محمد حسن عبد الجابر

Share to Social Media

- 8 -
بعد أن ظهرت الرقعة الخضراء ( الزراعية ) فى ( مدينتنا ) و بدأت تتسع داخل المدينة و خارجها فى المحيط القريب منها ..
كان هذا دليلاً واضحاً على نجاح مشروع خالد لأستصلاح أراضي المدينة الصحراوية ، و مضى المشروع قدماً بخطى ثابتة نحو الأمام ..
لقد أزدهرت الزراعة فى المدينة لدرجة تحقق الأكتفاء الذاتى لها ،
فظهرت أسواقاً جديدة و زخرت الأسواق الأساسية فى المدينة
بالسلع الإستراتيجية التى لا غنى عنها ..
ساهم ذلك إلى حد ما فى التحكم فى صاروخ زيادة الأسعار الذى
تم أطلاقه و ُفقدت تماماً السيطرة عليه .. على الأقل وفرت الزراعة
بالمدينة أمكانية التحكم فى أسعار المنتجات التى يتم زراعتها
فى المدينة قبل أن يشوبها جشع الطامعين ..
بدأت مرحلة التصدير تشق طريقها فى التنفيذ .. بدأ التصدير داخلياً لمحافظات مصرية عديدة و بعد نجاح هذه المرحلة الأولية .. تم تخطيها لخوض مرحلة التصدير خارجياً ، و تم التعاقد من قبل الجهة المسئولة عن المشروع و التابعة لمجموعة رجال الأعمال ، على التصدير لبعض الدول العربية الشقيقة ..
ما تم تحقيقه فى هذا المجال فى خلال الشهور القليلة الماضية كان مذهلاً ، لقد أعتبرته الأغلبية منذ البداية درباً من دروب الخيال !
لقد أثارت هذه النجاحات ملكة الإبتكار لدى خالد و حفزت لديه رغبة التطوير و فتحت شهيته المهنية تجاه المشروع .. قرر خالد أن يتقدم بملف ورد يتناول تطوير للمشروع و أفكاراً عند تطبيقها ستساعد فى مضاعفة الأنتاج
لمواكبة مرحلة التصدير و التوسع فيها ..
يتناول ملف الورد الذى قدمه خالد للمسئولين أقتراحات تتيح تكنولوجيا التشغيل الآلي فى الزراعة .. و ذلك لتغطية المهام بشكل أسهل و أسرع و أكبر ..
فمنها على سبيل المثال لا الحصر : أستخدام الجرارات ذاتية التحكم ..
أدراج الحصادات الألية .. أدخال نظام الرى الألى ..
تم التواصل مع خالد من قبل المسئولين .. أخبروه أنهم يحترمون أهتمامه بالتطوير فى مجال تخصصه و يقدرون أفكاره ذات الأهمية و التى تضيف الكثير فى مجال الأنتاج مما يدعم أقتصاد المدينة ..
لكن أخبروه أن هذا ليس الوقت المناسب لتطبيق نظام الزراعة الحديثة و أدخال النظم التكنولوجية لأن ذلك بالطبع سيعتمد بشكل أساسى على الآلات و المعدات التى تعمل بنظام الذكاء الأصطناعى ، مما يجبرهم على الأستغناء عن عدد كبير من العاملين بهذا المشروع و هذا سينافى الغرض الأساسي من تأسيس هذا المشروع و هو العلاج و الوقاية من فيروس البطالة ..
أخبروه أنهم سيضعون مقترحاته محط أهتمام و تنفيذ
حينما تتوفر الفرصة المناسبة للتطبيق ..
*********************
كانت جميلة تجلس وحيدة فى غرفتها تعانى من الأرق و التوتر و تعيش
حالة من التخبط بعد حفلة عيد ميلادها ..
رغم توفير الجزيرى لها لكل سبل الراحة و السعادة التى تناسبها ، و قد وافق على أحتفالها بحفلة عيد ميلادها فى حضور شقيقها رغم صعوبة الموقف بالنسبة له .. كما أنه وافق أيضاً على دعوة جميلة لمحمود لحفلة عيد الميلاد و هذا كان خارج نطاق رغباته .. لكنه خالف ذلك
من أجل أرضاء أبنته و محاولة أسعادها ..
رغم كل ذلك كانت تجلس جميلة فى عيد ميلادها حزينة و قد غمرتها الحيرة بعد أن عاد كلاً من الجزيرى و محمود لأجواء عيد الميلاد و كان محمود فى حالة مريبة و يبدو و كأنه كان يقرأ فى السجلات الأكاشية و قد خيمت عليه حالة من الذهول .. أنصرف محمود من عيد الميلاد قبل أن تتمكن جميلة
من أدراك الموقف الذى وضعه فيه الجزيرى ..
أستمرت هذه الحالة التى تملكت جميلة فى عيد الميلاد حتى بعد عودتها للفيلا
و أستقرارها بغرفتها ..
حاولت جميلة مرات عديدة أرسال رسائل لمحمود عبر الماسنجر و الواتس آب لكنها كانت لا تصل .. حاولت فتح صفحة الفيس بوك الخاصة بمحمود لتعرف منها أى شئ يشبع فضولها لكن لا وصول لأى أبلكيشن أو موقع على الشبكة العنكبوتية رغم أتصال الهاتف بالأنترنت و أيضاً
لمبات الراوتر كانت جميعها مضيئة !
حاولت الأتصال بمحمود هاتفياً لكن لا توجد تغطية لشبكة الهاتف فأندهشت و حاولت من رقم أخر تابع لشبكة أخرى لكن دون جدوى أيضاً !
مرت جميلة بنفس الأحساس الذى مر به الشعب المصرى أثناء ثورة 25 يناير .. عندما أنقطع الأتصال تماماً و أصبح الشعب بلا شبكة أنترنت و بدون شبكات هواتف و خيل للجميع حينها أنهم عادوا للعصور البدائية
عصور ما قبل الحضارات ..
تعيش جميلة الأن نفس هذه اللحظات الخانقة و تعانى من الغموض الذى
كاد أن يقتلها إلى أن وصل والدها للفيلا ..
دخل الجزيرى على جميلة فى غرفتها للأطمئنان عليها لكن
وجدها فى حالة تغنى عن السؤال ..
قبل أن تخرج الكلمات من بين شفتيه بادرت جميلة و سألته :
ماذا حدث مع محمود ؟ و ما الذى يحدث معى ؟!
طمأنها الجزيرى أن كل شىء على ما يرام و تحت سيطرته و الوضع مستمر
إلى أن ينتهى الأختبار الذى وضع محمود فيه ..
ردت جميلة بوجه أصابه البلاهة : عن أى أختبار تتحدث ؟؟
فذكر لها الجزيرى الشرط الذى قيد به محمود ليثبت أنه يستحق أن يظفر بها .. لكن جميلة قد أصابها الذعر و أخبرت والدها أنه بذلك يطلب من محمود شرطاً شبه مستحيلاً ليقوم بتعجيزه حتى لا يتمكن من تنفيذه !!
أخبرها أنه يرى ما لا تشاهده هى .. ذكرها أنه والدها و أنه لا يحتاج
لأن يذكرها أنه يحبها و يخاف عليها و يريد لها مستقبلاً منيراً ..
سألته فى أسي و ما الذى أصاب الفيلا ؟ لقد فقدت الفيلا القدرة
على أستقبال الموجات و الإشارات اللاسلكية بأنواعها !
سألته و هى تكاد تصدق أى شىء يهدى ضالتها :
هل تم زراعة جهاز للتشويش على الواى فاى ؟
و هل هذا الجهاز يمتلك المقدرة على أن يؤثر أيضاً على شبكات الهواتف ؟!
طلب منها الجزيرى أن تتحلى بالصبر و الهدوء و أن تنصاع لرغباته و تنتظر حتى نهاية الأختبار الذى وضع فيه محمود , و بعد أعلان نتيجته
سينفك الحصار اللامرئى على الأجهزة اللاسلكية ..
تأكدت بذلك جميلة من الوضع البدائى الذى تعيشه أنه بفعل فاعل !
عرفت الفاعل و عرفت الفعل .. أدركت من الجزيرى أن المفعول به هو صفحة الراوتر بعد أن تعلم الجزيرى من أحد المهندسين بمراكز الصيانة كتابة هذا اللينك ( 192 . 168 . . . . ) ليتمكن من الدخول على صفحة الراوتر و ضبط الأعدادات و التحكم بها لحذف أحدى الأجهزة المتصلة بالراوتر ..
الجزيرى تمكن من تحويل الراوتر لجهاز تشويش على هاتفها فقط !
أما بالنسبة لشبكات الهاتف فقد قفذت الفكرة فى رأس الجزيرى عندما كان يصلى فى أحد مساجد الجانب الشرقى و فقد هاتفه الأتصال بالعالم الخارجى و بعد الصلاة عاد الأتصال .. عندما سأل أمام المسجد أخبره أنهم يستخدمون أجهزة تشويش على الهواتف النقالة لوضع حد للأزعاج
الذى تسببه رنات الهواتف أثناء أداء الصلوات أو الخطب ..
قام الجزيرى بتزويد فيلته بهذا الجهاز الذى يعمل على التشويش
و عدم تحكم الهواتف فى الإشارة !
هكذا سيطر الجزيرى تماماً على الوضع داخل فيلته لضمان عدم
تواصل جميلة مع محمود أثناء فترة الأختبار ، لعدم تحالفهما
للتخطيط لأى أمر آخر غير الذى أقره الجزيرى ..
*********************
تألق محمود فى مجال عمله جعله محط أعجاب لزملائه بمراكز الصيانة ..
لا سيما و أن محمود قد بدأ من لا شئ و أصبح الأن
مسئولاً عن كل شئ فى مراكز الصيانة ..
المكانة التى وصل إليها محمود فى عمله كانت هدف يسعى لتحقيقه
الكثيرين من المهندسين العاملين بمراكز صيانة ( مول المستقبل ) طامحين
بعد أن أكتشفوا فى أنفسهم الموهبة و المقدرة ، أن يتميزوا فيتألقوا مثل محمود و ينالون وقتها الترقيات التى يستحقونها ..
هذه الأجواء الساخنة جعلت من العمل فى مراكز الصيانة بيئة ملائمة
و تربة خصبة للتنافس الشريف ، و تولدت بداخل العاملين بمراكز الصيانة دوافع الإبتكار و التحرر من الأساليب التقليدية فى العمل ..
كانت محاولات أثبات الذات و تأكيد جدارة و كفاءة العاملين بمراكز الصيانة تصب جميعها فى مصلحة العمل و تندرج داخل أطار
المرحلة الأولى لتصنيع الروبوتات ..
بالفعل نجح محمود و فريق المهندسين الذين تدربوا على أساسيات التصنيع
تحت إشرافه على الأنتهاء من الطلبية الأولى و تجهيز العدد المطلوب
من الروبوتات كدفعة أولى سيتم تصديرها للخارج ..
دخلت ( مدينتنا ) على منعطف تاريخى لها بعد أن أصبحت مدينة مُنتجة ، و تطور الأمر لتصبح ( مدينتنا ) من المدن المُصدرة
سواء فى مجال الزراعة أو فى مجال الصناعة ..
عندما أخلص محمود فى عمله و عمل بدأب و لم يبخل على زملائه فى إيصال المعلومة .. كانت النتيجة فى النهاية لصالحه بعد أن أصبح لديه فريقاً محترفاً لصناعة الروبوتات يمكن فعلياً الأعتماد عليه بقيادة محمود ..
أطمئن محمود لكفاءة فريقه و كان بعد أشرافه على سير العمل و متابعة التطورات ، يعطى التعليمات اللازمة ثم يدخل مكتبه لينفرد بنفسه و هو يحاول عصر ذهنه ليمسك أى معطيات يعمل عليها فتمكنه من
أكتشاف أو أبتكار ما يمكن تقديمه للجزيرى ..
حتى بعد أنتهاء الوقت الرسمى للعمل و مغادرة المهندسين العاملين بمراكز الصيانة ، كان يمكث محمود وحيداً بمكتبه لساعات طويلة يقوم بمحاولات عديدة ليصل للغرض المطلوب ، لكن كانت محاولاته تنتهى دوماً
بالعودة لنقطة البداية مرة أخرى ..
كان محمود حائراً و هو يحاول أن يبدأ من حيث أنتهى الأخرين .. كان يبحث عن ثغرة يبدأ منها و يكمل الطريق بعد أن وصل غيره لمنتهاه .. لكن عندما كان يقلب فى أحدث الأنجازات وجد نفسه تائهاً و غارقاً فى بحر عميق .. لقد أكتشف أن إيلون ماسك كان يخطط لغزو كوكب المريخ و أعادة تأهيل الكوكب لنقل الحياة مستقبلاً على أرضه و ستكون الحياة عبارة عن ( قباب زجاجية ) .. لكن الظروف المناخية للكوكب منعته من تطبيق الفكرة بسبب شدة البرودة عليه ، ففكر إيلون ماسك فى تدفئة الكوكب و ذلك من خلال أستخدام التفجيرات النووية لأذابة القمم الجليدية لحث الكوكب الأحمر على الأحترار !!
لكن تحول الأمر لمهمة مستحيلة و فشلت هذه الخطوة .. فكر محمود هل عليه أن يكتشف حلاً جديداً لتدفئة الكوكب غير المرآة العملاقة و غير أستخدام النووى لأمكانية نقل الحياة عليه ؟
أكتشف محمود أيضاً أن رجل الأعمال جيف بيزوس منافس رجل الأعمال
إيلون ماسك سعى فى أتجاه أسهل فى مجال الفضاء و قرر
أن ينقل الحياة من كوكب الأرض لـ القمر !
يبدو أنه أستبعد المسافة بين كوكب الأرض و الكوكب الأحمر
و أستقرب المسافة بين الأرض و القمر ..
أرتفع مستوى الأدرينالين فى جسم محمود و شعر أنه لن يجد نقطة البداية و قد سبقه عباقرة لما هو أعلى من مستوى خيال الكثيرين !!
لليوم الثامن على التوالى يمكث محمود فى مكتبه لساعات طويلة بعد وقت العمل الرسمى فى محاولة للبحث عن نقطة البداية و لكنها تؤول فى النهاية لمحاولات بائسة فاشلة ، فيلملم محمود أوراقه و يكومها على مكتبه ،
و يغادر المركز و هو كاسف البال و خائب الأمل ..
*****************
كان محمود فى طريق العودة لمنزله ، لم ينتبه محمود أنه قد تخطى موقف سيارات الأجرة الذى يتجه إليه يومياً ليتخذ منه وسيلة تعيده لمنزله ..
ظل يمشى ساهماً دون وعى و تملكته نفس الحالة التى أصابته عندما عاد أول مرة مُنكس الرأس من الجانب الشرقى حاملاً ملف خبراته و قد فشل الملف فى توظفيه فى أى من مؤسسات الجانب الشرقى للمدينة ..
كان يمشى بلا عقل و كانت فسيولوجية جسده
هى التى تحركه نحو الجانب الغربى ..
و مثل ما حدث معه فى المرة الأولى عندما سمع الأذان .. دخل المسجد ليتوضأ و يصلى العشاء ، هذا هو المسجد الذى صلى فيه صلاة الجنازة و تورط فى الحوار مع زوج المتوفية الثائر ..
كان شيخ المسجد جالساً فى أحد أركان المسجد يتلو القرأن ، هو ذات الشيخ الذى كان يؤم المصليين فى صلاة الجنازة ..
أقترب منه محمود و أستأذن فى الجلوس بجانبه ، سمح له الشيخ بالجلوس
و هو يسأله : لقد رأيتك من قبل .. أين ؟
ذكره محمود بالموقف فضحك الشيخ و قال له لقد تذكرتك و أتذكر أنك كنت فى حالة نفسية مأزومة وقتها و لكنى مازلت أراك بائساً رغم التطورات التى زحفت على المدينة و المرحلة الأنتقالية التى مرت بها على
يد رجال أعمال المدينة و تبدل الأحوال !
كانت كل معرفة الشيخ بمحمود أنه الشاب الذى وقع
فى فخ الحوار مع الزوج الثائر فقط لا أكثر ..
عرض محمود للشيخ لمحات عن الضيق الذى أثقل صدره
و طلب من الشيخ النصيحة ..
أخبره الشيخ على قدر ألمامه بندرة المفردات المتاحة
أن عليه أبتكار قيم جديدة لأداء الأعمال ..
ثم حان وقت الصلاة و بعد أدائها خرج محمود من المسجد يشعر أن قلبه مطمئناً بعد أن خشع فى الصلاة .. و قرر أن يستكمل مشواره سيراً على الأقدام
نحو منزله بالجانب الغربى ..
أقترب محمود من المنزل و لكن فى طريقه كانت هناك مشاجرة فى الجانب الغربى و تطور الأمر و تجمهر المارة و تدخل المعارف و الجيران لفض الأشتباك بين أحد التجار الجشعين أصحاب المحلات و أحد الجيران
القاطن بالمنزل المواجه لهذا المحل ..
تدخل محمود لمعرفته بـ جاره الذى يتشاجر مع هذا الحيوان الأدمى ، أكتشف محمود أن سبب المشاجرة هو أقراض جاره مبلغ ثلاثة آلاف جنيه لهذا التاجر الجشع و عند مطالبة الجار للتاجر بالمبلغ تعثر التاجر فى الدفع و أجل ذلك لأكثر من مرة ، حتى أصر الجار فى هذا اليوم على أسترداد أمواله و أخبره أنه نفذ رصيد صبره و لن يقبل أى تأجيل أخر ..
تأزم الأمر و جفت الحلول حتى خرج عليهم أحد الجيران الذى كان يسعى لفض الأشتباك و أقترح على الجار أن يأخذ بالمبلغ بضاعة من محل هذا التاجر .. فرح التاجر بهذا الحل معتقداً أنه سيصرف البضاعة بالسعر المغالى الذى يضعه ، فأعترض بالطبع الجار على ذلك و أخبرهم أن موافقته على هذا الحل مشروطة بوضع ضوابط على أسعار البضائع التى سيأخذها مضطراً
من هذا المحل كـ خلاصة حق ..
مل محمود من طول المشاجرة و مماطلة المتشاجرين و سحب نفسه و تسلل لمنزله و هو ينوى عدم الأختلاط بأحد مرة أخرى و قرر الأنفراد بنفسه
فى غرفته ليختلى بأفكاره ..

*********************
هناك لوحات فنية لرسامين عالميين تبدو لكل من يشاهدها أنها مجرد شخابيط ، و لكن هذه الشخابيط تدل على معنى عميق لا يفهمه في الأغلب
إلا صاحب اللوحة الذى رسمها !
هكذا غرفة محمود كانت تبدو و كأنها مخزن للـ روبابيكيا و لا يعرف
قيمة كل قطعة فى موضعها غير صاحب الغرفة !
كان محمود يتحرك داخل الغرفة بخطوات ثقيلة و منتظمة و كأنه روبوت .. لا يدرك أحد السبب فى ذلك ، هل هو بسبب مخالطته للروبوتات فأكتسب خصائصهم أم أن حالة الصراع الفكرى التى تتفاقم داخل رأسه هى السبب فى الحالة التى هيمنت عليه ..
توجه محمود لأحدى زوايا الغرفة حيث كان يثبت سبورة كتابة بيضاء مستطيلة الشكل .. أمسك محمود بالقلم الماركر
و هم بالكتابة على السبورة ..
بدأ محمود برسم دائرة تتوسط السبورة و كتب فيها ( الهدف ) ، ثم رسم خطوطاً بدايتها يلتصق بدائرة الهدف و فى أخر كل منها دائرة فارغة ..
للوهلة الأولى يبدو محمود و كأنه يمشى على خطى الرسامين أصحاب لوحات الشخابيط .. لكن فى الواقع محمود كان يرسم خريطة ذهنية تساعده على تفريغ أفكاره المتشابكة داخل رأسه على السبورة ..
لقد أضطر محمود لأن يقرأ فى مجال الأقتصاد و السياسة و بحث فى علوم الفضاء و التكنولوجيا و راجع معظم ما أنتهى إليه العلماء من أكتشافات
و أختراعات و لم يتوصل لشئ !
بدأ محمود يملأ هذه الدوائر الفارغة التى رسمها و يكتب فيها عصارة ذهنه
و خلاصة ما توصل إليه ..
بدأ يسجل أفكاره المبعثرة داخل رأسه كما هى و كتب فى أحدى الدوائر :
الدولار الأمريكي أقوى و أبرز عملة نقدية للتداول .. و فى دائرة أخرى كتب : ربط الدولار بالذهب كمعيار له ..
و بدأ يملأ بقية الدوائر على نفس المنوال بجمل و كلمات غير مرتبطة ببعضها ..
و أستمر محمود فى تفريغ ذهنه على السبورة و ظل يكتب :
الحرب الفيتنامية للأمريكان فى الستينات و أستنزاف الدولارات .. الرئيس الفرنسى شارل و شكوكه التى دفعته بعد الحرب الفيتنامية لأرسال سفنه للولايات المتحدة الأمريكية بحجة أحتياجه للذهب الخاص بدولته .. مفاجأة الأمريكان للعالم أجمع بعد مطالبات العديد من الدول بأرسال أمريكا للذهب الخاص بهم بعد حرب فيتنام و قد قررت الولايات المتحدة الأمريكية بفصل الدولار عن الذهب عام ١٩٧١ م .. أتجهت أمريكا لحيلة و برمت أتفاقاً مع السعودية على بيع النفط بالدولار و أقنعت السعودية لأن لها ثقلها فى منظمة ( أوبك ) أن تقنع باقى الدول المصدرة للنفط أن يتم تصديره بالدولار فرجع بذلك للدولار قوته و هيبته و ظهر مصطلح البترودولار .. أستند الدولار على قوة الأقتصاد الأمريكى ..
أنتهى محمود من تدوين الأفكار المتصارعة برأسه ثم نظر لما سجلته يداه فأنتابه شعور أنه يبتعد عن هدفه لا يقترب منه ، لكنه أصر على أن يستمر و فى النهاية سيقرر ماذا سيفعل ، هل يقرأ بتمعن ما يكتبه و يستنبط منه نتيجة أيجابية أم أنه سيهشم السبورة و يحطم القلم الماركر ..
بدأ محمود يرسم دوائر جديدة تتفرع من الدائرة الأساسية
التى فى منتصف السبورة ..
و بعد أن أنتهى من قصة حياة الدولار و العملات النقدية قرر العبث مع
العملات الرقمية و بدأ يملأ الدوائر الجديدة و يكتب :
العملات الرقمية الأفتراضية المشفرة ..
فى دائرة أخرى كتب : البيتكوين أكثر العملات الرقمية المشفرة صيتاً و هى عملة لا مركزية لأنها ظهرت دون وجود بنك مركزى
و كتب فى دائرة أخرى :
تعدين البيتكوين أمر خيالى لأنه يحتاج لكمية هائلة من الطاقة الكهربائية
و أضاف فى دائرة جديدة :
ما يحويه العالم من عملة البيتكوين هو ٢١ مليون عملة بيتكوين
و كتب محمود فى دائرة تتوسط دوائر الدولار و دوائر البيتكوين :
شروط العملة أن تكون
وسيط مقبول للتداول و تكون مخزن للقيمة و أن تكون وحدة حسابية
ثم أضاف محمود جملة الشيخ فى أحدى الدوائر الفارغة المتبقية :
أبتكار قيم جديدة لأداء الأعمال ..
و لم ينس محمود أن يضع مقايضات الحاجة زكية و شبه المقايضة التى قام بها جاره مضطراً مع التاجر الجشع و سجلهما فى دائرة كبيرة ..
أنتهى محمود فألقى القلم جانباً و عاد بظهره للخلف و بدأ يشاهد السبورة التى لم تعد بيضاء نهائياً و أصبحت تبدو تماماً مثل لوحات الشخابيط المبهمة التى لا يتمكن من تفسيرها غير من رسمها !
*************
ظل محمود ينظر بثبات للسبورة و بتركيز عالي دام حوالى نصف ساعة ، و كأنه ينظر لشاشة تلفزيون و يتابع فيلماً شيقاً دون أن يحرك له ساكناً ..
ثم سحب محمود من فوق مكتبه ورقة و قلم و بدأ يدون بها بعض الملاحظات و هو ينظر للسبورة ثم يسجل فى الورقة بعض الأفكار الناتجة من ربط هذه الدوائر المرسومة على السبورة ، و ما أن أنتهى حتى تكررت نظرته و لكن هذه المرة كان يرمق الورقة حتى كادت نظراته أن تخترقها ..
فجأة هب محمود واقفاً و كأن التفاحة قد سقطت على رأسه و أنفرجت أساريره بما يدل على أنه قد وجد ضالته ..
**********
بعد مرور أسبوع ..
و بعد أختفاء محمود عن الأنظار هذا الأسبوع و قد قدم على
طلب أجازة فى العمل .. ظهر محمود فى مصنع الجزيرى و كان يجلس
فى ساحة الأستقبال فى أنتظار السماح له بدخول مكتب الجزيرى ..
ما أن عرف الجزيرى أن محمود يرغب فى مقابلته بالخارج
حتى سمح له بالدخول فوراً ..
ما أن رأه الجزيرى حتى أبتسم و قال له :
يبدو أن الزمن يعيد نفسه .. لقد كنت على نفس هذه الهيئة عندما نجحت فى تصنيع أول روبوت فى ( مدينتنا ) .. و الأن تظهر بعد غياب بمظهر يوحى بأنك بذلت مجهوداً جباراً قد أبتلع كل وقتك الماضى ..
يبدو أنك نجحت هذه المرة أيضاً ..
نطق محمود و قال له : الـ ( ايجيكوين ) !
رد الجزيرى متنمراً :
هل هذا هو الكافيه الذى كنت تجلس عليه طوال فترة أختفائك الماضية ؟!
رد محمود دون الأكتراث لتنمر الجزيرى :
الـ ( ايجيكوين ) هى عملة ( مدينتنا ) المستقبلية !
تضاعف أنتباه الجزيرى نحو محمود و قال له موبخاً :
هل فقدت صوابك فى خلوتك ؟
ماذا يمثل الـ ( ايجيكوين ) ؟!
رد محمود و كان ظاهراً عليه الأنهاك : هذه العملة سيتم طرحها للتداول فى مجتمع المدينة أولاً ، أن نالت قبول الناس سيتم أعتمادها لتكون عملة المدينة الأساسية و هى عملة تم التوصل إليها بعد إجراء عدة عمليات حسابية معقدة
ليتم حسابها على النحو التالي :
ا ( ايجيكوين ) يعادل ١٠ جنيه مصرى ..
١/٢ ( ايجيكوين ) يعادل ٥ جنيه مصرى
و تم فتح صلاحية التعديل فى المعادلة الحسابية للـ ( ايجيكوين) فى حالة زيادة الطلب على العملة أو حدوث تغيير فى قيمة العملة و ذلك لمحاولة تفادى مشكلة العملات الرقمية المشفرة الأخرى و التى تتطلب عملية تعدين للعملة و هذا يستهلك قدر هائل من الطاقة الكهربائية خارج عن قدراتنا !
يمكن من خلال التطبيق الخاص بعملة الـ ( ايجيكوين ) أحتساب التعامل فى كل المعاملات اليومية الحياتية ، فقط من يريد أمتلاك عملة الـ ( ايجيكوين) و التعامل من خلالها , عليه تحميل التطبيق الذى أنشأته و أنشاء حساب على التطبيق لأمتلاك محفظة إلكترونية يتم التحويل لها و السحب منها لعملة الـ ( ايجيكوين) طوال فترة التعامل من خلال التطبيق ..
توقف محمود عن الحديث و شهق نفساً عميقاً ثم زفره و قال للجزيرى :
هذه العملة فى طريقها للنجاح أذا دعمها رجال أعمال المدينة ..
و هذا بالطبع يستند إلى أزدهار الأقتصاد فى
( مدينتنا ) بسبب الصناعة و الزراعة
التى أصبحت عمودان راسخان لأقتصاد المدينة ..
أذا تم فرض التعامل بعملة الـ ( ايجيكوين ) فى عمليات البيع من قبل رجال أعمال المدينة لتسويق منتجاتهم سيساعد ذلك كثيراً فى
جعل العملة مقبولة التداول و سيساهم فى أنتشارها ..
كما أننا سنخطط لأن تكون عمليات تصدير الروبوتات و منتجات أراضى المدينة فيما بعد بعملة الـ ( ايجيكوين ) !
ضحك الجزيرى ضحكة مريعة و قال : كيف يقبل الغرب التعامل معنا بعملة محلية مجهولة بالإضافة إلى أنها رقمية أفتراضية ؟!
قال له محمود : كما فرض الأمريكان على العالم دعم الدولار بالنفط
و فصله عن الذهب .. قوة الأقتصاد تدعم العملة بشدة و تعززها ..
المدينة تسير نحو خطى ثابتة فى التقدم و ما وصلت إليه المدينة أقتصادياً يُمكنها من دعم عملة ( ايجيكوين ) و هى فى مراحلها الأولى ..
زادت السلع فى المدينة و أنتشرت البضائع و تقلصت الأموال فى الجانب الغربى و يلجأ المواطنين لتبديل البضائع مع بعضهما و لكن بطريقة عشوائية .. هذا التطبيق الجديد ينظم التعامل من خلال أستخدام المحفظة الألكترونية ، و يضع حد أدنى و حد أقصى لمعظم أسعار المنتجات المتاحة بالأسواق ، فيضمن بذلك وضع رقابة على الأسعار لأخفاء ظاهرة الجشع و يتيح سهولة أحتساب
حقوق كلاً من الأطراف المستخدمة لهذا التطبيق ..
قال له الجزيرى بعقلية رجل الأعمال : و ما الفائدة العائدة على رجال الأعمال
من طرحهم لمنتجاتهم بأسعار العملة الجديدة ؟
رد محمود متقمصاً دور الخبير الأقتصادى : الأستثمار فى هذه العملة ..
هذه العملة سوف يكون لها شأن كبير فقيمتها تنمو طردياً مع التطور الأقتصادى للمدينة .. و إذا طـبُقت مستقبلاً عمليات التصدير بالـ ( ايجيكوين ) فبالتأكيد سترتفع قيمة العملة و بالتالى ستتزايد ثروة رجال الأعمال من الـ ( ايجيكوين ) كلاً على حسب حجم أكتنازه من هذه العملة المستقبلية ..
رد الجزيرى بعينان شاخصتان : أنها حقاً لمغامرة !
1 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.