الفصل الثالث
الحكيم الرومي
" أنصت إلى الناي يحكي حكايته.. ومن ألم الفراق يبث شكايته:
مذ قطعت من الغاب.. والرجال والنساء لأنيني يبكون
أريد صدراً مِزَقاً برَّحه الفراق.. لأبوح له بألم الاشتياق..
فكل من قطع عن أصله.. دائماً يحن إلى زمان وصله..
وهكذا غدوت مطرباً في المحافل.. أشدو للسعداء، وأنوح للبائسين
وكلٌ يظن أنني له رفيق.. ولكن أياً منهم لم يدرك حقيقة ما أنا فيه!!
لم يكن سري بعيداً عن نواحي، ولكن أين هي الأذن الواعية، والعين المبصرة؟!!
فالجسم مشتبك بالروح، والروح متغلغلة في الجسم..
ولكن أنى لإنسان أن يبصر تلك الروح؟
أنين الناي نار لا هواء..
فلا كان من لم تضطرب في قلبه النار..
نار الناي هي سورة الخمر، وحمى العشق
وهكذا كان الناي صديق من بان.. وهكذا مزقت ألحانه الحجب عن الأعيان..
فمن رأى مثل الناي سماً وترياقاً؟!.. ومن رأى مثل الناي خليلاً مشتاقاً؟!
إنه يقص علينا حكايات الطريق التي خضبتها الدماء
ويروي لنا أحاديث عشق المجنون
الحكمة التي يرويها، محرمة على الذين لا يعقلون،
إذ لا يشتري عذب الحديث غير الأذن الواعية "
مولانا جلال الدين الرومي
قبل أن تقع عين "راغب" على "الحكيم الرومي" وصل صوته إلى أذنه، لم يكن يتكلم بل يعزف على الناي، و الألحان قد تحمل و تحتمل ما لا تحمله الكلمات و لا تحتمله، بدا العزف خافتا يأتي من مكان بعيد و كلما اقترب "راغب" ازداد اللحن وضوحا و جمالا، فشعر أنه يتحرك نحو الصوت لا سيرا على قدميه و لكن جذبا من أذنيه، فلما وصل إلى موقع "الرومي" في الغاب غاب و جلس ينصت صامتا، شعر أنه يسمع كلاما لا يفهم معناه لكنه يحتوي مشاعر مألوفة من الأنين و الحنين، فلما انتهى "الرومي" من العزف التفت إليه قائلا: مرحبا بالضيف.
“راغب”: شكرا لكم يا سيدي، كيف تعزفون على الناي؟
“الرومي”: هل جئت لتتعلم العزف على الناي؟
انتبه "راغب" إلى الهدف الذي جاء من أجله بعد أن نسيه، و عاد إلى وعيه بعد أن غاب عنه، فقال: بصراحة لا يا سيدي، و إنما جئت أبحث عن إجابات.
“الرومي”: كثيرون يبحثون عن الأجوبة و لا يبحثون عن المعرفة.
“راغب”: و هل تحصل المعرفة دون الحصول على أجوبة؟
“الرومي”: نعم.. فلكل لغة أسرارها، لغة السماء، لغة الماء، لغة الصحراء، لغة الأشجار، لغة الأطيار، لغة العيون، لغة القلوب، و كلما تعلمت لغة ترقيت في العرفان و حصلت على إجابات لم يخطر على ذهنك الاستفسار عنها أصلا، ربما لو تعلمت لغة الناي لكفيت مؤنة السؤال.
“راغب”: بل أريد أن أتعلم لغة الحب.
“الرومي”: و هل للحب لغة يا صاحبي؟
“راغب”: أخبروني أنتم يا سيدي؟
“الرومي”: ليس للحب لغة، اللغة أداة بيان و تعبير، و الحب لا يُعبر و إنما يُعبَّر عنه.
“راغب”: قبل التعبير عنه أخبرني عن الكشف عنه، كيف أعرف أنه موجود في قلبي؟
“الرومي”: كيف تكشف عن الخوف الموجود داخلك؟
“راغب”: أنا لا أكشف عنه بل هو يكشف عن نفسه، حينما أواجه الخطر يظهر الخوف المختفي.
“الرومي”: تقصد إذا هاجمك وحش مفترس أو عرض لك قاطع طريق أعلن الخوف عن نفسه في تسارع ضربات قلبك و اتساع حدقة عينك و انحباس صوتك و انكتام نفسك، أليس كذلك؟
"راغب" بلى.
“الرومي”: فكذلك الحب، فإذا صادفت المحبوب و تعرفت عليه ظهر الحب في دقة قلبك و نظرة عينك و خشوع صوتك و رجفة يدك.
“راغب”: تعني لا يشعر المرء بالحب و لا يعرف مذاقه إلا إذا رأى المحبوب؟
“الرومي”: نعم هذا ما أعنيه، إذا رأيت الذي تحب شعرت بالحب طالما هو حاضر فإن غاب المحبوب عن الظهور زال من القلب الشعور، فإن استطعت أن تحب كل من حولك و كل ما تراه عينك استمر الحضور و الشعور.
“راغب”: إذن فالحب حال عارض و ليس مقام دائم.
“الرومي”: هذا إذا كان محبوبك من الآفلين.
“راغب”: فعلي إذا أردتُ النعيم المقيم ألا أحب الآفلين.
“الرومي”: هذا هو الحب على ملة أبيك إبراهيم الخليل.
“راغب”: فما بال قيس و كُثير و جميل، غابت محبوباتهن أحيانا و ظل حبهن في قلوبهم حاضرا في كل حين؟
“الرومي”: بل ظل الشوق إليهن يفتك بالقلوب و لذلك كانوا يعانون و يتعذبون و لو كن حاضرات في مهجهم لأصبحوا في النعيم يتقلبون، ما ظنك بأمرؤ يحمل حبيبه في قلبه، هل يؤرقه الوصل أو يضنيه الشوق؟
“راغب”: أوليس الحب و الشوق متلازمان.
“الرومي”: الحب نور و الشوق نار، و قد يسبب النور حرقا و قد تصبح النار سلاما و بردا.
“راغب”: و عندها يغني الحبيب لحبيبه شاديا: (حبك نار مش عايز اطفيها و لا أخليها دقيقة تفتني ما أحسش بيها).
التقط "الرومي" الناي و عزف عليه ذات المقطع من اللحن الشهير الذي ذكره "راغب" ثم تبسم قائلا: إذا كانت هذه ناره فكيف بنوره.
“راغب”: تريد أن تقول يا سيدي إن الحب لذة بلا ألم، و سرور بلا آسى، و راحة بلا تعب! فأين بكاء المحبين و أنين العاشقين و شكاوى المتيمين؟ أين كل ما نثره الأدباء و نظمه الشعراء من العناء و البلاء من الحب و فيه؟
“الرومي”: ليس في ذات الحب بلاء و لا منه العناء، و كل ما ذكرت إنما قيل في بعد الوصال و تغير الحال و ألم الفراق أو في قسوة المحبوب و جفوته أو في الحرمان منه و الانصراف عنه و ما إلى ذلك، أي يمكنك أن تقول إنها ضريبة حب الآفلين، هل وجدت من يئن و يشكو من حب الله و رسوله؟ ثمرة الحب حُلوة و لا يمكن أن تكون مُرة، ثلاث – كلهن حب - من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان، نعم أثناء الترحال تكثر الأهوال فالسفر قطعة من العذاب، و إذا أحب الله العبد ابتلاه ليحرره مما سواه لكن إذا صبر المحب و أخلص و وصل نال المُنى و زال العنا و آثر الرفيق الأعلى على كل زهور الدنى.
“راغب”: فما الحكمة من حب البشر طالما لن يخلُ حبهم من الكدر؟ و لما جعله خير الأنام شرطا للإيمان و دخول الجنان؟
“الرومي”: الحب بين البشر يجعلك تتذوق شيئا من حلاوة الحب يدفعك حثيثا للحب الحقيقي الباقي فتترقى في درجاته، و ما فيه من الكدر يمنعك من الوقوف عليهم و الاكتفاء بهم، و لذلك كل علاقات الحب بين الناس في الدنيا تنقلب كراهية و عداوة في الآخرة إلا إذا أضيف رابط سماوي لتلك العلاقة الأرضية يؤهلها للاستمرار في الآخرة.
“راغب”: ذكرت يا سيدي أن ثمرة الحب حلوة، فما هي تلك الثمرة؟
“الرومي”: ليست ثمرة يا صاح بل ثمار، أرادت أم حارثة - رضي الله عنها و عن ولدها - أن تصبر نفسها على فقد ابنها فسألت نبيها – صلى الله عليه و سلم - أن يخبرها هل هو في الجنة؟ فأجابها الرءوف الرحيم: أوَجنة واحدة هي؟ إنها جنان كثيرة و إن ابنك أصاب الفردوس الأعلى.
“راغب”: و ما له لا يصيب الفردوس الأعلى منها و هو من شهد له الصادق الأمين بأنه أمرؤ نور الله قلبه، و لنعد إلى السؤال، فما تلك الثمار أو الجنان؟
“الرومي”: عطاء بلا حدود، و ذكر بلا فتور، و مسامحة بلا شروط، و اقدام بلا تردد، و نشوة بغير سكر، و خدمة بغير ضجر، و طاعة بلا تكلف.
“راغب”: تلك سبع جنان فأيها الفردوس الأعلى؟
"الرومي ": ثامنة حسنة جميلة، رضا بلا سخط.
“راغب”: تلك التي لم يستطعها كثير من الشعراء.
“الرومي”: بعضهم قطف شيئا من تلك الثمرة حين قال:
إن شئت تقتلني فأنت محكم من ذا يطالب سيدا في عبده
“راغب”: هذا البيت من ثمرة الرضا عن المحبوب مهما قضى أو حكم، فماذا عن ثمرة الطاعة؟ قد يطع المرء من يحب و من لا يحب أليس كذلك؟
“الرومي”: ثمرة الطاعة قد تنتج من بذرة الحب و قد تنتج من بذرة الخوف و قد تنتج من بذرة الطمع.
“راغب”: و ما الفرق بين الطاعة الناشئة عن الحب و تلك الناشئة عن الرهب أو الرغب؟
“الرومي”: الطاعة الناتجة عن الخوف أو الرجاء تحتاج إلى الكثير من الكلفة و المجاهدة للبدء فيها و الدوام عليها، و يعتريها العديد من المكدرات أثناء القيام بها، أما الطاعة الناشئة عن الحب فكما أخبرتك هي طاعة بلا كلفة و لا كدر.
“راغب”: ألا يقدح في الطاعة أن يكون الدافع إليها الخوف و الطمع؟
“الرومي”: بلى إن كانت في حق البشر لأنهم كلهم لآدم و آدم من تراب، فما الذي يدفع إنسانا للخوف من إنسان مثله أو الطمع فيه إلا خسة في الطبع أو ضعف في اليقين أو ما إلى ذلك، أما في حق الله تعالى فالأمر على الضد فمن لم يخف مقام ربه و يأمل في رحمته و إحسانه فهو عبد سوء.
“راغب”: لكن الطاعة الناتجة عن الحب أرفع و أرقى و أفضل و أعلى أليس كذلك؟
“الرومي”: كلا ليس كذلك إلا إذا كان الحب مكملا و متمما للخوف و الرجاء و ليس بديلا عنهما، فإن كانت الطاعة ناشئة عن الحب فقط فما أظنها تخلو من حظوظ النفس.
“راغب”: فأي المقامات أفضل و أيها إن خُيرت اختر؟ الحب أم الخوف أم الرجاء؟
“الرومي”: إن كان الحب لله و الخوف من الله و الرجاء في الله فأنت مع الله في كل حال، فاختر ما اختاره الله لك و ارض به و احمده على المقام الذي بلغته يبلغك المقام الذي لم تبلغه، يريد العباد أن يعبدوا ربهم على حال واحدة - يحسبونها الفضلى - و الله يريدهم أن يعبدوه على كل حال.
“راغب”: و هل يتعارض الرضا مع الطلب يا سيدي؟ أنا مذ أربعة عقود أعامل الخلق و رب الخلق بالعقل و عندما شعرت أن طائرة الحياة أوشكت على الهبوط، و وجدت أن معاملات العقول لم تشبع الفضول و لم تحقق المقصود اشتقت إلى معاملات القلوب و قلت لعل و عسى أدرك المطلوب.
“الرومي”: العقل يتأرجح بين الحكمة و الهوى، و القلب يتقلب بين الحب و العمى، و النفس تتردد بين السخط و الرضا.
“راغب”: نعم يا سيدي فهمت أن آفة العقل الهوى، و آفة القلب العمى، لكني حسبت أن آفة النفس الأمر بالسوء و ليس السخط؟
“الرومي”: و هل يدفع إلى الأمر بالسوء إلا السخط؟ الأمر بالسوء شأن النفس الساخطة أبدا تأمر و تطلب و تُحَصِّل و لا تشبع و لا تقنع و لا ترضى البتة، يظن صاحبها أنه إذا استجاب لها ضعفت و سكتت عنه و أعتقت رقبته فإذا بها قويت و تمكنت منه و استرقته، اللهم صل على من علمنا أن نسألك نفسا هي بك مطمئنة تؤمن بلقائك و تقنع بعطائك و ترضى بقضائك.
“راغب”: اللهم صل على سيدنا محمد و آله و سلم.
“الرومي”: أنت تتحدث يا ولدي و كأن القلب الة تعمل بالأزرار، تضغط زرا فتتوقف عن العمل و تعطي اليد العليا للعقل ثم تضغط زرا أخرا فيبدأ دور القلب في المعاملة و يتنحى العقل جانبا، الأمر ليس على هذا النحو، كف عن محاولة عقلنة القلب و دعه ينطلق.
“راغب”: كيف ينطلق؟ ليته يفعل.
“الرومي”: القلب المادي لا شيء يوقفه عن النبض و إذا توقف عن ضخ الدم مات، و كذلك القلب المعنوي لا شيء يوقفه عن العشق و إذا توقف عن ضخ الحب مات، قلبك يفعلها يا صديقي لكنك لا تشعر به، فإن أردت أن تشعر به فانصت إلى نصيحة الناي.
نطق الرومي بالعبارة الأخيرة و بدا كأنه يصغي إلى عزف ناي يأتي من بعيد ثم أخذ يتلو نصيحته جملة جملة بسكينة و روية كأنما يترجم ما أخبره به الناي :
كُن في الحُبِّ كالشّمس
" " " " "
كن في الصداقة والأخوّة كالنّهر
" " " " "
كُن في ستر العيوبِ كالليل
" " " " "
كن في التواضعِ كالترابِ
" " " " "
كن في الغضب كالميت
" " " " "
وأيًّا كنت من الخلائق..
" " " " "
إما أن تبدو كما أنت..
" " " " "
وإما أن تكون كما تبدو.
“راغب”: ما بالي كلما طرقت باب حكيم أسأله شربة ماء يطالبني بنهر أو أسأله نسمة هواء فيطالبني بعاصفة هوجاء، يا سيدي أنا أملي أن أكون في الحب كالشمعة و أنت تريدني فيه كالشمس ! أنى هذا !
" الرومي": مشكلتك يا عزيزي أنك لا تعرف الذي تبحث عنه، تحسب أنك تبحث عن الحب بينما في الحقيقة أنت تبحث عن تجليات الحب في قلوب من سبقوك و انعكاساته في حيواتهم، أنت تبحث عن أشعار فلان و أشواق علان و بكاء هذا و شطحات ذاك، تظن أن تلك الأحوال هي عليه البرهان، فإن حصلت فهي دليل صدقك فيه، و إن لم تحصل فهي دليل فقدك له، و ما هي في الحقيقة بحقيقة الحب و لا هي عليه بدليل، إن هي إلا صور و لها ألف بديل، فليس كل من عشق و أحب نظم الشعر و فقد العقل، و ليس كل من بكى و انتحب أحب، و إن جاز التقليد في الفقه فهو ممتنع في العشق.
“راغب”: لعلك على حق يا سيدي، و لكن ماذا عليَّ أن أبدأ مقلدا إلى أن استوي على ساقي؟ و ما علي إن لم أكن مثل القوم أن أتشبه بهم؟ أليس جميع الفقهاء المجتهدين بدأوا كمقلدين؟
“الرومي”: بلى و لكن الأمر في العشق يختلف و لذلك أخبرتك أن التقليد إن كان في الفقه مطلوب فهو في الحب غير مرغوب، و إلا فأخبرني بربك هل بدأ مجنون لبنى بحب ليلى ثم استقل بمذهبه في الحب؟ و هل أحب عنترة سلمى ثم أصبح من المجتهدين في حب عبلة؟ و هل بدأ جميل بعشق عزة ثم نشا في الحشا عنده حب بثينة؟ يا ولدي الحقيقة واحدة لكن لها اشكالا متعددة، و الحب كالحق واحد لكن له ألف صورة، و إن شئت قلت الحب كالمطر يروي الأرض فتنبت نباتا مختلفا ألوانه، يسقى بماء واحد و نفضل بعضه على بعض في الأكل، و ما لبنى و ليلى و سلمى و عزة و بثينة و عبلة إلا تجليات لحقيقة واحدة و أعراض لجوهر واحد، فابحث عن جوهر الحب لا عن وصفه و رسمه.
“راغب”: و لكن عنترة و جميلا و كثيرا و القيسين عبروا عن تلك التجليات و الصور بطريقة واحدة حتى أننا قد نسمع البيت من القصيدة فلا ندري أقاله مجنون ليلى أم مجنون لبنى.
“الرومي”: متشابها و غير متشابه، صنوان و غير صنوان، و تبقى ليلى غير لبنى، و يبقى قيس الأولى غير قيس الثانية.
“راغب”: حيرتني يا سيدي.. ما جوهره و ما وصفه و رسمه؟
“الرومي”: تذكر حديثنا عن الخوف، فدعنا نتحدث عن الحزن، كيف تعرف أن هذا بائس أو أن ذاك حزين؟ أيكفيك البكاء كدليل؟
“راغب”: لا. فالناس يبكون لأسباب شتى، صحيح أن الحزن من بينها لكن قد يبكي المرء لغير حزن و قد يحزن المرء بغير بكاء.
"الرومي ": و كذلك السرور و الضحك، و كذلك الصراخ و الغضب، و كذلك الحب حقيقته و جوهره ميل القلب إلى المحبوب و تعلقه به، أما أعراضه و صوره فحدث و لا حرج، بل إنك لو جمعت المتضادات و أتيت بالمتناقضات فلن تخرج عن دائرة الاحتمالات و الجائزات فيه.
“راغب”: كلامك يا سيدي يهون كثيرا من مسألة الحب و يجعلها في متناول الجميع بعدما ظننت دهرا أنها عملة نادرة لم تتداولها إلا قلوب المشاهير من العاشقين، و لم تصرف إلا من مهجهم.
“الرومي”: هي كذلك و هي أيضا في متناول الجميع شأنها شأن جميع النعم القلبية و العقلية و البدنية، الخلق عامة لهم نصيب من الحب و الذكاء و القوة و لكننا إذا تحدثنا عن الحب ذكرنا ابن الملوح و أضرابه من المجانين، و إذا تناولنا الذكاء ذكرنا اينشتاين و أمثاله من العلماء و المخترعين، و إذا تكلمنا عن القوة ذكرنا شمشون و أنداده من الجبارين، هذا من باب ضرب الأمثال و اختيار من تجسدت فيهم تلك الصفات و المعاني بأجمل صورها و أوضح أشكالها، و ليس من باب الحصر، صحيح أن هناك من البشر من ليس لهم حظ من القوة أو الذكاء أو الحب لكن كم نسبتهم؟
“راغب”: معنى هذا أنني قد أكون محبا و لكني لا أشعر بهذا الحب إذا قارنته بحب قيس لليلى، كما أنني اتمتع بقدر من الذكاء لكن إذا قارنته بذكاء اينشتاين عددت نفسي غبيا، و هكذا أرى نفسي قاسي القلب بليد اللب، فما الطريقة المثلى للتعامل مع تلك المعضلة؟ هل أخرج هؤلاء من دائرة التمثل و التأسي فأقنع بما عندي و أنعم بقدر من الحب يتمثل في حسن معاملة من أحبهم، و بقدر من الذكاء يتح لي نجاحا متوسطا في حياتي المهنية و الاجتماعية؟ أم أصر على أن أذق ما ذاقوا و أنل ما نالوا فلا أنعم و إنما أعاني؟
“الرومي”: حسن المعاملة لا يعبر عن الحب، فنحن مأمورون بالإحسان إلى من نحب و من لا نحب، و إذا قتلتم فاحسنوا القتلة، و النجاح المهني و الاجتماعي لا يدل على الذكاء فكثيرون من الناجحين الأثرياء من أصحاب الذكاء دون المتوسط، الذكاء لا يمنحك نجاحا و إنما يمنحك فهما، و الحب ليس إحسانا إلى المحبوب و إنما ميلا إليه و تعلقا به، و كلما ازددت ميلا كلما ازددت امتلاء حتى لا يبقى لنفسك في قلبك محل، و كلما ازددت تعلقا كلما ازددت اقترابا و التصاقا حتى لا يبقى بينك و بينه بين، و حل المسألة التي أعضلتك ليس بطرد المحبين و الحكماء من دائرتك و إنما اقتدِ بهم و لا تقلدهم، إنك مهما فعلت فلن تكرر نظم قصائد ابن الملوح و لن تعيد وضع نظريات ابن اينشتاين، و ما الفائدة لو أنشد عاشقين نفس القصيدة في ليلى العامرية؟ و ما المحصلة لو اكتشف عالمين نظرية النسبية؟
“راغب”: أجل.. و أيا كنت من الخلائق، إما أن تبدو كما أنت، أو إما أن تكون كما تبدو.. لكن يا سيدي العلائق تمنع الامتلاء و العوائق تحول دون الاقتراب.
“الرومي”: يحكى أن أحد العارفين مر في سفرة على شاب حزين عاكفا على أصل شجرة لا يغادر مكانه، فسأله عن شانه، فقال: كان لي حال مع الله فقدته في هذا المكان فلا أبرح حتى استعيده. و في طريق عودته من سفره وجد نفس الشاب في نفس المكان و قد انقلب حزنه فرحا و قبضه بسطا، فأعاد عليه السؤال، فأجاب: وجدت ما فقدت فلا أبرح المكان الذي استعدت فيه حالي مع الله. فقال العارف: فلا أدري أي المقامين أشرف.
“راغب”: نعم أي المقامين أشرف؟ الصبر على الفقد أم الشكر على الوجد؟ لكن أليس في كلا الحالين يحتاج المرء إلى شيخ يسير خلفه خطوة بخطوة حتى يجتاز المفازة و يصل إلى العمران، أو يبحر وراءه عقدة بعقدة حتى يعبر البحر إلى بر الأمان؟
“الرومي”: ما زلت تدور في فلك التقليد، لو سرت خلف الشيخ ضللت و لو أبحرت وراءه غرقت، ليس عمل الشيخ أن يسير بك في طريقه و إنما دوره أن يرشدك إلى طريقك، فعدد الطرق بعدد الخلائق، و لكل واحد طريق واحد.
“راغب”: إذن فدور الشيخ أعظم بكثير مما يظن، و مهمته أصعب بمراحل مما يخال، فكل أحد يمكنه أن يدلك على طريقه لكن لا أحد يمكنه أن يدلك على طريقك أنت إلا إذا كان يبصرها من بين عدد لا حصر له من الطرق.
“الرومي”: أجل، فالشيخ لا يقول لك افعل ما أفعله و لكن افعل ما أقوله لك، و بمعنى أخر اتبعني و لا تقلدني.
“راغب”: فما قولهم إن عدد الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق؟
“الرومي”: دقات قلب المرء تقول له: إن الحياة دقائق و ثوان، فالمرء يحيا في الدنيا عمرا واحدا لكن هذا العمر يتألف من أعوام و شهور و أيام و ساعات و دقائق و ثوان، و كما أن لكل إنسان حياة واحدة تتألف من أنفاس كثيرة فكذلك له طريق واحدة تتألف من خطوات كثيرة، و كما قال ابن عطاء السكندري: ما من نفس تبديه إلا و له فيك قدر يمضيه، و مع كل نفس يتجدد عطاء الله لك و يتغير فيك شيء و يتبدى لك حال، فإن استطعت في كل نفس أن تتعرف على حالك مع المحبوب و تسير إليه وفق هذا الحال فافعل، فإن كانت حالك المعصية فسر إليه بالتوبة و الاستغفار و إن كانت حالك الطاعة فأقبل عليه بالشكر و الاصطبار، و إن كان شأنك الجهل فاسلك طريق العلم، و إن كانت حالك الغفلة فالزم طريق الذكر.
“راغب”: بل أريد طريق الحب، و ما حالي إلا قول الشادي الغريب: عطشان يا صبايا دلوني على السبيل.
و كعادة "الرومي" كلما ذكر "راغب" بيتا أجابه بنغمه، فالتقط الناي و أنشد:
عطشان يا صبايا دلوني ع السبيل
عطشان والنيل حدانا والميه حدانا كتير
عطشان يا صبايا دلوني ع السبيل
ماهو السبيل قدامك واتزحزح يا رذيل
“راغب”: ما أندى صوتك و ما أجمل عزفك و ما أطرف إشارتك يا سيدي، و إني و إن كنت من بلد النيل و إن كان أمامي السبيل، فأنا ضعيف مسكين، فلا يناسب حالي من المعاني إلا أضعفها، و قد علمت أضعف الإيمان و عملت به فدلني على أضعف الحب لعلي أشعر به.
“الرومي”: أضعف الحب أن تحب المحبوب لإحسانه إليك و أياديه عليك و عطاياه لك.
“راغب”: و لما كان هذا النوع من الحب أضعفه؟
“الرومي”: لأنه في استطاعة كل أحد، حتى الأطفال و الحيوانات، فالناس مجبولون على حب من يحسن إليهم و يعطيهم و لا يمنعهم، و هذا النوع من الحب لا يثبت طويلا ما لم يعرفوا المنعم معرفة وثيقة و يدركوا مغزى النعمة إدراكا عميقا ولهذا كان هذا النوع من الحب هو الحب الطفولي، ألا ترى إلى الطفل إن أعطيته هش و بش لك و أحبك و إن منعته حزن و جزع و شعر أنك ظلمته؟ فإذا ما تفتح ذهنه و نضج قلبه عاد فشكر والديه على ما منعاه بل و منع أطفاله من مثل ما مُنع منه رحمة بهم و شفقة عليهم، فقد أدرك أن النعمة في المنع لا تقل عن النعمة في المنح، و هذا ما بدأ به المحب الأعظم صلى الله عليه و سلم حين حدث الناس عن حب الله تعالى فقال: (أَحِبُّوا اللَّهَ لِمَا يَغْذُوكُمْ بِهِ مِنْ نِعَمِهِ ).
“راغب”: إذا كان هذا أضعف الحب و أدناه فما أقواه و أعلاه؟
“الرومي”: أصعب الأشياء و أقساها على النفوس الانتظار و الاختيار، و أشد منهما تركهما، فإن استطعت أن تعشق بلا انتظار و لا اختيار فقد وصلت إلى أسمى معاني الغرام، ألم تر إلى الرجل الذي قال للنبي صلى الله عليه و سلم: إني أحبك، فقال له: استعد للفقر، فقال الرجل: فإني أحب الله، فقال النبي المعلم المبجل صلى الله عليه و سلم: استعد للبلاء.
“راغب”: ما أصعب هذا الكلام ! كيف أحب بلا انتظار؟ و كيف أعشق بلا اختيار؟ ما المقصود بهذا؟
“الرومي”: المقصود هو و المطلوب هو، المقصود أن يكون حبك بغير انتظار لعطاء أو وصال، و دون طمع في وعد أو إحسان، و بلا أمل في نظرة أو كلام، المقصود أن يكون عشقك بلا اختيار منك لك، و دون تصور لحال أو مقام، و بغير إرادة لشكل من الأشكال أو لون من الألوان، و لعل هذا هو سر الوصية بالاستعداد للفقر و البلاء، فالفقر التام يحررك من الانتظار، و البلاء الكامل يحررك من كل اختيار.
"راغب" ملتاعا: يا ليت أمي لم تلدني... و هل هذا بحب؟ هل هناك حب بلا وصال؟ هل هناك بشر بلا اختيار؟ هل هناك إنسان بلا إرادة؟ إن لم يكن هذا المحال فلا محال... ألم تخبرني أنه ليس في الحب بلاء و لا منه عناء.
“الرومي”: رغم أن أسئلتك كلها استنكارية فسأفترض أنها استفهامية و إليك جوابها، سألتني: هل هذا بحب؟ و الجواب: ليس هذا بحب هذا أرفع و أقوى درجات الحب، فإن لم تستطع تصوره فلا تنكر وجوده. و سألتني: هل هناك حب بلا وصال؟ و الجواب: ألا تعجب من حب مغيث لبريرة و من بغضها له، فأخبرني يا صديقي متى وصلت بريرة مغيثا بعد أن فارقته؟ و الجواب أنها لم تصله و مع ذلك لم يفارقه حبها. و سألتني عن الإرادة و الاختيار؟ و الجواب: إنك إذا امتلأت بحب المحبوب فقدت الاختيار و اصبح ما يختاره لك وحده الخيار، و إذا فنيت نفسك فيه فقدت الإرادة، لأنه إذا فنيت النفس فنيت إرادتها معها. و الجواب على السؤال الأخير: بلى أخبرتك أنه ليس في ذات الحب بلاء و لا منه عناء أي في جوهره و حقيقته و ليس فيما يحيط به من الملابسات، كما أخبرتك أيضا أن في الترحال تكثر الأهوال، فلما تشبثت بالأولى و أفلت الثانية؟ لا بلاء إذا تحررت من الاختيار، و لا عناء إذا تخلصت من الإرادة، إنما يأتي العناء من عجزك عما تريد.
“راغب”: الآن فقط فهمت معنى: إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي... دعاء لا تسمع فيه صوت انتظار، و لا ترى فيه صورة اختيار، و إنما تشعر فقط بمحض الافتقار.. و لكن..
تبسم "الرومي" و قاطعه قائلا: إياك و لكن...، لا تعارضني بما جاء في سيرة المصطفى صلى الله عليه و سلم أو ما ورد في سنته من مواقف أو أقوال فيها اختيار أو طلب أو انتظار، فبحر الحبيب الأعظم لا ساحل له و عمقه لا قعر له، و ما تجلى الله تعالى على خلق من خلقه باسمه الواسع كما تجلى على خير الخلق و أوسعهم فضلا و كرما و علما و عدد ما شئت من حميد الخصال و لا تبالي.
“راغب”: و بالتالي ما تناولناه آنفا كان لونا واحدا من ألوان الحب لا ينفي غيره من الألوان، و درجة من لا درجاته لا تمحو غيرها من الدرجات، و سيرة الخاتم صلى الله عليه و سلم و سنته تتسع لجميع الألوان و تشتمل على كافة الدرجات، أليس هذا ما قصدته يا سيدي؟
“الرومي”: بلى هذا ما قصدته و هذا هو سر اختلاف أمته، فبحره لا تسعه جداولهم، و كل فرد ينهل بقدر وسعه، و كل فرقة تحصل على قدر طاقتها.
“راغب”: لكن الاختلاف شر.
“الرومي”: ألم أحذرك من لكن؟
“راغب”: حذرتني منها لكن لا مفر منها.
“الرومي”: الاختلاف آية من آياته، انظر إلى اختلاف الليل و النهار، تأمل في اختلاف ألواننا و ألسنتنا، أخبرني أيهما أفضل العربي أم العجمي؟ الأبيض أم الأحمر؟ و أيهما أجمل البر أم البحر؟ النهار أم الليل؟
“راغب”: بل أخبرني أنت طالما الاختلاف بهذا الجمال، مَن مِن الفرق هي الناجية إذن؟
“الرومي”: الفرقة الناجية التي ترى أخواتها السبعين على حق، و تلتمس لهم العذر، ألم تصلك وصية التمس لأخيك سبعين عذرا، فإن أخذت بها تحصل لديك سبعون فرقة، فإن حققت كمالها و قلت لعل لهم عذرا لا أعلمه زدت على السبعين، و تذكر أن الصادق الأمين أراد أن يزيد في الاستغفار على السبعين عسى أن يتوب الله رب العالمين على عباده المنافقين.
“راغب”: كيف يكونون على حق و قد شهد لهم الرسول صلى الله عليه و سلم بالنار؟ كيف يكون القادياني الذي ادعى النبوة و البهاء الذي ادعى الربوبية على حق؟
“الرومي”: لم يشهد لهم بالنار لأن هذه الزيادة (كلهم في النار) لم تصح، و مع هذا هل هذان من أمته؟ إذا فالأسود العنسي و مسيلمة الكذاب من أمته أيضا، كل فرقة ترى نفسها على الحق و كل أخواتها على الباطل لا شك هي في النار، نار فساد ذات البين، نار التدابر و التباغض، نار الضغينة و الشحناء، نار الكراهية و الاعتداء، و الفرقة الناجية هي التي على ما كان عليه المصطفى و أصحابه، و ما كان عليه المصطفى و أصحابه يسع الجميع، فلعل الفرقة الناجية حقا هي مَن ترى أن الكل كذلك و أن الكل قد أصاب من الحق جانبا و نال من الحب حظا وافرا.
"راغب": و ماذا عن الخلاف في الفكر و السياسة و الحب؟
“الرومي”: الخلاف في تلك الأمور كلها فرع عن الاختلاف في أصول الفقه و العقيدة فنقول فيها ما قلنا فيه.
“راغب”: لكن ألا يرجع الخلاف العقائدي في الأمة إلى الخلاف السياسي فكأنه بالتالي فرع عنه لا أصل له كما ترون أنتم يا سيدي.
“الرومي”: نعم هذا الكلام صحيح من حيث الترتيب الزمني، فلم يُعرف في تاريخ المسلمين الشيعة و الخوارج كحزبين أو طائفتين أو فرقتين على سبيل المثال إلا بعد النزاع السياسي بينهم و اختلافهم في قضية التحكيم، لكن من حيث الترتيب المنطقي فإن المواقف السياسية تنشأ عن التصورات المعتقدة و الأفكار المعتنقة لا العكس و إذا دققت وجدت أن أصول كلا الفريقين كان سابقا على يوم صفين، و منهجية تفكير ذي الخويصرة و ابن سبأ كانت معروفة، و إنما جاءت الأحداث و الملابسات لتبلور تلك المناهج و تظهرها لا لتنشئها.
“راغب”: أتفهم أن يكون الخلاف الفكري انعكاسا للخلاف العقدي، و أن يكون الخلاف السياسي فرعا عنه أيضا، لكن كيف يكون الخلاف في الحب فرعا عن الخلاف في العقيدة؟ ما العلاقة؟
“الرومي”: إن لم يكن بين الحب و الإيمان علاقة فبما تفسر حديث أوثق عرى الإيمان الحب في الله و البغض في الله؟ الشعور ثمرة التصور كما أن الذوق ثمرة الحس، فالبشر يتذوقون بكل حواسهم، روعة الصور بالبصر، و عذوبة الأصوات بالسمع، و طيب الروائح بالشم، و نعومة الأجسام باللمس، و لذيذ الطعام باللسان، و كذلك يتذوقون المعارف بالعقل، و الشهوات بالنفس، و المشاعر بالقلب، و الأسرار بالروح، و كما تختلف الأذواق المادية باختلاف الحواس البشرية تتباين الأذواق المعنوية بتباين اللطائف الإنسانية، الشيعة اعتقدت أن عليا رضي الله عنه وصي النبي فأحبوه و على الشيخين فضلوه، و الخوارج تصورت أنه خائن للقرآن بقبوله تحكيم الرجال فأبغضوه و بعد أن رموه بالكفر قتلوه، إذا كان تصورك عن المحبوب شائها و اعتقادك فيه سلبيا فكيف يمكنك أن تقع في هواه؟
“راغب”: لعل هذا يفسر قول بعضهم في حق سيد الخلق: أتيته و ليس شخص أبغض إلي منه و تركته و ليس شخص أحب إلي منه.
“الرومي”: نعم تغير اعتقاده في الحبيب فقفز من حضيض الكراهية إلى قمة الحب، فبقدر اعتقادك يكون حبك، و بقدر اعتقادك يكون انتفاعك، فوثق اعتقادك فيمن تحب في صديقك أو مرشدك أو شيخك تنتفع به، و أحسن ظنك بربك تجده عند حسن ظنك به.
“راغب”: أيحتاج المرء لشيخ في الحب كما يحتاج لشيخ في الفقه و شيخ في التزكية؟
“الرومي”: الحب أحلى ما في التزكية، و هو أولى بالتعليم من الفقه، فالمرء مع من أحب، فإن احتجت للشيخ في الفقه و التزكية فأنت له في الحب أحوج، و لكني أصدقك القول ليست المعضلة في الشيخ بقدر ما هي في المريد فإن أردت الحق لن يضرك أن تتعلم من الباطل، و إن طلبت الحب فلن يشينك أن تتعلم من المجنون، و إن قصدت الله فلن ينتقص منك أن يكون شيخك في لحظة ما شيطان ألم يتعلم الصاحبي من الكذوب.
أخذ "الرومي" نفسا عميقا ثم أخرجه بطيئا و قال: أيهما أقدر على تعليمك الحب الشيخ أم المحبوب ذاته؟ فاجعل محبوبك شيخك يجتمع لك البحران، و عندها يصير الحب البوصلة و الرياح.
“راغب”: إن أصبح الحب هو البوصلة و الرياح فما دوري أنا حينئذ؟
“الرومي”: دورك حينذاك أن تنصب شراعك لتجري في بحره و تمسك الدفة بكل قوتك لئلا تنحرف عن وجهتك.
“راغب”: إذاً أنا في حاجة إلى دفة و شراع لتكون لي سفينة، و السفينة تحتاج إلى بوصلة و رياح لتجري في البحر، و الحب هو البوصلة و الرياح، و الحب يحتاج إلى محبوب، فهل أبحث عن الحب أم أبحث عن المحبوب؟
التقط "الرومي" الناي كعادته كلما أراد أن يوصل لمحاوره المعني متوشحا بوشاح من التراث الثقافي الذي نشأ فيه، مصحوبا برقة الحس و جمال المشاعر، و أخذ يعزف لحنا مألوفا ثم أنشد بصوته الشجي:
على بلد المحبوب وديني
زاد وجدي والبعد كاويني
يا حبيبي انا قلبي معاك
طول ليلي سهران وياك
تتمنى عيني رؤياك
أشكي لك وأنت تواسيني
يا هنايَ لما افرح بيك
و اتهنى بقربك وأناجيك
وعينيَ تبقى في عينيك
احكي لك وانت تراعيني
أنهى "الرومي" أنشودته و وضع الناي بجانبه، و نظر إلى رفيقه و هو يجفف دمعتان جرتا من عينيه رغما عنهما، ثم قال: لن تجد الحب ما لم تجد المحبوب.
“راغب”: ليته يبحث عني كما أبحث عنه، ليته يجدني قبل أن أجده فيريحني.
“الرومي”: لعله وجدك منذ زمن و أنت لا تدري، و لن تدري أنه وجدك إلا إذا وجدته.
"راغب" و قد شعر بقرب انتهاء اللقاء: أوصني يا سيدي.
“الرومي”: وصيتي لك إذا وجدت المحبوب و طرقت بابه أن تذكر هذه القصة: قدم رجل وطرق باب صديق، فقال الصديق: من أنت أيها المفضال؟ فأجاب الرجل: «أنا» فقال الصديق: اذهب فالوقت غير ملائم، وليس للغّر مكان على مثل هذا الخِوان ! وماذا يُنضج الغرّ سوى نار الهجر والفراق؟ وأيُّ شيء (سواها) يخّلصه من النفاق؟. فذهب هذا المسكين، وقضى عاماً من السفر، فاحترق بشرر من فراق الحبيب، ونضج هذا المحترق فعاد، ودار مرة ثانية حول منزل صديقه، ثم طرق الباب بمزيد من التّهيب والأدب، حتى لا تنطلق من بين شفتيه كلمة خالية من الأدب. فهتف صديقه قائلاً: من بالباب؟ فقال الرجل: أنت بالباب، يا مليك القلوب ! فقال الصديق: الآن، ما دمت أنت أنا، فادخل يا أنا، فالدار لا تتسع لاثنين كل منهما يقول: «أنا».
“راغب”: التحلي بالأدب، و التخلي عن «أنا»، و يا لها من وصية.
شكر "راغب" "الرومي" و ودعه، و انطلق يفتش عن باب الحبيب ليطرق بابه، و بينما هو يبتعد رويدا رويدا كان يصغي إلى أنشودة "الحكيم الرومي" الأخيرة.
الله الحق الله الجمال
الله الحب الله الحنان
الله ربي و رب الأكوان
حميد مجيد رحيم منان
أهدانا حبيبه خير الأنام
رسولا كريما حميد الخصال
فصلوا عليه في كل حال
صلاة تليق بعظيم الشان
الله الخير الله الإحسان
الله النور الله الجلال
الله ربي علم القرآن
عليم قدير مجيب منان
أهدانا حبيبه نور الأكوان
بشيرا نذيرا شفيع الأنام
فصلوا عليه في كل حال
صلاة تليق بعظيم الشان
* * *