الفصل السادس
الحكيم المدني
ﻗﺎﻟﺖ جدتي:
أﻫﻞ ﺍﻟﻤﺪﻳﻨﺔ، ﻭ ﻣﻴﻦ ﺯﻳﻜﻢ ﻳﺎ أﻫﻞ ﺍﻟﻤﺪﻳﻨﺔ، ﺯﻱ ﺍﻟﻌﻴﺪ ﻭﺍﻻﻧﻮﺍﺭ ﻭﺍﻟﺰﻳﻨﺔ، ﺷﻮﻓﺘﻬﻢ ﺗﻔﺮﺡ ﺍﻟﻘﻠﺐ ﻭ ﺗﺴﻌﺪ ﺍﻟﺤﺰﻳﻨﺔ، ﻛﺮﻣﻬﻢ ﺑﺎﻟﻨﺒﻲ ﻣﻮﺻﻮﻝ، ﻭ ﻛﻼﻣﻬﻢ ﺣﻠﻮ ﻭﻣﻌﺴﻮﻝ، ﻭ ﻋﻦ ﻃﻴﺒﺘﻬﻢ ﺍﻳﺶ ﺡ ﻧﻘﻮﻝ، ﺍﻟﻄﻴبة ﻓﻴﻬﻢ أﺻﻞ ﻭأﺻﻮﻝ، ﻗﻠﺒﻬﻢ ﻟﻠﻀﻴﻒ ﻣﻔﺘﻮﺡ، ﺍﻟﺒﻴﺖ ﺑﻴﺘﻚ ﺗﺠﻲ ﻭﺗﺮﻭﺡ، ﻭ ﺍﻟﻌﻴﻦ ﺗﻔﺪﺍﻙ ﻭ ﺍﻟﻘﻠﺐ ﻭ ﺍﻟﺮﻭﺡ، ﻳﺎ ﺯﺍﻳﺮ ﺍﻟﻤﺪﻳﻨﺔ ﺍﻫﻠﻬﺎ ﺻﺮﻭﺡ، ﻟﻠﻌﻠﻢ ﻭ ﻟﻠﺴﻨﺔ ﻭﺍﻟﻔﻘﻪ ﺸﺮﻭﺡ، ﺍﻟﻜﻒ ﻣﻴﺰﺍﻥ ﻭ ﺍﻟﺨﻴﺮ ﺍﻟﻮﺍﻥ، ﻭ ﺍﻟﺒﺮﻛﺔ ﺣﺎﺻﻠﺔ ﻣﻦ ﺩﻋﻮﺓ ﺍﻟﻌﺪﻧﺎﻥ.
و الآن لنذر أهل المدينة و لنذهب إلى الحكيم المدني، أي نتركهم لنعود إليهم، لنشهد الفصل الأخير من رحلة صاحبنا "راغب الغريب"، و ما هي إلا رحلة خلف رغبة غريبة، رغبة لا ترتوي و غربة لا تنتهي.
كان الموعد "الخندق"، تلك البقعة الطاهرة التي شهدت تكالب أحزاب الشر و الكراهية و القسوة على مدينة الخير و الحب و الرحمة، و ما أحسن و أفضل و أقوم أن ينتصر الحق على الباطل، و الجمال على القبح، و الرفق على العنف، داخل نفوس البشر و خارجها، و أي نصر للحق لا يصاحبه الجمال و يلازمه الرفق هو نصر زائف، ظاهره فوز و باطنه خسر، تشهد عليه سورة العصر.
التقى الرفيقان، و أخذ "المدني" بيد صاحبه "الغريب" ليرتقي به الدرج المؤدي إلى مسجد "الفتح" على جبل "سلع"، ذلك المسجد الذي أسسه الخليفة الراشد "عمر بن عبد العزيز" في المكان الذي كان يشرق منه النبي الكريم صلى الله عليه و سلم على موقع الغزوة المباركة و فيه دعا على الأحزاب فاستجاب له القوي العزيز.
جلس الصاحبان على السور المحيط بفناء المسجد ذي المساحة الصغيرة و المطل على الجبل و المسجد الأبيض الكبير المنير المسمى بمسجد السبع مساجد و الساحة المعدة لمواقف السيارات و الحافلات، أما "الخندق" نفسه فلم يعد له اليوم أثر.
و في تلك الليلة الهادئة المقمرة، و مع تلك النسمات الرائحة الغادية، بدأ الحوار بين القلوب و العيون و الألسنة.
* * *
"راغب " بعدما حكى للحكيم قصته: هذه يا سيدي رحلتي من الإسكندرية بمصر المحروسة إلى تريم باليمن السعيد.
"المدني" بابتسامة هادئة: يحرسك الله و يسعدك يا بني.
“راغب”: وبعد الشام و اليمن ها أنا ذا قد وصلت إلى طيبة الطيبة، فماذا سأجد فيها يا ترى؟
“المدني”: اللهم بارك لنا في شامنا و يمننا، و لعلك تجد في طيبة السر المصون و الجوهر المكنون.
“راغب”: سافرت كثيرا، و بحثت كثيرا، و سألت كثيرا، و عرفت كثيرا، لكني لم أجد بغيتي.
“المدني”: نعم بحثت و فتشت، و سألت و استفسرت، و لعله قد حان الوقت لينقطع السؤال منك و يتوجه السؤال لك.
“راغب”: السؤال امتحان، و السائل في أمان و المسئول في خطر، و السائل معذور و المسئول ملوم.
“المدني”: هكذا الحياة، السائل بالأمس مسئول بالغد، و المنطلق في الحاضر موقوف في المستقبل، (و قفوهم إنهم مسئولون)، و كما تدين تدان.
“راغب”: هات يا سيدي السؤال و الله المستعان.
“المدني”: أرأيت لو أن رجلا ظمأنا ضرير العينين يبحث عن الماء، هل يصل إليه؟
“راغب”: نعم إذا وجد الدليل الذي يأخذ بيديه.
“المدني”: أليس الأجدر به والأفضل له أن يبحث عن الطبيب الذي يعالج عينيه بدلا من الدليل الذي يأخذ بيديه؟
“راغب”: بلى. صدقت يا سيدي.
“المدني”: أفرأيت إن كان لهذا الرجل أطفال صغار يحصرهم العطش و يعصرهم، و هو يبحث في الأرض و السماء و ليس معه وعاء، فكيف سيحمل لهم الماء؟
“راغب”: صدقت يا سيدي. لا ينقل الماء بغير وعاء.
“المدني”: فأين بصرك الذي ستبصر به المحبوب إن وجدته؟ وأين وعاؤك الذي ستحمل فيه الحب إن أدركته؟
أسقط في يد "راغب" و جعل يقلب كفيه و ينظر بين يديه كأنما يبحث عن شيء ما ثم قال: صحيح أين الوعاء؟
وضع "المدني" يده على صدر "راغب" و قال: قلبك بصرك و وعاؤك.
“راغب”: البعيد عن العين بعيد عن القلب، فكيف سيبصر قلبي ما لم يدركه بصري و لم تنعم به عيني؟
“المدني”: البعيد عن العين بعيد عن القلب، هذا ما تقوله أنت، أما أنا فأقول: البعيد عن القلب بعيد عن العين و إن كان شاخصا أمامها فهي في عمى عنه، إن لم يشعر القلب بوجود المحبوب فكيف سترى العين جماله؟ و إن لم يتعرف القلب على كماله فكيف ستمتلئ العين من جلاله؟
“راغب”: لقد ظننت أن العين نافذة القلب، و كثير من العاشقين و المحبين تحدثوا عن ذلك.
“المدني”: نعم قد تعشق العين قبل القلب أحيانا و قد تعشق الأذن قبل العين أحيانا، لكن الحكم في النهاية للقلب وحده إما أن يصدق ذلك العشق أو يكذبه، و قد يعشق الإنسان الذي فقد سمعه أو بصره لكن لا يعشق أبدا من مات قلبه.
“راغب”: أيعني هذا أن المحبوب قد يكون بجانبي يظلنا سقف واحد، تراه عيني و تسمعه أذني و لا يدركه قلبي !
“المدني”: بلى.
“راغب”: يا ويحي.
"المدني" مدندناً: دور عليه تلقاه.. دور عليه دور.. يا لي عينيك شايفاه و برضه بتدور.
“راغب”: و بعد كل ما كان، و بعد السفر و النصب و الترحال، و بعد السعي وراء المحبوب، و الجد في طلب الوصال، أدرك أنني صفر اليدين، خالي الوفاض، و أنه بدلا من البحث عن المحبوب و الحب كان الأجدر بي البحث عن القلب المحب.
“المدني”: إذا حصلت القلب المحب فقد حزت الحب و فزت بالمحبوب، فالحب موفور و المحبوب موجود لكن القلب مفقود.
“راغب”: و أين أجده؟
“المدني”: بين جنبيك.
“راغب”: و لماذا لا أشعر به؟
“المدني”: لأنك لا تعبأ به؟
“راغب”: كيف لا أعبأ به و لا حياة لي إلا به؟
“المدني”: لو كنت تعبأ به كنت شعرت به.
“راغب”: فمن أين أبدأ؟
“المدني”: أطل النظر فيه، و ألقِ السمع إليه، و أطعمه بالخدمة، و اسقه بالذكر، من هنا نبدأ.
“راغب”: ثم ماذا بعد؟
“المدني”: ثم تنتظر العشق.
“راغب”: الانتظار ثانية.. لطالما ظننت أن أشق الأعمال الانتظار و الاختيار.
“المدني”: نعم.. و لكن ليس في كل حين، فالصبر مر إلا الصبر الجميل.
“راغب”: و متى يأتي هذا العشق المنتظر؟
“المدني”: الساعة أو عند قيام الساعة.
“راغب”: و هكذا أصبح العشق مثل المهدي من علامات الساعة، و لكن بما سيفيد العشق إذا قامت الساعة؟
“المدني”: إذا كانت فسيلة النخل تستحق أن تغرس إذا قامت الساعة أفلا تستحق فسيلة القلب ذلك؟
"راغب" متمتما: بلى.
“المدني”: و كما سيملأ المهدي الأرض عدلا بعدما ملئت ظلما، سيملأ العشق القلب نورا بعد أن ملئ ظلمة.
“راغب”: و هذا الانتظار للمجهول ألا يعد من الخمول؟
“المدني”: العشق معلوم و ليس بمجهول، و الوصول محظور بغير الخمول، أما سمعت قول ابن عطاء –رحمه الله-: (ادفن وجودك في أرض الخمول فما نبت مما لم يدفن لا يتم نتاجه).
“راغب”: إنما قصدت السلبية.
“المدني”: عرفت ما قصدت، و لكني أحببت أن أدلك على بابين و أمنحك جوابين في نفس المسألة، و الآن أخبرني أيها الغريب الأريب: أمحمودة السلبية أم مذمومة؟
“راغب”: أحسبها مذمومة.
“المدني”: هل تستقيم حياة البشر بالفعل فقط دون الترك؟ و بالسير أبدا دون الوقف؟ و بالكلام على الدوام دون صمت؟ و هل كانت التوجيهات القرآنية للمؤمنين في مكة بكف الأيدي و إقامة الصلاة ترويضا لهم على السلبية؟ السلبية ليست دائما مرادفا للتقصير و الانهزامية، دعك من الأوهام الحداثية التي تتصور أن الإنسان هو الصانع الرئيس و الفاعل الوحيد في الأرض.
“راغب”: العديد من المفكرين طعنوا في فكرة المهدي المنتظر خوفا من التكريس للظلم و التثاقل إلى الأرض.
“المدني”: إذا تعاطى الناس بتصورات سيئة مع الأفكار الحسنة فلا يعني هذا أن علاجهم في هدم أفكارهم، من قديم أساء الناس التعامل مع قضية القدر، فجاءهم من يقول: لا قدر و الأمر أنف، أتراه كحل عيونهم أم أعمى أبصارهم؟
"راغب" مازحاً: و هل يدخل ضمن هذا قول الشاعر:
لا حاسلم بالمكتوب و لا حارضى أبات مغلوب
و حاقول للدنيا يا دنيا أنا راجع للمحبوب
"المدني" باسماً: أولاً ليس هناك تعارضاً بين التسليم بالمكتوب و عدم الرضا بالهزيمة، فنحن مطالبون بالكر بعد الفر، و لكن مع ذلك يمكن التماس العذر للشاعر، فالناس عادة يخوضون في القدر بغير علم، و يثبطون المثابرين و المجاهدين من باب الرضا بالقليل أو الاستسلام للمقادير، و ينسبون غباءهم و تقصيرهم و فشلهم بل و كفرهم أحياناً إلى ما كتبه الله عليهم، و هم لا كانوا معه – سبحانه و تعالى- حين كتب، و لا اطلعوا يوماً في اللوح المحفوظ على ما كتب، فإذا كان تقدير الكلام - لا حاسلم بالمكتوب الذي يدعيه الناس حماقة بغير علم رجما ً بالغيب – استقام المعنى.
"راغب”: لكل داء دواء يستطاب به إلا الحماقة اعيت من يداويها.
“المدني”: الخلاصة أن هناك خلط بين فكرة المهدي المنتظر و بين السلبية بمعناها المذموم و اللامبالاة تماما مثل الخلط بين التوكل و التواكل أو بين الرضا بالقدر و الاستسلام للعدو، و لذلك من وجهة نظري أرى أن فكرة المهدي المنتظر فكرة إيجابية و ليست سلبية و الكلام في هذا المعنى يطول و لكن بإيجاز أقول أن كونه منتظرا يعني أن هناك من ينتظره و الانتظار من أصعب الخيارات و أدقها و الناس في حال الانتظار عادة ما يكونون في أشد حالات الانتباه و الترقب و الاستعداد، انظر على سبيل المثال لحظة انتظار صافرة بدء السباق بالنسبة للرياضيين، أو لحظة انتظار إشارة بدء اطلاق النار بالنسبة للمقاتلين، أو لحظة انتظار أذان المغرب للصائمين، فليكن انتظارك للعشق المنتظر على هذا النحو.
"راغب" باستياء: أهذا كل الشيء؟ أهذا كل ما عندك لي يا سيدي؟ عندما نصحني الحكيم اليماني بالتوجه إليك أخبرني أنني إذا لم أجد عندك مطلبي فلن أجده عند غيرك، و ها أنا لا أجد عندك سوى – صمت برهة كأنما يبحث عن الكلمة التي تعبر عما يشعر به من البؤس و اليأس ثم قال مادا بها صوته – الانتظاااااار!
نظر إليه "المدني" نظرة طويلة عميقة ثم قال بنبرة تجمع بين الشفقة و المزاح: و ماذا كنت تنتظر؟
"راغب" منفعلا: انتظر! مرة أخرى تحدثني عن الانتظار! عقوداً من الزمان و أنا أدور في دائرة الانتظار، و عندما تفلتت مني السنين، و اقترب وقت الرحيل، و عندما أردت أن أُحرر من أسر تلك الدائرة، و قطعت الفيافي و البحار حتى وصلت إلى حكيم الزمان و علامة العصر و الأوان، لا أجد عنده سوى الإصرار على العودة إلى رق دائرة الانتظار!
“المدني”: لست بحكيم الزمان و لا بعلامة العصر و الأوان، لم أخبرك بهذا و لا أحسب أن "اليماني" قال لك هذا عني، أنا مجرد إنسان، اسمي "فلان"، و ضع بعد كلمة "فلان" نقطة، أي فلان فقط، فلان و حسب، انتهى.
“راغب”: لا استطيع الاستيعاب، ماذا تقصد؟ تريد أن تقول أنك مجرد إنسان "عادي"؟
“المدني”: نعم و لا فخر.
“راغب”: أي فخر! هذه قصة حياة مليارات البشر.. بل هذه قصة حياتي أنا شخصيا.. عشت حياة عادية، و تعلمت بطريقة عادية، و عملت بوظيفة عادية، و تزوجت امرأة عادية، و أنجبت أولادا عاديين، و بفضل نصيحتكم سأموت ميتة عادية، فما وجه الفخر في أن تكون شخصا عاديا!
“المدني”: هذا بيت القصيد، و هنا مربط الفرس، هل تبحث عن الحب لتصبح رجلا غير عادي؟ فتعلم ما لم يعلمه غيرك، و تذوق ما لم يذقه سواك، و من ثمة تثمر شجرة حياتك و تموت ميتة مشرفة؟ إن كان كذلك فخير لك ألا تجده.
“راغب”: أليس لنا أسوة حسنة في الأنبياء و الصديقين و الشهداء و الصالحين؟ ألم يكونوا جميعا من المحبين؟
"المدني ": أما عن الأنبياء عليهم السلام فأكرمهم صلى الله عليه و سلم خاطبه ربه جل و علا بقوله: (مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ۚ ) و بقوله عز وجل: (وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَىٰ إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ۖ )، فهو عليه الصلاة و السلام ما كان يرجو و ما كان يريد، لكنك ترجو و تريد، ( بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَىٰ صُحُفًا مُّنَشَّرَةً )، و أما عن الشهداء و الصالحين فتذكر أن أول من تسعر بهم الجحيم كانوا في أعين الناس من الشهداء و العلماء و القراء و الجوادين، أو بمعنى أخر كانوا غير عاديين.
“راغب”: لئن كان أول من تسعر بهم النار أناس غير عاديين فكذلك جل من يدخلون جنات النعيم، أم تريد أن تقول إن الصحابة و التابعين و تابعي التابعين كانوا بشرا عاديين!
“المدني”: غير صحيح أن جل من يدخلون الجنة غير عاديين فأكثر أهل الجنة البله كما ورد في الحديث، و أما عن الصحابة و قس عليهم التابعين و تابعي التابعين فيقال إن عدد الصحابة أربعة و عشرون و مائة ألف حجوا مع النبي صلى الله عليه و سلم حجة الوادع، فكم تعرف منهم؟ و أصحاب بيعة الرضوان الذين أبلغنا الله تعالى رضاه عنهم في سورة الفتح كانوا أربعمائة و ألف، فكم تحصي من أسمائهم؟ و من شهد بدرا من المسلمين و هم أفضل المؤمنين، كان منهم من لا نعرف عنه سوى ما يملأ أقل من نصف صفحة في كتاب، مثل "عمير بن الحمام" الذي سمع كلاما من فم حبيبه صلى الله عليه و سلم، فألقى تمرا من فمه و ركض إلى ربه بغير زاد، يعني أكثر أهل النعيم هم من الناس العاديين بل و أقل من العاديين في أعين البشر و إن كانوا عند الله ليسوا كذلك، كما قال المصطفى صلى الله عليه و سلم لزاهر: و لكنك عند الله لست بكاسد.
“راغب”: الآن فهمت، أنتم يا سيدي تشيرون إلى الفارق بين عين الله و عين الناس، فماذا عن عين النفس.
“المدني”: ذلك الخطر الكبير و الشر المستطير، إذا كنت في عين نفسك عاديا و في عين الناس غير عادي ما ضرك ذلك، إنك إذا نظرت إلى أعين الناس تعرضت لخطر الرياء، و إذا نظرت إلى عين نفسك تعرضت لأخطار العجب و العجلة و الهوى و هلم جرا.
“راغب”: و الانتظار هو ما سيجنبني تلك الأخطار؟
“المدني”: الانتظار سيدخلك في حال الافتقار و الاضطرار، و سيضعك في دائرة الاختبار و الاصطبار، فهل هذه الحال التي تريد أن تتحرر من أسرها؟ و هل تلك هي الدائرة التي ترجو أن تعتق من رقها؟
“راغب”: و إذا نظر الإنسان إلى حياته و شعر أن هناك معنى ينقصها و غيابه يجعلها حياة بلا حياة، و بدأ يبحث عن هذا المعنى و يجتهد في تحصيله، فهل يعني هذا أنه كان ينظر بعين النفس؟
“المدني”: عين النفس لا يملأها إلا التراب، لا تنظر لحياتك بعين النفس و لكن انظر لها بعين القلب ترى الحقائق، و اعلم أن عين القلب لا تنفتح إلا إذا أغمضت عين النفس.
“راغب”: و إذا غربت النفس و غابت فمن أنا حينئذ؟
“المدني”: لماذا تريد أن تضيف تعريفا لذاتك؟ لماذا تريد أن تكون راغب الباحث، أو راغب العاشق، أو راغب العارف، أو راغب البطل؟ ألا يكفي أن تكون راغبا فقط؟ أي راغب ثم نقطة انتهاء، و النقطة بالإنجليزية معناها Full stop، فلتكن راغبا Full stop.
و كأنما كانت النقطة إشارة لانتهاء الجلسة، فبعد عبارة "المدني" الأخير أخذ بيد رفيقه، و بدأ ينزل به الدرج مارا بمسجد سلمان الفارسي رضي الله عنه، ثم ساحة انتظار السيارات، ثم توجه به إلى حديقة الإمام علي في الجهة المقابلة لمسجد الفتح، و هي عبارة عن حديقة مدرجة بها بقية المساجد السبعة و منها مسجد الإمام علي رضي الله عنه و مسجد السيدة فاطمة الزهراء رضي الله عنها، و أثناء ذلك أخرج "المدني" من جيبه هاتفه الجوال و لمس أحدى الأيقونات الموجودة على شاشته فانبعث لحنا موسيقيا غريبا لم يسمعه "راغب" من قبل، و دار بينهما ما يلي من الحوار.
“المدني”: كيف تجد هذا اللحن؟
“راغب”: أجده عذبا فريدا، كأنما يأتي من أعماق البحار أو من عنان السماء أو من وسط الغابات.
“المدني”: هل رقصت من قبل؟
"راغب" مندهشا: هذا أخر سؤال كنت أتوقعه منكم يا سيدي، و الإجابة هي لم يحدث مطلقا.
“المدني”: و لما؟
“راغب”: لست أدري، ربما لم أتعلم، ربما لم أتعود، ربما أجده لا يتناسب مع شخصيتي، ربما لم أجد الرغبة.
“المدني”: و ربما نظرت بعين نفسك فوجدته لا يليق بذاتك.
“راغب”: نعم ربما.
“المدني”: و مع ذلك ترقص خمس مرات في كل يوم و ليلة.
“راغب” غاضباً: أترى الصلوات الخمس رقصا من وجهة نظرك؟
“المدني”: عند التجريد ما الرقص إلا تعبير عن بعض المعاني بحركات الأبدان، و من هذا الباب يمكنك اعتبار رفع اليدين في تكبيرة الاحرام تعبيرا عن التعظيم و الإكبار، و القيام بين يدي الرحمن تعبيرا عن الافتقار، و الركوع و السجود تجسيدا للخضوع و الخشوع، و الجلوس للتشهد يصور معنى الأنس بالله، و التسليم وداع حتى حين.
“راغب”: إذا كانت كل حركات الأجسام التي تعبر عن المعاني تعد رقصا، فشيمة الكون كله الرقص، دوران الأفلاك، و رفرفة الفراشات، و طيران الأطيار، و اهتزاز الأشجار و الأزهار، و أمواج البحار.
“المدني”: نعم يمكنك أن تدعوه رقصا أو تسبيحا.
“راغب”: إذا كان الرقص له هذا الشأن فلم لا نجده في القرآن و السنة و السيرة؟
“المدني”: ألم يبلغك أن السيدة فاطمة عليها السلام كانت تُرقِّص الحسن و تقول: (ابني شبيه بالنبي ليس شبيها بعلي). و مع ذلك اتفق معك أن اللفظ غير شائع لكن المعنى ظاهر في العبادات و المعاملات، انظر إلى طواف القلوب حول البيت العتيق و هرولة الساعين بين الميلين الأخضرين، انظر إلى رقص الحبشة بالحراب في مسجد الرسول و نشيدهم: (محمد عبد صالح) بلغتهم، انظر إلى رقص الحراب و السيوف في أيدي المجاهدين، انظر إلى رقص النوق على أصوات الحادين في قوافل المسافرين، و قوله عليه الصلاة و السلام: رفقا بالقوارير.
“راغب”: القضية ليست فقط في أن اللفظ غير شائع بل منكر و مستهجن.
“المدني”: نعم لما ارتبط به من العهر و الفحش و الدعوة إلى الرذائل، و كذلك الخمر و لكن لا يخفى عليك أن خمر الآخرة محمودة مرغوبة و خمر الدنيا مذمومة ملعونة.
“راغب”: خمر بلا سكر، و رقص بلا عهر، هل يوجد مثل ذلك إلا في جنة الخلد؟
“المدني”: كل نعيم في الجنة تجد له شبيها في الدنيا، (كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا ۙ قَالُوا هَٰذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ ۖ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا ۖ ).
“راغب”: و مع ذلك فيها ما لا عين رأت و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر؟
“المدني”: نعم. هذه الكرامة لأعلى أهل الجنة منزلا.
“راغب”: و لكني ما زلت أجد الرقص لا يناسبني، فلما؟ و ما من شيء في الكون إلا و يتحرك و في حركته معان، فلما أنا لست كذلك؟
“المدني”: هذا سؤال يستحق أن تبحث له عن جواب.
“راغب”: ساعدني في الوصول إليه.
“المدني”: كما أخبرتك أنك ربما نظرت بعين نفسك فوجدته أمرا لا يليق بذاتك، فالنظر بعين النفس إلى الذات يضخمها، و عندما تتضخم الذات تثقل بالعديد من الأثقال الوهمية، و تتكبل بالعديد من الأغلال الخيالية، و الإنسان المثقل المكبل لا يمكنه الانطلاق و التحرر، ثم غمز بعينه و أضاف: و الرقص يحب الخفة.
“راغب”: و لكن يقينا إن الكثير من الربانيين و الصديقين و العارفين و الصالحين و المحبين لم يكن في سِيَّرهم شيء من ذلك، و لم يذكر عنهم، و لم يعرفوا به.
“المدني”: ما فهمت عني يا صاح، أنا أتحدث عن رقص اللطائف لا رقص الجوارح، و اللطائف منها القلب و الروح و السر، و رقصها معناه دبيب الحياة فيها و انطلاقها، أو سباحتها و تسبيحها، أو تحررها و عشقها، و قد ينعكس هذا على الجوارح فتُطرب و تَضطرب و قد لا ينعكس فيبقى في الصدور حيث تكمن تلك اللطائف و تكون، فالإنسان جوارح و حواس و لطائف، و الحواس كلما شعرت بالجمال ذكرت الجميل، ألا ترى أنك كلما رأيت أو سمعت أو شممت أو لمست أو ذقت شيئا جميلا قلت: الله، فكذلك اللطائف و لكن من الطريق المقابل، أي كلما قالت: الله، وجدت و أحست و ذاقت الجمال.
عند هذه النقطة من الحوار كان الرفيقان قد وصلا إلى أعلى درجة في حديقة الإمام علي المدرجة، و التي تنتهي بساحة صغيرة محاطة ببعض النباتات و الأشجار القصيرة، و بعد برهة من الصمت أعاد "المدني" تشغيل اللحن العذب الفريد، ثم أخذ يتحرك بشكل يتناسب و يتناسق مع هذا اللحن، فكان يرفع قدمه اليمنى ثم يتقدم خطوة و يدق بها الأرض، ثم يؤخر القدم اليمنى و يرفع اليسرى ثم يتقدم ليدق بها الأرض في نفس الموقع، ثم يبسط ذراعيه و يدور دورة كاملة، و بعد لحظات مد يده إلى "راغب" يدعوه للمشاركة.
نظر "راغب" إلى يد "الحكيم المدني" الممدودة و تذكر يد "الحكيم الفارسي" حينما كان يدعوه إلى "الخمر"، فلم يتردد هذه المرة، و رغم شعوره بالعجز و الخجل و الحيرة و الاضطراب مد يده ليد "المدني" و تشابكت الأيدي، و بدأ يحاول تقليد حركات "المدني" و خطواته، و لكنه شعر كأن قالبا من الجليد يحيط بصدره و قيدا من الحديد يحيط بقدمه، و تمنى لو تنهمر أشعة الشمس على الجليد فيذوب و أن تنهال مطارق الحديد على القيد فيزول، و لكن الأمنيتين لم تتحققا، و لاحظ أن حركات "المدني" تلقائية و حركاته متكلفة، و خطوات "المدني" رشيقة و خطواته ثقيلة، و دوران "المدني" كان طبيعيا و دورانه كان اصطناعيا، فكف عن المحاولة، و أدرك "الحكيم" ما يعانيه فأرسل يده حتى لا يثقل عليه و استمر هو في ما بدأ فيه.
و بقدر ما كان ضيق "راغب" من فشله بالغا بقدر ما كانت سعادته بمشاهدة "المدني" فائقة، فقد كان ما يراه مدهشا حقا، فالرقصة التي يؤديها كان فيها رشاقة و خفة و مهارة لا تتناسب مع سن "الحكيم" و هيئته، و مع ذلك تقطر جمالا و وقارا و عذوبة، لا يستطيع أن يصفها، أقصى ما يمكنه قوله إنها كانت مزيجا من رقصة "زوربا" اليوناني و رقص "الدبكة" اللبناني و رقصة المولوية المنسوبة لمولانا جلال الدين الرومي، و أدرك أن هذه الخفة و تلك السرعة التي يتحرك بها "الحكيم" لا يمكن أن تكون صادرة عن جسده، و إنما هناك شيء لطيف داخل بدنه صارت له اليد العليا في تلك اللحظة.
سكت اللحن عن الشدو، و توقف "الحكيم" عن الرقص، و التقت الأعين، و ساد الصمت، ثم قطع "راغب" الصمت قائلا: ليتني استطعت.
“المدني”: لا تعجل. لكل وقت أذان.
“راغب”: و أنا في انتظار الأذان.
“المدني”: و لا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة.
“راغب”: مرحبا بالانتظار إذن.
“المدني”: يبدو أنه قد بلغتك الرسالة.
“راغب”: أجل. بلغني أيها الحكيم السعيد، ذو الرأي الرشيد، أن المثقلين المكبلين لا يصيروا عاشقين، و أن العشق يحب الحرية، و أنه إذا أمطرت السماء عشقا لم يفدك ذلك شيئا طالما لا وعاء لك، و أن غير العاديين على خطر عظيم، و أن عين النفس تنظر إلى الذات البشرية و عين القلب تنظر إلى الذات العلية.
“المدني”: و هل اكتفيت؟ أم لم يزل لك من اسمك نصيب؟
“راغب”: بل اكتفيت، و لم يبق لي من اسمي شيء، فأما الرغبة فقد طاحت، و أما الغربة فقد زالت، و العشق المنتظر يستحق أن ينتظر، فلم يبق سوى:
الانتظار.....
و الاصطبار.....
و الافتقار.....
* * *
تمت بحمد الله
في المدينة المنورة
يوم الثلاثاء الموافق
12 شوال 1436
28 يوليو 2015
المحتويات
مقدمة..............................4
الفصل الأول:
الحكيم السكندري......................11
الفصل الثاني:
الحكيم الفارسي.......................29
الفصل الثالث:
الحكيم الرومي....................... 47
الفصل الرابع:
الحكيم الشامي.......................63
الفصل الخامس:
الحكيم اليمني...................... 85
الفصل السادس:
الحكيم المدني.......................97
* * *