hindawiorg

Share to Social Media

لكن حدثشيء جعل اللوحة الجديدة والثناء الذي ستجلبه له يبدوان أمرَيْن لا طائل
كبيرًا من ورائهما؛ فذات مساء في شهر مارسبينما كانت العاصفة تضرب بقوة في الخارج
كان سكويدز جالسًا وكتاب الهجاء على الطاولة بين شمعتين، ولوح الكتابة على ركبتيه
يحاول بصعوبة بالغة كتابة كلمة ماشية كي يتمرَّن على كتابتها بطريقة صحيحة وفنية
قدر الإمكان على لوحة الرُّسوم.
فجأة توقف سكويدز عن العمل وأنصت؛ هناك قرع على الباب بالتأكيد. لم يكن
الصوت ناتجًا عن ضرب فروع شجرة البلوط للسقف. وهكذا حمل شمعة وفتح الباب،
إلا أن الرياح القوية أطفأتها هي والشمعة الموجودة على الطاولة، لكن سكويدز كان قد رأى امرأة واقفة على عتبة الباب، ومد يده وسحبها للداخل. طلب منها الصبر حتى يشعل الشمعة من جديد، لكن قبل أن يتمكن من فعل ذلك سمع خطوتها المترنِّحة، وعلم أنها سقطت.
عندما نجح سكويدز أخيرًا في توصيل الشرارة للفتيل بأصابع مرتعشة وأشعل الشمعة رأى أن المرأة قد وقعت على الأرض. كان وجهها الذي سقط عليه شعرها يعلوه الشحوب وكان الشعر متلبدًا بفعل المطر، أما عيناها نصف المفتوحتَين اللتَين تحدقان بلا وعي فبدتا له مثل أعين الموتى، في حين استند رأسها على الباب بعد أن سقطت للخلف. قرَّب سكويدز الشمعة إلى شفتيها المنفرجتين ورأى أنها ليست ميتة بل مغشيٌّ عليها، وقبل أن يعطيها العلاجات البسيطة الموجودة عنده استعادت وعيها نسبيٍّا. نهضت فيضعف، وترنحت حتى وصلت للكرسي، ثم رأى سكويدز لأول مرة أمرًا أذهله أكثر من هيئتها وهي مغشيٌّ عليها؛ لقد رأى بين ذراعيها وجه رضيع نائم تعلوه السكينة.
شربتْ كوبًا من الماء، وانطلق سكويدز يحضر لها قدحًا من الشاي، وجعله قوي
التأثير، فما لبثت أن احتسته حتى انتعشت كثيرًا.
وحثها على الاقتراب «. أنتِ مبتلة للغاية » : قال وهو يلقي بمزيد من الحطب في المدفأة
من النار. أطاعته المرأة بنوع من اللامبالاة جعلته يعتقد أنها لا يهمها ما إذا كانت مبتلة
أو جافة.
وعلى الرغم من أن سكويدز لم يلمس جسد رضيع ناعمًا من قبل قط، فقد أخذ هذا
الرضيعَ برفق من بين ذراعيها اللتين لم تقاوما، ووضعه على وسادته. لم يبتلَّ الطفل من
المطر، وغطَّاه سكويدز بعناية بلحافٍ واضعًا طرفه أسفل الوسادة. لم يستيقظ الطفل
من لمسة سكويدز غير المعتادة، وعندما نظر إلى الطفل الصغير النائم على وسادته ويديه
الممتلئتين الراقدتين بجوار خديه، أقسم على ألا يدع الطفل وأمه يغادران المنزل تلك الليلة.
«. أنت طيب، طيب جدٍّا » : راقبته المرأة وأبدتْ أولى علامات الاهتمام وقالت ببطء
وأخبرته المرأة قصة «. الصغير ملامحه جميلة لطيفة » : وكان كل ما ردَّ به سكويدز هو
غير مترابطة وطويلة تفيد بأنها فاتتها عربة الخيول وضلَّت الطريق، وتوسلت إليه أن يدعها
تستريح حتى وصول العربة التالية؛ فحثها سكويدز على الاستراحة، ووضع أمامها اللبن
والخبز. ثم ذهب إلى السندرة الصغيرة من باب مراعاة حاجة المرأة إلى تجفيف ملابسها
تمامًا. استرق السمع وهو يعد لنفسه فرشًا ارتجاليٍّا، لكن الجو كان هادئًا بالأسفل، وعندما
اطمأن أن المرأة الغريبة مستريحة خلد إلى النوم.
إنها متعبة، لأدعها » : في الصباح، طرق سكويدز الباب، ولم يجد ردٍّا. فقال لنفسه
«. تنام
لكن لم يصدر صوت من الداخل بعد فترة. عندها جازف سكويدز وطرق الباب مرةً
أخرى، ولما لم يحصل على جوابٍ فتَحَ الباب، فوجد الغرفة خالية.
وانطلق يعدُّ «. لقد غادرتْ قبل أن أصحو بوقتٍ طويل » : قال سكويدز مستنتجًا
الفطور.
وفجأة سمع ما جعله يتوقف ويقف في ذهولٍ تام. لم يتحرك إلا بعد أن سمع الصوت
ثانيةً.
جاء الصوت مرة أخرى، فرفع اللحاف برفق والْتقتْ عيناه بعينَيِ الطفل. «! ما! ما »
رفع الطفل يديه، وضحك، وقفز فوق الوسادة وأسفلها.
«! مو! مو » : قال
«. مو! مو! ماذا يعني ذلك؟ إنه يريد اللبن » : قال سكويدز
«. أظن أنه سيحبه حلوًا » : وفي لحظة سخَّن سكويدز قدحًا من اللبن، وقال في نفسه
ولذلك وضع ملعقة ممتلئة من السكر. ثم أطعم سكويدز الطفل الصغير ملعقةً ملعقة،
كما لو كان أمٍّا حنونًا، حتى أبعد الطفلُ أخيرًا الملعقة بيديه الصغيرتين الممتلئتين، ومدَّها
متعلقًا في لحية سكويدز الطويلة والناعمة بقبضة رقيقة وقوية، ثم خبأ وجهه ثم نظر
لأعلى لعينيه وضحك ولَغَا.
يبدو كما لو كان يعرفني. أعتقد أن هذا العفريت الصغير الجميل » : قال سكويدز
وسالت دمعتان من عينَي سكويدز على خد الطفل، فرفع الطفل يده «. يظن أنه يعرفني
ممازحًا، ومسح بعضالدموع وهو يتحسَّسبشرة سكويدز الخشنة وهو يلعب في سعادة.
ووجَّه سكويدز وجهه للأسفل ناظرًا للطفل، وأخذ يهدهده ويتحدث إليه برقَّةِ غريزة الأبوَّة
التي استيقظت داخله. وفي النهاية استرخت يدا الصغير، وأغمض جفنيه، وغطَّ في النوم،
ووقف سكويدز يراقبه لفترة لم يعرف كم امتدت.
وهكذا أصبح لسكويدز رفيق. لم يعلم مطلقًا لماذا تركته أمه هنا، إن كانت أمه فعلًا،
أو أين ذهبت. ومع مرور الأيام أصبح الخوف يُداخِله من أن تأتي ذات يوم وتطالب
بالطفل. لكنها لم تأتِ. ولم يعد سكويدز يفكر في لوحة تعريفات الرُّسوم الجديدة إلا
عندما يضعها أمام الطفل كطاولة يجمع عليها الألعاب الرائعة التي نحَتَها له بمطواته.
واكتشف سكويدز في وقتٍ مبكر أن الطفل يحب العجلات أكثر من أي شيءٍ آخر؛ حيث
أظهر مهارة في ترتيبها بعد أن نحتَها له.
ذات يوم وجد سكويدز الصغيرَ يحدِّق متعجبًا في كتاب ويبستر للهجاء، ورغم خوفه
من يديه الصغيرتَين الفوضويتَين، فقد ربط دفتَي الكتاب بالحبال بإحكام وسمح له باللعب
به. أطلق على الطفل اسم سبيلر الصغير، ولم ينادِه بأي اسمٍ آخر. حاول الصغير جاهدًا
فأصبح سكويدز يحب هذا الاسم الذي ،« ثيد » نطق اسم سكويدز، لكنه لم يستطع إلا قول
ينطقه الصغير أكثر من أي صوتٍ آخر.
يومًا ما » : كان سكويدز يقول للطفل عندما أصبح كبيرًا على نحو يتيح له الفهم
وكان الطفل «؟ سنحاول جاهدَين فهم هذا الكتاب، وسوف نتقنه، أليس كذلك يا سيدي
«. بلى، سنفعل يا ثيد » : الصغير يقول
عاشا على هذا النحو، يومًا بعد يوم، فكان سبيلر الصغير راضيًا، وكانت سعادة
سكويدز تجليًا لبهجة لم يكن لديه أي تصور عنها. وبعد فترة، عندما أصبح الصغير أكبر،
كان سكويدز يُجلسه على ركبتيه، وبالاستعانة بكتاب ويبستر للهجاء وبلوحٍ جديد مشترًى
من هارتفورد كانا يقومان بمهامهما.
هذا أول حروف الهجاء يا سيدي. لنرَ كيف نكتبه. خطٌّ للأسفل، ثم خط آخر »
كان سبيلر الصغير «. للأسفل، ثم خط بالعرض، وهكذا أصبح لدينا أول حروف الهجاء
ويضحك «. هذا أول حروف الهجاء يا ثيد » : يرسم الخطوط بأصابعه المترددة ويقول
سيصبح عندنا لوحة رُسوم، وبهذه الطريقة ستكون جديرة بالثناء » : سكويدز ويقول
«. بلا شك
ذات يوم تهجَّى سكويدز كلمة حصان على اللوح، وأخذ سبيلر الصغير القلم الرصاص
لا، هذا حصان » : ورسم حصانًا برأسٍ وجسمٍ مستطيلَين وأرجلٍ شديدة التعرُّج وقال
«. يا ثيد
فضحك سكويدز، وأخذ قلم الفحم وجعل سبيلر الصغير يتهجى حصان بهذه
الطريقة على اللوح بالطبشورة. ثم علق اللوحة على الحائط الموجود فوق المدفأة، وكلما
انظروا كيف يتهجى سبيلر الصغير كلمة » : جاء أحدٌ كان يشير بفخر إلى اللوحة ويقول
«! حصان. إنه طفلٌ لطيف
ولم تمضِشهور كثيرة حتى وجد سكويدز أنه يتبادل الأدوار مع الطفل، فقد أصبح
المُعلِّم طالبًا والطالبُ معلمًا؛ ولذلك أرسل سكويدز إلى هارتفورد واشترى كتاب المطالعة
الأول وكتاب الحساب، ووجدا بهجةً كبيرة في التفكير في ألغاز هذين الكتابين وحلِّها.
سبيلر الصغير، أنتَ جيد في تعلُّم الهجاء، لكنك بارع جدٍّا » : وذات يوم قال سكويدز
في تعلم الحساب، وذلك يفوق قدراتي على تعليمك؛ بعد ذلك ستقوم بالحساب والهجاء
«. نيابةً عني
كان سكويدز يدرك بلا شك أن الطفل موهوب في الرياضيات والميكانيكا على الرغم
إنه بارع جدٍّا في الحساب وماهر جدٍّا في » : من أنه لم يستطع التعبير عن ذلك إلا بقول
«. استخدام المطواة
وذات صباح عندما كان سكويدز يفتح بوابة الرُّسوم ليعبر أحدُ المسافرين، توقف
وحدَّق في المنزل على نحوٍ أدهش المسافر الذي خشي أن يكون سكويدز قد فقد عقله، أو
احتسىكمية كبيرة منشراب الروم الذي تُشتهَر به نيو إنجلاند، لكنه سمعه يقول بلهجةٍ
وأشار إلى لوحة الرُّسوم الجديدة «. انظر إلى هذا المنظر. إنها تستحق الثناء أخيرًا » : منتصرة
المدهونة بعناية والمكتوبة بهجاءٍ دقيق. ثم اندفع نحو المنزل وأحضرالولد.
هذا هو الولد الذي صنعها، دون علمي، وعلَّقها دون علمي. أليست » : قال سكويدز
«. جديرة بالثناء؟ إنه سبيلر الصغير
وعندما كبر سبيلر الصغير، بنى بمساعدة سكويدز بوابة رُسومٍ رائعةً تُفتَح وتُغلَق
تلقائيٍّا بلمسة رافعة، وذاع صيتُها، لدرجة أن المدير جاء وتعجَّب أيضًا وأثنى على الفتى
«. هذا الولد عبقري يا سكويدز بالتأكيد » : الصغير قائلًا
كان سكويدز يراقب سبيلر الصغير، خفية، كدارسٍ شغوف باللوحات الفنية، وفي
كثير من المرات كان ينهضليلًا من فراشه بهدوء، ويشعل شمعة، ويلقي نظرة انبهار على
وجه الصبي النائم.
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.