" تخاريف "
على صوت صرخاتٍ مدوية ... استيقظ الجميعُ ، صرخاتٌ تجوبُ أرجاءَ المكانِ كطبول حربٍ ضاريةٍ تندلع يومياً بداخلها ، وتعلم جيداً أنها ستخسِرها كلما اندلعت، بعد أن تقهقهر عنها جيشها مُدْبِراً، وتركها وحيدة في ساحة الدنيا.
ذاك الجيش الذي طالما أغدقته من نَعيم حُنُوها، وروته عطفها واهتمامها حتى صار كالليث الفتي، و حين قرر أن يختبرقوة أنيابه غرسها بقلبها.
هكذا كانت تُخبرنا دائماً ويومياً حين ندخل عليها لتهدئتها من تلك النوبة ، "الست خديجة"أو كما تحب أن نُناديها "ماما خديجة" ، امرأةٌ عجوزٌ رسم الزمان تجاعيد وجهها بيده ، اسْتحلّ كلَّ ما فيها فلم يُبقِ لها سوى بعض من العظم المكسُو بالجلد المجعد ، وحكاية واحدة لا تَمل من قَصّها علينا ، حكاية "سامح" ولدها الوحيد الذي تخلى عنها لإرضاء زوجته ، وأنا أيضاً لا أَمَلُّ من سماع تلك الحكاية يومياً منها ، على العكس من باقي زميلاتي .
هرولت مسرعةً لها بعدما سمعت صُراخها هذا ، دخلت عليها لأجدها كَكل يوم ، تستيقظ فتجد نفسها بغرفةٍ قاتمة، على الرغم من انتشار الإضاءة بها، إلا أنها لا ترى شيئاً– أو هكذا تصف دوماً - ، ظلام دامس يحيط بها إلا من تلك البقعة المضيئة أمام فراشها ، تلك المِرآة التي لا تُحيل ناظريها عنها طِيلة اليوم، لا تلتفت لأحد، ولا تنظر في وجه أحد حتى لو كانت تحدثه، وكأنها تتابع باهتمام سياسي مُحنك آخر ما آلت إليه الأوضاع في الحرب الروسية الأوكرانية، تتراءى أمامها بساتين الحب والود التي ظلت تغرس سنابلها طيلة عمرها، وفي غفلة من الزمن جرفها بجفاءه وقسوته، فصارت صحراء جدباء كقلبه.
- ماما خديجة ... ماما خديجة ، اهدي .. أنا جنبك أهو .
- مين ؟ أنتي مين ؟
وكعادتها تنساني ، لا أتأفف من تذكيرها إياي ، أضمها وأضع رأسها الصغير كالأطفال على كتفي ، أُربِّت على كتفها وأحاول تهدئتها قدر استطاعتي ، فتتذكرني .
- منال .. سامح مجاش يا منال ؟
- لأ يا ماما ، بس أكيد هاييجي النهاردة
- ولا اتصل ؟
- برضو لأ يا ماما
- الله يسامحها مراته ، هي السبب هي اللي قست قلبه عليا وخلته يرميني الرمية دي ، مع إني والله يا منال كنت بحبها زي بنتي بالظبط ، بنتي اللي ربنا مارزقنيش بيها.
لم أستطع الدفاع عن تلك الزوجة ، فكل ما ستقصه "ماما خديجة " أنا على درايةٍ تامةٍ به ، وعلى درايةٍ أيضاً بغضبها وحنقها من كلمات دفاعي أو محاولات تهدئتها مما ستقصه عليّ ، ولذا قررت هذه المرة أن أستمع إليها فقط .
- والله يا منال ما عملتلها حاجة ، هي اللي كانت دايماً بتزعق فيا وطول ما سامح مش موجود بتحبسني جوا أوضتي ومابتخلينيش حتى أخرج للحمام ، حتى أحفادي .. أحفادي ما كنتش باشوفهم غير لما ابني يرجع من الشغل .
وهي كانت ناصحة ، كانت أول ما يقرب سامح يرجع ، تفتحلي وتأكلني وتغيرلي هدومي ، وللأسف محدش من الولاد كان بيشوف هي بتعمل دا إزاي ؟ ، كله كان بالضرب والإهانة يا بنتي ، وأنا فضلت مستحملة وصابرة وساكتة ، بقول أهو بكرة ربنا يهديها وكفاية إني أفضل قاعدة جنب ابني .. ابني اللي ماحيلتيش غيره من الدنيا .
لحد ما جه اليوم إياه ، يوم ما ضحكت على "سامح" ، والله يا بنتي كانت قاعدة قصادي ونازلة ضرب وشتيمة فيا ، وفجأة أول ما سمعت باب الشقة بيتفتح فضلت تلطم على وشها لحد ما خدودها علمت ، ورمت نفسها على الأرض وفضلت تعيط بصوت عالي ، علشان لما يدخل سامح يلاقيها بالمنظر دا .
حاولت كالمعتاد أن أرسم ملامح الدهشة والاستنكار على وجهي ، على الرغم من علمي بأنها لن تلتفت إليّ ، ثم قامت مستندة على عضُدي ، توجَّهَت ناحية ذاك الكرسي الذي تقضي عليه بقية اليوم بعد أن تستيقظ من نومها ، ثم جلست في مواجهة النافذة المُطِلة على حديقة الدار ... تنتظر قدومه .
- طبعاً صدقها ، وصدق كل كلمة هي قالتها .. صدق عينيه وكدب قلبه ، قلبه اللي مفروض يقوله أمك ماتعملش كدا أبداً ، بس أهو بقى .. ومن ساعتها جابني ورماني هنا وماسألش عليا وكأن ... كأن أمه ماتت .
ثم أجهشت بالبكاء ، أسرعت إليها وضممتها إليّ ، ظلت تبكي وتبكي حتي هربت من مقلتيّ الدموع حزناً على حالها ، ثم فجأة توقفت عن البكاء ، صارت تجلس على الكرسي كقطعة أثاثٍ لا تقوى على الحِراك، لا يصدر منها سوى الصمت، ولا يرتسم على ملامحها سوى الألم، كعصفور طليق أصابته طلقات صياد فهوى على الأرض، جسد واهن كساق زهرة ذابلة، ساق عجزت عن توفير الحياة لأوراقها، فتشققت الأوراق كدروب وأخاديد لسنون من العمر ولَّت... ولن تعود، وتلحفت العيون بالسواد حزناً.
لا تتحرك مقلتاها من على بوابة الحديقة ، تتمنى أن تراه هناك، فتبتسم ، ثم على حين غفلة تتبدل ملامحها ، ثم تعود للحديث مرة أخرى فتقص عليّ كيف كان ذلك اليوم مريراً ، حين أتى بها إلى هنا مُمسكاً بيدها ،مُتجهاً بخطوات حثيثة نحو هذا الباب الحديدي الذي كان يُخفي عنها هذا العالم المقيت.
وعلى الرغم من حديث قلبها آنذاك، إلا أنها كذبته، وسارت بجواره كطفلةٍ مطيعةٍ غير مبالية بما ستُسفر عنه الدقائق التالية، حتى وصلا إلى تلك الحسناء التي كانت في انتظارهم.
نعم .. كنت أنا تلك الحسناء التي استقبلتها ، ولكنها لم تكن المرة الأولى التي أقابل فيها " سامح " ، أو بالأحرى " عصام " .
أدركت حينها أن القصة على مشارف نهايتها ، فجثوت على ركبتيّ أمامها وضممت يديها بيدي ،فأكملت:
- مسك إيدي بإيديه الباردة ، بص في عينيا وكأنه كان بيودعني ، كان قلبي حاسس إنه بيودعني آه وقال لي :
أوعدك يا أمي أني مش هابطل أزورك، هاجيلك كل يوم أطمن عليكي، هنا هتلاقي الاهتمام والراحة أكتر من البيت عندي .
بالفعل كانت تلك هي كلمات "عصام" ، ذاك الشاب الذي كان قد أتانا قبل هذا اليوم بأسبوع ، سأل عن الدار وخدماته والرعاية التي يكفُلها لكبار السن ، فهو يرغب بأن يُحضر سيدة عجوز تسكن في بدروم منزلهم ، امرأة تُدعى " حسنات " ، أتت من إحدى محافظات الدلتا هي وابنها سعياً للرزق ولكن القدر أبَى أن يتركَهما ، فاختطف منها ابنها "سامح" بعد شهور قليلة من استقرارهم بالقاهرة ، ومنذ ذلك الوقت يبدو أن عقلها لم يتحمل الصدمة فصار الهزيان حالها ، والتخاريف لا تُفارق حكْيها ، لذا قرر أن يأتي بها إلى هنا كي تجد من يرعاها ولا تظل وحيدة بين جدران الحزن .
*****