الفصل الثاني
المصيدة
قبيل الرحلة المرتقبة بعدة أيام كانت هناك أشياء ما، تحدث في المكان بفعل شخص أو أشخاص ما، لتعد الموقع لأحداث ما، تماما كما يقوم المخرج و معاونوه بإعداد المسرح للعرض المنتظر، فترى أجهزة يتم تركيبها في أماكن محددة بحيث لا تظهر للجمهور، و ترى أدوات تظهر و تختفي، و ترى أشياء تنتقل من هنا و هناك، و من ضمن ما ترى أيضاً صخرة كبيرة على رأس منحدر يبعد عشرة أمتار من فتحة أحد الكهوف بالجبل، بحيث لو انحدرت لسدت تلك الفتحة، و لا يمنعها من الانحدار سوى حجر كبير مثبت في قاعدتها، و إذا دققت النظر و كنت ذا بصيرة أدركت أن هذا الحجر مربوط بحبل غليظ مدفون تحت التراب و متصل بيد رافعة حديدية من الطرف الأخر مختفية أو قل مخفاة بين الأشجار، و لا يتطلب الأمر سوى جذبها ليزول الحجر و تنحدر الصخرة، و هكذا لم تعد "غابة الجبل" مكاناً طبيعياً خالصاً و إنما مزيج بعضه طبيعي خالص و بعضه اصطناعي بامتياز.
* * *
انطلقت السيارتان تنهبان الطريق إلى غابة الجبل، سيارة الدكتور "لبيب" تجر المقطورة و بداخلها الطالبات، و سيارة "ماجد" و معه أصدقاؤه من الطلاب، و الجميع يتسامرون و يمرحون.
كان الدكتور "لبيب" يقود السيارة و بجانبه الدكتور "هانئ" الذي بدأ الحديث قائلاً: ما خطتك للرحلة يا دكتور؟
"لبيب": حوارات سقراط. فالغرض إعطاء أكبر فرصة ممكنة للتفكير و النقاش ليصل الطلاب إلى قناعاتهم بأنفسهم دون ضغط الوقت و المنهج كما في قاعة المحاضرات.
"هانئ": و هل هذا الغرض يستلزم قطع مئات الأميال إلى غابة الجبل لتحقيقه؟
"لبيب": دور غابة الجبل في الخطة مجرد توفير المناخ الملائم للانطلاق في التفكير و التحرر من البيئة الاجتماعية المغلقة و الحياة المدنية الجافة، فهي مجرد عامل محفز ليس إلا.
"هانئ": فأين كلام حضرتك عن دراسة الحرية من خلال التجربة العملية؟
"لبيب": الرحلة في ذاتها تجربة على كل حال.
استعاد "هانئ" الحوار السابق بينه و بين "لبيب" و حديث الأخير عن طرفي النقيض للحرية، فقال: و أين السجن أو الفوضى في تلك الرحلة؟
ضاقت عينا "لبيب" و هو يجيب بقوله: المقصود من حديثي عن السجن أو الفوضى كان المعنى الفلسفي، أما إذا أردت المعنى المادي، فيمكننا عندما نصل إلى بقعة بعيدة مهجورة من الغابة الشاسعة أن نفرغ وقود السيارتين دون أن ينتبه الطلاب، عندها ستتحول الغابة إلى سجن لنا جميعاً، ووقتها يمكن لكل منا أن يعلم قيمة الحرية عنده و كم يمكنه أن يدفع لينالها؟ و هل تستحق بالفعل أن يدفع لها؟
اتسعت عينا "هانئ" و هو يقول: أهذا ما تنوي عمله فعلاً؟
اختلس "لبيب" نظرة إلى وجه "هانئ" ثم عاد للنظر إلى الطريق و هو يقول: لو كان الرد بالإيجاب، أكنت توافقني؟ و بالمناسبة لا يوجد هنا خطر حقيقي و إنما خطر موهوم و مع ذلك محسوب.
"هانئ": بالطبع! فبما أنك ستفرغ الوقود لابد أنك ستحتفظ بوقود احتياطي في مكان ما لا يعلمه غيرك، لتصبح وحدك من يمتلك تحرير البشر، فأنت من يملك مفتاح سجن الغابة، إن شئت أغلقته و إن شئت فتحته، لست أدري لماذا يصر بعض الناس على القيام بدور الإله و يجدون متعتهم في ذلك!
"لبيب" دون أن يستفزه رد "هانئ": ليس الأمر كما تقول، صحيح سيكون لدي حل للمعضلة و إلا لتعرضنا جميعاً للهلاك، و لكن ليس من باب القيام بدور الإله و إنما من باب أن كل تجربة لابد لها من ضابط يحدد نقطة البداية و نقطة النهاية، و لذلك أخبرتك أن المخاطرة هنا محسوبة و لا يوجد خطر حقيقي على الطلبة.
"هانئ": هذا ما تظنه، هل يمكنك أن تخبرني عند أي نقطة ستطلق صافرة نهاية التجربة؟ عندما تنهار أعصاب الطلاب؟ أم عندما تظهر أخلاق الأزمات و يبدأ بعضهم في قتال بعض على الماء أو الغذاء أو أي ضرورة من ضرورات الحياة؟
"لبيب" بشيء من العناد: لن أدع الأمور تصل إلى هذه الدرجة.
"هانئ" بشيء من الحدة: بالطبع فأنت ترى أن مقاليد الأمور بيدك، و كل شيء تحت سيطرتك، هل تظن أن الطلاب سيسامحونك على شيء كهذا؟ هل تظن أنهم لن يقاضوك؟
"لبيب" محاولاً تهدئة النقاش: أرجو أن تهدأ، لاحظ أننا نناقش مجرد فرضية، أنا لم أفعل شيئاً بعد، و لو كنت سأفعل لما أخبرتك. و الآن دعني أجب عن سؤالك فأقول: الطلاب لن يسامحوني بل سيشكرونني، ما سيتعلمونه في أيام معدودات في هذه الرحلة قد لا يتعلمون مثله في سنوات، و العلم لا يكون بلا ثمن، أما عن ملاحقتهم لي قضائياً فلا أظنهم يفعلون، و كيف يفعلون و أنا لم أجبرهم على شيء، و كلهم راشدون و قد أقروا في المحاضرة الأخيرة – و هي مسجلة كما تعلم – بأنهم موافقون على رحلة يتعرضون فيها لمواقف تدفعهم للتفكير و البحث في مسألة الحرية.
"هانئ": عذرك الوحيد بالفعل إنها مجرد فرضية، لكن تأكد أنك إذا فكرت في تحويلها إلى واقع سأمنعك.
"لبيب" بشيء من السخرية: لو أردتُ لما استطعتَ منعي، ثم عاد إلى الجد قائلاً: أليس لديك أي شغفٍ علمي؟ ألا تريد حتى من باب الفضول أن تتوقع كيف سيكون رد فعل الطلبة أمام هذا الموقف؟ و كيف سيفكر فيه كل منهم؟ و كيف سيعالجونه؟
"هانئ": لدي من الفضول و الشغف العلمي ما يكفي، لكن أيضا لدي من القيم ما يحول دون معاملة البشر كحيوانات تجارب.
* * *
صاحت "ليلى": هذه المقطورة رائعة.
"جميلة": نعم أريكة مريحة تتحول إلى سرير عند الحاجة، و مقاعد وثيرة، و أدوات لصنع المشروبات الساخنة، ثلاجة مليئة بما لذ و طاب.
"حنان": أهذا ما لفت نظرك، و لم يلفته وجود مكتبة صوتية بجانب مكتبة الكتب، بها محاضرات مسجلة للدكتور "لبيب" و آخرين؟
"حورية": كل يغني على ليلاه، هناك أيضاً أدوات للصيد لو لاحظتن.
"سارة": و لكن من أين له هذا؟ هذه السيارة و المقطورة الملحقة بها قيمتها مرتفعة جداً.
"ليلى": ما أعلمه أن عائلة الدكتور "لبيب" عائلة ثرية تعمل في مجال المقاولات و تنفذ مشاريع عملاقة، و بالتالي امتلاكه لمثل هذه السيارة ليس بالأمر المستغرب.
"جميلة": حقا!
"حورية": أجل. هذا ما أعرفه أيضا.
"سارة": و كيف سنمضي وقتنا حتى نصل إلى غابة الجبل، فالطريق طويل طويل.
"ليلى": أنا سأستلقى على هذه الأريكة المريحة و أضع السماعات لاستمع إلى الموسيقى.
"جميلة": و أنا سأستخدم الحاسوب المحمول.
"حنان": و انا سأجلس على هذا الكرسي الوثير أراقب جريان الأشجار على الطريق، هذه هوايتي.
"حورية": أما أنا فأجدها فرصة رائعة لأكمل القراءة في مذكرات جدي.
"سارة": أما زال جدك العزيز يطارد السراب؟
"حورية" باسمة: لا تحكمي بغير علم، لو قرأتِ ما كتب لتغير رأيك.
"سارة" و هي تمد يدها للأوراق: هاتها إذن.
"حورية" و هي تبعدها عنها: كان غيرك أمهر منك، إن أعطيتك المذكرات فماذا أقرأ أنا؟
"سارة" بتهكم: حورية أيتها الذكية! أعطني ما قرأته منها.
"حورية": نعم، هذا حل لا بأس به.
قسمت "حورية" الأوراق و أعطت ما قرأته لصديقتها و جلست هي في استرخاء لقراءة ما تبقى.
* * *
(... ها قد مضى عامان لي في قرية الحرية، و ثلاثة أعوام منذ غادرت بلدتي و بدأت رحلتي، في البداية شعرت أنني حققت ما قصدت و أنجزت ما أردت، و لكن عندما استقرت الأمور و هدأت الأحوال و طال بي المقام في القرية أدركت أنني عدت إلى ما كنت عليه، و أن حياتي هنا لا تختلف كثيراً عن حياتي هناك، و أن ما شعرت به في النصف الأول من رحلتي كان ناتجاً عن التغيير في الموجود لا عن تحقق المقصود، أو إن شئت قلت ناتجاً عن تغير مفردات الحياة اليومية لا عن تحقق الأمنيات و الأحلام الوردية، فلا أجد فارقاً ملحوظاً بين مقدار الحرية الذي أنعم به الآن في بلدة الحرية و بين كم الحرية الذي كنت أنعم به في بلدتي الأصلية، و الواجبات و المسئوليات التي تحررت منها بالأمس اكتشفت أنني استبدلتها بغيرها اليوم، يبدو أن الإنسان لا يستطيع أن يحيا بلا قيود، كل ما في الأمر أنه إذا قيد نفسه بإرادته لم يشعر أن ذلك ينتقص من حريته، أما إذا قيد نفسه مكرهاُ أو قيده غيره رغماً عنه شعر بوحشة السجن و قسوة القيد ووطأة العبودية.
و هكذا أدركت أن السبيل هو الاستمرار في الرحيل، فالمزيد من الارتحال يعني المزيد من الحرية، و هذا هو الفارق بين النهر الجاري و الماء الراكد، و لهذا السبب تدور الأفلاك و تتعدد المشارق و المغارب و لا تتوقف الأنفاس إلا بموت النفوس، فمع السفر و الترحال تتجدد الأشخاص و الأنفاس و المشاعر و الأحداث و المقاصد و الغايات و التجارب و الخبرات و الموجودات و المفقودات ، لكن إلى أين الرحيل؟ و في أي اتجاه يكون المسير؟ و كيف السبيل؟ و كيف سأترك السيدة "رحيمة" في غياب ولدها بلا سند و لا ظهير؟ تدفعني نفسي التواقة إلى المسير و يجذبني ضميري إلى البقاء في القرية حتى حين.
جلست كعادتي على الصخرة المطلة على البحيرة و لكن في غير الموعد الذي اعتدت الجلوس فيه، و الغريب أن السيدة "رحيمة" أيضاً أتت في غير الموعد الذي اعتادت المجيء فيه، توجهت نحوي مباشرة، فلما وصلت قالت:
- سلاما أيها الشيخ الغريب.
- سلام يا سيدة رحيمة.
- ما الذي أخرجك من بيتك في هذه الساعة؟
- الحيرة و التفكير.
- و أنا أخرجني الذي أخرجك.
- و ما يُحيرك يا سيدة رحيمة؟
- ولدي.
هززت رأسي متفهماً و قلت: نعم. كان الله في العون.
ثم لاحظت أنها تحمل الصندوق الخشبي البديع الصنع الذي رأيته في بيتها يوم مرضها، فأشرت إليه و قلت:
- يبدو أن لهذا الصندوق شأناً.
- هذا الصندوق هو أثمن ما أملك.
- من أين حصلت عليه؟
- صنعه جدي رحمه الله، نحته من جذع شجرة دون أن يغير من صورته الأصلية، فقد كان نجاراً.
- يبدو أنه كان فناناً أيضاً، هل لي أن أسألك عن محتواه؟
فتحت السيدة "رحيمة" الصندوق فرأيت فيه ثلاث قطع من الجلد، صغيرة الحجم رقيقة السُمك، كل قطعة مكتوب عليها عبارة ما، ثم قالت:
- وصية جدي لأبي، و وصية أبي لي، و وصيتي لولدي.
- جميل أن يوصي كل جيل الجيل الذي بعده.
- و أجمل منه أن يعمل كل جيل بوصية الجيل الذي قبله.
- صدقت.
- هل يهمك أن تعرف مضمون الوصايا؟
- يهمني إلى المدى.
أخرجت السيدة "رحيمة" قطعة الجلد الأولى من الصندوق و قالت: وصية جدي لأبي كانت:
(لكي تجد الحرية يجب أن تركب سفينة النجاة)
ثم التقطت القطعة الثانية و قالت: و وصية أبي لي كانت:
(لكي تعيش حراً يجب أن تحطم جميع الأصنام)
ثم رفعت القطعة الثالثة أمام وجهي و قالت: و وصيتي لولدي هي:
(لكي تظل حراً يجب أن تلقي عصاك)
تأملت في الوصايا طويلاً، ثم قلت لها: و هل تظنين أن شاباً في العقد الثالث من عمره مثل ابنك سيفهم مثل هذه الوصايا.
قالت: إن لم يفهمها اليوم سيفهم غداً.
قلت: و هل تريدين مني أن أوصل تلك الوصايا إليه أم أن أحضره هو إليك؟
قالت: لا أريد أن أقطع عليه رحلته أو أفسد عليه تجربته، يكفيني أن أطمئن عليه و أن يصل الصندوق إليه.
تناولت منها الصندوق و أنا أسألها: منذ متى بدأ ابنك رحلته؟
أجابت: اليوم يمر ثلاثة أعوام على مغادرته هذه القرية و ربع قرن على مجيئه هذا العالم.
قلت متعجباً: إن ابنك بدأ رحلته في نفس الوقت الذي بدأت فيه رحلتي، يبدو أن ولدك يسبقني بأربعة عقود تقريباً.
ثم أضفت متسائلاً: ما الذي دفعه لهذه الخطوة؟
قالت: الخطوة التي قبلها.
قلت: و ما هي؟
قالت: المعرفة. لم يحب ولدي شيئاً منذ صباه مثلما أحب المعرفة، و لم يتعلق بالبحث عن شيء قدر تعلقه بالبحث عنها، كان يتنقل بين أهل القرية يتعلم من هذا علماً أو أدباً و من ذاك حرفة أو صنعة، و أهل القرية كما تعلم بسطاء و ما لديهم من المعرفة يمكن تحصيلها في فترة ليست بالطويلة، و لذلك انتهى به المطاف أخيراً إلى حكيم القرية، ذاك الرجل الطيب الذي أفنى عمره في جمع الكتب و الرسائل حتى تكونت لديه مكتبة لا بأس بها كان يحتفظ بها في حجرة ملحقة بمنزله، فلما تحقق من صدق رغبة ابني في المعرفة أعطاه مفتاحاً لتلك الحجرة و أذن له في الحضور وقتما شاء ليقرأ ما شاء، فكان ابني يمضي في مكتبة الحكيم الساعات الطوال، بل ربما يبيت فيها لبضعة أيام، حتى انتهى من قراءة جميع ما فيها.
قلت معجباً: رائع. لا بد أن هذا كان أسعد يوم في حياته.
قالت: بل كان أشقى يوم فيها، فما عساه يفعل بعد ذلك؟ هذا السؤال هو ما أثار شجونه و أشعل حيرته.
قلت: لقد دخل مبكراً في معضلة: و ماذا بعد؟ لكن قدرة الشباب على إيجاد مخرج من تلك المعضلة أعلى من قدرة الشيوخ على ذلك.
قالت: لكي يخرج منها خرج من القرية بأسرها، فقد أراد أن يمتحن المعرفة التي حصل عليها، هل الحياة كما قرأ عنها؟ هل التاريخ كما درسه؟ هل المسطور في الكتب و المجلات منظور في القرى و البلاد؟ و ألف هل و هل..
قلت: و هل وافقته على قراره؟
قالت: و هل كنت قادرة على منعه؟
قلت: و لمَ لا؟
قالت: لأن رغبته في السفر أضحت كالشجرة المحرمة التي يعجز عن الصبر عنها البشر ، كل ما استطعته وقتئذ هو أنني أخبرته مقدماً بالنتيجة التي سيصل إليها، أخبرته أن الكتب و الحياة يلتقيان و يفترقان، و أنه سيعرف منها و ينكر، و أن ما يعرفه اليوم قد ينكره غداً، و ما ينكره اليوم قد يقره غداً.
قلت: فما كان جوابه؟
قالت: قال: ليس هذا يا أمي ما يشغلني، لقد حررتني المعرفة من ضيق القرية إلى سعة العالم، و أخرجتني من الشأن الخاص إلى الشأن العام، و جعلتني أدرك أن كثيراً من العقول و الشعوب و الأوطان ما زالت محتلة مضللة مستغلة، ما فائدة المعرفة إن لم نتحرر و نحرر بها؟ و ما فائدة النور إن لم نبصره و نُبَصر به؟ و ما فائدة العلم إن لم نعمل به و نُعَلمه؟ يا أمي أنا غادرت القرية بذهني و إن بقيت فيها ببدني، فلا تمنعي جسدي من اللحاق بعقلي.
قلت: حلم إصلاح العالم الذي لا ينفك عن مراودة عقول الشباب، ثم بعد عقود يدركون أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان. أطرقت برهة ثم سألتها: و إلى أين توجه؟
قالت: لست أدري تحديداً إلى أين توجه، و لا أحسبه هو نفسه يدري، لو انتفع بالمعرفة فعلاً لحررته من ضيق العالم إلى سعة قريته التي هي أصله و قلبه، و لأخرجته من الشأن العام و جعلته يقبل على خاصة نفسه، كما أخبرتك من قبل كان الأولى به أن يفر من هذه الحرية لا أن يفر إليها.
قلت: لا تقسي عليه، ما كان ليدرك ما تقولين بالقراءة وحدها دون التجربة، و حتى إذا أدرك فقد يتفق معك و قد يختلف عنك.
قالت: أنا لا أقسو عليه و إنما أرحمه، و لكن يأبى الإنسان أن يدرك خطر النار دون أن تحرقه.
قلت: لن تحرقه إن شاء الله بل ستنضجه.
قالت: هذا ما عزيت به نفسي فتركته يمضي.
قلت: و هل ما زال التواصل بينكما قائماً أم انقطعت عنك أخباره؟
قالت: كان يرسل لي الرسائل بين الحين و الحين، ثم انقطعت رسائله منذ ثلاثة أشهر.
قلت: و من أين وصلتك رسالته الأخيرة؟
قالت: لم يكن يرسل الرسائل عن طريق البريد، فليس في قريتنا بريد، و إنما عن طريق أشخاص و حينما كنت أسألهم عنه أدركت أنهم لا يعرفونه و أن الذي أعطاهم الرسالة ليس هو، و في كل مرة كان الشخص الذي يسلمني الرسالة يأتي من مكان غير الذي جاء منه من قبله.
قلت: ربما لبعد المكان و اختلافه كانت رسالته تحتاج لأكثر من شخص ليوصلها، و الأكيد أن أولهم يعرفه لكن آخرهم ليس كذلك.
قالت: أجل يبدو ذلك.
هنا شعرت بمدى صعوبة المهمة المطلوبة، كنت أرجو أن أعرف محطته الأخيرة لأبدأ منها، و عندها كنت سأقتفي أثر ثلاثة أشهر فقط بيني و بينه، أما و هذا هو الحال فأنا مضطر أن أبدأ من حيث بدأ و حينها سأقتفي أثر ثلاثة أعوام، طلبت من السيدة "رحيمة" رسائله القديمة، و سألتها عن أصدقائه في القرية و ما جاورها من القرى، ثم سألتها إن كان لديها صورة له؟ فأخرجت من جيبها صورة و أعطتني إياها و هي تقول: هذه هي الصورة الوحيدة له عندي.
أحسست بمدى تمسكها بالصورة و تعلقها بها، و تفهمت مشاعرها جراء انتقال الصورة منها إلي، فقلت مطمئناً لها لأخفف عنها: سأذهب إلى أقرب بلدة لأستنسخ منها عدة نسخ، فأحتفظ ببعضها معي و أترك لك البقية.
تبسمت السيدة "رحيمة" ابتسامة تجمع بين الشكر و الرضا و هزت رأسها موافقة، فقلت: ما اسم ولدك؟
قالت: صادق.
قلت: صادق من؟
قالت: صادق كريم حكيم.
رفعت صورته أمامي و تأملت ملامحه فوجدته شاباً و سيماً فتياً، فخاطبته في نفسي قائلاً: أرجو أن يكون وصفك كاسمك فتكون صادقاً كريماً حكيماً فعلاً فتستحق ما سأبذله من جهد في هذه المهمة، و ألا يكون وصفك بالضد من اسمك فترهقني ووالدتك كذباً و لؤماً و حمقاً...)
* * *
وصلت القافلة إلى مقصدها بين العصر و المغرب، و ترجل الرحالة ليبدأوا الجزء الثاني من رحلتهم سيراُ على الأقدام لعبور غابة الجبل، و تعالت الصيحات و التعليقات و الاستفسارات من هنا و هناك:
- المكان رائع حقاً.
- المنظر بديع فعلاً.
- دعونا نتجول في الجوار أولاً.
- أين الخرائط؟
- هل أخذتم جميع أغراضكم من السيارة؟
- من أين نبدأ المسير؟
- من الأفضل أن نبدأ السير الآن لنتمكن من اختيار مكان مناسب لنصب الخيام قبل حلول الليل.
- سنبدأ السير و لكن قبل أن نبدأ عليكم أن تتركوا هواتفكم و ساعاتكم اليدوية في السيارات.
- لا توجد شبكات هنا فلن نتمكن من استخدام الهواتف، و لكن ماذا عن الساعات؟
- تحرروا من أعباء الحياة الصناعية و استمتعوا بالحياة الطبيعية لفترة وجيزة.
- هذا ما نحتاجه بالفعل.
و هكذا استأنف الركب المسير على طريق ممهدة بين ثنايا الجبل، تحفهم النباتات و الأشجار، و يعطر الأجواء من حولهم شذى الورود و الأزهار، و تطرب أذانهم تغاريد الأطيار، و تمتع أبصارهم قفزات الظباء و الغزلان، كانوا كأنما يسيرون على أنغام مقطوعة موسيقية رائعة، و يزيد من روعتها طيب الريح و حسن المنظر.
و بعد دقائق ليست بالطويلة، قادتهم السبيل إلى واد فسيحة، و كانت الشمس قد أوشكت على المغيب و قد تراكمت حولها بعض الغيوم، فاستقر رأيهم على نصب خيامهم و بدء برنامجهم لتلك الليلة على أن يعاودوا السير فجر اليوم التالي، لكن ما أن شرعوا في تنفيذ ما تقرر حتى أخذت السماء في صب دلوها عليهم.
- هل نستمر في نصب الخيام رغم الأمطار؟
- لا بأس فالأمطار خفيفة.
- و ما يدرينا قد تصير غزيرة.
- الأفضل أن ننتظر حتى يتوقف المطر.
- و لكن لابد لنا من مكان نحتمي به، أو نأوي إليه.
- ها هو ذا.
انطلقت العبارة الأخيرة من في أحدهم و هو يشير مع آخر شعاع من ضوء النهار إلى فتحة كهف في الجهة اليمنى من سفح الجبل.
- هل سيسعنا؟
- الفتحة تبدو ضيقة؟
- دعونا نعاين عن قرب.
- أضيئوا المصابيح.
.
.
.
- رائع.
- مناسب جداً.
- الفتحة ضيقة بالفعل لكنه متسع و رحب من الداخل.
- الأرضية أيضاً تكاد تكون مستوية.
- يمكننا أن نفرش عليها ما لدينا من البسط لتكون مريحة.
- فكرة جيدة.
انتهى الطلبة من نقل أغراضهم و بسط الفرش و إعداد المكان حتى صار أنيقاً مريحاً إلى حد ما، ثم همس "عاطف" لصديقه "عاصم": لم أشعر بهذا القدر من الحرية و الانطلاق من قبل، يبدو أن الدكتور "لبيب" كان موفقاً في اختيار هذا المكان.
"عاصم": لست متفائلاً مثلك.
"عاطف": و لمَ؟
"عاصم": أية حرية تلك التي تتحدث عنها، نحن هنا معزولون عن العالم، و إذا عرض لنا عارض، أو طرأ علينا طارئ، فسنصبح عالقين.
"عاطف" مازحاً: أجل. عالقين في جنة الحرية.
قطع صوت "د. لبيب" حوارهما الهامس و هو يقول: معذرة يا شباب، نسيت بعض الأغراض التي سنحتاج لها في برنامجنا في المقطورة، سأذهب لإحضارها و أعود إليكم عاجلاً.
"د. هانئ" متوجساً: و لكن المطر بدأ يشتد.
"لبيب": نعم لكنه مازال محتملاً، و المسافة التي قطعناها ليست بالطويلة، لن يستغرق الذهاب و العودة زمناً طويلاً، أرجو أن تلزموا جميعاً أماكنكم، و سأكون معكم خلال دقائق، اطمئنوا.
انطلق "لبيب" بمجرد الانتهاء من جملته الأخيرة و لم ينتظر تعقيب "هانئ" الذي بدوره بدأ القلق يتصاعد في ذهنه، فهو لم يكن يرغب أن يغيب "لبيب" عن بصره، فانتظر دقيقة على الجمر حتى يبعد قليلاً ثم انطلق خلفه و هو يقول للطلاب: سألحق بالدكتور "لبيب"، ربما يحتاج للمعاونة في نقل الأغراض.
جلس الطلبة في مجموعات ثنائية و ثلاثية يتناولون أطراف الحديث، ثم صاحت "ليلى": أين الطعام يا رفاق؟
قامت "سارة" و "جميلة" تتفقدان الأغراض التي تم نقلها لداخل الكهف، ثم قالتا: لا يوجد هنا سوى المياه و العصائر. يبدو أننا تركنا صناديق الطعام بالخارج.
في تلك الأثناء كان "هانئ" تحت الأمطار يحاول اقتفاء أثر "لبيب" و هو يفكر هل اتجه فعلاً للمقطورة أم أنه يدبر أمراً ما؟ و ماذا سأقول له إذا لقيته؟ إنني لا أثق بك؟ لابد أنه يدرك ذلك بالفعل، لكن المواجهة لن تكون يسيرة، ربما الأفضل أن أراه من حيث لا يراني. و بينما هو في تساؤلاته و تأملاته شعر أنه مراقب، و أن هناك من يراه من حيث لا يراه، و أنه يتحول من مطارِد إلى مطارَد، و من صياد إلى فريسة، و تزايد هذا الشعور داخله حتى تملكته الرغبة أن يطلق ساقيه للريح هرباً من الخطر الذي لا يعرف مصدره، فبدأ يكثر الالتفات و يسرع الخطى، و لكن من يسعى خلفه لم يتح له الفرصة للفرار فقد عاجله بضربة على عنقه قطعت وصول الدم إلى مخه، فسقط مغشياً عليه من فوره.
"ليلى": يمكنني إحضار الطعام من الخارج، لكني أحتاج من يعاونني.
"حنان": لا بأس، يمكنني مرافقتك.
"ماجد" موجهاً الحديث لرفاقه: أظن من الواجب أن يصحبهما أحدنا.
"ماهر" ناهضاً: سأقوم أنا بهذه المهمة.
انطلق الركب، "ماهر" في المقدمة و خلفه مباشرة الفتاتان، تحمل كل منهما مظلة في يمناها و مصباحاً كهربياً في يسراها، و الأمطار قد اشتدت و السماء قد بدأت تبرق و ترعد، وصلوا سريعاً إلى صناديق الطعام التي تركوها في موضع لا يبعد سوى عشرات الأمتار عن مدخل الكهف، حملها "ماهر" و أخذوا يعودون أدراجهم، و ضوء البرق يلمع في السماء و يعقبه صوت الرعد بعد ثوانٍ معدودات، حتى إذا لم يبق بينهم و بين كهفهم سوى مسافة قصيرة، امتدت يد بشرية في الظلام بعد سطوع البرق و قبل سماع الرعد لتجذب يد الرافعة الحديدية ليتحرك الحجر المثبت في قاعدة الصخرة التي تحررت فجأة من أسرها، و لم تعد تجد ما يكبح جموحها، فانطلقت مباشرة نحو هدفها، اختلطت صوت الرعد بصوت تدحرج الصخرة فلم ينتبه من في داخل الكهف، أما من خارجه فشعروا أن الأرض تهتز من تحتهم، و التفت "ماهر" فلمح على ضوء المصباح الذي تحمله "حنان" الصخرة الهائلة و هي تندفع نحو الكهف كحيوان أسطوري، لا يفصله عن فريسته سوى ثلاثتهم، ألقى ماهر صناديق الطعام من لحظته، و في اللحظة التي تليها كان يدفع زميلتيه بكل قوته في جهة و يقفز هو إلى الجهة المقابلة، و مرت الصخرة من بينهم، لكنها أصابت قدم "ماهر" و ساقه أثناء مرورها، و اختلط صوت صراخ الفتاتين بصوت ارتطام الصخرة بمدخل كهفهم.
بعد برهة توقف الصراخ و سكن الغبار و هدأت الأمطار، ثم ارتفع صوت "ماهر" في مزيج من الألم و القلق و هو يسأل زميلتيه: هل أنتما بخير؟
"ليلى": نعم. إلا من بعض الرضوض و الكدمات.
"حنان": و الخدوش و السجحات.
ثم قالتا في نفس الوقت: و أنت؟
"ماهر": لست على ما يرام، أحسب أن قدمي و ساقي قد أصيبتا اصابة بالغة.
تحاملت كلتا الفتاتين على نفسيهما، و توجهتا إلى زميلهما تساعدانه على النهوض، و تضمدان جروحه في حدود الإمكانات المتاحة، ثم قالت "ليلى": أكان هذا زلزالاً؟
"حنان": نعم أظن ذلك، فقد شعرت أن الأرض تهتز تحت قدمي.
"ماهر": لست متأكداً، هناك شيء مريب فيما مر بنا من الأحداث.
"ليلى": و ماذا عن رفاقنا؟
"حنان": حبستهم الصخرة في الكهف.
"ليلى": أعلم تلك المصيبة، و إنما قصدت ماذا في إمكاننا أن نصنع لهم؟
التقط "ماهر" غصن شجرة ليستخدمه كعصا يتوكأ عليها و توجه نحو الكهف ليتفقد موضع الصخرة، تبعته الفتاتان، و وقف الثلاثة في الظلام يحاولون على ضوء المصباح الذي تبقى معهم أن يجدوا و لو منفذاً ضئيلاً إلى مدخل الكهف و لكن هيهات فقد سدت الصخرة المدخل بالكامل حتى كأنها قد خلقت لهذا الغرض، فلما غشيهم العجز و حاطتهم الحيرة، أخذوا ينادون على أصدقائهم بأعلى أصواتهم على أمل أن يتمكنوا من التواصل معهم و لكن ذهبت جهودهم سدى و تلاشت أصواتهم مع الرياح. و في الوقت الذي كانوا يهتفون فيه بأسماء أصدقائهم كان أصدقاؤهم داخل الكهف يهتفون بأسمائهم، لكن لا هؤلاء كانوا يسمعون أولئك، و لا أولئك كانوا يسمعون هؤلاء.
"ليلى" بحنق: و أين "لبيب" و "هانئ"؟ لماذا لم يعودا؟
"حنان": صحيح. لقد مر من الوقت ما يكفي لعودتهما، و ليس لنا من أسباب النجاة سواهما.
"ماهر": أخشى أن يكونا من أسباب الهلاك لا النجاة.
"ليلى": ماذا تقصد؟ هل تقصد أن لهما دور فيما حدث؟
"حنان": هذا مستبعد جداً، كيف سيعرفان بوجود الصخرة و وقوع الزلزال؟ و لماذا يخططان لمثل هذا العمل الجنوني؟ ماذا سيجنيان؟
"ماهر": فأين اختفيا إذاً؟ و لماذا لا يعودان؟
"ليلى": ربما أصابهما مكروه بدورهما.
"حنان": ما العمل الآن؟
"ماهر": ليس أمامنا سوى التوجه نحو موقع السيارتين و محاولة العثور على الرجلين، أو محاولة العثور على أي نوع من أنواع المساعدة.
* * *
أفاق "هانئ" ليجد نفسه مقيداً إلى كرسي داخل مقطورة "لبيب"، الذي كان يجلس على الأريكة المقابلة له يتطلع إليه في صمت.
حرك "هانئ" رأسه في جميع الاتجاهات ليتأكد من سلامة عنقه و ليزيل عن نفسه أثر الإغماء، ثم نظر إلى "لبيب" و قال: توقعت أنك ستقدم على عمل أخرق.
"لبيب": و أنا توقعت أنك ستقتفي أثري.
"هانئ": أين الشباب؟
"لبيب": في الحفظ و الصون.
أعاد "هانئ" السؤال بحدة: أين هم؟
قام "لبيب" و توجه نحو الشاشة المثبتة في المكتبة داخل المقطورة و ضغط زر التشغيل و هو يقول: ها هم.
نقلت الشاشة مشهد بعض الشباب و هم متجمعون أمام مخرج الكهف من الداخل يحاولون زحزحة الصخرة التي تسده، فحاول "هانئ" أن يقفز من مقعده لكن منعته قيوده التي نسيها من شدة الغضب، فصاح قائلاً: ما ظننت أن يبلغ بك الإجرام هذا المبلغ.
"لبيب": أتعد التجربة العلمية جريمة! لا تكن عاطفيا، الجميع سيستفيد، هم سيكتشفون اعماقاً جديدة في نفوسهم و سيدركون و سيتعلمون، و أنا سأنجز البحث و التجربة، و العلم سيضاف له باباً فريداُ، يعني الكل رابح هنا. اطمئن لن يصاب أحد بسوء.
"هانئ": إن كنت لا ترى السوء حتى الآن فأنت أعمى، هل تظن أنك ستنجو بفعلتك؟
"لبيب": لا أظن، أنا متأكد. كما تلاحظ يمكنني مراقبتهم، فإذا وجدت في نهاية التجربة أنهم سيتبعون عواطفهم و يسيرون نحو مقاضاتي و النيل مني سأغادر البلاد، أوراق سفري جاهزة و لدي فرصة عمل في احدى الجامعات الأجنبية، و إن وجدت أنهم سيغلبون عقولهم و يسيرون على مقتضى الحكمة عندما يدركون قدر الفائدة التي تحصلت لديهم من جراء تلك التجربة، فسأبقى في وسطهم و سنكمل معا البحث و الدراسة.
"هانئ": لا فائدة من مناقشتك، لكن تيقن أن خطتك لن تنجح.
قال "هانئ" عبارته الأخيرة ثم عاد إلى مراقبة الشباب على الشاشة بقلق بالغ، و فجأة اتسعت حدقتاه و صاح بلهفة: ويحك! أين بقيتهم؟
التفت "لبيب" بسرعة إلى الشاشة و عقد حاجبيه بشدة و أخذ يعد الشباب بعينه، ثم قال: يا للمصيبة! هؤلاء سبعة فأين الثلاثة الآخرون؟
"هانئ" في قمة الانفعال: ماذا تعني؟ ألم يكن ذلك من ضمن خطتك القذرة؟
"لبيب" شارداً: لا.
"هانئ" و قد أصبح لديه بعض الأمل أن يتراجع "لبيب" عن موقفه: و ماذا أنت صانع؟
توجه "لبيب" نحو الشاشة و ضغط زر إعادة التشغيل و هو يقول: دعني أرى ما حدث من البداية لأفهم ثم أقرر.
* * *
انتفض الشباب مع اصطدام الصخرة بمدخل كهفهم، و أسرعوا يتفقدون الموقف فأدركوا ما حل بهم، حاولوا زحزحة الصخرة باستخدام كل نقاط الارتكاز الممكنة، و وسائل الدفع الثنائي باليدين، و الرباعي باليدين و القدمين، لكن لم تتحرك قيد أنملة، وقفوا برهة يلهثون ثم بدأوا يتحاورون.
"ماجد": كيف حدث هذا؟
"عادل": ربما زلزال أو صاعقة تسببت في ذلك.
"عاصم": بهذه الدقة! الصخرة لم تترك منفذا لشعاع من الضوء و سدت المدخل تماما! عجيب! بل مستحيل!
"عاطف": كيف يكون مستحيلاً و قد وقع؟
"عاصم": أقصد مستحيل أن يقع هكذا من غير يد بشرية.
"عادل": بل المستحيل أن يقع بتدخل بشري، من ذا الذي يمكنه أن يحرك مثل هذه الصخرة بهذه الدقة؟
"سارة": ها قد وقع المحال، و بدلاً من مناقشة كيف حدث هذا فلنناقش كيف سنخرج من هنا؟
"جميلة": هذا هو السؤال.
"ماجد": نعم و لكنه لا يلغي السؤال السابق بل يكمله، بمعنى أننا لكي نفكر في المخرج من هذه الورطة من المهم أن نعرف كيف دخلنا فيها؟
"حورية": تقصد هل نحن في مأزق قدري طبيعي أم بشري مصطنع؟
"ماجد": أجل.
"سارة": و هل هناك فارق؟
"عاصم": بالطبع.
"سارة": و ما هو هذا الفارق؟ إن كان قدرياً سنستسلم له و نجعل من الكهف قبراً و ننتظر الموت؟ و إن كان صناعياً سنقاوم من أجل الحرية؟ أم ماذا؟
"عاصم": لا تخلطين الأمور كعادتك، القدر يطالبنا بالاستسلام له بقلوبنا و التفاعل معه بجوارحنا كما في أي نوع من الأمراض و المصائب، و إن كان أمراً مدبراً من شخص ما فهو أيضا بقدر لكن في هذه الحالة علينا أن نفهم دوافع هذا الشخص و كيف يمكننا هزيمته؟
"سارة": إذا في الحالين نحن مطالبون بالتحرك، يعني لا يوجد فارقٌ جوهريٌ.
"ماجد": أرجوكما كفا عن الجدال، و دعونا نبحث كافة الاحتمالات و المخارج.
"عادل": هناك احتمال أن تكون كارثة طبيعية، و المخرج في هذه الحالة أن ننتظر الدكتورين، لاشك أنهما على وشك الوصول و فور اطلاعهما على الأمر سيأتون بالنجدة من أقرب قرية لنا.
"عاطف": أقرب قرية تبعد حوالي مائة ميل، و أتوقع أن الوصول لها و البحث عن وسيلة لتحريك الصخرة و العودة قد يستغرق ثماني ساعات.
"عاصم": ماذا لو كان الدكتوران العظيمان هما من دبرا لنا هذه المصيدة ؟ ألم يختر "لبيب" هذا المكان المهجور؟ ألم يخبرنا أننا سنتعرض لموقف يجعلنا ندرس و نبحث موضوع الحرية بشكل أعمق؟ ألم يغادرنا قبل وقوع الكارثة بدقائق؟ ألم يلحق به "هانئ" مباشرة؟
"حورية": إن كان هناك احتمال لتورط "د. لبيب" فليس هناك احتمال لتورط "د. هانئ"، فنحن نعرفه و أسرته منذ زمن طويل، و لا يمكن أن يكون طرفاً في هذا العمل الدنيء.
"جميلة": نعم. أذكر أنه لم يكن مرتاحاً لاختيار المكان، و أحسب أنه لحق بالدكتور "لبيب" ليمنعه من تنفيذ خطته لا ليعاونه عليها.
"سارة": و طالما لم يمنعه فهذا يعني أن النصر كان حليفاً للبيب و أنه نجح في التخلص من "هانئ" بطريقة أو بأخرى.
بدا الانزعاج على وجه "حورية" لكنها لم تعلق، بينما قال "عادل": تتحدثون و كأنكم تأكدتم من تورط "د. لبيب"؟ الرجل كان يعلمنا، و مشهور بالكفاءة، و له مكانته العلمية و الاجتماعية، فما الذي يدفعه لتلك الجريمة؟
"عاصم": الجنون العلمي، الرغبة في تحقيق سبقٍ علميٍّ على حساب المخاطرة بحياتنا.
"ماجد": الساعات التي ذكرها "عاطف" هي التي ستحسم الأمر، إذا جاءت فيها النجدة برأته و إذا لم تأت فهذا دليل إدانته.
"عاطف": إن فقدنا الأمل في "هانئ" و "لبيب" فلن نفقده في "ماهر" و "ليلى" و "حنان"، من حسن حظنا أنهم بالخارج.
"سارة": و ماذا في أيديهم أن يصنعوا لنا و ليس لديهم وسيلة مواصلات للبحث عن النجدة؟ فسيارة "ماجد" مغلقة بإحكام، و سيارة "لبيب" إن كان متورطاً فلن يعثروا عليها، فهم مسجونون خارج الكهف كما نحن مسجونون بداخله، لننتظر ثم نقرر ماذا سنفعل إن لم تصل النجدة خلال ساعات.
"حورية": و كيف سنعلم بانتهاء تلك المهلة و قد تم تجريدنا من ساعاتنا اليدوية؟
"ماجد": صحيح. في هذه الحالة لن يمكننا حساب الوقت و علينا أن نحاول أن نصنع شيئا و لا نكتفي بالانتظار.
"عاصم": أجل. فالوقت ليس في صالحنا، تذكروا أن أصدقاءنا خرجوا لجلب الطعام و لم يتمكنوا من العودة، يعني نحن لا نمتلك سوى كميات من الماء و العصائر تكفينا يومين أو ثلاثة أيام كحد أقصى.
"عاطف": أعتقد أن هذه المدة أيضاً هي العمر الافتراضي للمصابيح الكهربية التي في حوزتنا.
"جميلة": هل يعني هذا أن أمامنا يومين أو ثلاثة ثم نغرق في الجوع و الظمأ و الظلام!
ساد الصمت المصحوب بالقلق البالغ و التوتر العنيف داخل الكهف بعد عبارة "جميلة" الأخيرة، و أخذ كل واحد منهم في تخيل ما يمكن أن يحدث و إلى أي مدى سيتحمله؟ و كيف سيواجه مصيره؟
* * *
ابتعد "لبيب" بجذعه قليلاً عن الشاشة التي تنقل ما يدور في الكهف، و أسند ظهره إلى الكرسي الذي يجلس عليه بجوار الكرسي المقيد إليه "هانئ" مع وجود طاولة صغيرة تفصل بينهما، ثم قال محدثاً نفسه بصوت مسموع: طالما لم يتمكن "ماهر" و الفتاتان من العودة إلى الكهف فمن المنطقي أن يتوجهوا إلى موقع السيارات للبحث عنا لنجدتهم، و إذا فعلوا فالمفترض أن يكونوا قد وصلوا إلى هنا بالفعل منذ فترة، و لكنهم لم يصلوا حتى الآن! و هذا من حسن الطالع، فلو وجدونا لفسدت التجربة و فشلت الخطة، يجب أن نغادر هذا المكان فوراً.
بمجرد أن أنهى "لبيب" كلمته نزل من المقطورة وصعد إلى مكان القيادة و أدار المحرك و انطلق غير عابئ بصياح "هانئ" لمنعه من تلك الخطوة، و أخذ يبحث عن موقع جديد مناسب للمقطورة، و بعد عدة دقائق استقر على موضع مرتفع عن الموضع الأول و محاط ببعض الأشجار، فكان مناسباً تماما للاختفاء عن الموقع الأول و مراقبته في ذات الوقت، فأخرج النظارات المكبرة المزودة بخاصية الرؤية الليلية من صندوق أسفل عجلة القيادة، و عاد مرة أخرى لداخل المقطورة، و بدأ ينقل نظره بين الشاشة و النظارات بين الفترة و الأخرى ليتمكن من مراقبة من بداخل الكهف و من خارجه في نفس الوقت.
و بعد فترة وجيزة شاهد الأصدقاء الثلاثة و هم في طريقهم إلى سيارة "ماجد"، و لاحظ أن "ماهر" يمشي بصعوبة بالغة على ساق واحدة بمساعدة "ليلى" و "حنان" و قد بدا على هيئاتهم جميعاً الارهاق و التعب، فقال: الآن فهمت لماذا تأخروا، "ماهر" مصاب إصابة بالغة، و الفتاتان في حالة بائسة.
كان "هانئ" قد يئس من السباب و الصياح، فاستعاد الهدوء و قد شغله ما حل بالشباب و أحنقه عجزه عن نجدتهم، فقال: و رغم ذلك ستستمر في تجربتك المشؤومة؟
"لبيب": نعم لكن مع معالجة الأثار الجانبية التي لم تكن في الحسبان، هؤلاء الشباب بحاجة للمساعدة، و لن أبخل عليهم بها.
"هانئ": و ماذا تنتظر؟
"لبيب": اللحظة المناسبة.
عاد "لبيب" إلى مراقبة الشباب من خلال النظارات المكبرة، و كان المطر قد خف لكنه لم يتوقف، و شاهد محاولاتهم البائسة اليائسة لفتح السيارة باستخدام ما يتوفر لهم من الأدوات و ما تطاله أيدهم من هنا و هناك.
استمر الشباب في محاولاتهم، و في النهاية التقط "ماهر" حجراً كبيراً و هشم به الزجاج الجانبي للسيارة و هو يصيح: أنا متأكد أن ماجداً سيسامحني.
"حنان" بانزعاج: ويحك! ماذا صنعت!
"ماهر": لابد مما ليس منه بد.
"ليلى": نعم نحن في احتياج شديد إلى مكان آمن نمضي فيه ما تبقى من هذه الليلة الرهيبة.
فتح "ماهر" الباب الخلفي للسيارة و أدخل الفتاتين و جلس هو على المقعد الأمامي، و أخذ يزيل أثار الزجاج المكسور، ثم أخذ يبحث عما يصلح أن يكون بديلاً له لمنع الرذاذ المتطاير و الهواء البارد من الدخول، حتى عثر على بعض الصحف و المجلات فثبتها مكان الجزء المكسور من الزجاج، و هو يقول: الآن يمكننا الحصول على بعض الراحة، و في الصباح نحاول إنقاذ أنفسنا و أصدقائنا.
و رغم الألم و القلق، ما أن أراحوا رؤوسهم على المقاعد حتى راحوا في سبات عميق بعد دقائق.
أزاح "لبيب" النظارات المكبرة عن وجهه و هو يقول: الآن حانت اللحظة المناسبة.
* * *
شرع أصحاب الكهف في مناقشة كيفية الحفاظ على ما لديهم من مصادر الماء و الغذاء و الضياء المحدودة لأطول فترة ممكنة، و دار بينهم الحوار التالي:
"عادل": أرى أن نقتسم ما لدينا بالسوية، ثم يقوم كل فرد بتدبير نصيبه ليكفيه أطول مدة ممكنة.
"ماجد": و ماذا لو لم يحسن التدبير و أفنى ما لديه قبل الآخرين؟ هل سنتركه يموت عطشاً أم نتحمل عاقبة سوء تدبيره من أنصبتنا التي نحن في أشد الحاجة إليها؟
"عاصم": بل يتحمل هو سوء تدبيره، فما ذنب الآخرين؟
"جميلة": و ماذا لو لم يتحمل؟ أنقاتله؟
"حورية": ربما من الأفضل أن نختار من بيننا من يقوم بتلك المهمة بالعدل و الحزم و القسطاس.
"سارة": و ماذا لو خان الأمانة و آثر نفسه على إخوانه؟
"جميلة": كيف هذا و كلنا أصدقاء منذ زمن و يعرف بعضنا بعضاً معرفة جيدة؟
"سارة": لا يمكننا الاعتماد على حسن الظن في هذه الظروف، فنحن لا ندري ماذا يمكن أن يفعل أحدنا تحت شدة الحاجة و ضغط الضرورة.
"عاصم": في هذه الحالة لا بد من وجود رقابة على من سيقع عليه الاختيار.
"ماجد": أجل. يمكننا أن نقوم بحصر ما لدينا الآن و أن يتم التوزيع أمام الجميع في كل مرة ثم نعيد الحصر قبل كل نوبة للتأكد أنه لم ينقص شيء من المخزون فيما بين النوبتين.
"عادل": و إذا اكتشفنا أن هناك نقص، فهل يعني هذا أن الذي يقوم بدور الخازن هو المذنب؟ ربما يستغل أحد فترة نومه أو انشغاله ليقتنص منه ما ليس من حقه.
"جميلة": هل تريدون أيضا عمل نوبات حراسة على بضع زجاجات من المياه و العصائر؟
"سارة": نعم، فتلك الزجاجات هي ما يضمن لنا الحياة.
"ماجد": لا حاجة لذلك، فالصندوق الذي أحضرته للتخزين من النوع الذي يحافظ على درجة حرارة ما بداخله، و له قفل يعمل بالأرقام مثل حقائب السفر، و بالتالي ستقع المسئولية فقط على من سيقوم بدور الخازن لأنه وحده من يملك اختيار الأرقام.
"جميلة": ما ظننت أنه سيأتي اليوم الذي نعامل فيه بعضنا البعض بهذا القدر من الشك و التخوين!
"عاصم": ليس الأمر كما تظنين، و لكن الاحتياط واجب، و ما نفعله في الحقيقة يبعد عن نفوسنا هواجس الشك و التخوين لأننا نحاول ألا نترك مجالاَ للارتجال أو التخمين.
"عادل": نعم. يجب أن تكون الأمور كلها متفق عليها و واضحة و معلومة للجميع.
"عاطف": و كيف سيقوم هذا الخازن بالتقسيم؟
"عادل": ما هذا السؤال الغريب يا "عاطف"؟ بالطبع سيقسم القدر المتاح في كل نوبة بالتساوي.
"عاطف": هذا ليس عدلاً يا "عادل".
"عادل" مندهشاً: و لمَ؟
"عاطف" منفعلاً و هو يشير إلى نفسه: هل ترى أنه من العدل أن ينال من وزنه مائة كيلوجراماً نفس القدر من الطعام الذي يناله من وزنه خمسون كيلوجراماً. و أشار إلى زميلتيه.
"سارة" محتدة: ويحك! ما ذنبنا نحن في زيادة وزنك؟
"عاطف" و هو يكاد يبكي: إذن أنتم تريدون تعذيبي و قتلي.
"عاصم": أرجوكم حاولوا أن تهدأوا، إذا انفعلنا و تنازعنا فكلنا خاسرون.
"ماجد": لا بأس من مناقشة أعدل الطرق في توزيع الثروة التي لدينا، هل حسب مدى الاحتياج؟ أم بحسب القدرة على التحمل؟ أم بالمساواة المطلقة دون النظر إلى الوزن أو القوة أو الجنس؟
"عادل": ما لدينا ليس ثروة و إنما المقومات الضرورية للحياة.
"سارة": إذا نظرنا للاحتياج فلا شك أن الاحتياج الأكبر سيكون لمن ليس لديه مخزون من الدهون، و إذا أخذنا في الاعتبار القدرة على التحمل فمعلوم أن الرجال أقوى على التحمل من النساء، فإذا لم تتم القسمة بالتساوي فالواجب أن يكون للنساء النصيب الأكبر لضعف قدرتهن على التحمل.
"عاطف": من قال إن النساء أقل تحملاً من الرجال؟ النساء يتحملن الولادة و نحن لا نتحملها قطعاً.
انفجرت الضحكات من أفواه الحاضرين رغم خطورة الموقف ثم بدأوا يستعيدون الهدوء كرة أخرى، فقال "عاصم": حتى لو حاولنا توزيع ما لدينا توزيعا نسبياً و ليس كمياً فهذا يكاد أن يكون مستحيلاً لتعدد المعايير من الوزن و القدرة على التحمل و مدى الاحتياج من جهة و عدم وجود ضوابط محكمة لحساب النسب من جهة أخرى.
"عادل": نعم. القسمة بالتساوي أقرب إلى العدل من وجهة نظري.
"سارة": فلنجري تصويتاً إذن.
"ماجد" رافعاً يمناه: حسناً. من يوافق على التقسيم بالتساوي فليرفع يده.
أخذت الأيدي ترتفع الواحدة تلو الأخرى حتى تحقق الإجماع، فنظرت "سارة" باستنكار إلى "عاطف" قائلة: ما دمت موافقاً فلمَ صدعت رؤوسنا من البداية؟
"عاطف": كانت لحظة ضعف. و أضاف و هو يشير إلى بطنه: ثم أدركت أنها لا يمكنها أن تهضم شيئاً لم تحظ بطونكم بمثله.
ابتسم "عاصم" و هو يربت على كتف صديقه مشجعاً و هو يقول: أرجو أن نجد مخرجاً قريباً و ألا نصل إلى حالة الاضطرار.
"ماجد": هذا ما أخشاه فنحن إلى الآن نقيم الأمور بعقولنا و نتصرف بما تمليه علينا أخلاقنا، و لكننا لا ندري مدى تأثير الاضطرار على قوانا العقلية و قيمنا الأخلاقية.
"جميلة" في محاولة لتغيير دفة الحديث حتى لا يغوصون في الاحتمالات المخيفة: و من تختارون ليكون خازن بيت المال؟
"حورية": أنا أرشح "عادلاً" تفاؤلاً باسمه.
ارتفعت الأيدي مرة أخرى بالإجماع.
ثم قالت "سارة" موجهة الحديث إلى "عادل": أول مشكلة ستواجهك أيها الخازن هي كيفية حساب الوقت بين نوبات التوزيع لضمان الحفاظ على المخزون لأطول فترة ممكنة، فنحن لا نملك ساعات يدوية كما تعلمون.
أطرق "عادل" برهة ثم رفع رأسه و قال: لا أجد سوى الاعتماد على أنفاسنا.
"عاطف": بالطبع سنعتمد على أنفسنا، لكن كيف؟
"عادل": لم أقل على أنفسنا و إنما على أنفاسنا.
"عاصم": ماذا تقصد؟
"عادل": ما أعلمه أن الإنسان يتنفس بمعدل عشرين مرة في الدقيقة تقريباً أي ألف و مائتين مرة في الساعة، فإذا قام كل واحد منا بعد أنفاسه لمدة ساعة فيمكننا حساب الوقت بشكل تقريبي.
"ماجد": فكرة رائعة.
"سارة": لكنها غير مضمونة بالمرة، ماذا لو أخطأ أحدنا أو شرد ذهنه و غفل عن العد؟
"عاصم": على كل واحد منا أن يبذل أقصى قدر من التركيز حين يحين دوره، و حتى إن شرد أو أخطأ فليكمل، فأن تصبح الساعة سبعين أو ثمانين دقيقة أفضل من فقدان عنصر الزمان بأسره.
"حورية": و بذلك كلما أنهينا ثلاث دورات من العد، انقضت أربع و عشرون ساعة تقريبا و وصلنا إلى الغد.
"عادل": لقد دخلنا الكهف مع غروب الشمس تقريباً، و في تقديري أن الساعة الآن حوالي العاشرة مساء، فإذا بدأنا عد الأنفاس من الآن، فيمكنني القول أن أول وجبة لنا ستكون بعد اثنتي عشرة ساعة من الآن أي حوالي الساعة العاشرة من صباح اليوم التالي.
"عاطف": اعتقد أنها فترة كافية لوصول الدكتور "لبيب" و الدكتور "هانئ" بالنجدة، أليس كذلك؟
"عاصم": أما زال لديك أمل فيهما.
"ماجد": لن نفقد الأمل فيهما أو في أحدهما إلا بعد مرور تلك الساعات على الأقل، فليس هناك دليل مؤكد حتى الآن على تورطهما في الكارثة التي نحن فيها.
"جميلة": أرجو أن تصل النجدة خلال تلك الساعات و ينتهي هذا الأمر على خير.
"سارة": و ماذا لو لم تصل؟
تبادل الأصدقاء النظرات و لم ينبس أحدهم ببنت شفة للجواب على سؤال "سارة" فكل منهم كان يريد التفكير منفرداً قبل أن يعلن رأيه على الملأ.
أتم "عادل" توزيع الساعات لعد الأنفاس على المجموعة، ثم انزوى كل واحد منهم في زاوية من زوايا الكهف يفكر في ماذا لو؟ و ماذا بعد؟
و خيم الصمت على الكهف إلا من شهيق و زفير من يقوم بعد أنفاسه.
* * *
أشرقت الشمس على أصحاب السيارة فاقتلعت النوم من العيون، و كان أولهم استيقاظاً "ماهر" الذي بمجرد أن ردت إليه روحه شعر بألم قدمه و ساقه، فأخذ يتأوه تأوها مكتوماً خجلاً من رفيقتيه، استيقظت الفتاتان بعده مباشرة، فقالت ليلى: لقد كنا في أشد الحاجة إلى الراحة.
"ماهر": و نحن الآن في أشد الحاجة إلى الدواء و الغذاء.
"حنان": فلنفتش في السيارة ربما ترك فيها ماجد بعض الأطعمة و الأدوية.
أخذوا ينظرون فيما حولهم و تحت المقاعد و خلفها حتى وجدوا في المكان المخصص للأمتعة صندوقين مغلقين، فالتقطت "ليلى" احداهما و التقطت "حنان" الأخر، و عندما فتحت الأولى صندوقها قالت بنبرة انتصار: الحمد لله، ها قد وجدنا الماء و الغذاء.
فأردفت الأخرى بنفس النبرة: و حصلنا أيضا على الدواء، فلدي هنا حقيبة اسعافات أولية بها بعض المضادات الحيوية و المسكنات و المطهرات و الضمادات و غيرها.
"ماهر" بفرح و دهشة: رائع.
"ليلى": ألم تكن معهم في السيارة؟ ألم تر هذين الصندوقين من قبل؟
"ماهر": بلى كنت معهم لكني لم أتفقد مكان الأمتعة.
"حنان": إذا كان هذان الصندوقان لماجد، فلمَ لم يحضرهما معه حين بدأنا رحلة السير؟
"ليلى": ربما نسي، و ربما أخذ زملاؤنا ما فيه الكفاية و لم تكن هناك حاجة لهذين الصندوقين.
"حنان": نعم. اذكر أنني قبل مغادرة الكهف لمحت حقيبة اسعافات أولية مشابهة وسط الأمتعة التي قمنا بنقلها.
أخذ "ماهر" يستعيد بذاكرته لحظات تعاونه مع زملائه في نقل الأمتعة من السيارة، ثم قال: أحسب أن هذين الصندوقين لم يكونا في السيارة من قبل.
"ليلى": و ماذا يعني هذا؟
"حنان" بنبرة شك: يعني أن هناك من وضعهما في السيارة أثناء نومنا.
"ماهر": أجل. هذا ما أظنه.
"ليلى": إن كان ظنكما في محله فلن يكون هذا الشخص سوى "لبيب" أو "هانئ".
"حنان": و هذا معناه أنهما متورطان فيما نحن فيه، و أن لديهما خطة ما، و لذلك لا يريدان مواجهتنا حتى لا تفسد تلك الخطة.
التقط "ماهر" صندوق الإسعافات الأولية و تناول قرصين من المسكن أتبعهما بالمضاد الحيوي ثم بدأ يطهر جروح قدمه و ساقه و يضع عليها الضمادات و يربطها بإحكام ليمنع التلوث و يخفف من الألم، ثم قال: لا بد أن نجدهما و نواجههما حتى نجبرهما على إخراجنا و أصدقائنا من تلك الورطة.
"ليلى": كيف سيمكنهما تحريك تلك الصخرة؟ ماذا لديهما من الآلات لإنجاز مثل هذه المهمة؟
"حنان": ماذا تقصدين؟
"ليلى": أقصد أن اتهامهما بتدبير تلك الكارثة مستبعد و لا دليل عليه.
"ماهر": فلمَ غادرا الكهف الواحد تلو الآخر قبل وقوع الصخرة؟ و أين اختفت سيارتهما؟ و لمَ تسللا إلى سيارتنا و لم يوقظانا؟
"ليلى": إن كانا يدبران شراً فلمَ يقدمان لنا المساعدة و نحن نيام؟
"حنان": الأمر محير بالفعل، و على كل حال إن كانا هما الجانيان فلن نستطيع أن نجبرهما بسهولة على تحرير أصدقائنا فضلاً عن أن نجدهما أصلاً.
"ماهر": و العمل؟
"ليلى": أن نجتهد في نجدة أصدقائنا أولى من الاجتهاد في البحث عنهما.
"حنان": كيف؟
"ماهر": سنسلك كافة الطرق الممكنة، سنحاول تشغيل سيارة "ماجد"، و سنحاول الوصول إلى منفذ أخر للكهف، و سنحاول اقتفاء أثار سيارة "لبيب"، و سنحاول العثور على النجدة من أقرب بلدة إلينا.
* * *
جلس "عاصم" على البساط و أسند ظهره و رأسه إلى جدار الكهف و أخذ يفكر في ماذا لو؟ و ماذا بعد؟ ماذا لو لم تصل النجدة بعد ساعات؟ و ماذا بعد أن ينفد ما لديهم من المشروبات؟ و أدرك أنهم اليوم يكافحون من أجل الحرية لكن غداً سيكون كفاحهم فقط من أجل البقاء على قيد الحياة، و تساءل بينه و بين نفسه: أيهما أثمن الحرية أم الحياة؟ طالما أن البشر يضحون بحيواتهم من أجل حرياتهم فالحرية أثمن من الحياة، لكن التاريخ في مجمله يكذب هذه الفرضية لأن عدد من ماتوا تحت نير العبودية يفوق بكثير عدد من قتلوا من أجل الحرية، و بالتالي سيظل "سبارتكوس" استثناءً و ليس أصلاً، ربما لم تسنح الفرصة لأغلبية العبيد أن يقاتلوا لينالوا حرياتهم، ربما كانوا ينتظرون اللحظة المناسبة ثم انقضت أعمارهم قبل أن تأتيَ تلك اللحظة، ربما كان صبرهم على العبودية سنيناً بسبب أملهم في الحرية يوماً، و ربما كان تحملهم بسبب عجزهم، لكن إن فرضنا عجزهم عن القتال فهل كانوا عاجزين أيضاً عن الموت؟ لماذا قبلوا بالحياة في الأسر؟ لماذا لم يقضوا على أنفسهم بأنفسهم؟ لماذا لم ينتحروا؟ يبدو أن الانتحار أصعب من القتال، و أن يقتل الإنسان نفسه أشق من أن يقتل غيره، فقد يقتل الإنسان غيره حسداً أو طمعاً أو كراهيةً أو قصاصاً أو لغيرها من الدوافع التي كثيراً ما يجدها تجاه غيره و قلما يجدها تجاه نفسه، بل حتى إن كره حياته و اشتد ألمه و كربه لا يقدم على هذه الخطوة إلا أصابه القنوط من غده، ليس القريب فحسب بل البعيد أيضا، إذن فالحياة أقوى من الألم و من الأسر و لكنها أضعف من اليأس.
إياك أن تيأس يا "عاصم"، فإنك إن آيست فقدت حياتك و حريتك و بالتالي يومك و غدك ، هذا ما دار بذهنه حينما التقت رأسه بالصخر على جدار الكهف.
* * *
في زاوية أخرى من زوايا الكهف جلس "عادل" القرفصاء بجوار الصندوق الذي يحتوي مادة الحياة بالنسبة لهم، كان يفكر في المهمة التي أسندت إليه، لقد أصبح "خازن الكهف" و عليه أن يبقي على محتوى هذا الصندوق لأطول فترة ممكنة، فتح الصندوق و أخذ ينظر إلى محتواه و يقسم في ذهنه الكميات على الأفراد و الساعات و يتوقع ما يمكن أن يواجه من المشكلات، هذا المحتوى الذي يعدل اليوم دراهم معدودة سيعدل غداً مُلك "هارون الرشيد"، ما أعجب تصاريف الأقدار و ما يأتي به الليل و ما يذهب به النهار، فإذا كانت قيمة شربة الماء يمكن أن تتفاوت هذا التفاوت الشاسع بين اليوم و الغد، فهل قيمة نسمة الحرية ثابتة؟
محال في كل الأحوال! محال أن تستوي حرية الأخذ مع حرية العطاء، محال أن تستوي حرية الهدم مع حرية البناء، محال أن تستوي حرية القبح مع حرية الجمال، محال أن تستوي حرية الظلمات مع حرية الأنوار، محال أن تستوي حرية الأبدان مع حرية الأرواح، و لكن رغم كل ما سبق تستوي حرية الكفر مع حرية الإيمان!
ما قيمة حريتك في الكلام إن كان من تحدثه أصم؟ ما قيمة حريتك في السماع إن كانت من تشدو لك قد وقعت أسيرة الهم؟ ما قيمة حريتك في الحركة إن كانت حبيبتك تئن في القيد؟ و على الصعيد المقابل، كم تعدل حريتك في نهار تزيل فيه السد؟ كم تعدل حريتك في مساء تبني فيه المجد؟ كم تعدل حريتك في ليل تصنع فيه الغد؟
لا شك أن هناك أوقات تصبح فيها الحرية كالماء و الهواء، و هناك أوقات تصير فيها الحرية و عدمها سواء، و السؤال يا "عادل" بينما نحن في سجن الكهف: في أي الأوقات نحن الآن؟ هب أننا لا نواجه مشكلة في الماء و الغذاء، ما القيمة الحقيقية لتحررنا من أسر الكهف؟ هل إذا بقينا فيه حتى ينقطع الرجاء، ستفتقدنا الأرض أو ستبكي علينا السماء؟
إياك يا "عادل" إن قدر لك النجاة، و استعدت حريتك المفقودة، أن تجعل قيمتها بعد عودتها كما كانت قبل فقدها، هذا ما وجده في خلده أثناء جلسته القرفصاء.
* * *
جلس "ماجد" محتبياً قرب مدخل الكهف كأنما يريد أن يكون أول من يرى الصخرة إذا تزحزحت بقوة من الأرض أو بمعجزة من السماء، ثم لم يلبث أن عقد ساعديه فوق ركبتيه و أسند جبهته إليهما و أخذ يعيد ترتيب مفردات الموقف في عقله ليستعد لمواجهة المعركة القادمة، و بعدما أطال النظر في العاقبة و المآل و قلب الاحتمالات ذات اليمين و ذات الشمال، رسخ في قناعته أن المعركة القادمة ليست النضال في سبيل الحرية و ليست الكفاح من أجل البقاء و إنما الجهاد للحفاظ على الإنسانية، عندما تشتد الحاجة و يصلوا إلى درجة الاضطرار ستختل العقول و تضطرب الأخلاق و يزول البرزخ بين الإنسان و الحيوان، و عندها سيصبح هذا الكهف هو الدنيا و ما فيها، و ستصبح الحرية داخله مطلقة خاصة مع فقدان الأمل في النجاة و فقدان الخوف من الحساب، عندها يمكن للواحد منا أن ينهب قوت صديقه و يسفك دم أخاه و يغتصب عرض زميلته، بدون الاستمساك بالإنسانية سيصبح الكفاح من أجل البقاء محكوماً بشريعة الغاب حيث البقاء للأقوى، و سيصير النضال من أجل الحرية في جوهره استعباداً للآخرين ليس إلا، لكن إذا كان الحفاظ على الإنسانية يتطلب ضمانات من الأحكام المنطقية و القيم الأخلاقية و الجوع يذهل العقول و القنوط يغتال الأخلاق، فأين المفر؟ و كيف السبيل؟ و متى النجاة؟
لابد من ضمانات أخرى تساعدنا على الاستمرار داخل الدائرة الإنسانية و تمنع تسلط الغرائز الحيوانية على سلوكنا حين تشح مقومات الحياة، فنحن لا نريد في معركتنا القادمة الحرية الممزوجة بالدماء، و لا نبتغي مجرد البقاء أحياء و إنما أن نحيا أسوياء، فما هي تلك الضمانات؟ ربما هي الإرادة، ربما هو الإيمان!
إياك يا "ماجد" أن تنكسر إرادتك أو أن يلتوي إيمانك، و إن أدمت القيود التي تكبل حريتك الآن بنيتك فإياك إياك أن تجعلها تُدمي آدميتك، هذا ما جاس في نفسه بعدما طرق على ساعديه برأسه.
* * *
استلقى "عاطف" على ظهره في ركن من أركان الكهف فوق البساط المفروش، عاقداً كفيه تحت رأسه ناظراً إلى السقف الصخري، يفكر كيف انتقل حلم الحرية بين الأمس و اليوم من مرتبة الحاجات إلى مرتبة الضرورات، فما كان بالأمس حاجة من الحاجات الإنسانية أصبح اليوم ضرورة حياتية، كان بالأمس يظن أن الحياة ممتدة أمامه أعواما طويلة ليحقق فيها حلمه بالحرية حتى ينتقل إلى الحياة الأخرى و قد استعاد لحظة البراءة الأصلية لحظة الميلاد، و اليوم يدرك أنه إن لم يحقق حلمه خلال أيام قليلة ضاعت فرصته و فقد عمره، حينئذ شعر بشعور الطالب الذي استغرق في حل السؤال الأول من الامتحان و لم يفق من استغراقه إلا على صوت المراقب و هو يعلن أنه لم يبق من الوقت سوى خمس دقائق و يتم سحب الأوراق، مزيج من الحسرة و الحيرة و اليأس و الفزع و الاضطراب و الغضب، و عندئذ تتراوح ردود أفعال الطلاب من تمزيق ورقة الإجابة، إلى الانهيار و البكاء، إلى استجداء المراقب، إلى ترك القلم و دفن الوجه في الكفين، إلى الخروج من اللجنة، إلى ما شابه ذلك أو قاربه، أما هو فلن يقدم على شيء مما سبق، و إن كان امتحانه قد أوشك على الانتهاء، و حياته قد أوشكت على الفناء، فليكن ذلك بشرف، كل ما سيفعله أنه سيقسم ما تبقى من الدقائق على ما تبقى من الأسئلة، و سيكتب في كل إجابة جملة واحدة يفهم منها المصحح أنه يدرك مغزى السؤال و لديه مفاتيح الإجابة و لكن الزمن لم يسعفه، ثم إذا جاء المراقب لسحب الأوراق فلن ينازعه و لن يستجديه و إنما سيسلم ورقته شريفاً عزيزاً.
إياك يا "عاطف" أن تفقد شرفك أمام نفسك، و إياك أن تفقد عطفك على من حولك، و امض حين تمضى واقفاً على قدمك رافعاً رأسك لا مكباً على وجهك، هذا ما تحرك في وجدانه و هو شاخص ببصره مستلقياً على ظهره.
* * *
لم تتمكن "سارة" من الجلوس لشدة توترها، فظلت تسير في الكهف على غير هدى، تخطو خطوات إلى الأمام ثم تعود أدراجها، تنعطف يمنة أحيانا و تنحرف يسرة أحيانا أخرى، لم تكن تبحث عن "ماذا" و إنما عن "لماذا"، لم يكن يشغلها التفكير في ماذا لو؟ و ماذا بعد؟ بقدر ما كان يؤرقها لماذا كان ما كان، و لماذا يكون ما يكون؟ لماذا يعطي بعض البشر أنفسهم الحق في تقرير مصير غيرهم؟ أخبرتك بالأمس يا "حورية" إنها القوة ليس إلا، و لكنكِ لم تُصدقي، و اليوم وجد أحدهم لديه القدرة على حبسنا فحبسنا،.. لماذا..؟ لماذا..؟ ربما ليهلكنا، ربما ليراقبنا، ربما لينتقم منا لشيء لا نعلم عنه شيئا، أو لأي سبب أحمق تفتق عنه ذهن هذا الأخرق.
أعلم ما ستقولين يا "حورية"، ستقولين: ليس للبشر أن يقرروا مصير البشر، إنما هو القدر. لكن "لماذا" لا يكفيها هذا، فما زلت أراها قائمة شاخصة، ناظرة حاضرة، تعيد السؤال و تنتظر الجواب، لماذا لا بد من وجود قوة ما أو جهة ما تتحكم في مصائر البشر؟ لماذا لا نقرر مصائرنا بأنفسنا و نأخذ أزمتها بأيدينا؟
أهل الدول المتقدمة يزعمون أنهم يفعلون، و يدعون أنهم في مصيرهم و مصير غيرهم يتحكمون، و أنهم على أرضهم قادرون، لكن هل هم صادقون؟ بالأمس كنت على اليقين من ذلك، فكل الشواهد تخبر أنهم يفعلون ما يقولون، و ينفذون ما يخططون، و يُقسمون و لا يستثنون و مع ذلك ينجحون و ينجزون، لكن اليوم و بعدما قرأت ما قرأت مما كتب جدك يا "حورية" أدركت أن هناك من يلعب في حيواتنا أدواراً لا يمكن تجاهلها أو إنكارها، و لا يستقيم أن ندعي أننا أصحابها، فصالحتُ الشك و خاصمتُ اليقين.
لكن الشك مرير، و النفس تميل، تميل إلى اليقين و إن كان كاذباً و تفضله على الشك و إن كان صادقاً، لأن الأول يدفعها أن تستريح و تستكين و الثاني يحثها أن تكمل البحث و المسير، و الأول يبشر بالاستقرار و الثاني ينذر بالانفطار، و لذلك أريد العودة لليقين، أريد أن أعرف أيهما السبب و أيهما النتيجة؟ هل أقدارنا نتيجة أفعالنا أم أفعالنا ناتجة عن أقدارنا؟
و الآن في موقفنا هذا العصيب أجد الفرصة سانحة للتجريب، سأقرر ثم أنظر، سأقرر الخروج من المأزق و التحرر من الأسر و سأسير نحو هذا المصير، ثم سأنظر هل سيستجيب القدر أم سيأبى الليل أن ينجلي و يأبى القيد أن ينكسر؟
هذا ما صال و جال في سرها و هي تتردد ذهاباُ و إياباً في أسرها.
* * *
انتهت "جميلة" من نوبتها في عد الأنفاس، فتنفست الصعداء، و شعرت بعظم الفارق بين من يتنفس ليحيا و من يتنفس ليحسب الوقت الذي مضى من عمره، و بين من يتنفس تكلفاً و من يتنفس سجية، و أحست بخطورة عد الأنفاس و النظرات و الخطرات و السكنات و الحركات ثم المحاسبة على كل ما فات، و تذوقت نعمة حرية التنفس، نعمة أن تتنفس و لا تدرك أنها تتنفس، جميل أن تفعل الصواب و تأتي الخيرات و لا تدرك أنك فعلت هذا و لا أتيت تلك، فأسرعت جذلة إلى صديقتها "سارة" لتسلمها نوبتها التي تحررت منها منذ لحظات، ثم جلست تستمتع بالاسترخاء.
الجميل في شخصية "جميلة" أنها بسيطة، تفر من التركيب و تنفر من التعقيد، و لذلك لم تقف طويلاً أمام"ماذا" و "لماذا" و كيف حدث هذا؟ فقد كان المشهد أمامها واضحاً بسيطاً فلم تستغرق كثير وقت لتدرك أنه لا رجاء في الخروج من مأزق الكهف دون تدخل من السماء، هذه النتيجة يمكن الوصول إليها ببساطة سواء أكان هذا المأزق بفعل البشر أم بحكم القدر، صحيح أن هناك خمسة أشخاص خارج الكهف يعلمون علم اليقين أنها و من معها أضحوا سجناء داخله، لكن هؤلاء الأفراد إما متورطون في ضرهم و إما عاجزون عن نفعهم، لا شك عندها في ذلك، و هذا يؤكد رؤيتها بشدة حاجتهم إلى تدخل السماء عسى أن يرعوى المتورطون و يقدر العاجزون و يتحرر المأسورون.
هذا ما تردد في ضميرها فأدركت أن الأسئلة الفلسفية و التأملات المنطقية بل و حتى الأماني القلبية و الآمال النفسية لن تغني عنهم شيئا، كما أنها لن تجدي نفعاً مع موجة البلاء القادمة، هذه الموجة لن تبعدها السباحة و لن تصدها المقاومة، و ليس لها إلا الدعاء و التضرع، و عندما وصلت إلى هذه النقطة من التفكير اختصرت السبيل فتحولت من جلستها إلى جلسة التشهد و رفعت يديها إلى السماء و شرعت في التضرع و الدعاء.
* * *
بين الفنية و الفنية كانت "حورية" تتأمل فيما يواجهها و فيمن يرافقها، و تمكنت من التعرف على بعض أحوالهم من مشاهدة صورهم و أعمالهم، فهذه ثائرة حائرة متوترة، و تلك ساكنة ضارعة مستسلمة، و هذا يتأمل تأملات منطقية و يجري في ذهنه مقابلات فلسفية، و ذاك يعزي نفسه و يصبرها و يشحذ قواه العاطفية، و الثالث مهموم بما حمل من المسئولية، و الأخير يحاول ألا يفقد القيم الأخلاقية و الإرادة الإنسانية.
عجيب أمرنا، فنحن في نفس المكان و ذات الزمان، أعمارنا متقاربة، دراستنا متماثلة، و نخوض الآن نفس الامتحان، و مع ذلك كل منا في شأن، و كل منا له حال.
نعم كل منا له حال، و هذه أحوال من حولكِ يا "حورية"، فما حالك أنتِ؟ هل الحرية حقيقة أم خيال؟ و هل نحن أحرار حقاً أم نتوهم أننا أحرار؟ هل دورنا في الحياة أن ننفذ ما نريد أم أن ننفذ ما أريد لنا؟ تذكرت بعض الأبيات، جمع الشاعر فيها بين المتناقضات، فقالت في نفسها: يبدو أننا نتردد بين هذا و ذاك، فصاحب الأبيات في أولها يدعو إلى الحرية و هجر الأرض و ترك الديار، و في آخرها يؤكد أنك إن استجبت فما ذاك إلا لأنه لا خيار، فكأنما يريد أن يقول: عليك أن تخطو خارج دائرة الذل و خطواتك هذه مكتوبة عليك، أي أن الإجبار إنما هو على الاختيار، فأنت مجبور على أن تختار، و الاختيار احتيار، فأنت مقهور على أن تحتار.
عجبت لمن يقيم بدار ذل .. وأرض الله واسعة فضاها
فذاك من الرجال قليل عقل .. بليد ليس يدرى ما طحاها
فنفسك فز بها إن خفت ضيما .. و خلِّ الدار تنعى من بناها
فإنك واجد أرضا بأرض .. ونفسك لا تجد نفسا سواهـــا
مشيناها خطى كتبت علينا .. ومن كتبت عليه خطى مشاها
ومن كانت منيته بأرض .. فليس يموت في أرض سواها
و أرزاق لنا متفرقات .. فمن لم تأته منا أتاها
إذا كانت الحرية حقيقة فلن تختلف باختلاف الزمان و المكان، و لن تختلف داخل الكهف عنها خارجه، و لن تتغير ماهيتها بين الدنيا و ، فمن يعش حراً في الأولى يعش مَلِكاً في الثانية، و من يكن في هذه مقيداً فهو في الأخرة الآخرة أشد تكبيلاً.
كان هذا ما تعتقده قبل أن يحل الكهف عقائدها الموهومة، و يسلب حريتها المزعومة، فكثير من الدعاوى التي يدعيها البشر و المزاعم التي يزعمونها لا تصمد أمام الكهوف المظلمة المغلقة، تلك الكهوف مهمتها هدم المعتقدات و سحق الحريات، و عادة ما تنجح في مهمتها خاصة مع الذين يدخلونها على غير هدى و يسيرون فيها بلا زاد ولا بصيرة، أما مع الذين يساقون إليها بيد الرعاية و عين العناية فلا تزداد عقيدتهم إلا رسوخاً و لا حريتهم إلا شموخاً.
من أي الفريقين أنتِ يا "حورية"؟ أحسب أنكِ من كليهما، فللوهلة الأولى تلاعبت بك الأمواج في كهف الظلمات، حتى شعرتِ أن ما عقدتِه ينحل، و ما جمعتِه يتفرق، و ما شيدته ينهار، ثم امتدت إليكِ يد الرعاية، و أضاء لك مصباحُ الهداية، فإذا ما انحل قد انعقد بإصرار، و ما تفرق قد اجتمع بإحكام، و ما انهار قد قام و علا عما كان، فعلمتِ أن الرحلة ما زالت في البداية، و تذكرتِ الوصايا، و أدركتِ أنكِ لابد أن تركبي سفينة النجاة، و عليك أن تحطمي أصنامك و تلقي عصاك، و لكن متى؟ و كيف؟ هذان هما السؤالان.
* * *
فتح "ماهر" مقدمة السيارة و أخذ ينظر إلى المحرك و الأسلاك بحيرة، و لم يكن لديه معرفة بميكانيكا السيارات البتة إلا أن العديد من أفلام الحركة التي شاهدها تؤكد أنه يمكن تشغيل السيارات بتوصيل سلكين ما في مكان ما بطريقة ما، حاول أن يجد هذين السلكين لكن هيهات، فالأمور في الحقيقية لا تجرى على هوى مخرجي الأفلام، حاول أن يعبث ببعض الأسلاك و هو يخبط خبط عشواء عسى أن تحدث المعجزة و يعزف المحرك أعذب الألحان لكن دون جدوى، فأغلق غطاء المحرك بعنف و هو يصيح: لا فائدة.
حاولت الفتاتان أيضا إدخال بعض أدوات تقليم الأظافر أو تثبيت الشعر مكان مفتاح السيارة لتدوير المحرك لكن بلا طائل، و بعد أن يئس ثلاثتهم ثلاثاً قالت ليلى: فلننتقل إلى الخطة باء.
"ماهر": بل سننتقل إلى الخطتين باء و جيم في نفس الوقت.
"حنان": ماذا تقصد؟
"ماهر": ننقسم إلى فريقين، فتذهب إحداكن لتفقد موقع الكهف ربما في ضوء النهار يمكنها أن تكتشف منفذا أخراً له أو وسيلة تواصل مع أصدقائنا داخله أو نقطة ضعف في الصخرة الجبارة، أو على الأقل تجمع ما تناثر حوله من الطعام أو الأدوات التي قد نحتاجها، ثم سكت برهة و أضاف: و لتبقى الأخرى معي لتساعدني في اقتفاء أثار سيارة الدكتور، فلن يمكنني القيام بهذه المهمة وحدي مع إصابة ساقي و قدمي.
"ليلى": فكرة جيدة. سأذهب أنا لتفقد موقع الكهف و ما حوله.
"حنان": لا بأس. و أنا سأرافق "ماهر".
افترق الفريقان، فانطلقت "ليلى" نحو الكهف، و بقي "ماهر" و "حنان" في موقع السيارتين يحاولان اقتفاء أثر المقطورة، كانت آثار السيارتين واضحة إلى حد ما و يمكن التمييز بينهما بسهولة فهناك فارق واضح في حجم و عدد الإطارات و نظراً لأن المنطقة مهجورة منذ فترة فلم توجد أثار أخرى تتداخل مع أثار سيارتي "ماجد" و "د. لبيب"، كما ساعدت الأمطار التي هطلت البارحة على تحويل الرمال إلى طين فأصبحت الأثار أكثر بروزاً، لكن واجهتهما مشكلتان: الأولى تحديد الاتجاه، فقد كانت هناك عدة اتجاهات لأثار الإطارات مما يوحي أنها تحركت في أكثر من اتجاه و أن قائدها كان يبحث عن موقع ما أو أنه انتقل بها أكثر من مرة في الليلة السابقة، و الثانية تحديد المسافة، فها هما يريان الآثار لكن لا يعلمان أين ستنتهي.
تغلبا على المشكلة الأولى بطول النظر و تصفية الاحتمالات إلى أقل ما يمكن ثم بالتجربة و الخطأ، و تغلبا على المشكلة الثانية بالصبر على السير و تحمل المشقة ثم بالأمل في قصر المسافة، و بعد ساعتين من المثابرة على ما سبق، وصلا في النهاية إلى طريق متدرجة الارتفاع تنتهي بهضبة عليها بعض الشجيرات و في وسطها يمكن تمييز المقطورة بشيء من الصعوبة، فصاحت "حنان": ها قد نجحنا.
تنفس "ماهر" نفساً عميقاً و أجابها و هو يخرج زفيره: نعم.. أخيراً.
كانت المسافة التي تفصلهما عن المقطورة حوالي المائتي مترٍ، و كان الجهد قد بلغ منهما كل مبلغ، لكن رؤية المطلوب و تحقق الأمل، بعثا العزيمة في روحيهما، و جددا القوة في جسديهما، فانطلقا بأقصى سرعة تسمح بها إصابة "ماهر"، حتى لم يبق سوى مائة من الأمتار على بلوغ المرام، اشتعلت الحماسة في صدر الفتاة فأنستها الحيطة و الحذر و نادت بأعلى صوتها: يا دكتور "لبيب".. يا دكتور "هانئ" أدركانا.
بقدر ما اشتعلت الحماسة في صدر الفتاة بقدر ما اشتعل الغضب في فؤاد الفتى، كانت "حنان" تسبقه بعدة خطوات نظراً لحماستها و إصابته لكنه تحامل على نفسه و قفز على ساقه السليمة قفزة طوى بها المسافة بينه و بين رفيقته، و في اللحظة التالية كان يجذبها من يدها بيد و يغلق فمها بالأخرى و هو يقول بصوت منخفض لكن ممتلئ بمزيج من الغيظ و الحسرة: أتريدين أن يهربا نزلة أخرى!
في اللحظة التي وصلت فيها صيحة "حنان" إلى المقطورة كان "لبيب" يراقب ما يدور في الكهف و بالقرب منه "هانئ" مقيد في مقعده، استطاع الثاني أن يميز الصيحة و انتعش أمله في النجاة، لكنه أدرك أن صاحبه يمكنه أن يقضي على هذا الأمل في دقائق، فاصطنع العطاس على الفور ليغطي على صيحة الفتاة من ناحية و ليشتت رفيقه من ناحية أخرى، ثم صاح بعدها مباشرة: ألم يأن لك أن توقف هذا العبث؟ ألا تشعر بخطورة الموقف و ما يعانيه الشباب؟
كان انشغال "لبيب" بمتابعة ما تنقله الكاميرا من داخل الكهف مانعاً له من تمييز الصيحة بوضوح، لكنه مع ذلك سمع جلبة ما، و شعر أن شيئا ما يجري، فنظر إلى "هانئ" و تجاهل التعليق على كلامه و قال: ما هذا الصوت؟
"هانئ": لا يوجد هنا من يصدر الأصوات سواي، و قد عطست آنفاً.
نظر "لبيب" إليه بعينين تملؤهما الريبة و قال: هناك صوت ما خارج المقطورة.
"هانئ": ربما أحدى الغزلان أو أحد الأرانب.
لم يعره "لبيب" اهتماما و قام مباشرة و أزاح الستائر لينظر من شباك المقطورة في الاتجاه الذي جاء منه الصوت مستخدماً النظارات المكبرة، و في تلك اللحظة كان "ماهر" يشير لرفيقته أن تخفض رأسها و تنبطح أرضاً مثله، فمرت عينا "لبيب" فوقهما و لم ترهما لأنهما كانا قد خرجا من مجال رؤيته، و رغم أنه لم يلحظ شيئاً إلا أنه لم يطمئن، فقام متجهاً نحو باب المقطورة و هو يقول: الاحتياط واجب، لا بد أن ننتقل إلى موقع آخر.
أدرك "هانئ" أن الفرصة في طريقها إلى الفوات، و قرر أن يمنعه بأي وسيلة، فمد رجليه المقيدتين فجأة ليحول بينه و بين الوصول للباب، و لأن الحركة كانت سريعة و مباغتة فقد فَقَدَ "لبيب" توازنه و انكفأ على وجهه أمام "هانئ" الذي لم يرد أن يفقد زمام المبادرة فحاول أن يعالجه بركلة أخرى من قدميه المقيدتين، لكن "لبيب" تدحرج بسرعة ليتفادى تلك الركلة و نهض قائماً و هو ينظر بحنق إلى مهاجمه ثم صفعه قائلاً: لا تجعل الأمور تزداد سوءاً.
و في اللحظة التالية غادر المقطورة و قفز إلى غرفة القيادة و انطلق سريعاً ليبحث عن موقع بديل للمرة الثالثة.
سمع "ماهر" و "حنان" صوت السيارة و هي تنطلق فرفعا رأسيهما، و بينما هي تبتعد ضرب "ماهر" الأرض بقبضتيه و هو يصيح: لا. ليس ثانية. في حين أطرقت "حنان" برأسها خجلاً و هي تنظر إلى الأرض في أسى.
* * *
انقضت الليلة الأولى في الكهف و مرت الساعات الأولى من نهار اليوم التالي، و قام "عادل" بتوزيع الوجبة المقررة على أصحابه، و استمرت مناوبات حساب الزمان بعد الأنفاس في المكان، كان الدور قد وصل إلى "حورية" فاعتزلت في زاوية من زوايا الكهف لتقوم بمهمتها، بينما تحلق البقية لتناول غذائهم و مناقشة شئونهم.
تجرع "ماجد" جرعة من الماء ثم قال: أحسب أنه قد غدا واضحاً أن النجدة لن تأتِي من الخارج.
"عاطف": إن كان قد تأكد لديك تورط "لبيب" و "هانئ"، فالمؤكد لدينا جميعاً أن "ماهر" و "ليلى" و "حنان" ليسوا متورطين، و لن يدخروا وسعاً لعوننا، و لا يزال الأمل معقود عليهم.
"عادل": لو صحت نظرية الجنون العلمي التي اقترحها "عاصم"، فالأمل كبير لأن الأمر في هذه الحالة لن يعدو كونه تجربة من بدأها سينهيها بعدما يحقق غرضه ثم يطلق سراحنا، فما علينا سوى الانتظار.
"عاصم": لا يمكننا الاطمئنان إلى هذا الاحتمال، فهي تجربة من ناحية و من ناحية أخرى جريمة تضعه تحت طائلة القانون، و فرصته في الافلات تزيد إذا اختفى هو من على ظهر الأرض و اختفينا نحن في بطنها.
"عاطف": هذا التصور يقتضي أن يكون الدكتور "لبيب" على استعداد لقتل تلاميذه و التضحية بمكانته العلمية و مستقبله الأكاديمي في سبيل تجربة أو دراسة ما، و هذا احتمال أقرب إلى المحال، لماذا نلجأ إلى أعقد التصورات و أبعد الاحتمالات؟ هناك العديد من الاحتمالات الأكثر واقعية، فإزاحة تلك الصخرة يحتاج رافعة عملاقة أو حفار غاية في الكفاءة، و كلاهما لن يتوفرا قطعاً إلا في العاصمة أو المدن الكبيرة، و أقربها منا على مسافة شاسعة، ربما الأستاذان و الأصدقاء لا يزالون في الطريق، ربما واجهتهم بعض العوائق، ألف ربما و ربما.
"سارة": مهما يكن من أمر الخارج، فلن يمكننا التيقن منه أو التحكم فيه، فعلينا أن نوجه أفكارنا و جهودنا إلى الداخل، و لنجعل نقطة البداية من داخل الكهف لا من خارجه.
"جميلة": دعكم من الانشغال بالخارج أو الركون إلى الداخل، انفضوا أيديكم من الأرض و وجهوا قلوبكم إلى السماء.
"سارة": ها قد بدأنا نعيد تاريخ أسلافنا، هكذا البشر كلما شعروا بالعجز أحالوا الأمر إلى ما وراء الطبيعة، كما فعل أجدادنا في بغداد عندما اقتربت جحافل التتار من عاصمتهم، فشرعوا في قراءة صحيح البخاري ظناً منهم أنها عاصمتهم. ثم أضافت: كان الأولى بهم سل الصفائح لا فتح المصاحف.
"عاصم": رائعة كعادتك في الخلط و التلبيس، يا عزيزتي: كل ميسر لما خلق له، و كل فئة لها دورها، سل السيوف و الحمل على الأعداء وظيفة الأمراء و الجنود و المتطوعين الأقوياء، أما الضعفاء الذين لا يملكون حيلة و لا يجدون سبيلاً فماذا تريدين منهم أفضل من التضرع و الدعاء. و إن كان السوس قد نخر في بلاط الدولة العباسية و تكالبت عليها عوامل الهدم من الداخل و الخارج، و لم يقم الوزراء و الأمراء بدورهم، فليس هذا مبرراً للاستخفاف بمن قام بدوره، و إن لم يكن هذا الدور كافياً وحده في وقف الانهيار و منع السقوط.
"ماجد": و على كل حال فقد وعى أجدادنا درس بغداد في عين جالوت، و جمعوا بين الحسنيين، فكان العلماء يدورن على الجنود في جبهات القتال يعلمونهم سورتي التوبة و الأنفال.
"سارة" في ضجر: يعني ما المطلوب الآن؟
"جميلة": اقترح أن نتوسل إلى الله بصالح الأعمال كما فعل أصحاب الغار.
"عادل": أوَ تظنين أن ذلك ينجح؟
"عاطف": و لما لا؟
"عاصم": و ما المانع من التجربة؟
"ماجد": ليس لنا أن نختبر السماء، إما أن نقدم على هذا الأمر و نحن موقنون بصوابه و إما أن نحجم فلا نخوض فيما لا نحسن.
"عاطف": الدعاء ليس اختبارا للسماء، إنما هو توجه و رجاء.
"عادل": لا أظن أن الأمور تسير على هذا النحو، و لا أعتقد أن ما حدث مع أصحاب الغار بالأمس يتكرر معنا اليوم، فلسنا في زمان المعجزات.
"عاصم": نحن لا نبحث عن المعجزات الخارقة بل عن السنن الجارية، التي إن توافرت أسبابها لم تتخلف نتائجها.
"ماجد": هذا هو بيت القصيد، كيف لنا أن نقرر أن حالنا كحالهم و أن ما لدينا من الأسباب هو عين ما كان لديهم، بل أظن أنهم لم يكن لديهم من الأسباب شيئاً.
"عاطف": و ماذا لدينا نحن منها؟
"عادل": صدقت.
"ماجد": بل لدينا بعضها داخل الكهف – و أشار إلى صندوق الأغذية- و بعضها خارجه – و أشار يقصد أصدقاءهم- لكن في النهاية نحن بحاجة ماسة إلى السماء و من أسباب الوصول إليها الدعاء.
"سارة": و هل لديكم أيضاً الأعمال الصالحة التي ستتوسلون بها؟
عبست الوجوه، و أطرقت الرؤوس، و خيم الوجوم على الحضور، ثم همس "عاطف" قائلاً: أما تلك فلا.
"جميلة": لعلكم تفكرون في عظائم الأمور و معالي الدرجات، يا إخواني الله كريم، و الكريم يقبل الكبير و الصغير، و يكافئ على العظيم و الحقير، فلا تحقرن من المعروف شيئاً.
"سارة": أنا لن أشترك في هذه اللعبة.
"جميلة": أنت و شأنكِ.
"عاطف" بشيء من السخرية: كما ترين يا عزيزتي، نحن هنا نتمتع بأعلى قدر من الحرية، فالحرية في الكهف مطلقة، فلن يرغمك أحد على المشاركة.
نظرت "سارة" إليهما و لم تعقب، فساد الصمت من جديد و استمر و امتد حتى قطعه "عاصم" بقوله: لقد مررت على ما مر بي من السنين فما وجدت حتى هذا الشيء الصغير اليسير من المعروف و العمل الصالح، إلا إنني كنت في زيارة لقريب لي في المستشفى التعليمي الشهير في مدينتنا، فتفاجأت و أنا في طريقي للمغادرة بسيدة عجوز ملقاة بجوار الدرج المؤدي للمستشفى، فأسرعت إليها و أنا أشحذ عضلاتي و أستنفرها لحملها، فلما رفعتها من الأرض هالني خفة وزنها حتى ظننت أنني إنما أحمل شبحاً أو خيالاً، نظرت إلى وجهها نظرة خاطفة فوجدته نحيلاً ذابلاً و كانت لا تستطيع الكلام لكني قرأت في عينيها نظرة امتنان، فهرعت بها إلى داخل المستشفى لأستغيث بأطبائها، لكن ما أن تقدمت خطوات قليلة حتى لقيت قريباً لها آتياً من داخل المشفى يسوق أمامه كرسياً متحركاً، ففهمت أنه تركها عند الدرج ليحضر ما ينقلها عليه، فلما أبصرني أحملها بين ذراعي تهلل وجه و أقبل علي يشكرني و يلتقطها من بين ذراعي ليضعها على الكرسي و يمضي، سلمتها له و اتبعتهما بصري و أنا أفكر هل انتهى دوري عند هذا الحد أم أن علي أن ألحق بهما، فلم وصلا إلى غرفة الكشف و أقبل الأطباء عليهما، غلب على ظني أنه لا حاجة في وجودي معهما، فانصرفت و أنا أشعر بنعمة الله علي أن أذن لي في حمل تلك العجوز النحيفة المريضة الطيبة للحظات قليلة.
التفتت الوجوه إلى مدخل الكهف، و تعلقت الأبصار بالصخرة، و انحبست الأنفاس لترى هل ستتزحزح قيد أنملة؟ هل سيرون شعاعاً من الضوء أو بصيصاً من الأمل؟ إلا أن شيئاً من هذين لم يحدث، و بقي الحال على ما كان.
رغم أن "سارة" كانت متأكدة أن شيئاً ما لم يحدث، إلا أنها لم تستطع أن تمنع نفسها من الالتفات لمدخل الكهف و النظر إلى الصخرة، مما جعلها تشك في يقينها للمرة الثانية، لكن لما مرت دقائق و لم يتغير من الواقع شيء عاد إليها يقينها، فاستجمعت عنادها و قالت: يبدو أن السماء لم تقبل قربانك يا "عاصم".
أعرض "عاصم" عن جوابها، فلم يكن يريد جدالها، فأناب عنه "ماجد" و أجاب: لا يمكن لأحد أن يدعي العلم بما قبلت السماء و بما لم تقبل إلا إذا كان على صلة بها، فهل جاءكِ الوحي منها؟
"سارة": لا. لكن الكتاب يعرف من عنوانه.
"عادل": ليس دائماً، هناك ما لا يعرف و لا يدرك إلا مع النهاية.
"جميلة": إذن فلنكمل و لنأمل في الفرج.
تنحنح "عاطف" ثم قال: كنا في أحدى المدن الساحلية الصغيرة التي اعتدنا الاصطياف فيها، و كنت أتناول العشاء في الشرفة عندما سمعنا صوت بكاء طفل صغير، و بعد الصوت بلحظات رأينا صبياً لا يتجاوز الخمسة أعوام يسير على غير هدى و له نشيج و شهيق، ناديناه فلم يستجب بل حاول أن يبتعد، أغلب الظن أنه أخذه الخوف منا رغم حاجته إلينا، أدركنا أنه ضل الطريق و تاه عن أهله، فأرسلت أخي الأصغر في أثره خشية أن يصاب بأذى أو يقع في يد شرير، لحق به أخي و هدأ من روعه و وعده بالمساعدة حتى اطمأن له و عاد معه، لحسن الحظ كان الصبي ذكياً و كان يحفظ رقم الشارع الذي يقطن فيه أهله، فوعدته أني سأعيده إليهم، فلما هممت بالقيام، قالت لي شقيقتي: أكمل عشاءك أولاً ثم انزل معه، لن يستغرق ذلك دقائق. وقع مني قولها موقعاً حسناً فقد كنت جائعاً، فعدت إلى الجلوس، لكن نظرة الحسرة و العتاب و اللهفة على الانطلاق في عيني الولد أذهلتني عن الطعام و جعلتني انطلق معه من فوري، وصلنا إلى الشارع و بدأنا في تفقد المنازل، و لم تمض دقائق حتى لمحته الأم الملهوفة من الشرفة في الطابق الأول و كانت المنازل مصممة في تلك المدينة بحيث أن الدرج ينتهي إلى الشرفة مباشرة فدعته فترك يدي و انطلق يصعد إليها و وثبت هي تنزل إليها فالتقيا على الدرج فالتقطته و ضمته إلى صدرها و هي تصعد به كرة أخرى، ثم انتبهت إلي فشكرتني، فأشرت للصبي بيدي مودعاً، و رجعت قرير العين بما أنعم الله علي وعليه.
تكرر مشهد الالتفات للمدخل و التطلع إلى الصخرة بنفس الكيفية و نفس النتيجة، ثم عاد السكون إلى الحضور حتى بدأ "ماجد" في سرد قصته، فقال: سافر أبي للعمل في إحدى الدول العربية، و التحقت بإحدى المدراس الثانوية فيها، و كان مدرس الموسيقى له العديد من الأنشطة الفنية و الثقافية خارج المدرسة فدعا الطلاب لحضور حفل في أحد الأندية الثقافية سيقوم فيه بإنشاد قصيدة مشهورة من قصائد شعر المدرسة الرومانسية قام بتلحينها، فاتفقت مع زميلين لي على الذهاب، و بعدما انتهى الحفل و في طريق عودتنا، طلب منا أحد الزميلين الانتظار ريثما يشتري شيئاً ما، و اشترط علينا أن نحافظ على السر متى اطلعنا عليه، ظننته يمزح و لم أشك في شيء، و لكن بعد دقائق عاد و معه زجاجة جعة، فاضطرب زميلي الآخر و بدا عليه القلق، فأخذ الأول يسخر منه و من ضعفه و جبنه، تعجبت من اطلاعه لي على سره و العلاقة بيننا لم تتوثق بعد و أنا مجرد زميل جديد من بلد بعيد، و مع ذلك لم يكن في نيتي هتك ستره و فضح سره، و لكني شعرت أن هذا الفعل يتحدى مبادئي، و أنني إن بقيت مكتوف اليدين فقدت شيئاً من احترامي لنفسي و من احترامي للقيم التي أعتنقها، فلاطفته حتى يسمح لي برؤيتها عن قرب و أوهمته أنني قد أصنع صنيعه، فتحمس لذلك و ناولنيها، فأرقتها كاملة و هو ينظر و لكن لم يقدم على منعي ربما لأنه لم يرد أن يلفت الأنظار إلينا و نحن في الطريق العام، ثم افترقنا، و حين انصرفت لم أكن أشعر بالانتصار عليه بل بالانتصار على نفسي لأنني لم أفرط في ما اعتنقت و لم أجبن عن المواجهة، فحمدت من أعانني على ذلك و وفقني إليه.
تكرر الالتفات إلى الصخرة و النظر، لكن بحماس أقل و أمل ضعيف، ثم أخذ الصمت يسود من جديد، حتى أخذ "عادل" دوره و شرع يحكي حكايته قائلاً: كنا في زيارة للمدينة المنورة، و ذهبت لصلاة الجمعة في الحرم النبوي الشريف، و كان المسجد مزدحماً كالعادة، و كلما مر الوقت زاد الازدحام، فلما أقيمت الصلاة و انتظمت الصفوف، لمحت رجلاً يسير بين الصفوف و هو يلتفت في جميع الاتجاهات باحثاً عن فرجة بين المصلين ليقف فيها و يؤدي الفريضة، لكن هيهات فلم يكن هناك موضع لقدم، و لم يحاول المصلون أن يفسحوا له مكاناً بينهم، نظرت معه أبحث له عن فرجة، فما وجدت غير صفوف لا نهاية لها من البشر، فأدركت أنه مهما مشى بين الصفوف فلن يجد موضعاً، و ستفوته الفريضة، و عند ركوع المصلين خلف الإمام لن يجد حتى موضعاً يقف فيه، عند هذه اللحظة من التفكير كان يمشي أمام الصف الذي أصلي فيه، و كان يبعد عني أمتاراً قليلة، فانتظرت حتى مر من أمامي فجذبته من ذراعه و أقمته في الصف بجانبي رغم الزحام، فشعر المصلون حوالينا بما نعانيه فأخذوا يفسحون لنا يقدر ما يسمح المكان، حتى تمكنا جميعاً من الصلاة، و كانت من أجمل الصلوات التي صليتها رغم ضغط الزحام، و شعرت بالراحة و الامتنان.
هذه المرة لم تلتفت الوجوه و لم تتطلع الأبصار، فقد أدركوا أن لو حدث ما يأملون فسيشعرون و يعرفون.
عندما أنهت "حورية" حصتها من عد الأنفاس نهض "عادل" ليحل محلها، و عادت هي لتلحق بالحلقة التي يجلس فيها رفاقها، فقصوا عليها ما فاتها، فقالت: إذن فقد أفرغ الزملاء ما في جعبتهم و بقينا نحن صاحبات نون النسوة، و "سارة" ممتنعة عن المشاركة، فادلي بدلوك يا "جميلة".
كانت "جميلة" هي صاحبة الاقتراح لكنها الآن تشعر بالفارق الكبير بين طرح الأفكار و تنفيذها، فاستغرقت برهة من الوقت لتستجمع شجاعتها بشيء من الجهد، و حسمت أمرها بعد شيء من التردد، ثم قالت: انهيت يوماً حافلاً من أيام الدراسة بالجامعة، و توجهت إلى موقف الحافلات للعودة إلى منزلي، و عندما صعدت إلى الحافلة وجدت مقعدين متجاورين خاليين، فتوجهت نحوهما و جلست على أحدهما سعيدة بأنني سأنعم بالهدوء و الراحة و الاسترخاء دون أن يكون بجانبي من يقتنص من مساحة حريتي أو يقترب من فناء خصوصيتي، على الأقل لبضع دقائق تفصلنا عن المحطة القادمة، و عندما مرت تلك الدقائق و أوشكت الحافلة على التوقف للمرة الثانية، نظرت من النافذة على من ينتظر الركوب، فلمحت فتاتين كانتا تتبادلان حواراً ماتعاً، استنتجت ذلك مما قرأته على وجهيهما من علامات المودة الممزوجة بالحماسة، و عندما صعدتا إلى الحافلة لم يكن هناك سوى مقعدين خاليين، أحدهما الذي بجانبي و الثاني بعد صفين من الصف الذي أجلس فيه، فتوقفتا عن الحوار و جلست إحداهما بجانبي بينما تقدمت صديقتها نحو المقعد الآخر، شعرت أن سعادتي منقوصة و أنني افتقد عطر الأنس و المودة الذي كان يفوح من حوارهما الذي رأيت جانباً منه لكن لم أسمع منه شيئاً، فتخليت عن مكاني و أشرت للصديقة لتجلس بجانب صديقتها، فكافأتني الأولى بابتسامة تشرق بالرضا، و الثانية بنظرة مفعمة بالشكر، و جلست مكان الثانية أنعم باجتماع الشمل و تواصل الود و عودة الأنس.
"سارة" بتعجب: أهذا كل شيء!
"جميلة" ببساطتها المعهودة: أجل.
"سارة": يعني أين المشكلة؟ كانتا ستكملان الحوار بعد النزول من الحافلة، يعني ما صنعتِ شيئاً، أنتِ حتى لم تقفي ليجلس غيرك.
تدخلت "حورية" قائلة: دقائق بل لحظات من الصداقة الصادقة و المودة الخالصة أراها ثمينة غالية، و أذكر مما قرأت في تاريخ أجدادنا أن صديقين في سالف الزمان فرقهما الموت، فغادر أحدهما الحياة و عاش الآخر حيناً من الدهر، و في إحدى المجالس بعد سنوات أخذ ندماؤه يتمنون ما تشتاق إليه قلوبهم و تطمح إليه نفوسهم، فلما جاء دوره، قال و هو يكاد يبكي: أتمنى ساعة مع فلان، يقصد الصديق الذي رحل قبله.
"عاصم": صدقتِ.
"عاطف": الآن فهمت لماذا كان جدي يوصني و ينصحني إذا ذهبت إلى جمع من المجامع أو حفل من المحافل بعدم التفريق بين اثنين متآلفين و لا حتى بمجرد المرور بينهما.
"جميلة": نعم فإن هذا قد يثير الاستياء و يشعرهما بعدم الارتياح.
"سارة": ربما تكونوا محقين. و لنستمع الآن إلى الحلقة الأخيرة من "حورية" ما دام في العمر بقية.
"جميلة": نعم احكي يا "حورية".. احكي يا "شهرزاد".
أطرقت "حورية" لحظات، ثم التفت إلى رفاقها و قالت: أهداني أبي طائراً بديعاً في يوم ميلادي العاشر، فأعجبني و أخذ جماله بزمام قلبي، فأحببته و عندما أحببته لم يعد لي مطلب سوى سعادته، و لا مقصد سوى صداقته، و أردته أن يشاركني جدي و لعبي، و لكني أدركت رغم صغر سني أنه لن يتجاوب معي ما دام أسيراً، و لن يرفرف في سماء قلبي، و لن يعشش في جنة روحي إلا إذا حررته، فأطلقته، و عندما أطلقته فقدته، لكن قبل أن أفقده علمني درساً بليغاً و حكمة عميقة، علمني أن آفاق الحرية أوسع كثيراُ مما نتخيل، و أن السماء أعلى كثيراً مما نعتقد، و أن ما تظن فيه نجاتك قد يكون فيه حتفك.
"عاصم": ما هذه الألغاز؟
"سارة": مرحى. يبدو أن هناك معترض غيري هذه المرة.
"عاطف": أين العمل الصالح في تلك الواقعة؟
"ماجد": ربما هو في التعلم من مخلوق ضعيف.
"جميلة": بل أحسب أنه في الرغبة في إسعاد هذا الطائر المسكين حتى و إن لم تتحقق.
"عاصم": أليس من الأفضل أن تجيب "حورية" على هذا السؤال؟
"حورية": صدقوني يا رفاق إن قلت لكم إن الحياة في طلب الحرية و قصد تحرير الآخرين من أجل الأعمال الصالحة في نظري.
"سارة": و مع ما توسلتم به من أجل و أقل الأعمال، و رغم التضرع و الدعاء في الصباح و المساء، لم ينصت لكم الكهف و لم تستجب لكم السماء.
"عاصم": تتحدثين و كأننا وحدنا العالقون، و أنكِ قد تجاوزتِ الأزمة بهمتك العالية، أخبرينا بما أفادك تمردكِ؟ و كيف كانت مشاغباتكِ سبباً في نجاتكِ؟
"سارة": على الأقل منعتني من اللهث وراء السراب.
"ماجد": عجيب أمركِ جداً! أي سراب هذا الذي تتحدثين عنه؟ نحن لا نفعل شيئاً للمرة الأولى و ننتظر النتيجة، و إنما نفعل شيئاً مجرباً منذ الأزل، و أما على المستوى الشخصي فلا أحصي كم من مرة لجأت إلى السماء في الأزمات فانكشفت.
"سارة": أتعني أن قصة أصحاب الغار معهودة مألوفة مكرورة في كل زمان و مكان! إن كان حقاً ذاك فلما لم تستجب السماء هذه المرة؟
"عاصم": ربما لأن حالنا لا ينطبق على حالهم.
"عاطف": ربما لأننا لم نكن صادقين، أو لأن هناك نقصاً في إخلاصنا، أو لعلةٍ تقدح في قبول أعمالنا.
"جميلة": ربما لم نلح و نتضرع بالقدر الكافي، أو لعلنا لم نصل بعد إلى حال الاضطرار.
"حورية": و من أخبركم أنها لم تستجب؟
"سارة": إن كانت قد استجابت فلما لم تتحرك الصخرة أيتها القديسة؟
"حورية": لأن الإجابة تكون على النحو الذي تريد لا على النحو الذي نريد، و في الوقت الذي تشاء لا في الوقت الذي نشاء، و ليس الأمر بتلك السذاجة، أن كل من يسجن أو يحبس أو يحصر يرفع يديه و يتفوه بكلمتين فينفك الحصار و ينكسر القيد و ينفتح باب السجن على مصراعيه، أخبرتك أن السماء أعلى بكثير مما تظنين أيتها البرنسيسة.
"سارة": و ماذا سنفعل الآن على كل حال؟
"ماجد": سندبر أمرنا من جديد، و نفكر من جديد.
"عاطف": و نحلم من جديد، و نحاول من جديد.
"جميلة": و نراجع أنفسنا من جديد، و ندعو و نتضرع من جديد.
"عاصم": ما زال في جعبتنا قدراً لا بأس به من المثابرة و المصابرة.
حل المساء وانفض اجتماع الرفاق، و تفرقوا في أرجاء الكهف مثنى و فرادى، يتفكرون أو يتسامرون، في انتظار ما يكون، و وجدت "حورية" الفرصة سانحة لتكمل القراءة في مذكرات جدها، فجلست بجانب المصباح و أخرجت الأوراق لترى ما كان من شأن الجد و الغلام.
* * *
بينما كانت "ليلى" في طريق عودتها بعد انجاز مهمتها في تفقد موقع الكهف و ما حوله، التقطت أذناها صوت هدير سيارة تقترب، و ما هي إلا لحظات حتى ظهرت المقطورة تسير في مسار متعرج على طريق غير معبدة، همت أن تعترض مسارها و تلوح لقائدها طلبا للمساعدة لولا أن لاحظت أنه يحاول السير بسرعة و كأنما يفر من مطارد، و تذكرت شكوكهم في تورط أستاذيهما فيما أصابهم فاستنتجت أنه على الأرجح يفر من زميليها، فبدلاً من الإشارة بيديها نكصت على عقبيها و اختبأت خلف شجرة حتى مرت السيارة ثم شرعت في مراقبتها و محاولة مطاردتها.
كان "لبيب" يحاول الإسراع بالمقطورة لكن نظراً لكبر حجمها من ناحية و وعورة الطريق و ضيقها من ناحية أخرى و رغبته في عدم الابتعاد عن الكهف لتتمكن الأجهزة التي أعدها من التقاط و تسجيل ما يدور داخله من ناحية ثالثة، كل ذلك أجبره على خفض سرعته و جعله يتوقف ليغير من اتجاهه أكثر من مرة حتى لا يقع في حفرة و لا يصطدم بشجرة، و كان هذا من حسن طالع "ليلى" التي اشتعلت حماستها لمطاردة فريستها، فأسقطت حقيبتها كي لا تعوق حركتها و أخذت تقفز بين الصخور و الأشجار في خط مواز للمقطورة و على مسافة لا تسمح لقائدها بأن يري من يتعقبه في المرآة، كانت تقفز في سرعة و رشاقة فأضحت كغزال يطارد فيلاً من الأفيال، و استمرت المطاردة لدقائق شعرت أنها طويلة خاصة مع تصاعد دقات قلبها التي أصبحت تنافس صوت محرك المقطورة في سمعها، بلغ الإجهاد و الإصرار منها المدى، فكانت كلما زاد تعبها زاد تصميمها، إنما للصبر حدود يتوقف عندها، و بالفعل توقفت و وضعت كفيها على ركبتيها و أخذت تلتهم الهواء و هي تتابع السيارة بنظرها لترى هل سيتحقق أملها و تقف المقطورة في مرمى بصرها أم ستتبخر من أمامها، أخذت السيارة تبتعد شيئا فشيئا حتى كادت أن تغيب عن عينيها ثم هدأت سرعتها و انحرفت إلى الجهة اليمنى لتقف خلف أحدى الهضاب بحيث لم يعد يظهر منها سوى أنوارها الخلفية التي أضاءت باللون الأحمر برهة ثم أطفأ قائدها المحرك فساد الصمت في الخارج، أما داخل صاحبتنا فقد استمر هدير قلبها.
سكنت حتى ارتاحت و هدأت، و انتظرت حتى غلب على ظنها أن المقطورة لن تتحرك من مكانها، على الأقل في الساعات القادمة، ثم عادت أدراجها تقتفي أثارها حتى وصلت إلى الشجرة التي أسقطت عندها حقيبتها، فالتقطتها و انطلقت لتلحق برفيقيها، و ما أن رأتهما و شاهداها حتى أسرعت إليها "حنان" و بادرتها قائلة بنبرة تجمع بين الفرحة و المعاتبة: لما تأخرتِ؟ قلقنا عليك.
"ليلى": أنا بخير. كيف سارت الأمور معكما؟
"حنان": عدنا بخفي حنين. وجدنا المقطورة ثم فرت كرة أخرى.
"ليلى" وهي تصعد إلى سيارة "ماجد" مع زميلتها حيث كان "ماهر" جالساً خلف عجلة القيادة: أما أنا فقد عدت بالجمل و ما حمل.
عقد "ماهر" حاجبيه و هو ينظر إليها من خلال المرآة الأمامية وقال باهتمام: هل صادفتِ المقطورة؟
قصت "ليلى" عليهما ما جرى، و هما يستمعان بشغف، فلما انتهت صفق "ماهر" بيديه جذلاً و قال: لم يذهب تعبنا سدى، لكن سنحتاج لوضع خطة جديدة للهجوم على الأستاذين المبجلين و الاستيلاء على المقطورة، فهي سفينة النجاة لنا و لأصدقائنا.
"ليلى": كيف يمكن لفتاتين و شاب مصاب التغلب على رجلين اتخذا المقطورة حصناً و معهما وسيلة انتقال؟
"ماهر": سنتحصن بظلام الليل و نتسلح بعنصر المفاجأة.
"حنان": لا بد من خطة محكمة و دراسة كافة الاحتمالات.
"ماهر": هذا ما سنقوم به من الآن و حتى منتصف الليل.
"ليلى": و هل سيحتمل أصحابنا ليلة ثانية في الكهف.
"ماهر": لابد من الحيطة و الحذر و التضحية، و لَتأخرنا لإعداد العدة أفضل من تعجلنا و ضياع الفرصة.
"حنان": أصبت، ثم التفتت مخاطبة "ليلى": لم تخبرينا عن مهمتك الأصلية في تفقد الكهف، هل وجدت شيئاً ذا أهمية؟
"ليلى" و هي تفتح حقيبتها و تفرغ محتوياتها: نعم. وجدت بعض الأطعمة الصالحة، و وجدت خريطة لمنطقة غابة الجبل يبدو أنها إحدى الخرائط التي كانت معنا و فقدها أحدنا، ثم أضافت بنبرة حازمة: و الأهم من هذا و ذاك أنني وجدت ما لم أتمكن من حمله معي لكنه جداً مثير للاهتمام.
اتسعت الأحداق و ارتفعت الحواجب و قال الزميلان في صوت واحد: أي شيء هذا؟
"ليلى": ذراع حديدية أشبه بالرافعة متصلة بحبل متين ينتهي بحجر ثقيل.
ضاقت الأحداق بعد الاتساع، و انعقدت الحواجب بعد الارتفاع، و انطلقت من الأفواه بدلاً من الكلمات علامات التعجب و الاستفهام مصحوبة بتمتمات و همهمات.
* * *
اقتربت "سارة" من "حورية" و قالت في تعجب: أيمكنكِ القراءة في تلك الظروف؟
"حورية": ربما هو أفضل ما يمكنني الآن، على الأقل لأصرف تفكيري عما نحن فيه.
"سارة": أليس من الأفضل التفكير في مخرج مما نحن فيه؟
"حورية": من يدري لعلي أجد المخرج عند جدي.
"سارة": لا أظن. صحيح أن مذاكرات جدك أثارت اهتمامي لكني لا أجد التركيز الكافي لقرأتها في أجواء الكهف الشاعرية.
"حورية" باسمة: إذن أترككِ مع كهفكِ و اتركيني مع جدي.
"سارة": نعم مؤقتاً، و لكني قد أغير رأيي فيما بعد و استعير منكِ بعضاً مما قرأتِ من الأوراق.
"حورية": لا بأس.
انطلقت "سارة" مبتعدة، فنادتها "حورية": إلى أين؟ يمكنكِ البقاء بجانبي، فوجودك لن يزعجني أثناء القراءة.
"سارة" هامسة: لا استطيع فلدي موعد رومانسي مع الكهف.
ابتسمت "حورية" و فتحت ما في يديها من الأوراق المطوية، و عادت إلى الإصغاء لحكاية جدها، فوجدته يقول:
(... كنت أظن أنه على الأبناء اقتفاء آثار الآباء و الأجداد، و ها أنا اليوم أقتفي أثر الأبناء و الأحفاد، ترى إلى أين سيقودني هذا الغلام؟، جمعت الرسائل التي أرسلها لوالدته و عكفت على دراستها، و حصلت من السيدة "رحيمة" على ما لديها من المعلومات عن أصدقائه، و عن موصلي الرسائل، و عن كل ما يمكن أن يساعدني في رسم خريطة البحث، و تحديد نقطة بداية للإبحار، و تتبعت كل ما توفر لدي من الخيوط، و انتقلت من صديق لصديق، و من قرية لقرية، حتى رسمت للغلام و رحلته الصورة الآتية:
بدأت رحلة الغلام من بيت حكيم القرية، فعندما انتهى من قراءة ما في المكتبة و قرر الرحيل، ذهب لوداع الحكيم، و في آخر لقاء جمعهما دار هذا الحوار بينهما:
"الغلام": هل قرأت جميع ما جمعت من الكتب يا سيدي؟
"الحكيم": بل قرأت أكثر منها، و ما تجده بالمكتبة هو فقط ما تمكنت من امتلاكه منها.
"الغلام": و ما صنعتَ بما قرأتَ؟
لم يبدُ على وجه الرجل علامات الاستنكار أو التعجب من جراءة الغلام، و أجاب بقوله: صنعتُ ما رأيتَ؟
"الغلام": ماذا تقصد؟
"الحكيم": جمعت ما أمكنني و وضعته في حجرة ملحقة ببيتي، و سمحت لمن يرغب في القراءة بالاطلاع عليها و الإفادة منها.
"الغلام": يعني ما صنعت شيئاً.
"الحكيم": ها أنت قد قرأتَ ما قرأتُ، فماذا أنت صانع؟
"الغلام": سأعمل و أتحرك و أصلح و أغير.
"الحكيم": و طبعاً لن تكتفي بتغيير القرية بل ستغير وجه البسيطة، أليس كذلك؟
"الغلام": بلى.
"الحكيم": و ماذا تنتظر؟ هيا انطلق.
"الغلام": سأفعل. أنا فقط جئت لأشكرك و أودعك، و لأعرف لماذا عزفت أنتَ عن الحركة بتلك الكنوز التي تحبسها في بيتك؟
"الحكيم": تلك الكنوز التي تتحدث عنها، هل تدري كم نسبتها من كنوز المعرفة الموجودة في عالمنا؟
"الغلام" مأخوذٌ من السؤال: لست أدري.
"الحكيم": قطرة من المحيط. فهل يمكنك بقطرة من المحيط أن تسقي مشارق الأرض و مغاربها، و أن تروي من عليها كلهم جميعاً؟
"الغلام": لو انتظرت جمع المحيط لفنيت قبل أن أبدأ، و لهرمت قبل أن أنطق، و لهلكت قبل أن أخطُ خطوة واحدة.
"الحكيم": و لماذا تريد أن تنطق و أن تخطُ؟
"الغلام": و لماذا تريد أنت أن تنتظر المستحيل، ما من بشر يمكنه جمع المحيط، و لو فكر جميع الناس بطريقتك لظللنا نسير في أماكننا إلى أن نموت.
"الحكيم": لا بأس. خض تجربتك و بعد عودتك نكمل حديثنا، و كل ما أطلبه منك في رحلتك أن تذكرني بين الحين و الحين، متى ستعود؟
"الغلام": لست أدري.
انطلق الغلام، و أخذ في الانتقال من قرية إلى قرية، و سلك في رحلته طريقة الخدمة، فكان يخدم الناس فأحبوه، يساعد هذا و يعاون ذاك، و يقضى حاجة ثالث، فحقق نجاحاً نوعاً ما فبدأ الناس يستمعون له و يأخذون منه، لكن ما كان لهذا النوع من النجاح ليستمر طويلاً و لا ليرضيه كثيراً، فقد وجد أن الحال لم يتغير كثيراً، و وجد أن طبائع الناس عجيبة غريبة، فلديهم القدرة على الأخذ بالشيء و ضده، و الإنصات له و لنقيضه، و ما يتعلمونه بالأمس ينسونه اليوم، و ما يؤمنون به اليوم يكفرون به غداً إذا جاءت الريح بما لا تشتهي السفن، و من كانوا يمدحونه نهاراً جهاراً يذمونه ليلاً إسراراً، و كان كلما انقطعت به السبل في قرية أو أغلقت الأبواب في وجهه في أخرى، كان ينتقل إلى قرية أكبر أو بلدة أوسع، يعني بدلاً من العودة إلى الأيسر كان يصر على الأعسر، فقد كان يظن أن المدن الكبرى الأكثر تقدماً ستكون أكثر تفهماً لضرورة التغيير و أهمية الوصول إلى الحقيقة المطلوبة و الحرية المأمولة لبني البشر لأنها صعدت درجات كثيرة في سلم الحضارة، لكن مع الوقت بدأ يلاحظ أنه كلما بعدت المدينة التي يقصدها، كلما بعدت المسافة بين الحلم الذي يريده و الواقع الذي يعيشه، و كلما كانت أكثر تقدما، كلما كانت أكثر نفوراً، فقرر في النهاية أن يتوجه إلى المدينة التي تمثل مركز العالم من وجهة نظره، حيث توجد القوة اللازمة و القدرة الكافية للتغيير، فهنا قلب الكرة الأرضية فإذا تغير هذا القلب لتغيرت الحياة على وجه البسيطة بلا شك.
وصل فعلاً إلى هذا القلب بعد عامين و نصف من فراقه لقريته، و منه أرسل رسالته الأخيرة لوالدته السيدة "رحيمة"، كان رغم كل العثرات التي عانت منها أقدامه متفائلاً مفعماً بالأمل، راجياً أن يجد بغيته و أن يحقق حلمه، فإن لم يجدها هنا في أكبر المدن و أوسعها، و إن لم يحقق حلمه هنا في أرقى البلاد و أعظمها، فأين إذاً؟ لا بد أن هذه هي محطته الأخيرة.
بعدما حط الرحال في قلب العالم، لم يلبث إلا قليلاً ليدرك كم كان هذا القلب قاسياً عاتياً، لا يعرف معروفاً و لا ينكر منكراً، لم يرحم غربته و لم يؤنس وحشته، كان بالأمس يبيت مستنكراً طبائع البشر في القرى و المدن الصغيرة و أصبح اليوم يترحم عليها، فالناس في القرى التي مر عليها كانوا يتوددون للغريب أما هنا فكلهم غرباء، لا يأبهون إلا بما يحقق لهم نفعاً، و الناس في القرى أملهم أن يعيشوا في سعادة بينما هنا أملهم السيطرة على السعادة، بل امتلاك السعادة، بل احتكار السعادة، و قل مثل ذلك عن القوة و الطبيعة و العلم و الرفاهية و هلم جرا.
و لأن الغريب أعمى و لو كان مبصراً لم يدرك ما سبق من الوهلة الأولى، و إنما استغرق بعض الوقت و إن لم يكن طويلاً، ثم اصطدم الحلم بالواقع، و اعترك المسطور في كتب حكيم القرية مع المنظور على الأرض هناك، البداية كانت لا بأس بها، فالأرض أرض الله و الخلق خلق الله، و لا تخلو الأرض من الخير و لا يخلو الخلق من البر، و في قلب العالم يمكن لمن شاء أن يقول ما يشاء كيفما شاء و وقتما شاء و لكن إلى حين، و السؤال هو متى يحين هذا الحين؟
الجواب هو أن هناك صنفين من البشر يعيشون في قلب العالم، صنف يختارون بين الأمور و هم الأكثر، و صنف يصنعون الأمور التي تقدم للصنف الأول ليختار من بينها و هم الأقل، و إذا دققت النظر عرفت أن هذه الأمور المصنعة متشابهة بل تكاد تكون متماثلة، و لكنها تقدم في صورة براقة جاذبة محفزة، تماما مثل مسابقات المجلات المصورة للأطفال حين يطلبون الوصول إلى الاختلافات السبعة بين الرسمين، فيشحذ المتسابقون أذهانهم و أبصارهم لإثبات وجود بضعة تفاصيل مختلفة و يغفلون عن مئات التفاصيل المتطابقة، بل و ينسون أن الرسام الذي رسم الصورة الأولى - و هي بلا شك معبرة عن ذوقه و رؤيته - هو نفسه الذي رسم الصورة الثانية و تعمد تغيير عدة تفاصيل لا تزيد عن أصابع اليدين، و هكذا يعيش الأكثر حياتهم بمنتهى الحرية في الاختيارات الزائفة، و هكذا نكون قد وصلنا لجواب السؤال، فعندما تسعى للخروج من الاختيار الزائف إلى الاختيار الحقيقي يحين هذا الحين.
و عندئذٍ يثبتوك أو يخرجوك أو يقتلوك، و لا مانع عندهم بعد موتك أن يقدسوك، و يصنعون منك الأساطير، و يصورون لك التماثيل، فأنت يمكنك أن تكون قديساً ميتاً عندهم لكن لا يمكنك أن تكون قديساً حياً بينهم، و يمكنك أن تكون فكرة عظيمة في كتاب يحقق أعلى المبيعات، أو مشهداً في فيلم يحوز أعظم الجوائز و يحقق أعلى الإيرادات، أو لحناً في سيمفونية من السيمفونيات الخالدات، لكن إياك إياك أن تكون حقيقة من الحقائق.
خرج كعادته لنقل كنوز المعرفة التي اطلع عليها في مكتبة الحكيم، و كان في طريقه يعاون هذا و يلاطف هذا و يحاور هذا و يحنو على هذا و يبتسم في وجه هذا، لكن هذه المرة شعر أن شيئاً ما ليس على ما يرام، شعر كأن سحابة من الكراهية فوق رأسه، و موجة من الغضب خلف ظهره، في الفترة السابقة كان يسمع بعض عبارات السخرية و يتعرض لبعض محاولات الاستفزاز، لكنه كان يعرض عن الأولى و يتجنب الاستجابة للثانية، هذه المرة لم تغن المراوغة عن المواجهة، فالسحابة قد ازدادت كثافة و الموجة قد ازدادت ارتفاعاً، حاول المقاومة فقد كان فتياً أبياً لكن الكثرة تغلب الشجاعة، فتوالت اللكمات و تتابعت الركلات، و مع كل لكمة و ركلة كانت تصله رسالة و إساءة، رسالة يسمعها في عقله و إساءة يحسها في قلبه، مع الركلة الأولى شعر بالإساءة إلى أمه، و مع الركلة الثانية شعر بالإساءة إلى جده، و مع الركلة الثالثة شعر بالإساءة إلى قريته، و مع اللكمات التي طالت وجهه نفذت الرسائل التالية إلى عقله و لكنه كان مشوشاً و جزعاً فلم يدركها:
إن أردت أن تعيش في قلب العالم فعليك أن تكون تابعاً لا متبوعاً.
إن أردت أن تنجح في قلب العالم فعليك أن تقبل بالتاريخ المزور.
إن أردت أن تستمر في قلب العالم فعليك أن ترضى بالاختيار الزائف.
انتهت المعركة و وجد نفسه صريعاً مضرجاً بالدماء مكسور الضلوع و الوجدان، يمر المارة بجانبه و لا يلتفت إليه أحد و لا تمتد إليه يد، فسوء الظن هنا هو القاعدة، فربما كان من متعاطي المخدرات، و ربما كان مجرماً تورط في شجار بين العصابات، و ربما كان مخادعاً سيقوم بالاحتيال على من يقدم له المساعدات، أو على أحسن تقدير هو شخص يحتاج للعون فعلاً لكن من سيقدمه له سيورط نفسه في المشكلات، هذا ما يدور عادة في أذهان الناس في المدن الكبرى، فيمنعون الماعون و يحجمون عن الخير و لا يقدمون، و هكذا أمسى مضطراً أن يتحامل على نفسه حتى النفس الأخير، فلو بقي على حاله لهلك لا محالة، مد يده ليلتقط قبعته و وضعها فوق رأسه بحيث تخفي شيئاً من وجهه فلا ينفر منه الناس و لا يفرون، و قام بصعوبة بالغة و أشار إلى إحدى سيارات الأجرة و طلب من السائق أن يقله إلى أقرب مشفى، و عندما وضع قدمه داخله كان قد استنفذ كل طاقته و صبره و جهده فسقط مغشياً عليه.
أفاق في اليوم التالي، و أخذ يتعافى ببطء خلال بضعة أسابيع، و كلما استعاد صحته كان يفقد همته، و كلما تحسنت جروح بدنه ساءت جراح نفسه، لم يعد يريد العيش و لا النجاح و لا الاستمرار في قلب العالم، و لكنه مع ذلك لم يستطع أن يقرر العودة إلى دياره، ففي البقاء لن يتحقق حلمه و في العودة لن يزول فشله، فأصبح عالقاً بين فشلين، فشل الاستمرار و فشل العودة إلى الديار.
كثيرون يقعون في تلك المصيدة، يختارون طريقاً يسلكونها ثم يدركون بعدما يقطعون شوطاً أو عدة أشواط أن تلك الطريقة لا جدوى منها، فبعضهم يؤثرون السير على التوقف أو الرجوع، لأن السير إلى الأمام و إن كان سراباً أهون على النفس من العودة إلى البداية أو الرجوع إلى الوراء، و بعضهم يتوقفون فلا يتقدمون و لا يرجعون، و كان صاحبنا من النوع الثاني.
هذه هي خلاصة تجربة صاحبنا الشاب في قلب العالم، و لكنه وقتها لم يدرك أبعادها، لم ينتبه أنه كان ينبه الناس إلى ضرورة ترك الخيار الزائف إلى الاختيار الحقيقي، كان يظن فقط أنه ينقل كنوزاً جميلةً ظلت مدفونةً حيناً من الدهر، فلم يفهم ما سر العداء؟ و لما انقلب الود إلى جفاء؟ و لما التربص به و الكيد له في الخفاء؟
هذه الخلاصة التي قصصتها في كلمتين استغرقت من عمري قرابة العامين منذ خرجت من القرية بحثاً عن الفتى، و انتقلت من صديق لصديق و من وسيط لوسيط و من قرية لقرية و من مدينة لأخرى حتى وصلت أنا أيضاً إلى قلب العالم و وجدت الغلام بعد لأي و هكذا أنجزت نصف المهمة التي كلفتني بها السيدة "رحيمة"، و بقي أن أصل إلى قلب الفتى و أبلغه الرسالة حتى أتم النصف الآخر منها.
كان الغلام يجيد عدة أشغال و حرف يدوية تعلمها في قريته تجمع بين البساطة و القناعة و الذوق العلوي، لكنه لم يجد لها سوقاً ، فالإقبال هنا على التعقيد و الطمع و الذوق السفلي، فأخذ يمتهن بعض المهن الخالية من الفن و لا تحتاج إلا إلى مهارات يتقنها كل من يمشي على رجلين، فكانت مهنته حين التقيته تعبئة الوقود للسيارات في إحدى محطات النفط.
وقفت أرقبه عن بعد في الدقائق الأخيرة من مناوبته في العمل، كان يقوم بتعبئة الوقود لإحدى سيارات الأجرة، و عندما انتهى من التعبئة توجهت إليه و ناديته باسمه، توقعت أن يندهش شيئاً ما ثم يقبل علي ليرى ما شأني و ماذا أريد منه، أصبت في الجزء الأول من توقعي و أخطأت في الجزء الأخير منه، فبدلاً من أن يتوجه إلي قفز مباشرة في السيارة التي انتهى لتوه من تعبئتها بالوقود و سمعته يقول للسائق: انطلق..انطلق.
كانت لا تزال تفصلني عنه عدة أمتار، أسرعت الخطى نحوه و أنا ألوح وأصيح: توقف..انتظر. لكن هيهات، وقفت برهة داخل دائرة الحنق، و قلت لنفسي بصوت مسموع: هذا عبث صِبية.
تريثت بضعة أيام قبل تكرار المحاولة فقد توقعت أن يكون مستعداً لي في اليومين القادمين، فكرت في خطة مغايرة لإجباره على محاورتي، لكني تراجعت لأنني أردت أن ألقنه درساً فكررت خطتي الأولى بحذافيرها، و كرر هو ردة فعله أيضا بحذافيرها، و بذا وقع في الفخ، فبعد لحظات من أمره للسائق بالانطلاق، توقفت السيارة أمامي مباشرة ففتحت الباب الخلفي و جلست بجانب الفتى و هو مذهول، حاول مغادرة السيارة و لكن السائق ضغط زر الإغلاق المركزي فمنعه، نظر إلي و إلى السائق نظرة ذات مغزى، فابتسمت و قلت له بلغة قريته: فقط أردت أن أعلمك أنه لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين.
التقت عيوننا كرة أخرى بنظرات تجمع بين الترقب و التحدي، و في ذات اللحظة انطلق سؤالان، سؤال من فيه و سؤال من في:
- لماذا تطاردني؟
- لماذا تفر مني؟
سكت كل منا في انتظار إجابة الأخر، ثم قررنا الجواب في ذات اللحظة كما سبق و فعلنا في السؤال:
- أنا لا أطلب مطاردتك و لكن أطلب محاورتك.
- أنا لا أفرمنك و لكن أفر من المشاكل.
ميزت كلامه بصعوبة شديدة، فأن تتكلم و تنصت في نفس الوقت من أشباه المستحيلات، أردت أن أكسر تلك الدائرة فأخرجت صورته التي أخذتها من السيدة "رحيمة" و ناولتها إياه، فاختطفها مني و ظل ينقل بصره بينها و بيني، ثم قال: معك صورتي، و تتحدث بلغة قريتي، لكن ملامحك و هيئتك لا ينتميان إليها، فما قصتك أيها المسن؟
- قصتي هي قصتك أيها الشاب.
- و هل تعرف قصتي؟
- نعم.
- لا.
- بلى.
- لا.
- ماذا تقصد؟
- أقصد أنك تظن أنك تعرفها لكنك لا تعرفها.
منذ قرابة العامين و لا يشغلني شاغل سوى قصته ثم يأتي هذا الصبي ليخبرني بأنني لا أعرف شيئا! كدت أن أنفجر في وجهه لكني آثرت التحلي بالصبر فقلت: فقصها علي إذن.
- لا.
- و لمَ لا؟
- و لمَ تريد أن تتدخل في حياتي؟ تعرف قصتي ثم تصدع رأسي بنصائحك و تتيه علي بخبراتك، ثم تزعم أنك لا تطاردني! ما شأنك بي أيها الشيخ؟
- ماذا تريد أيها الشاب؟ أن تسد أذنيك عن كل من حولك و لا تسمع إلا نفسك؟ رفضك السمع علامة ضعفك، ماذا عليك لو سمعت ثم نظرت فإن وجدت خيراً حملته فوق رأسك و إن وجدت شراً ألقيته خلف ظهرك، و مع ذلك أنا لا أنوي أن أسمعك شيئاً لم تطلبه، فما وراء ذلك من طائل.
هز رأسه موافقاً و بدا عليه الاقتناع ثم قال: لا بأس يمكننا أن نتحاور كما تريد، ما رأيك أن نجلس في مكان مناسب بدلا من المحادثة وسط علامات المرور.
- أنت أعلم مني بهذه البلدة، فهل لديك اقتراح؟
- أجل. يوجد مقهى هادئ خلف تلك البناية.
أمرت السائق بالتوقف و أعطيته أجرته، و ترجلت من السيارة من الجانب المقابل للرصيف، بينما ترجل هو من الجانب المقابل للشارع، و ما أن وطئت قدماه الأرض حتى أطلق ساقيه للريح و عبر الشارع و هو يقول: فقط أردت أن أعلمك ألا تبيع فراء الدب قبل صيده.
هذا المأفون اضطرني للركض بعد سن الستين، عبرت الشارع خلفه و سمعت صوت كابح سيارة و سباب ينطلق من فم صاحبها لكنني لم ألتفت، حاولت عبور الشارع المقابل لكن منعتني سرعة السيارات القادمة، أدركت أنني سأفقده للمرة الثانية فقررت استخدام ورقتي الأخيرة، فأخرجت الصندوق الخشبي من الحقيبة التي كنت أعلقها على كتفي و رفعته بكلتي يدي فوق رأسي و أنا أصيح بأعلى صوتي: مهلاً يا فتى، لا تنصرف حتى ترى هذا.
التفتت الفتى بدافع الفضول فلمح الصندوق معلقاً بين رأسي و السماء فتوقف من فوره و عاد أدراجه و بصره مثبت على الصندوق لا يتحول عنه حتى وقف أمامي مباشرة على الرصيف بين الشارعين، رفع يديه و التقطه مني و ضمه إلى صدره ثم قال بنبرة فيها شفقة: هذا أخي، نشأت معه و أحببته، أحببت ما فيه من الجمال و الذوق و الدقة و الأصالة، كنت ألعب معه و أتحدث إليه و أتمنى أن يحدثني، سألت أمي: لماذا لا يكلمني؟ فقالت: لا يمكنه أن يكلمك و هو مغلق، لكنه سيفعل حتما عندما يفتح. سألتها: و متى سيفتح ؟ فأجابتني: يوماً ما، لا بد أن يفتح يوماً ما و سيكلمك لا محالة فاطمئن.
شعرتُ بعاطفة جياشة نحوه، و تذكرت معاناته في رحلاته رغم حداثة سنه فرحمته، نظرت إليه نظرة حنان، و نظر هو إلي لأول مرة نظرة اطمئنان فالتقت عيوننا برهة من الزمان ثم تعانقنا.
ظللنا فترة متعانقين، ربما دقيقة، ربما دقيقتين، لست أدري فيما كان يفكر وقتها الفتى، لكني كنت أفكر كيف سأخرجه من المصيدة؟ مصيدة قلب العالم.
* * *
انتصف ليل الليلة الثانية من ليالي الكهف، و انطلق "ماهر" و زميلتاه إلى موضع المقطورة الذي حددته "ليلى"، فاتخذوا موقعاً يتيح لهم مراقبتها، كانت خطتهم تهدف إلى تحقيق أمرين: التغلب على الأستاذين، و الاستيلاء على المقطورة لاستخدامها لنجدة الأصدقاء العالقين في الكهف، و كانت تعتمد على أن يغادر أحد الأستاذين المقطورة لسبب ما ربما ليذهب إلى غرفة القيادة أو لأي سبب آخر، و عندها تقوم "ليلى" بإلقاء الرمال في عينيه، و يقوم "ماجد" بتقييده بالحبال، في حين تقوم "حنان" بتثبيت قضيب من الحديد خلف باب المقطورة لمنع من بقي بداخلها من إغاثة من خرج منها، فلما طال انتظارهم و لم يخرج أحد من المقطورة، قال "ماهر": سأذهب لمحاولة استطلاع ما يدور داخل المقطورة، ابقيا هنا.
"ليلى": المسافة التي تفصلنا عن المقطورة مازالت كبيرة، لن نتمكن من الوصول في الوقت المناسب إذا خرج أحدهم الآن، و سيكون عليك مواجهته وحدك و أنت مصاب، الأفضل أن نذهب سوياً.
"حنان": دعونا ننتقل إلى أقرب نقطة ممكنة من المقطورة، ثم تقوم أنت بالاستطلاع.
"ماهر": لا بأس.
اقترب الثلاثة حتى لم يعد يفصلهم عن هدفهم سوى الهضبة التي استقرت خلفها المقطورة، فبقيت الفتاتان في الجهة الثانية من الهضبة، و دار "ماهر" حولها ليصل إلى المقطورة مباشرة في محاولة للنظر داخلها من إحدى النوافذ ليستطلع الموقف داخلها، فشرع يدور حول المقطورة متفقداً نوافذها، كانت جميع النوافذ مغلقة بإحكام و عليها ستائر من الداخل تمنع النظر، فلم يجد سوى أن يلصق أذنه بإحدى النوافذ في محاولة للتنصت على ما يدور بالداخل، و عندها سمع صوت الدكتور "لبيب" و هو يقول: أليس من الأفضل أن تسأل عما تريد معرفته بدلاً من التجسس؟
لم يأت الصوت من داخل المقطورة بل من خارجها، فالتفت "ماهر" بسرعة، و نظر إلى الدكتور نظرة من ينوي الهجوم، فهم "لبيب" مغزى النظرة، فأشار بيده مهدئاً، و قال: لا داعي، يمكننا أن نتفاهم، و لا تنس أنك مصاب و لن تفلح محاولتك.
قال "ماهر" بغضب: إصابتي لن تمنعني من الفتك بك و إن كان ذلك أخر شيء أفعله في حياتي.
"لبيب" بهدوئه المستفز المعتاد: مهلاً، لا تندفع وراء انفعالك و فكر قليلاً، ثم أشار إلى قدم "ماهر" المصابة و أضاف: أنا من وضع الضمادات و الأدوية في متناول يدك، و لو كنت أريد إيذاءك لما فعلت ذلك، فأنت مدين لي على كل حال.
"ماهر": لماذا فعلت كل ذلك؟ ماذا تريد منا بالضبط؟ و ما هي خطتك القذرة؟
"لبيب": تعال نتكلم بالداخل، و يمكنك استدعاء "حنان" و "ليلى" أيضاً، أعلم أنهما خلف الهضبة المقابلة للجانب الأخر من المقطورة.
أدرك "ماهر" أن الخطة قد فشلت، و أن المعركة انتهت قبل أن تبدأ، و عليه الانتقال لمائدة المفاوضات، فنادى زميلتيه بالفعل و توجهوا جميعاً مع الدكتور "لبيب" إلى داخل المقطورة، أشار لهم "لبيب" بالصعود، فتقدم "ماهر" و خلفه "ليلى" و لحقت بهما "حنان" مباشرة، و عندما حان دور "لبيب" فبدلاً من الانضمام إليهم قام بإحكام غلق الباب عليهم، التفت ثلاثتهم إلى الخلف وصاح "ماهر": خدعنا الوغد.
بعد لحظات جاءهم صوت "لبيب" عبر مكبر الصوت من غرفة القيادة و هو يقول: لا تقلقوا، أنا ما زلت عند كلمتي، سأشرح لكم الأمر كما وعدتكم، و لكنكم حالياً في حاجة لقسط من الراحة حتى نتفاهم في هدوء، فلست أضمن ردود أفعالكم إذا تحاورنا الآن مع انفعالكم.
قالت "ليلى" بشيء من المرح و هي تشم الهواء بأنفها: يبدو أن طَّسْتَ الراحة له رائحة طعهما حلو.
اغتاظ "ماهر" من مزاحها في هذا الوقت لكنه وجه كلامه للبيب قائلاً: و من قال لك أننا نريد الراحة؟
"لبيب": غاز أكسيد النيتروز المخلوط بالأكسجين سيقدمها لك بطريقة إجبارية.
"ماهر" هاتفاً و قد انتقل له الشعور بالمرح: إجبارية إجبارية و يقول لك رحلة عن الحرية.
"حنان" ضاحكة: بصراحة بصراحة بصراحة، ما لقيت في هذه الرحلة راحة.
بعد فترة أفاق الشباب ليجدوا أنفسهم مقيدين إلى المقاعد، "حنان" و "ليلى" في جهة، و في الجهة المقابلة "ماهر" و "هانئ"، فكانت المفاجأة مذهلة.
كان "ماهر" أول من تغلب على ذهوله، فقال موجهاً حديثه إلى "هانئ": و أنت أيضاً يا دكتور.
أطرق "هانئ" بخجل ثم قال: أؤكد لكم أنني بذلت كل ما بوسعي لمنعه، لكنه باغتني فتغلب علي.
"حنان": معذرة يا دكتور "هانئ"، أسأنا الظن فيك، و اعتقدنا أنك متورط معه فيما أصابنا.
"ليلى": نحن الآن أربعة ضد واحد، و هذا بلا شك أفضل من ثلاثة ضد اثنين، لكن كيف سنتصرف؟
"ماهر": أردنا أن نحرر أصدقاءنا من مصيدة الكهف فوقعنا في مصيدة المقطورة.
"هانئ": هذا هو بيت القصيد، كيف سنخرج من المصيدة؟
* * *
أعلنت ساعة الأنفاس شروق شمس اليوم الثالث من أيام الكهف، و قام "عادل" بتوزيع الوجبة الأخيرة مما تبقى من الماء و العصائر، و تحلق الأصدقاء واجمين، و قد أدركوا أنهم بدأوا مرحلة الخطر الشديد.
"عاطف": بالأمس بدأنا عصر الجوع، و اليوم سنبدأ عصر الظمأ.
"عاصم" و هو يشير إلى المصباح: و غداً سيبدأ عصر الظلام.
"سارة": لا يجب أن نظل مكتوفي الأيدي حتى تحين هذه اللحظة.
"عادل": نعم فاليوم هو فرصتنا الأخيرة للخروج من هذا المأزق.
"جميلة" بتوتر: و ماذا في أيدينا أن نصنع؟
"حورية": نبحث عن منفذ أو مخرج.
"عاطف": أو لم نفعل؟
"ماجد": بلى، و لكن كان نظرنا متوجهاً إلى الخارج، فلما لا نجرب البحث في الداخل؟
"عاصم": و ماذا تتوقع أن تجد داخل الكهف، ها هو أمامك.
"عادل": لاحظوا أننا لم نتفقد جميع جوانب الكهف و زواياه، فنحن منذ ولجنا نجلس في حدود هذا البساط، و في المساحة التي يصل إليها ضوء المصباح.
"حورية": أجل. ربما لو توجهنا نحو الباطن، باطن الكهف، قد نجد حلاً أو عوناً.
"سارة": ربما نستطيع أيضاً أن نجد ما يحسم لنا هل هذا المأزق الذي نحن فيه من صنع البشر أم من صنع القدر؟
"عاطف": ماذا تعنين؟
"عاصم": تعني أنه لو كان هناك من دبر لنا هذه الورطة، فمن المحتمل أنه قد جاء إلى هذا الكهف قبلنا، و قام بإعداد ما يساعده على إنفاذ خطته، و قد نجد نحن أثراً يدل عليه و نتمكن من إفساد خطته عليه.
"ماجد": إذن فلنفتش الكهف شبراً شبراً.
"عادل": المهم أن نبذل قصارى جهدنا حتى لا نبيت ليلة ثالثة في مصيدة الكهف.
* * *