ابتُلي نيكولاس فانس، الطالب بجامعة هارفارد، بمعاناة ألمٍ عصبيٍّ حادٍّ، بلا انقطاع
تقريبًا، خلال الفصل الثاني من سنته النهائية. لم يُسبِّب له المرضآلامًا مُبَرِّحة في الوجه
فقط، ولكنه حرَمه أيضًا من الانتفاع بمحاضرة البروفيسور سوردتي الهامة، في المنطق
التأملي، وهي دراسة كان فانس مولعًا بها بشدة.
لو أن فانس ذهب من البداية إلى طبيب جيد، مثلما رجَته الآنسة مارجريت ستال،
لقيل له، ولا شك، إن ما ألهب وجهه هوصراعٌ عقلي، ولَنصحَه الطبيب بالتخلي عن التفكير
التأملي لبعضالوقت، والذهاب لصيد الأسماك؛ إطفاءً لهذا اللهب.
ولكن على الرغم من أن الشاب كان يحب الآنسة مارجريت ستال، أو أنه أحبها، على
الأقل، بقدر ما يمكن للمرء أن يحب شخصًا لا يهتم بالفرضيات، فلم يعِر رأيها في مسألة
الألم العصبي اهتمامًا كبيرًا. وبدلًا من استشارة عضو في كلية الطب، مؤهَّل كما ينبغي،
أسرع ذات صباح عبر الجسر، وهو يعاني ألمًا حادٍّا، ليطلب مشورة تيثامي كونكانون أسوأ
من كان يمكنه الاستعانة به في هذه الظروف.
كان تيثامي نفسه مفكِّرًا تأمليٍّا، يعيش على ارتفاع أربعة أزواج من السلالم، وكانت
نافذته الوحيدة تطل على فسحة كئيبة من الأفنية الخلفية وحبال الغسيل. وبعملية تفكير
بارعة، عرف أن النافذة كانت تُشرِف على منظرٍ رائع للغروب، لو أننا سلَّمنا فقط أن
الشمس تُشرق من جهة الغرب، وأنها تغرب في الشرق. ولأن تيثامي كان يعي، فوق ذلك،
أن الشرق والغرب مصطلحان نسبيَّان، يُستخدمان بصورة اعتباطية، وأنه ما من علة
متأصلة في الشمس أو مطلقة تجعل رحلتها من الشرق إلى الغرب، أكثر منطقية من
رحلتها من الغرب إلى الشرق؛ فقد حصل على قدرٍ كبير من المتعة من مشاهد الغروب التي
لحظها بالفعل. تلك هي مصادر المنطق التأملي.
دان تيثامي بالفضل في ثقافته إلى اسمه. قبل ميلاده بشهر واحد، مات توماس
كونكانون، الذي كان قبل ثلاثين عامًا من ذلك، يعلِّم الطلبة الجدد في جامعة هارفارد كيفية
نطق حرف الديجاما اليوناني. وبرغبة مخلصة من السيدة كونكانون، الشابة المسكينة، في
تكريم ذكرى زوجها الراحل، سمَّت الرضيع تيمُّنًا بفعلٍ يونانيٍّ كان المعلِّم يكنُّ له احترامًا
خاصٍّا، وكثيرًا ما سمعته يتحدث عن إمكاناته بحماس. حاولت أسرتها، بلا جدوى، أن
تُقنع الأم الساذجة، بأن تتخلى عن الفكرة، أو حتى أن ترضى باسم تيموثي، المقارب في
تركيبه لذلك الفعل الوثني، وإن يكن محترمًا تمامًا فيما يحيل إليه من معانٍ. لم ترضخ
ولو بمقدار أنملة، وعُمِّد تيثامي الوليد. كان حفل التعميد الغريب ذاك بمثابة بناء للطفل
وهدم له على السواء. وتحت تأثير الابتهاج الشديد بطرافة الاسم غير المقصودة، عرض
أحد أعمام والديه، وكان غنيٍّا غريب الأطوار، أن يمنح تيثامي الصغير أفضل تعليم يمكن
شراؤه بالمال، وقد أوفى بوعده على امتداد المراحل التعليمية، بدءًا من الروضة، وحتى جامعة
هايدلبرج. في الجامعة تعلَّم تيثامي الكثير من المنطق من سبيسيكارتيوس الشهير، وتعمَّق
في العلوم الميتافيزيقية على يد العلامة سوندهويتسر، حتى إنه جعل نفسه غير صالح على
الإطلاق لجميع الأعمال العملية في الحياة. عاد إلى الوطن، وسرعان ما تجادل مع عمه الخيِّر
حتى الموت، لكن ليس قبل أن يقوم السيد المسن بشطب الفتى المفكر من وصيته، والتبرع
بأملاكه كلها لوقفية ملجأ للصم والبكم.
عزيزي نيكولاس، » : حينما أطرب فانس تيثامي بملحمة ألمه الكاملة، قال له تيثامي
إنك لأسعد شخصفي مدينة بوسطن. أهنئك من أعماق قلبي. أبعد يدك عن خدك، واجلس
«. على ذلك المقعد المريح وابتهج
«. شكرًا لك، لكنني أفضِّل أن أقف » : تأوَّه فانس الذي كان يعرف حقيقة المقعد، وقال
حسنًا، قف إن كان ذلك يسعدك، ما أمكنك الوقوف. الأرضية » : قال تيثامي بمرح
تُحدثصريرًا، وصاحبة البيت، التي تهتاج بحماقة من أجل إيجار تافه، ماهرة في الإسراع
إلى هنا لدى سماعها أدنى ضجيج يُذكِّرها بحقيقة وجودي. هل قرأت كيف أنه في جبال
«؟ الألب، أحيانًا ما تتسبب نسمة هواء في انهيار ثلجي
سحقًا لصاحبة بيتك! لقد أتيت إليك باعتبارك صديقًا، لتتعاطف » : صرخ نيكولاس
«. معي، لا لتسخر مني
إذا كان لا بد من أن تدبدب كالمجنون، يا نيكولاس، فاسمح لي بأن » : تابعَ تيثامي
أقترح عليك ألا تقترب من اللوح الخشبي الثالث من جهة المدفأة. إنه بالذات ملخلخ. أكرر،
إنك لكلب محظوظ يا نيكولاس. أنا مستعد للتخلي عن عشائي أسبوعًا، نظير الحصول على
«. ألمٍ عصبيٍّ كهذا
أيمكنك أن تقدِّم لي أي شيء، أم لا؟ لا أحب انتهاج أسلوب » : سأل نيكولاس بغضب
التهديد، ولكن، أقسم بجوبيتر، إذا لم تكفَّ عن المزاح فسأطُلِق صيحةً كفيلة ببدء انهيار
«. ثلجي
انتابت رجفة ملحوظة جسد تيثامي. كان واضحًا أن التهديد لم يخلُ من تأثير. نهض
بسرعة وتأكد بنفسه من أن الباب مغلق بإحكام، ثم عاد إلى فانس، وخاطبه بأسلوب مقنع.
يا نيكولاس، لقد كنتُ جادٍّا كل الجد حين هنأتك على ألمك العصبي. إنك مفكر » : قال له
تأملي، مثلي. وعلى الرغم من أنك الآن لست في حالة ذهنيةصافية ومتزنة تمامًا، فإنك —وأنا
متأكد من ذلك — لن ترفض القياس المنطقي. دعني أطرح عليك سؤالين سقراطيين
بسيطين، وأقدم لك قياسًا منطقيٍّا واحدًا، ثم سأعطيك شيئًا سيخفف ألمك … لكن ضع في
«. اعتبارك أنني سأفعل ذلك على مضض؛ إذ سأشعر بأنني أسيء إليك يا نيكولاس
«. تبٍّا لحِسِّ العدالة لديك! إنني أقبل العرض » : صرخ نيكولاس
أجاب نيكولاس: «؟ حسنًا، أجبني عن هذا: هل تحب الكاري الهندي الحار » : قال له
«. لاشيء أفضل منه »
لكن افترضأن أحدًا عرضعليك الكاري حينما كنت أصغر بخمسعشرة سنة — في »
أثناء مرحلة الخبز والحليب، من مراحل نمو ذائقتك — هل كنت ستنال منه أي مسرَّة
«؟ تُذكر
لا، كنت سأشعر حينها بأنني ألحس الطرف الملتهب من قضيب » : أجاب نيكولاس
«. إذكاء النار
ممتاز. والآن سنمضي إلى قياسنا. ها هو: إن الأحاسيس الكريهة في الأصل، ربما »
تصبح مقبولة بقدر أو آخر، بتهذيب مناسب للحواس. الألم الجسدي كريه في الأصل. إذًا،
«. ربما يمكن جعل الألم الجسدي أيضًا، بالتهذيب الحصيف، مصدر لذة بالغة
«؟ إن ذلك لا يُخفف ألمي العصبي. ما الذي يعنيه كل ذلك على أي حال » : قال نيكولاس
«. لم أسمعك تتحدث بهذه الطريقة الفظة عن القياس من قبل » : قال تيثامي بأسف
ثم تناول إناءً صغيرًا من خزانة في الزاوية، وأخرج منه حفنة من مسحوق أبيض ناعم،
أعطى نيكولاس منها مقدار ما يغطي سنتًا نُحاسيٍّا قديمًا. فعل ذلك بتردد واضح.
تعالَ إلى هنا الليلة، في التاسعة والنصف، وسوف أريك ما يعنيه كل ذلك، » : وأضاف
«. يا صديقي الشاب