراء و الحكماء كانت شاخصة هنا أيضاً و لكن مع الفارق، ففي حديقة الخالدين كانت هذه التماثيل لا حياة فيها، يغشاها الصمت و يلفها السكون، بينما هنا تشعر و كأن أرواح أصحابها تحيط بك و بها، و بمجرد الوقوف أمام واحد منها يحدث نوع من التواصل مع صاحبها، فيتلو عليك أبياته، و ينثر لك كلماته، و يطلعك على كتاباته، و يشركك في تأملاته، و يصحبك في رحلاته، فتنساب داخلك سيمفونية من الأفكار و المشاعر و الخبرات و المعارف تضطرب لها في البداية ثم تطرب لها في النهاية.
إذا تجاوزت العلماء و الأدباء و الشعراء و الحكماء و واصلت الارتقاء في تلك الجنة الغَنَّاء ستنعم برؤية الكثير من المشكلات و هي تنحل، و العديد من العقد و هي تنفك، و ما كنت تظنه مستحيلاً من باب الترجيح بغير مرجح ستكتشف أن المرجح كان حاضراً و لكنك حسبته غائباً، و ما كنت تعتقد أنه من قبيل اجتماع الضدين ستدرك أنهما لما يكونا ضدين إلا في مخيلتك، و ما كنت تراه تحصيلاً لحاصل سيتبين لك أنه لم يحصل بعد، عند هذه اللحظة ستجتمع المتناقضات أو تختفي، و ستنكشف الأسرار، و ستزول معضلة الجبر و الاختيار، و معضلة العلم السابق و الفعل اللاحق، و سترى الأمور لا بعين الرأس و لا بعين العقل و إنما بعين الروح، كما رأيتها لأول مرة في يوم الشهود.
عندما مرت "حورية" بتلك الرحلة الروحية، بدأت تجد إجابات للتساؤلات، و فهمت ما عناه جدها بقوله لها:( تجدين فيها خلال لحظات ما كنت تبحثين عنه طوال سنوات). بل كانت بمجرد أن يخطر السؤال على بالها تجد جوابه في ذهنها، و عند هذه اللحظة لم تستطع أن تمنع نفسها من السؤال عن رفاقها، فجاءها الجواب بأنهم على ما يرام و في طريقهم لبر الأمان، فقالت: و "هانئ"؟ أين هو الآن؟
- في البحيرة يستغيث بالرحمن.
كانت على وشك أن تطأ الأرض بقدمها اليسرى لتكمل خطوة جديدة إلى الأمام في الحديقة، فأبقتها معلقة في الهواء، و على الفور دارت على قدمها اليمنى مائة و ثمانين درجة رسمت قوساً مكتملة على تربة الجنة لتغير اتجاهها إلى الخلف و انطلقت كالسهم في اتجاه البحيرة، لمحها جدها من بعيد و لكنه لم يتبين ملامح الفزع على وجهها، فقال: أخبرتها أنها سيصعب عليها مغادرة الحديقة، فإذا بها تغادرها كالقذيفة، تأبى حفيدتي إلا أن تحطم توقعاتي.
عندما انتهى من عبارته كانت قد اقتربت قليلاً فقرأ على وجهها ما جعله يركض نحوها، لكنها أشارت إلى البحيرة، و صاحت بأعلى صوتها: أنقذاه.
فهم الجد الإشارة و التقط الرسالة، فالتفت بدوره إلى "صادق" و صاح و هو يشير إلى نفس المكان الذي عثرا فيه على "حورية" قائلاً: اقفز يا غلام.
انتبه "صادق" لصياح الجد و ركض الحفيدة، فقال: لا شك عندي أنك و حفيدتك تريدان قتلي. ثم ملأ رئتيه بالهواء و قفز برأسه في الماء، و أخذ يغوص حتى اختفى عن النظر، و بعد دقيقة مرت ثقيلة بطيئة، ظهر من جديد و معه الغريق، تنفست "حورية" الصعداء، ثم عاودها الاضطراب فهي لا تدري هل نجا الغريق أم قضى؟
بذل "صادق" جهداً كبيراً ليتمكن من رفع "هانئ" من البحيرة إلى القارب، ثم أنهمك في محاولة إسعافه دون أن يلتفت إلى "نادر" و حفيدته، فلما نجحت المحاولة نظر إليهما و رفع يده بعلامة النصر، فقفزت "حورية" في الهواء، و أخذت تصفق بكفيها و تدور حول جدها كأنما تراقصه، و هو يشاركها فرحتها جذلاً مبتسماً.
أخذ "صادق" يجدف في اتجاه الخيمة و أشار لهما أن يلحقا بهما سيراً على الأقدام، و عندما التقوا على الشاطئ كرروا مع "هانئ" ما فعلوه مع "حورية"، فلما أفاق من غيبوبته و استعاد حيويته سمع منهم و حكى لهم حكايته، ثم خاض في الحديقة تجربته و عندما عاد قالت له "حورية": لماذا خاطرت بعد ما زال الخطر؟
"هانئ": وعدت أباك ألا أرجع دونك.
"حورية": أنا مدينة لك إذن.
"هانئ": بل أنا المدين لكِ، فقدت أنقذتِ حياتي مرتين.
"حورية": كيف؟
"هانئ": مرة عندما رسمت السهم على ممر النجاة في المتاهة، و مرة عندما أرسلتِ لي من ينقذني من الغرق.
"صادق": يعني أنت مدين لمن صاح و صرخ و لست مديناً لمن قفز و غطس؟
ضحك الجد ضحكة ذات مغزى و قال: ستفهم غداً يا فتى.
اضطرب "هانئ" و قال: معذرة لم أقصد هذا، فأنا مدين لك أيضاً، بل أنا مدين لكم جميعاً.
"صادق": لا عليك، يبدو أن السمك في هذه البحيرة مستجاب الدعوة، كلما أردت صيداً تلقيت درساً.
"هانئ" مغيراً دفة الحديث: و الآن ماذا نحن فاعلون؟ هل ستغادرون؟
"حورية": اليوم هنا بسنة، فالبقاء صعب لكن الرحيل أيضاً صعب فما وجدناه في الحديقة كنز لا يفرط فيه.
"هانئ": يمكننا العودة مرة أخرى.
"نادر": أنا ما جئت هنا إلا لمرافقة هذا الفتى الطيب فأحب أن أعرف قراره قبل أن أختار.
"صادق": لقد غادرت قريتي منذ خمسة أعوام، و الأيام التي قضيناها هنا أضافت إليها خمسة أخرى، يعني حتى الآن غبت عن أمي عقداً من الزمان، أحسب أنه قد آن الأوان.
"حورية": لو كان معنا أبي لما فكرت في العودة أبداً. الآن أدرك لماذا الكثيرون لا يعودون، لكني لا أفهم لماذا من يعودون لا يتكلمون؟ و قد خطر لي هذا السؤال في الحديقة و رغم ذلك لم يحضرني الجواب.
"هانئ": ظاهرة حصول الجواب في الحديقة ليست مطلقة، فقد لاحظت أيضا أن الأسئلة المستقبلية لا إجابة لها هنا، فقد تسألت أثناء تجولي: هل سنعود منها أم سنبقى فيها؟ فلم تجبني.
"نادر": نعم لأن هذا اختيارك لا اختيارها.
"صادق": الحديقة و ما فيها تحتاج دراسة عميقة، و عزاؤنا في امتلاكنا لحق العودة، فمعنا الخريطة.
"حورية": هذه الخريطة ستغير وجه الحياة على ظهر البسيطة، فعندما يعلم العالم الخارجي بأسرار الحديقة سيأتي البشر إليها من كل حدب و صوب.
"هانئ": يجب أن يظل الإعلان عن هذا الكشف في حدود أضيق الدوائر العلمية الرسمية حتى لا تحدث فوضى عارمة.
"حورية": و لماذا نحرم الناس من تلك التجربة المعرفية الروحية؟ لماذا الحجر على الحرية؟
"هانئ": الحرية مرة أخرى يا "حورية"؟ المسألة هنا ليست في منح الحرية أو سلبها فنحن لا نملكها أصلاً، و لكن هناك قواعد علمية لا بد أن تتبع و اعتبارات أكاديمية لا بد أن تحترم، لا تنسي أن هذه وظيفتي، و لم يكن صدامي مع الدكتور "لبيب" إلا لأنه أراد التحايل على الأولى و القفز على الثانية.
همت "حورية" بالرد، لكن جدها تدخل ليضع حداً لهذا النقاش، فقال: دعونا ننتهي من مناقشة ما يخصنا أولاً، و نحزم أمرنا و نقر قرارنا، ثم بعد ذلك نناقش مشكلة البشرية و نحلها.
"صادق": أنا اخترت العودة.
"هانئ": أجل عودتنا أكثر فائدة للعالم الخارجي من بقائنا هنا، لا بد من وضع خطة محكمة لدراسة هذه الظاهرة يشارك فيها فريق من العلماء من عدة تخصصات و أرجو أن يكون لي شرف الانضمام لهذا الفريق.
"حورية": بل عودتنا بعدما وجدنا ستكون أشبه بخروج أبينا آدم من الجنة، و لكن ما باليد حيلة، فعلاً العزاء الوحيد في الخريطة.
"نادر": حسناً. طالما الريح تدفع سفينتنا في اتجاه العودة فدعونا نتجهز لها حتى لا يمتد غيابنا لعام أخر.
انهمك "نادر" و "صادق" في إعداد العدة للرحيل، بينما جلست "حورية" على شاطئ البحيرة شاخصة البصر دامعة العين، فلحق بها "هانئ" يحاول أن يخفف عنها، و يذكرها بأبيها، و يعدها خيراً.
بالفعل عندما تذكرت "حورية" أباها، بدأت تتحمس للمغادرة، و نشطت لتساعد جدها في جمع أغراضه، فلما انتهوا من اللمسات الأخيرة لتجهيز رحلة العودة قال الجد: أظن أننا جاهزون الآن، هل أنتم مستعدون؟
فقالوا: أجل.
فقال: إذن هيا بنا.
قام "صادق" و "هانئ" بحمل الأمتعة، و توجه الرهط ناحية المتاهة، فلما وصلوا إلى مدخلها التفتوا إلى البحيرة و الحديقة و ظلوا واقفين برهة يتأملون الغابة و يودعونها و يتذكرون أهم المشاهد في رحلاتهم، و أهم الخبرات و المعارف و الإجابات و الأسرار التي انكشفت لهم و انسكبت في أرواحهم، ثم رفع الجد يده ملوحاً للغابة بالتحية، فشعروا جميعاً أنه يعبر عما بداخلهم، ففعلوا مثلما فعل، ثم أشار الجد إلى "صادق" أن يتقدم ليقوم بدور الدليل في رحلة العودة، فاستدار الفتى و خطى داخل المتاهة و تبعه بقيتهم، و بدا و كأن الغابة تراقبهم و هم يبتعدون رويداً رويداً حتى اختفت أجسامهم داخل المتاهة، و بقيت لوهلة أصواتهم تنقل شيئاً من كلامهم.
"صادق": أين الخريطة؟
"نادر": أليست معك يا فتى؟
"صادق": ألم تأخذها منى عقب وصولنا؟
"نادر": كف عن المزاح و قم بدورك كدليلنا في الرحلة.
"هانئ": ترى كم بقينا هنا بتوقيت عالمنا؟
"حورية": ربما من ثلاثة إلى ستة أشهر.
"هانئ": مدة ليست بالقليلة.
"حورية": يا ترى ماذا فعل أصدقاؤنا فيها؟
"نادر": لو أمضينا شهراً واحداً هنا كنت سأصبح أصغر من أبيك.
"صادق": أضيئوا المزيد من المصابيح فالظلام شديد.
و بعدما قطعوا نصف المسافة، سلط "صادق" الضوء على الخريطة، و هو يقول: علينا أن نسلك الممر الأيمن ثم، ثم لم يكمل عبارته، فقد توقف فجأة عن الكلام.
"نادر": لماذا سكت يا فتى؟
"صادق": هناك ظاهرة عجيبة، بل مستحيلة.
"حورية": ماذا حدث؟
رفع "صادق" الخريطة أمامهم و سلط عليها الضوء، و هو يقول: انظروا. الجزء الذي قطعناه حتى الآن اختفى!
"هانئ": أجل. كأن الخريطة تبدأ من النقطة التي نحن فيها الآن.
"حورية": هذا معناه أننا لن يمكننا العودة للغابة مرة أخرى.
"نادر": و من يريد العودة؟
"هانئ": صحيح. فليس هناك سوى بحيرة محاطة بالجبال.
"صادق": فعلاً. الرحلة لم تحقق هدفها، و لم تكن الغابة بالنسبة لي سفينة النجاة.
"حورية": و لكن لماذا تمحى الخريطة؟ و كيف يتم هذا تلقائياً؟ لا بد أن نطلب حل هذا اللغز عندما نصل.
"نادر": و من سيصدقنا إن قلنا أنه كانت معنا خريطة و انمحت؟
"صادق": يبدو بالفعل أن الأفضل ألا نثير هذا الموضوع على الملأ.
"هانئ": المهم أن ننجو، و أن نطمئن أن أصدقاءنا على ما يرام، و نعلم ماذا فعلوا مع "لبيب".
"حورية": لكم أشتاق إلى أبي، و صديقتي "سارة".
* * *
و استمرت الرحلة و كلما قطعوا شوطاً اختفى من الخريطة، فلما وصلوا إلى نهاية المتاهة كانت الخريطة قد محيت بالكامل، و في نفس اللحظة التي خرجوا فيها من المتاهة، و في قرية "الحرية" على بعد ألاف الأميال، كان حكيم القرية يدخل إلى مكتبته، و يقوم بطقوسه المعتادة في القراءة، فيملأ المصباح بالزيت ثم يوقده، و يضعه على يمينه، ثم يشعل المجمرة و يضعها على يساره لأنه على قناعة تامة أن الروائح الطيبة تجذب الأرواح الطيبة، و أن القراءة في حضور تلك الأرواح تكون أعمق أثراً و أرجى نفعاً، ثم يجلس القرفصاء على قطعة من القطيفة اللينة و يغمض عينيه ثم يمد يده إلى المكتبة و يسحب منها كتاباً و يفتح صفحة منه ثم يبدأ في قراءة ما تقع عليه عيناه بصوت مسموع.
كان الكتاب الذي وقع في يده هذه المرة يدعى "غابة الجبل"، و كانت الفقرة التي قرأها بصوته الهادئ المميز تنص على ما يلي:
(.. و من عجائب هذا المكان أنه لا يمكن لإنسان أن يدخله أكثر من مرة واحدة في الزمان، و أنه إذا دخله ثم خرج منه نسي ما كان، فمن يصلون هناك عادة لا يعودون، و من يعودون لا يتكلمون لأنهم لا يتذكرون، نعم هم يتذكرون المكان و البحيرة و الجبال، و لكن ينسون حديقة الأسرار، يتذكرون فقط ما قبلها و ما بعدها، و لكن أبداً لا يذكرونها، و يمحى من عقولهم ما تعلموه فيها، و من قلوبهم ما تذوقوه، و من أبصارهم ما شاهدوه، و من أسماعهم ما سمعوه، و من أوراقهم و دفاترهم ما كتبوه، و من خرائطهم ما رسموه، و ينسون ما خبروه فيها و ما قرؤه عنها، و يبقى فقط لأرواحهم أشواقاً إليها و إشراقات منها، و لكنهم يعجزون غالباً عن معرفة أن هذه الجنة الواقعة في باطن غابة الجبل هي منبع الأشواق و مصدر الإشراقات..).
تمت بحمد الله
رمضان 1437هـ
يونيو 2016 مـ
المدينة المنورة
المحتويات
الفصل الأول: التجربة 3
الفصل الثاني: المصيدة 43
الفصل الثالث: الغابة 88