أنا ياسمين, لي صديقة مقربه هي مها عندما كنا صغار كنا جيران في نفس الشارع كنت أسكن في حلميه الزيتون, وهي منطقة بين مصر الجديدة ورو كسي من ناحية وعين شمس والمطرية من ناحية أخرى, شهدت هذه المناطق كثير مما حدث لنا, وكانت شاهدة على ما حدث, ولكن ليس تلك المناطق فقط, بل مناطق أخرى كثيرة في مصر. كنت أنا ومها نظن أننا ولدنا وسنعيش حياتنا كلها في هذا الحي, ولكن ما حدث كان غير هذا.
كنت أنا ومها تجمعنا الأيام أحيانا وتفرقنا أحيانا أخر ولكن ظل داخلنا حبا واحتراما كبيرا, وربما ما كان يجمعنا حقا هو اكتشاف شجرة الخلد, هذه ليست الشجرة التي حٌرم منها أدم, بل هي تلك الشجرة التي أٌمر أدم وكل بني أدم بأن يأكلوا منها, ولكنهم للأسف رفضوا. لن أتحدث كثيرا عن هذه الشجرة, لكني سأترككم تعرفوها من خلال ما حدث لي وما حدث لمها, وكذلك لتنهلوا منها قدر همتكم فهي شجرة خالدة, أُكلها دائم وظلها, كلما نهلنا منا زدنا جوعا لثمرها, وكلما نمت أكثر وأكثر.
أجمل ما في قصتنا, أن كل واحدة كانت ترى أن تجربة الأخرى هي الأصعب, وأنها لا تستطيع تحمل هذه الصعوبات , لو كانت هي بطلتها كانت لابد أن تفشل, أما تجربتها هي رغم ما تعرضت له من صعوبات فهي الأنسب لها, وكل واحدة تحمد الله على تجربتها, وتدعو الله للأخرى بأن تنجح في تجربتها.
سأحكي لكم قصة مها, لأنني أرى أنها الأروع, بالرغم من أن مها التي تجلس إلي جواري تقول لي أن قصتي أنا هي الأروع, ولكنني لن أختلف مع صديقتي المقربة مها, وسأدع لكم الحكم في النهاية.
مها, التي تزوجت زميلها في الجامعة محمود بعد قصة حب طويلة طوال أيام الجامعة فيها كان كل طرف هو فقط من يستحق أن يحبه الأخر فقد كانا يجلسان طويلا معا طوال اليوم الدراسي منذ وصولهما حتى المغادرة فيدخلون معا الجامعة ويكونان سويا في المحاضرات وبعدها حتى يغادرا الجامعة ويتواصلان تليفونيا بعد ذلك حتى تسبب ذلك في عدم وجود أصدقاء لهما وبعد التخرج من الجامعة ظلت مها ترفض الخطاب ثلاث سنوات رغم الضغوط الشديدة التي تعرضت لها من أمها وأبيها الذي كان يثور عليها كثيرا ويقول لها ستندمين ولكنها كانت تبكي وتقول بثقة, لا يمكن أن اندم بل ستعرف غدا صدقي وصدق محمود وهو ينتظر فقط أن يجمع أموال تكفي لزواجنا وسيأتي لخطبتي. الأب كان يصمت ويقول, هو لن يأتي وان جاء فلن اقبل به. ولكن بعد ثلاث سنوات كان الأب قد فقد الأمل في زواجها بعدما أصبح الجميع يعرف قصة الحب هذه ولم يعد أحد يفكر للتقدم لها فرضخ للأمر الواقع ووافق علي الزواج بمجرد أن تقدم محمود لها رغم ضعف إمكانياته المادية وفارق مستوي المعيشة الكبير بينهما. بعد الزواج استمرت قصة الحب بينهما في النمو ولكن بعد عدة سنوات اكتشفت مها الخديعة الكبرى التي كانت تعيش فيها فقد تأكدت من خيانة زوجها لها وزواجه من جارته في المسكن القديم التي كان يعيش فيه فوق سطوح احدي عمارات عين شمس حيث كانت جارته نادية قد توفي أبيها وأمها كما حدث لمحمود وتزوجها محمود وهو في الجامعة وظلت زوجته إلي الآن ولم تفهم لماذا تظاهر محمود بحبه لها؟ ولماذا تزوجها؟, فكرت في كل شيء ولكنها لم تصل إلي شيء فهي في النهاية كما تقول, فتاة مثل غيرها متوسطة الجمال والمستوي الاجتماعي وليس هناك معني حقيقي لأن يكذب محمود عليها, ويتظاهر بحبها, أصرت هي علي ترك البيت والطلاق وحاول محمود معها كثيرا ولكن دون جدوى وبينما هي تحمل حقيبتها وتغادر البيت أمسك محمود بيدها برفق شديد وجذبها إليه بهدوء ونظر في عينيها والدمع يملئها وقال لها, بحق كل الحب الذي بيننا اجلسي قليلا لأخبرك بالحقيقة كاملة فضحكت ساخرة وقالت, لم يكن بيننا حب أبدا فضحك في غيظ وقال, لا تجحدي كل الحب يا مها فالله يقول ولا تنسوا الفضل بينكم فقد كان بينا الكثير والكثير من الخير, فقالت له في غضب, ماذا تريد؟. فقال لها أن تعرفي الحقيقة حتى تأخذي القرار الصحيح ولا تندمي فقالت بغضب شديد, أ تهددني يا محمود؟, فضحك محمود وقال لها, معاذ الله هل يمكن لأي شخص أن يهدد نفسه, فضحكت وقالت له, لو كنت نفسك ما تزوجت علي. فقال لها, العكس هو الصحيح فأنني تزوجتك علي زوجتي الأولي لأني احبك فقالت له وهي تحاول إنهاء الحوار, قلت لك ماذا تريد؟. فقال لها, أن تسمعي مني حتى النهاية فقالت له, قل كل ما تريد ولكن صدقني لقد اتخذت القرار, فقال لها, إنني علي يقين أنك ستغيرين رأيك عندما تعرفي الحقيقة فنظرت إليه وعيناها تقول له لا أظن.
امسك بيدها وأجلسها أمامه وقال لها, الحكاية طويلة بدأت حينما توفي والداي الواحد تلو الأخر , لقد كنا عائلة مستورة وليس لي أخوة كما تعرفي ولكن بعد وفاة والدي وهو صغير السن فترك لي معاش لا يكفي أي شيء نادية كانت تسكن في غرفة فوق السطح, كانت فتاة مسكينة ظروفها تشبهني كثيرا فقد توفي والديها وتزوجت أختها الأكبر وتركتها لوحدها وكانت بلا دخل تقريبا فتعلمت الحياكة وكانت تربح منها قليل جدا نظرا لفقر المنطقة, مع الوقت تعرفت عليها شيئا فشيئا ولم أحبها ولكنها أحبتني كما قالت لي بعد ذلك وساءت الأوضاع المعيشية لكلانا مع الوقت ففي الجامعة لم يرحمنا الأساتذة من شراء كتبهم الغالية بالإضافة إلي مصاريف المواصلات للجامعة ومصاريف الحياة الأخرى وكذلك كان الأمر بالنسبة لها فقد ضاقت علي الحياة, شكوت لأحد الجيران وهو الحاج عبده ضيق الحال فقال لي وهو يبتسم لعله خير فقلت له, ماذا تقصد؟. فقال لي, كثر الكلام في الحي عنك وعن نادية وجاءت هي لزوجتي لتشتكي ضيق الحال كما جاءت أنت, أخذني الذهول وقلت له في آسي, ولكن يعلم الله أنه ليس بيني وبينها أي شيء وحتى أنني لا أنظر إليها حين ألقاها بل القي السلام عليها وأغادر سريعا حتى أنني لا أنتظر جوابها, فقال لي وهو يبتسم, رب ضارة نافعة, أنني أثق أنه لم يكن بينكم أي شيء يغضب الله ولكن الكلام كثير وهي فتاة مسكينة أنت لا ترضي لها الضرر وقد جعل الله ضيق الحال عليكما حلا لكما فعندما تتزوجها سيكون لكما بيت واحد ونفقات البيت تقل علي كليكما فهي فتاة تحسن التدبير فقلت له وأنا لا اصدق ما قال, كيف هذا؟. فقال لي, ليس أمامك أمر أخر غير ذلك لقد كنت أنا سآتي إليك لأتحدث إليك ولكن الله أرسلك إلي. ظللت مندهشا لا أتكلم فاستمر هو يقول, استرها ستر الله عرضك يا بني فأنا صديق قديم لوالدك ولا أتمني لك إلا الخير وأنت تعرف ذلك جيدا, قلت له, ولكنني أحب فتاة أخري في الجامعة وارغب في الزواج بها فقال لي في ترجي, تزوج نادية ولو لفترة صغيرة حتى تهدأ الأمور ثم طلقها بعد ذلك وهي لن تغضب من ذلك. لم أعرف ماذا أقول له فاستمر في حديثه وقال, زوج أخت نادية المعلم منصور اقسم بالله أن يطلق زوجته نرجس ويلقي بها وأبناءها في الشارع عندما علم بالأمر, فافعل ما يرضي ضميرك وأنا علي ثقة من أنك ستوافق. قمت من عنده وصعدت للدرج فقابلت نادية فقالت لي وهي تبكي وتمسك بيد أبناء أختها الصغار وهم يبكون أيضا, أرجوك وافق علي الزواج بشكل مؤقت وبعد ذلك طلقني حين تشاء, تركتها ودخلت البيت ونمت وأنا لا أعرف ماذا افعل فجاءني أبي وهو مقيد من رقبته فقلت, ماذا بك يا أبي؟. فقال لي وهو حزين لقد كنت سعيدا في الجنة حتى قيل ما قيل عنك وعن الفتاة ثم تركني وهو يبكي, فعزمت علي الزواج من هذه الفتاة لأخرج أبي مما هو فيه, وتزوجتها واتفقت معها أنه زواج مؤقت لإسكات الناس فقط وبدون أن تطلبي مني إي علاقة حقيقية بيننا فقالت وهي حزينة, تدفن دمعة في عيناها, لا تخاف لن أرغمك علي شيء ووجدت في عينيها حبا دفينا. ظللت معها عدة أشهر دون أن ألمسها وقد برهنت لي عن حب لا يوصف فرفقت بها وأخذني الحياء تجاهها فبفضلها وفرنا الكثير وكانت تشتري كل ما نحتاج بتدبير شديد وأصبحت أقدر علي شراء الكتب ومصاريف الدراسة وكانت ولا أستطيع أن أخفي ذلك تساعدني من دون علمي في هذا الوقت فقد أصبحت أكثر شهرة في مجال الحياكة وزاد رزقها وعملت انأ أيضا ضابط أمن في أحدي الشركات عن طريق احدي زبائنها ثم في الحسابات براتب جيد وأصبحنا اقتصاديا في وضع أفضل ولكن دون أن نكون زوجان بالمعني الحرفي, لقد كانت تحاول أحيانا أن تتقرب مني ولكني كنت اشعر بأن ذلك خيانة لك ولكنني كنت أرفق بها واشعر بالذنب وبالرغم من أن أمي زارتني في المنام وأوصتني بها وقالت لي أن قلبها أبيض وأنها تعشقني عشقا لا مثيل له بين البشر ولكنني لم استطيع أن أكون زوجها كما تريد أمي وكما أوصتني ولكن كل أفعال نادية أكدت لي حبا لم أشعر مثله حتى من ناحيتك وأصبح البيت الجديد الذي سكنا فيه فردوسا حقيقيا فقد ظهر ذوقها الأنيق بل وجمالها فقد اشترت ملابس أنيقة وظهرت كسيدة مجتمع أنيقة واهتمت بجمالها حتى بدت في جمال لم يكن ألحظه من قبل ولا أصدق أنها كانت بهذا الجمال من قبل وأصبحت أكثر إثارة وأناقة وفي ليلة باردة جلست إلي جانبي ثم مالت برأسها علي كتفي وقالت لي همسا في أذني بصوت رقيق حبيبي, أنا في حاجة اليك وان كنت أنت ليست في حاجة إلي فلا تكسر قلب أحبك حبا مستعد للتضحية بكل شيء من أجلك, لم استطيع مقاومة هذا الكم العظيم من الحب وكان بيننا أول علاقة, نظرت مها له وهي تبكي وقالت, لقد خنتني, فقال لها محمود هذا رأيك أما هي فقالت لي كلمة هزتني كثيرا, أنني اعلم أنك تحب مها حبا شديدا وأنا لن أطلب منك ألا تحبها بل أنني اعلم أن الحب ليس بأيدينا فقدت أحببتك منذ رأيتك ولم أكن أظن الله سيجمعني بك أبدا ومع ذلك كنت أدعو وأنني ارضي منك بأي شيء وسأطلب منك شيء بسيط أنني اعلم أن حب مها قد مليء قلبك ولكن ليكن لي ولو نقطة سأكون سعيدة بذلك, وبالرغم من شفقتي بها وبالرغم من أنني أحببتها بمقدار هذه النقطة التي طلبتها فقد فكرت في طلاقها ولكن حدث ما لم أكن أتوقع وما لم أفهم في وقتها فقد حملت نادية من تلك الليلة كأنها كانت تنتظر لقاء واحد عابر حتى يحدث هذا الحمل. جلست صامتا طويلا فاقتربت مني ووضعت رأسها علي صدري وقالت لي, كنت أعلم أنك تفكر أن تطلقني وما كنت سأعترض ولكن أرادة الله كانت غير ذلك فارضي بما أراده الله لأنك لا تفهم أين يكون الخير أبدا وقالت وهي تبتسم سعيدة بما حدث, إن الله كريم معي لدرجة لا أصدقها فقد أراد أن يعطيني جزء منك في جسمي كم أنت كريم يا ربي ثم بكت بكاء سعادة ممزوج بالحزن. تغير كل شيء وأصبح الأمر أكثر صعوبة ولم يكن يمكنني أن اتركها هي و أبني الذي في بطنها إنني لا يمكني أن أفعل ذلك وأكون نذلا.
قالت مها في غضب شديد, لا أريد أن اسمع أكثر من ذلك فلا معني لما تقول لقد خنتني,فقال محمود بهدوء, اسمعي حتى النهاية كما اتفقنا فقالت له مها, الجواب يبان من عنوانه والموضوع واضح لقد أحببتها وأكملت معها الحياة ولكني لم أفهم لماذا تزوجتني؟ ما دام لك زوجة تحبها وتحبك ولك منها أبناء, قاطعها محمود وقال لها, انتظري حتى النهاية ثم أردف قائلا ومع ذلك استمر قلبي بين نار أن اتركها أو أستمر معها حتى وصلت أبنتي مها, شهقت مها وقالت سميتها مها, كيف وافقت هي؟ , ابتسم محمود وقال لها, عندما رأيت أبنتي لأول مرة أحسست بإحساس جديد لقد أصبحت أب انه إحساس رائع لم أتخيله أبدا وأخذت أقبلها بعنف شديد فأمسكتها نادية وهي لا تقدر أن تأخذها من يدي وقالت لي وهي سعيدة والدمع في عينيها بالراحة عليها يا محمود أنك ستأكلها, يا ليت لي بقبلات مثلها ثم صمتت قليلا وقالت هل اخترت لها اسما؟. ظللت صامتا قليلا وأنا أنظر إلي أبنتي فقالت نادية وهي تنظر لي وكأنها قرأت أفكاري ليكن ما تريد سنسميها مها. نظر محمود لمها فوجدها مذهولة ولكنها حاولت سريعا أن تخفي ذلك فابتسم محمود وقال لها لقد حدث لي ما حدث لك فقالت مها وهي تخفي ضحكة, لم يحدث لي شيء, فنظر لها وهو يضحك ثم أكمل حديثه, أصبح قلبي معلق بابنتي مها وبمها الكبيرة وقد احتلت مها الصغيرة جزء كبيرا من قلبي ولكن من غير أن ينقص من حبي لك شيء بل أكثر من ذلك ومن دون أن تغضبي زاد حبي لنادية ومع طفلتي الثانية التي أصررت علي تسميتها نادية وجدت لها في قلبي حبا كبيرا أيضا من دون أن يقل حبي لأختها مها ولا لك بل وزاد حبي لنادية وعرفت وقتها أن حبي لشخص ما لا يؤثر علي حبي للأخر خاصة تجاه بناتي فحبي لمها لا حدود له كذلك حبي لنادية لا حدود له ومع ذلك كان كل حب لا يؤثر علي الأخر وكأن قلبي وقتها قد اتسع لحب الناس كلهم فزاد حبي لزوجتي نادية ولكن من دون أن ينقص حبي لك وكان هذا غريبا بل شعرت أنني احبك أكثر, وفهمت وقتها أن الحب يجلب الحب وأن الكراهية تجلب الكراهية وأن القلب يستطيع أن يحب حبي لا منتهي لشخص ما ومع ذلك يظل يحب الآخرين حبا لا منتهي له أيضا, بل كلما أحببت حبا أكبر لشخص ما فهذا الحب يعطيك قدرة جديدة علي حب شخص أخر حبا لا منتهي أيضا وهذا الحب يعطيك قدرة جديدة لحب أخر لا منتهي وعرفت أن الحب كأنه شجرة وافرة الفروع كلما أخذت فرعا منه نمي مكانه فروع كثيرة أكبر وأعظم, لذلك استمر حبي لك وكان يزداد يوما بعد يوم كلما زاد حبي لابنتي ولنادية أمهما ولذلك تزوجتك ولم تشعري يوما أبدا أن حبي لك يقل بل يزداد يوما بعد يوم وسيظل يزداد وعرفت الحكمة من زواجي من نادية فقد علمتني الحب الصافي الذي لا ينفذ والذي ينهي أي قطرة من الكراهية في القلب وكان الأمر العجيب فلم يكن لي منك أولاد وكنت حزين لأنك لم تحظي بابن وكنت أنا أتمني أن يكون لي منك ولد ولكن أرادة الله فوق كل شيء ولذلك أنا لست حزين لأنك عرفت الحقيقة ولقد تمنيت ذلك وأكثر من ذلك أتمني أن تفهمي معني الحب الصافي وتنخرطي معي ومع نادية ومع ابنتي في هذا الحب ليعوضك الله عما لم يعطك لتجديه في نادية ومها.
نظرت مها له في تعجب وقالت له تريدني أن أصدق هذا الجنان الذي تحكيه هذا نوع من التخريف لقد خنتني وضحكت علي ولن أبقي معك ولو دقيقة واحدة ثم حملت حقيبتها وخرجت مسرعة من البيت وهي تبكي, بينما وقف محمود هادئا وقال لها, حاولي أن تفكري فيما قلت لك وأعلمي أنك إذا وجدت الحب الصافي ستحظي براحة عظيمة.
عندما تركت مها بيتها في عين شمس وركبت سيارة الأجرة متجهة لبيت أبيها في حلمية الزيتون, أخذت تفكر في كل ما حدث لها وكيف انهار حبها وبيتها في لحظة واحدة وأخذت الدموع تنهمر من عينيها وبالرغم من أن السائق كان ينظر لها في المرآة ولكنها لم تعيره انتباها فقد غطي ما هي فيها علي أي شعور بالخجل أو الاهتمام برأي الأخر فيها ولكنها بدأت تفكر فيما سيكون موقف أهلها خاصة أبيها وأمها وهي التي كانت تحكي لهما دائما عن الحب الذي يجمع بينهما وعندما كانت أمها تتحدث إليها عن قلقها من أن يتزوج عليها محمود لأجل الأولاد كانت مها تضحك في سخرية وتقول بثقة, أن هذا لن يحدث أبدا فزوجي يحبني بجنون ولا يعادلني بأي شيء حتى الولد.
أما خوفها الأكبر فكان من أبيها الذي كان لا يحب محمود ويراه أنه كان السبب في انكساره أمامه عند طلب الزواج من مها بل وأمام أخوته وأقاربه والجيران. بل أكثر من ذلك فانه كان لا يراه كفأ لمها والأهم أنه كان يراه شاب سيء انتهازي. وقفت مها أمام الباب كثيرا ويدها ترتجف ولا تقدر علي دق الجرس وحاولت استجماع قوتها أكثر من مرة ولكنها لم تقدر حتى رأت طيفا من وراء زجاج الباب عرفت أنه أمها تفتح الباب فحاولت مسح دموعها ولكنها انهارت حين فتحت الأم الباب وارتمت في حضنها تبكي.
في البداية لم يتحدث أحد إليها ولكن كانت العيون تفضح الجميع, وظلت مها تبكي علي حالها وتقول يا رب لما كل هذا؟, كانت حياتي سعيدة ولكنك تركتها تتعكر بل وتتدمر. ليتني أفهم سبب كل هذا, أنا حزينة لأنك فعلت هذا بي, لم أكن أظن أنك سترضى لي هذا المصير.
بعد عدة أيام بدأت أمها سلوى تتحدث معها بحذر في الأمر وكانت أحيانا تقول لها عليك أن تقبلي بالأمر وترضي به وأحيانا تقول لا ترجعي أبدا إليه, ولكن مع الوقت قالت لها, لقد أخطأت حين صمميتي علي الزواج به, كنا نعلم أنه غير مناسب لك, حزنت مها حين سمعت هذا الحديث وكانت تعلم أن هذا هو رأي أبيها وليس أمها وشعرت أنها عبأ كبيرا علي عائلتها وزاد ذلك من إحساسها بالاكتئاب حتى همت أن تنتحر للتخلص من كل ما تشعر به. ولكن حدث شيء غير كل هذا.
دق جرس الباب في الساعة السابعة مساء ولم تهتم مها بالأمر ولكن الطرق استمر علي فترات دليل علي حياء الشخص الذي علي الباب, انتظرت أن يفتح أحد الباب ولكن دون جدوى فشعرت بالرأفة بالشخص الذي علي الباب فقالت لعله طالب حاجة فتحركت ببطء حتى فتح الباب ثم تسمرت أمامه هي لم تكن تعرف الواقف علي الباب ولكنها شعرت كأنها رأتها أو تعرفها ولكن وجهها كأنها نجمة سينما أو ما شابة وهي أجمل أمرآة رأتها في حياتها وكانت علي يقين أنها رأتها من قبل ولكن أين؟, طلبت السيدة الأذن بالدخول فسمحت لها مها وهي مازالت متعجبة من هذه المرأة, جلست المرأة بهدوء وثقة وقالت لمها كيف حالك يا مها؟. صمتت مها برهة ثم قالت وهي تتفرس وجهها هل تعرفيني يا سيدتي؟. قالت المرأة وهي تبتسم بحذر, نعم وجيدا, نظرت مها إليها وقالت ولكني لا أعرفك, فتبسمت المرأة وقالت لها, بل تعرفيني جيدا, ظلت مها تتفرس في وجهها ولكن دون جدوى, ولكنها شعرت تجاهها بأحاسيس متناقض من الكراهية والحب ثم تفرست مرة أخري في وجهها وقالت, أنا لا أعرفك, فتبسمت المرأة وقالت بهدوء, أنا نادية يا مها ثم لاذت بالصمت, أخذت الدهشة مها وشهقت ثم قالت لنادية, كم أنت جريئة كيف تأتي إلي هنا هل تعلمي ماذا يمكن أن أفعل بك؟. تبسمت لها نادية وقالت, ماذا ستفعلين؟. قالت مها وقد استشاطت غيظا, سأقتلك, زادت ابتسامة نادية وقالت لها, إن القتل لن يغير شيء بل الحب, قهقهت مها وقالت, لست أعرف لما تتحدثون عن الحب كثيرا بينما أفعالكم عكس ذلك, فردت نادية بهدوء وقالت لها, من أجل الحب جاءت إليك, وثقي أنني سأفعل أي شيء تريديه؟.
ضحكت مها وقالت, منك أنت؟ لا أريد شيء طبعا, قالت نادية ومازلت تظهر الهدوء, ولكنني أنا أريد منك, وشيء واحد أن تعودي لزوجك الذي يحبك.
ظهر التجهم على وجه مها وقالت, لو كان يحبني ما خانني أبدا, ولست أعرف لماذا أرسلك؟.
ضحكت نادية وقالت, ولكنه لم يرسلني, أنا أتيت من دون علمه لأنني شعرت بألم قلبه ولا أستطيع أن أراه كذلك , ثقي أنني سأفعل كل ما تريدي ومهما طلبت منك لأسعده.
قالت مها وهي تضحك, أي شيء مهما كان حتى لو قلت لك أن تتركيه لي.
قالت نادية بهدوء, نعم ولو طلبت أكثر من ذلك, إن الحبيب يظل يستمتع بالحبيب وبالحب حتى وان كان الحبيب بعيدا بل ربما يعطي معني جديد للحب.
ضحكت مها بسخرية وقالت إما أنك ساذجة وإما أنك مجنونه فقالت نادية وهي تبتسم, بل أحب ولو أن الحب لمس قلبك لشعرت بما اشعر به, ضحكت مها وقالت والدمع يظهر جليا في عينيها, لقد أحببت محمود حبا أنت لم ولن تشعري به أبدا, ضحكت نادية وقالت, والله الذي لا اله إلا هو أنك لم ولن تعرفي الحب من قريب ولا بعيد, لو عرفت الحب ما جرحت أحد خاصة محمود الذي يحبك حبا صافيا بلا حدود, أنك لا تعرفي ماذا فعلت به؟, انه حزين لفراقك له وأكثر من ذلك أنه أكتشف أنك لا تحبيه بعد طول العشرة وبعد ما قدمه لك من الحب الذي كان يغطي حياتكما كلها, لقد قال وهو يمسك برأسه و يعصب عينيه, كيف لا يقابل الحب بالحب؟. كيف يمكن لإنسان أن يعيش في جنة الحب بدون أن يشعر بما هو فيه؟, كم هذا القلب مغلق, أنه حزين لقد خذلتيه, ضحكت مها بكل قوة وقالت ساخرة, أنكما لا شك مجنونان, ولما تظنون أنني يجب أن أعود إليه, قالت نادية بثقة, لأنه يحبك ويحب أن يراك سعيدة حين يختلج قلبك الحب ثم يملئه قليلا فقليلا حتى يكون الحب هو كل ما في القلب دون كراهية فتشعري بمتعة الحب الصافي, أبدت مها غضبها وقالت لها, ماذا تريدي من الأخر؟, قالت نادية, سأعرض عليك ما أريد بهدوء وعليك أن تسمحي لي بان أتكلم بحرية حتى النهاية دون أن تقاطعيني أبدا مهما قلت, أن آفة البشر التسرع وعدم التفكير الجيد في الأمور, قالت مها وهي تشعر أن كلامها لن يغير شيء ولكن احتراما لأنها في بيتها , ليكن.
شكرتها نادية ثم أردفت قائله, لست أعرف ماذا قال لك محمود بالضبط ولكننني سأقول لك من يخصني, لقد أحببت محمود منذ وقع نظري عليه فقد كنت أحلم به قبل أن أراه ولكنني شعرت أنه لا يعيرني انتباها وشعرت انه يحب فتاة أخري ولكن قلبي ظل معلق به وكنت أدعو الله رغم أنني أعلم أن الأمر صعب ولكنني لم أفقد الأمل أبدا ولكنني لم اعرف كيف سيدبرها الله ودعوته في لحظة صفاء أن يجمعني الله به دون أن يجرح قلبه أو قلب من يحب ثم قلت, يا رب لو كان لابد من جرح قلب فليكن قلبي أنا وليس قلب احدهما وخير لي أن أعيش بقلب يحب بعيد عن حبيبه من أن تجرح قلب غيري أعلم أن الأمر صعب ولكنني أعلم أيضا أنك علي كل شيء قدير ثم نمت في هذه الليلة ودموعي تملئ خدي ولساني وقلبي يلهج بالدعاء لكما, حتى دون أن أعرفك أنه دعاء بظاهر الغيب. نظرت نادية لمها فوجدت بعض التأثير في وجهها فابتسمت بينما شعرت مها بما شعرت به نادية فتجهم وجهها واخفت سريعا ما كانت تشعر به بينما استمرت نادية مبتسمة وأكملت حديثها, كان محمود يتجاهلني وقد جرح ذلك قلبي وكنت أتمني أن أقول له أنني احبك, ولا أنتظر أي شيء مقابل ذلك ولكنني لم أملك الجرأة وكنت أتعجب لماذا لا يقول كل محب لحبيبه أنه يحبه لماذا تخشي أن ننطق بهذه الكلمة, لماذا تنتظر أن يقول المحب بعد كلمة أحبك شيء أخر, إن الحب في حد ذاته غاية بل أسمى غاية التي تغني عن كل شيء أخر, إن إحساسي أنني أحبه من غير علمه يجعلني اشعر أنني افعل شيء خطأ, شيء سري والحب لا يمكن أن يكون سر لقد فضح كل حبيب حبيبه من عنترة إلي قيس لأنهم فهموا ذلك رغم ما تعرضوا له بعد ذلك, وكذلك كان الذين أحبوا الله صدعوا بقصائد في العشق الإلهي اتهموا فيها بالكفر وغالبا كانوا يقتلون لأن الناس كانوا يرفضون أن يقبلوا هذا النوع من الحب الصافي.
قاطعتها مها قائلة باستهزاء, تبدين مثقفة, فقالت نادية بهدوء وثقة ليس لأنني فقيرة يعني أنني لست مثقفة ولا يعني أيضا أنني لا قلب يشعر بالحب ويفهمه جيدا.
قالت مها في خجل, إنني أسفه ولكنك تبدين علي دراية كبيرة ومستوي تعليمي عالي, ضحت نادية وقالت أنني حصلت علي بكالليوس تجارة بعد زواجي من محمود وهذه قصة طويلة من الكفاح نحن في غني عنها الآن ولكن الحب يحتاج أحساس وليس تعليم, لنعود إلي ما كنا نتحدث عنه بعد ذلك حدث ما لم يكن أتوقعه فدار حديث بين الناس عن علاقة بيني وبين محمود, بالرغم من حزني الشديد من ذلك فقد ظللت ليالي طويلة ابكي ولكني قلت في نفسي لعله خير ومن المؤكد أن الله له حكمة من ذلك وانتظرت أن أعرف الحكمة.
ضحكت مها وقالت لها, ربما أنت من فعل ذلك, فضحكت نادية وقالت, سامحك الله هل لو كنت مكاني كنت ستفعلين ذلك, نظرت لها مها وقالت, بالطبع لا ولكن الناس تختلف في فكرها, فنظرت لها نادية وقالت بثقة, لماذا أنا أفعل ذلك ولي رب يدبر لي هو كل شيء, فالله هو من يحسن التدبير لذلك فأنا أسلم أمري له واثقة انه سيدبر لي الأمر بأفضل آلاف المرات من تدبيري, وهذا هو حسن الظن بالله, فمهما كانت المصيبة يكون الأيمان بأن الله يريد لي الخير, وهذا هو الثقة في الله, ويأتي معها الرضا بالقضاء والصبر علي المصيبة. بعد ذلك تزوجت من محمود وكان كالعذراء في خدرها, كان فهمي للحب يختلف عن فهمه له فأنا أري أن الحب لشخص ما يزيد من الحب للأخر وكنت أؤمن أنه لو أحبني حبا حقيقا فان حبه لك سيزداد ولن يقل, أما هو ففي هذه اللحظة يري أنه لو أحبني فانه لن يحبك. حاولت أن أبرهن له بطرق عديدة وفي ليلة الزفاف نام هو علي كنبة صغيرة ونمت أنا علي السرير ودعوته للنوم علي السرير ولكنه رفض ولكنني كنت سعيدة فقد نام معي في غرفة واحدة وشعرت بمعني قرب الحبيب وحمدت الله علي هذه النعمة ولكنني كنت مصرة علي أن أثبت نظريتي في الحب الصافي, تحدثت إليه كثيرا عن مفهومي في الحب وصارحته في أول ليلة بحبي له, وأنني في المقابل لن أطلب منه شيء أكثر من هذا وأنني سعيدة بالحياة بالقرب منه وأنني أحمد الله علي ذلك, فنظر لي نظرة فهمت منها أنه بدء يقبل كلامي واقتربت منه حتى تلامسنا ووضعت يدي علي شعره وأنا يكاد نفسي أن ينقطع ثم تنهدت وأنا في غاية السعادة فقال لي أنني لأفهم ما تقوليه لي ولكنك أعدك أن أفعل أي شيء لإسعادك ألا أن أخون مها, ضحكت وقلت له لو أحسست بما أحس به فلن تقول أبدا أنك ستخونها.
مضت عدة ليالي قدمت له فيها كل شيء بالحب وخدمته خدمة الأحباء وبدء يشعر بي فالقلوب لا يمكن أن تتجاهل أحساس الحب, لكنه أصر علي موقفه, بعد عدة ليالي كان ظهره يؤلمه من النوم علي الكنبة وقد دعوته للنوم بجواري دون أن يكون شيء بيننا وافق بعد إلحاح وبت أحمد الله علي هذا ولم أصدق انه نائم إلي جواري وكنت أفيق كل ساعة وأنظر إليه وهو بجواري وأقترب منه حتى أشعر بدفء جسده ودفيء أنفاسه ثم أعود للنوم وأنا سعيدة احمد الله على ذلك, بل كنت احلم به في تلك الساعة. ظللت ليالي علي ذلك وفي ليلة لم استطيع المقاومة واحتضنته برفق حتى لا يستيقظ, ولست اعرف إن كان شعر بي أم لا, في صباح احدي الأيام نظرت إليه فلم اقدر وأقبلت عليه أحتضنه ثم قبلته علي جبينه ثم علي خده و لثمته قبلة سريعة علي شفتاه, احمر وجه ولم يقل شيء ثم تنهد وقال لي لست اعرف ماذا يريد الله مما نحن فيه؟, فكان يكفيك زوج غيري تحبيه ويحبك ويكون معك زوج بمعني الكلمة ومنه يكون لك أبناء تحبيهم ويحبوك, ويكون لي أنا أيضا زوجتي التي أحبها, وأعيش معها في سعادة وهناء فقلت له بهدوء لو عرفت الغيب لاخترتم الواقع فصمت طويلا فقلت له قل لعله خير وستعرف يوما أن ما قدر الله هو خير لي و لك, أما بالنسبة لي فوجودي معك خير لي من كل ما قلت وأنا أحمد الله علي ما أنا فيه ثم قلت له وأنا انظر إليه بحنان ويدي تمسك يديه, لو فعلت ما أقوله لك بأن تفتح قلبك لحبي ثق أن حبك لمها سيزداد صدقني لن تخسر شيء فأنت في داخل التجربة وعليك أن تبحر فيها لأنه ربما لا يكون لك فرصة أخري لتجربة تفهم فيها معني الحب. نظر لي ولسان حاله يقول, ربما أنت علي حق ولكني لا استطيع فقلت له, أعطني نقطة صغيرة في قلبك وسوف تري.
نظرت نادية لمها, فرأت علامات الضيق والغضب في وجهها, فتبسمت وقالت, عندما انتقلنا إلي الشقة الجديدة, التي كانت في الأصل بيت عائلة محمود, والتي قمنا بترميمها وطلائها من الداخل وتغير كل شيء فيها تقريبا وجعلناها كشقة جديدة, وجدت السعادة في عينيه ولحظة من الشعور بالانتصار فلثمني قلبه علي فمي لفترة طويلة وشعرت بلذة تقبيل الحبيب والقرب الحقيقي من الحبيب, سعدت بهذه القبلة وتمنيت لو استمرت ولم تنتهي أبدا وعرفت أن النقطة في قلبه قد كبرت كثيرا, وسوف يصل محمود لما أريده منه, حاولت الاقتراب منه أكثر وأكثر ولم يعد يصدني بل شعرت أنه يريد الاقتراب مني ولكن هناك صراع داخلي, حتى كان بيننا ما بين الزوجين, شعر هو بعدها بأن حبه لك لم يقل بعد أن أصبح يحبني بل ربما شعر أن حبه لك بدء يزداد رويدا رويدا, زاد فهمه لما أشعر به حين جاءت مها وكان قد تعجب حين قلته له أن يسميها مها, لم يصدق في البداية ولكنني قلت له أنني على يقين أنه سيأتي اليوم الذي تشعر بما أشعر به, أ لم تسمع قول المسيح أحبوا أعدائكم ليكون لكم الملكوت, تنحنح قليلا ثم قال نعم ولكن أن أراه في الواقع فشيء أخر ,ولكن هل تعتبري مها عدوا لك؟. فقلت له وأنا ابتسم لا معاذ الله أن يكون لي أعداء أبدا, فقد أصبحت لا أؤمن بكلمة عدو, أو أنني أفهمها بشكل أخر, فالعداء لا يكون إلا بين الحق والباطل فقط, الحق هو الله, فان الله في الحقيقة ليس له أعداء لأنه هو كان وحده ومازال وحده ولكن في عالمنا هذا فقط لابد أن يكون هناك عداوة بين الحق والباطل, أما في الحقيقة فلا وجود إلا للحق لأن الباطل لا وجود له, صمت محمود قليلا ثم قال, أنا لا افهم جيدا ما تودي أن تقوليه, فقلت له لأنك لم تصل بالحب إلي المعرفة ولكنني على يقين انك ستصل يوما, قال لي بعجلة, أريد أن أصل لهذا, فكيف الطريق لذلك, قلت له بابتسامة دافئة أن تحب الحق وأن تكره الباطل, ومع ذلك لا تكره أهل الباطل, بل لا تحبهم. فقال لي وهو يريح رأسه على صدري, كيف هذا؟, قبلت جبينه وقلت له الله يقول (إن الله لا يحب الظالمين) ولكن الله يكره الظلم, أي إذا رجع الظالم عن ظلمه عاد يحبه ولكنه سيظل يكره الظلم مثل قوله وجعل كلمة الذين كفروا السفلي و كلمة الله هي العليا) لأن كلمة الله هي العليا دائما أو في الحقيقة هي الموجود أما الكلمة الأخرى فلا وجود لها, أن الكراهية لم ترد في الأثر إلا حين قال النبي محمد صلي الله عليه وسلم (أن تكره إن يلقي بك في النار) لأن هذا الأمر لابد أن تكره لأن كراهيته لن ينتج عنه ضرر لأحد, أما كراهيتك لشخص أخر سينتج عنه شر بشكل أو أخر إلا كراهية النار فلن ينتج عنها شر أبدا بل خير, لو مليء قلبك بالحب فلن ترضي أن يلقي أحد في النار , كأن كل الناس مثل أبنتك مها, هل ترضى يوما أن تلقي بها في النار, فنظر سريعا إلي مها ورفع رأسه سريعا من فوق صدري ثم نظر لي وقال, طبعا لا يمكن, ابتسمت له وقلت كذلك الله ارأف منك بابنتك, فلن يلقيها في النار ولكن إذا, لا قدر الله ,مرضت ابنتك ولم يكن لها علاج إلا الكي بالنار فهل ترضي أن تكوى بالنار من أجل الشفاء؟, صمت محمود قليلا ثم قال, سأرضى ولكن علي مضض, ابتسمت وقلت له كذلك الله يلقي بإنسان في النار لأنه ليس سبيل لمعالجة الشوائب التي تعلقت بروحه إلا بالنار فتسقط الشوائب عن الروح لتخرج من النار نقية كما يخرج العنصر النفيس ثم يلقي بك في ماء الحياة كما يفعل الصائغ ثم يغمرك في الجنة لبرهه ثم يسألك هل وجدت من معاناة من قبل؟, فتقول لا, لقد جعل منك إنسانا جديدا, ولأن الشوائب تختلف من شخص لأخر فمدة الإنسان في النار تختلف من شخص لأخر حتى أنه من الممكن أن يعبر عليها الشخص في اقل من برهة ليصبح نقيا وربما يستمر شخصا فيها ألف عام أو أكثر ليصبح نقيا لكن في النهاية سيصبح الجميع أنقياء ويستحقون الدخول إلي الجنة ليبدأ الجميع الحياة الجديدة أنقياء كما كانوا عندما خلقهم الله قبل أن يدخلوا تجربة الحياة علي الأرض ويلوثوا بالذنوب التي اقترفوها, لذا بالحب فانك ستحاول ألا يتلوث أحد بالذنوب حتى لا يحتاج للتعذيب لفترة طويلة في النار, يقول النبي في حديثه, والله لن تدخلوا الجنة حتى تحابوا, فمن الحب أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك, فهل تحب لنفسك النار, بالطبع لا, وكذلك لا تحب لنفسك أي ضرر, كذلك لا يجب أن تحبه للناس. فنظر إلي ثم قال ولكن النار تذكر دائما علي أنها نوع من التعذيب, ابتسمت وقلت له, نعم أنها نوع من التعذيب مثل جعل الماء عذبا ليكون صالح للاستخدام, فابتسم لي وقال ولكنهم يقولون كأن العذاب عقاب, فقلت له, أنهم يقولون أمور كثير غير صحيحة يريدون أن يجعلوا الناس تعبد الله من الخوف بينما هو لا يريد ذلك ولو أراد ذلك لما احتاج لأحد ليفعل ذلك فهو قادر علي كل شيء, فهل يظن أحدهم أنه أقوي من الله ليجعل الناس تعبد الله قهرا, إنهم بفعلهم هذا يحاولون عبثا أن يكونوا ضد أرادة الله, لان الله أراد أن يعطيهم الحرية ليصلوا إليه بكل الطرق كأن الوصول إلي الله نقطة يمكن الوصول إليها من كل اتجاه فكل خط مرسوم يمكن أن تصل به لله وكل الطرق صحيحة ما دامت ستصل بك لله,لأن الطرق وسيلة والله هو الغاية ولكن يأتي البعض فيقولون أن هذا الطريق خطأ وهذا صواب وهم علي خطأ كبير لأن كل الطرق التي ستوصل إلي مركز الدائرة فهو صحيح وضرب الله مثلا بالكعبة فكيفما تتوجه تصل إليها ولكن فهل ممكن لمن يصلي للكعبة من جهة الشرق أن يقول لمن يتوجه للكعبة من جهة الغرب انه مخطأ؟, بالطبع لا فكلاهما صواب ولكي يضرب مثلا اكبر فيقول أن هناك البيت المعمور قبلة الملائكة بل والقبلة الأكبر للبشر لأنها فوق الكعبة مباشرة ولكنها بالطبع اكبر بكثير فيكون حتى من لم يتوجه للكعبة بشكل صحيح يكون توجهه للبيت المعمور بشكل صحيح ولكن الله يزيل كل لبث فيقول الله ولأنني أكبر من كل كبير(فأينما تولوا وجوهكم فثم وجه الله)
أغر ورقت عيناه بالدموع وقال لي لم أكن أعرف هذه الحقائق, فلكل كلمة معاني مختلفة.
قلت له نعم فإننا نستخدم كلمة تعذيب بشكل أخر وكذلك أسماء الله العظمي مثل الجبار وهي تعني الذي يجبر مثل من يجبر كسر الذراع بوضع جبيرة لتسنده أي الجبار هو من يجبر كسور الناس, وهو القهار فيقول تعالي( وهو القاهر فوق عباده) ولم يقل هو القاهر لعباده, والفارق كبير ومن ينظر لكلمة عباده يفهم المعني الصحيح فلا يمكن أن يكون الله يريد أن يقهر عباده, ربما لو قال فوق عبيده لاختلف المعني قليلا ولكن كلمة عباده أي الذين يعبدونه فهو يقول
(و عبد الرحمن الذين يمشون علي الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما)
فكلمة عباد وكلمة فوق تعني أن الله قهر كل شيء من اجل عباده كالشمس والقمر والرياح والأرض وغير ذلك, لأجل الإنسان لذلك يقول الله في الحديث القدسي, (خلقت كل شيء من أجلك وخلقتك من أجلي)
فقال وهو يبتسم ولكن للكلمة معاني كثيرة فقلت له نعم جبار وقهار لهم معاني القهر والقوة وهذا معني مقصود لأهل السوء ولكن كل واحد يفهمها بما في داخله من الحب والكراهية ومن الخير والشر.
قال لي وهو يبتسم رغم أنني لم أفهم كل شيء إلا أنني أحببتك, فقلت له وأنا أيضا احبك وربما كان ذلك الحب سببا لدخول الجنة, فالرسول اخبرنا بان نخبر من نحب أننا نحبه, كما أن المتحابون في الله ممن يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله , قال لي ولكن ذلك لرجلان وليس لرجل وامرأة, فتبسمت ابتسامة صغيرة حتى لا يظن أنني اسخر منه وقلت له بل كل حب بين خلق الله مادام لا يرتكب ذنب ومادام الحب مفهوما, فمثلا النساء يحبون النبي محمد أليس هذا صحيح, قال لي نعم وهو حب محمود, أليس هذا قد يكون سببا لدخول الجنة, فقال لي طبعا, وكذلك تحب النساء الصحابة والصالحين, ثم قلت له كذلك يحب الرجال أمهات المؤمنين وبنات النبي صلي الله عليه وسلم وغيرهم من النساء الصالحات وليس هذا وحسب ويحب الرجال الرجال والنساء النساء وكل ذلك هو حب محمود والناس تؤمر به مادام لله ولا ينتج عنه إلا الخير,
قاطعني قائلا وهل من الممكن أن ينتج عن مثل هذا الحب شر,
قلت له الحب الصافي لا يمكن أن ينتج عنه إلا الخير, ولكن غير ذلك من الممكن أن ينتج عنه شرا, لأنه ليس حبا حقيقا, وسأضرب لك مثالا, كان يحكي أن بعض واضعي الأحاديث كانوا يضعون أحاديث عن فضل مثلا ليلة الإسراء والمعراج, أو النصف من شعبان ظنا منهم أنهم بذلك يجعلون الناس تهتم بمثل تلك الليالي ويتعبدون فيها إلي الله, هذا النوع من الحب للدين هو حب خطأ, لأن اكبر خطيئة هو الكذب, واكبر خطيئة في الكذب هو الكذب علي الله, ومثال أخر الذي يقتل مثلا رجل وجده مخطأ, فهذه خطيئته أكبر لأن الله خلق كل واحد لغاية وكل ميسر لما خلق له, فلندع كل واحد يخوض تجربته ولا نتدخل لأننا بذلك نحاول عبسا أن نقيم الحق ولكننا في الحقيقة نقيم الباطل فلندع كل إنسان يكمل تجربته بلا تدخل فربما كان هذا الشخص هو الذي يكون منه أو من أحد من أبناءه خير لا يحصى فعمر بن الخطاب قبل وبعد الإسلام, بل وأيضا وحشي قاتل حمزة عم النبي وأيضا قاتل مسيلمة وغيرهم. لقد كان النبي يعلم مثلا من سيقتل حفيدة الحسين وأخبر بذلك بل وأبكاه ذلك ولكنه لأنه يعلم الحقيقة لم يحاول أن يمنع ذلك وكذلك لم يعامل من سيقتله بشكل سيء, بعكس فرعون الذي حاول أن يغير إرادة الله بقتل الأطفال اليهود الذين لا ذنب لهم, لذلك عاقبه الله بأن يربي هو موسي في بيته ليكون هو سبب لتحقيق أرادة الله,
لذلك تجد النبي الذي وصل لكمال معني الحب فكان يري كل البشر كأنه أبناءه لا يحب أن يري واحد منهم في النار فيقول اللهم أغفر لقومي فإنهم لا يعلمون, وتراه يقول ويصف نفسه بالنذير العريان الذي ذهب لقومه حين عراه جيش العدو فلم ينشغل بستر عورته بل ذهب لم عاريا ليقول لهم أحذروا فقد فعل العدو بي هذا, وتراه أيضا حين يصف نفسه كأنه ممسك بالناس حتى لا يقعوا في النار كأن الناس بعوض يريد أن يلقي نفسه في النار ظنا منه أن النار فيها خير له ولكن النبي ممسك بهم ليمنعهم و يقول النبي بحزن كبير, ولكنكم تنفلتون مني, هذا هو من وصل إلي الحب الصافي فيقول رغم ما لاقي من قومه والدم يسيل من جسده ويمسحه بيده( اللهم اغفر لقومي فأنهم لا يعلمون).
وستجد هذا واضحا في تاريخ كل الأنبياء والصالحين فمثلا لوط عليه السلام يقول لقومه هؤلاء بناتي إن كنت فاعلين) فيكون لهذه الكلمة معاني كثيرة فقد أصبح يري أن بنات قريته كلها كأنهم بناته ويكون هؤلاء الخطاة كأنهم أولاده فيقول هؤلاء بنات طيبات فلما تذهبوا للخبيث.
وكذلك ظل نوح يحاول مع ابنه حتى حال بينهما الموج ومع ذلك كان يدعو الله له وكذلك إبراهيم مع أبيه فكأنما أصبح إبراهيم هو الأب وأصبح الأب هو الابن العاق.
سأقول لك شيء عندما تحب حقا فان من حولك سوف يشعرون بذلك, فمثلا عندما ذهب النبي لجاره اليهودي ليعود ابنه المريض وعلم النبي انه يحتضر فقال له قل لا اله إلا الله محمد رسول وقالها له عدة مرات والطفل ينظر لأبيه فلما أيقن هذا اليهودي صدق وإخلاص النبي وحبه لأبنه قال له أطع أبا القاسم وفي هذه الكلمة كني النبي بابنه, أي فهم أن النبي ينصحه كما كان يمكن أن ينصح ابنه. ولذلك سأعود لنقطة مهمة قول المسيح عليه السلام (أحبوا أعدائكم , فبعد أن فهم الناس هذه المقولة, كان علي الناس أن تفهم أنه لا معني حقيقي لكلمة العداوة فجاء في الإسلام معني جديد ليكون هو المعني النهائي الذي يجب فهمه فيقول النبي صلي الله عليه وسلم ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه). أي أن تجعل كل نفس بشرية مثل نفسك تماما تحب لها الخير كما تحب لنفسك.
اقبل علي وهو يبتسم وقال لي وهو يمسك بيدي ويضعها علي فمه ويقبلها لقد بدأت افهم ما أراده الله في زواجي منك ويا ليت مها تعرف, قلت له بهدوء إن صدق حبنا لها فان ذلك سيحدث لا محالة كما حدث لك عندما صدق حبي لك.
ولكن فهمه الحقيقي والكلي للأمر كان حين رزقنا الله بابنتي الثانية والتي أصر زوجي علي تسميتها نادية, فكان يحب مها حب صافي لا منتهي له ولكنه أصبح يحب نادية الجديدة حبا صافيا لا منتهي لها ولكن مع ذلك فحبه لكلاهما لا ينقص من حبه للأخر, وعندما أحبنا كلانا بدون أن ينقص حب واحد من حب الأخر بل عندما يتعمق في الحب فان حب طرف يزيد من حب الأخر, ويصير كفرع من شجرة كبيرة ممتدة من أعماق الأرض إلي أعالي السماء ينمو من كل فرع فروع كثيرة ثم من كل فرع فروع أكثر ولا يموت فيها فرع ولا يستبدل فكل فرع قد منح الخلود.
صمتت مها طويلا كأن داخلها قوتان تتصارعان بقوة, قوة منها تقول لها ألا تستمع لما قيل وأنه مجرد كلام سخيف لا معني له و لربما هي كانت تكذب, بينما القوة الأخرى تقول لها أنها صادقة فيما تقول وأنها تشهد أن حب محمود لم ينقص منذ تعارفها حتى يوم الفراق بل كان يزداد يوما بعد يوم وكانت هي تتعجب من ذلك, فكل من حولها كانوا يشكون بعد الزواج من تغير أحاسيس الحب ومعناه وأنه يظل يضمر حتى تسقط الثمرة من تلقها ذاتها وإما أن يظل الزوجان معا في علاقة زواج من أجل أسباب أخري غير الحب, كالأولاد أو الشكل الاجتماعي أو الحاجة الاقتصادية أو أمر أخر غير الحب, مما يجعل الحياة فاترة بلا حيوية وتصبح أصعب من الموت, أما في حالتها فكان الحب يملئ البيت دائما, ورغم أنها لم تنجب فلم تشعر أبدا أن هذا الأمر قد أغضبه, بل جعله أكبر رقة معها, وكان جو الحب هذا يحسدها عليه الجميع حتى أمها, التي كانت تقول لها, رغم حياتي السعيدة مع أبيك إلا أنني لم أر مثل ذلك, سنوات من الزواج بلا مشاكل تقريبا, أنها معجزة في حد ذاتها, استمرت الأفكار تدور في عقلها, لذا تدخلت نادية وقالت لها أنني قلت لك ما قلته لأنني لا أحب لك إلا الخير وأنني أريدك معنا ولا نفرض عليك احد أي قرار ولكن كان لابد من أن تعرفي كل شيء, وسيكون لك مطلق الحرية في قرارك ولكن عليك التفكير جيدا, وحاولي أن تدخلي الحب إلي قلبك حتى تتخذي القرار المناسب وثقي أنني سأدعم قرارك مهما كان حتى لو أخذت محمود ومعه ابنتي ولكنني أحببتك و أحب أن تكوني معنا في مملكة الحب التي من يدخلها يدخل الفردوس وهو مازال حيا ومن يرفض يظل يعاني في حياته.
نهضت نادية وسلمت علي مها بحرارة الأصدقاء المقربين ولكن مها لم تبادلها ذلك فقد كانت تائه فيما حدث ولكن نادية ابتسمت لها ثم تركتها وغادرت.
شرعت مها تذرع الغرفة ذهابا وإيابا. قطع هذا الفكر والدها والذي دخل عليها وقد أشرق وجهه كالبدر وقال لأبنته وهو في حالة من التعجب الممزوج بالسعادة, من هذه يا مها؟ ومن هو زوجك حتى يصلا لما وصلا إليه؟, فأنا يا بنتي سمعت الحديث الذي دار بينكما وأنه بالرغم من أنني لم أري هذه السيدة ولكنني أشهد أنه منذ وصولها علي الباب وحتى قبل دخولها للبيت شعرت بروح طيبة قد غطت البيت بأكمله وملأته طمأنينة وسعادة, أنني لا أقول لك هذا لكي يكون لي تأثير علي قرارك ولكن لأنير لك طريقك, فكري جيدا في الأمر فهو يستحق ذلك. كم أنا حزين لأنني كنت اظلم محمود, كان كرهي له حتى من قبل أن أراه قد أغلق قلبي تجاهه, ولكنني كنت مخطأ كان يجب أن احكم عليه من خلال تجربتي معه وليس مما كان في خيالي, أنه إنسان عظيم.
نظرت له مها وهي تبتسم وسعيدة بوجه الجميل,وقالت هل نظرت لوجهك في المرآة, ضحك الأب وهو يتجه لينظر في المرآة, ماذا يا أبنتي؟, قالت له أن وجهك أجمل من البدر في ليلة تمامه, نظر بحرص شديد في المرآة وغمرته السعادة مما رأي ثم قال لها,انك تبالغين كثيرا يا مها فوجهي كما هو,
قالت له مها, انك تعلم أنه تغير كثيرا, ولكن يا والدي ماذا تري؟. أخذ أبوها يتحرك داخل الغرفة دون أن يتحدث ثم نظر لها وقال, يا بنيتي الأمر ليس سهلا, ولكن يجب أن تفكري جيدا وهي تجربة جديرة بأن تخوضيها,
زاغت عيني مها وهي تنظر لوالدها, فتحرك والدها ليخرج من الغرفة ويتركها لتفكر في الأمر, بينما ظلت مها شاردة, وشعرت فجاءه بشوق قوي لمحمود الرجل الوحيد الذي أحبته, فجلست علي أقرب مقعد ووضعت يدها فوق عينيها وانهارت تماما,
كانت مها حتى هذه اللحظة لم تواجه نفسها بالحقيقة, وكان لابد أن يأتي الوقت لذلك, ولكنها كانت تؤجلها كأنها لا تريد أن تعترف بالحقيقة, لقد شعرت أن نادية امرأة مختلفة عن غيرها, وكانت تظنها ليست جميلة, ليست مثقفة,و ليست أنيقة, ولكن الحقيقة كانت غير ذلك فهي من أجمل من رأت من النساء حتى أنها كانت لتشعر تجاهها بالغيرة حتى لو لم تكن زوجة محمود, ولم تكن تستطيع أن تنكر إعجابها بها, فهي ممشوقة القوام جميلة الوجه, بعيون سوداء واسعة, ووجه مضيء, والأهم لها حضور خاص, تشعر أنك في حالة من السعادة والرضا في وجودها, وتتمني أن تبقي معها للأبد, ولكن مع ذلك كانت تغير منها, لأنها جميلة في كل شيء, ولأنها تشاركها زوجها أيضا والأهم من ذلك أن زوجها يحبها, وله الحق في ذلك, فهي لا تستطيع إنكار ذلك, فهي إن وقفت أمام زوجها لتقول له ماذا يعجبك فيها؟ ستكون تكذب تماما فكل شيء فيها كان يدعو لحبها.
كانت مها تتعجب كيف لها وهي تستمتع بكل هذه الصفات أن ترضى بوضع مثل ذلك, وبدأت تتذكر ما قالته نادية عن حياتها وعن حبها لمحمود فتنهدت ثم قالت لعن الله الحب, يجعل العظيم حقير.
كان صمت داخلي لفترة طويلة لإنكار الواقع والحقائق التي فيها, وتعجبت مما قاله والدها تجاه نادية وما شعر به تجاهها حتى دون أن يراها, ولكن العجب الأكبر كان ما قاله والدها عن محمود وكيف تغيرت وجهة نظره تجاهه, ماذا تمتلك هذه المرأة لتستطيع فعل هذا؟, فوالدها ظل يضمر الكراهية لمحمود طوال سنوات طويلة مهما حاول محمود تغير ما في داخل صدر أبي تجاه, ولكن دون جدوى, بالرغم من المواقف الكثيرة التي ظهر فيها جوهر محمود الحقيقي, فكان رجل يعتمد عليه, وشهم بكل معني الكلمة وبالرغم من أنه كان يقف مع أبي في أي موقف صعب دون ملل أو تذمر وكان والدي يقابل ذلك بجحود تام بل أكثر من ذلك, كان يبحث عن أي شيء صغير من الممكن أن يكون قد اخطأ فيه محمود ليتحدث مرارا وتكرارا بل ويعظم من هذا الخطأ الصغير, فكنت أقول في نفسي حقا, حبيبيك يبلعلك الزلط وعدوك يتمنى لك الغلط.
كان كل هذا من الماضي فبعد قدوم نادية لبيتنا, تغير كل شيء وأصبح يتحدث عن محمود بشكل مختلف وحقا لقد ابتلع له الزلط بزواجه من نادية, بل ويطلب مني أن أكمل حياتي بهذا الشكل, من أنت يا نادية لتملكي كل هذا السحر فتكسبي حبيب قلبي محمود ثم أبي بل وأكثر من ذلك قلبي ....أنا. ملعونة هذه الحياة لماذا علي أن أعيش بهذه الطريقة, لا أيتها الحياة لن تجبريني علي أن أعيش بهذا الشكل.
استمرت مها علي موقفها, وبدأت نبرة أمها تختلف عن ذي قبل فبدأت تقول عن ربما كان هذا خيرا, وتعدد الزوجات مباح شرعا, وأن محمود شاب ممتاز يحبك كثيرا, بل إن نادية سيدة رائعة, وغير هذا من الكلام المحفز على العودة لمحمود وكانت تشعر بأن هذا هو كلام والدها, فتزداد غضبا وحنقا علي نادية التي أثرت قلب أبيها حتى دون أن يراها فتزداد تصميما علي عدم الرجوع لمحمود.
سمعت مها صوت رسالة قد وردت لهاتفها المحمول, أمسكت هاتفها المحمول لتجد رسالة من رقم مجهول, ففتحت الرسالة لتجد صورة لطفلتين صغيرتين ففطنت سريعا أنها لمها ونادية, فألقت الهاتف من يدها, وأخذت تبكي, حتى غلبها النوم, وكانت وهي نائمة تحلم بأنها تمسك بيد مها ونادية وتلعب معهما كل ما كانت تتمناه مع أولادها إن كان الله قد رزقها بهم, وأخذت تحتضنهما وتقبلهما بحب وعشق وتمنت ألا تخرج مما هي فيه, ولكنها شعرت بوخزه في قلبها حين فهمت بأنهما ابنتا نادية من محمود حبيبها, وكذلك شعرت بحب كبير ناحية نادية الصغيرة ربما أكثر من مها, فاستيقظت وهي غاضبة بعد لحظات جميلة من الرضا والسعادة والصفاء, وقالت مالي ومالك يا نادية دائما ما تعذبيني في يقظتي ومنامي, ولماذا أرسلت لي صورة مها ونادية؟. هل هذا لكي تكسبي ودي بل علي العكس من ذلك سوف أزداد حنقا وكراهية لك فأنت تكسبي كل يوم بينما أنا اخسر أكثر كل يوم, أنني أكرهك, ثم بدأت تتذكر الحلم وكيف كانت سعيدة معهما ولكنها غضبت فجاءه عندها تذكرت أن قلبها رق كثيرا للطفلة الأصغر نادية أكثر من مها, فزاد حنقها وغضبها وقالت لنفسها لماذا أحببت نادية الصغيرة بهذا الشكل؟, هل لأنها الأصغر فأعطتني أحساس اكبر للحب, أم لأنها جميلة بشكل رائع وتشبهني, آه يا نادية تطارديني دائما ولكنك لن تنتصري علي أبدا, إن قلب يختنق كلما جاء ذكرك أمامي, أو خطرت علي بالي, آه يا نادية تطارديني ليل نهار في يقظتي وحلمي ولكن لن تهزمين أبدا وسوف انتصر عليك في النهاية مهما طال الزمن,
ظلت صورة مها ونادية عالقة في ذهنها بل ووجدت يدها تمسك بالهاتف دون إرادتها وتنظر في صورة مها ونادية وبدأت تشعر بالحب لهما وبدء هذا الحب يكبر شيء فشيء, حتى شعرت أن حب كلاهما قد تساوى ولم تعد تحب واحدة أكثر من الأخرى فتذكرت كلمات نادية, فتغير وجها فجاءه , وسمعت صوت والدتها تقول لها لماذا تغير وجهك الصافي فجاءه يا مها, فنظرت لأمها التي مازالت تتحدث, إلي أي شيء تنظرين في الهاتف يا مها؟, قالت مها لا شيء يا أمي لا شيء, ثم انسحبت سريعا إلي غرفتها وأخذت تبكي بحرقة من قلبها, وهي تمسك رأسها الذي كاد ينفجر وقالت يا رب لما هذا؟. كان يكفيني حياة هادئة مثل ملايين الناس, زوج وزوجة وأولاد ومشكلات عائلية هادئة, ليس مثلي, يا رب لما تختبرني بما أكرهه, لما يجب أن أكون مع حبيبي وبيني وبينه نادية, أو أكون بعيدة عن حبيبي وبعيدة عن نادية ثم مها ونادية اللتان اقتحمتا حياتي بل وقلبي ثم أعماق أعماق قلبي ثم زرعا نفسيهما في روحي بعمق كبير حتى أصبحت أحبهما حبا كبيرا يكاد يكون مثل الحب الصافي الذي تتحدث عنه نادية, الحب الخالي من الغرض, ذلك الحب الذي لا يخالطه شيء أخر, الحب الذي يتعدي حاجز القلب, إلي أعماق النفس ومنها, إلي أعماق الروح, ذلك الحب الذي تغمرك فيه السعادة وتشعر معه بالاكتفاء فلست وأنت فيه بحاجة لأي شيء أخر, ذلك الحب الذي تود لو تستمر في نوره إلي الأبد ولا تخرج منه أبدا, ذلك الحب الذي عندما تخرج منه تبكي بكاء الطفل حين يخرج من بطن أمه, من الحب الصافي بينه وبين أمه إلي حياة يغلب فيها الكراهية علي الحب, فينتهي الصفاء ولكن لا يزال الأمل موجود للعودة إليه.
قالت لنفسها, أليس عليك أن تنعمي بهذا الحب إلي الأبد, وألا تغادريه أبدا, لما الكبر يا نفسي, لما الكبر,أنه إحساس لا يضاهيه شيء أبدا, وعدك به محمود ثم نادية وشعرت به تجاه مها ونادية؟ لما لا تحاولي إن الأمر يستحق, ولكن مازال بيني وبينه عقبة, يا رب أنني لا أستطيع أن اتخذ القرار ولا استطيع أن افهم الحكمة في كل ما يدور حولي لقد منعتني ما أحب من الأبناء ولكني سمعت شيخ يقول يوما أنما منعك ليعطيك, فهل هذا هو عطاءك؟, ولكن إن لم أكن أريد هذا العطاء فلماذا علي أن أجاهد نفسي لأقبل هذا العطاء؟ وهل هذا حقا هو عطاءك الذي تريده لي؟, حتى قلبي لا يرشدني, وكذلك العقل, وروحي تجرني إليه جرا, ولكن نفسي تبعدني عنه, إن ذلك خليط عجيب, كيف لي أن اخرج منه لأصل لقرار, يا رب أرشدني إني تائهة في بحر الظلام, ليس لي مرشد إلا أنت, سأرضي بقضائك, ولكنني .... لكنني ....لكنني لا أريد خوض هذه التجربة أنني أجدها لا تناسبني, فأنا ضعيفة يا رب. ثم صمت قليلا وقالت ولكنني سأجاهد لأرضي بما ترضي, ثم رفعت رأسها إلي السماء ثم قالت يا رب وصمتت.
مازال الصراع داخل مها علي أشدة أحيانا تصفو نفسها وتري أن العودة لمحمود في هذا الشكل من الحياة أمر جيد وتشعر بالحب تجاه نادية والطفلتين, ولكن أحيانا أخري تتعكر نفسها وتشعر بنوع من الكراهية تجاه نادية ومن بعدها محمود ولكنها لم تقدر علي كراهية مها ونادية أبدا, ورغم محاولات محمود معها ولكنها كانت ترفض وتبكي بكاء شديدا وتنعي سوء حظها في الحياة الكئيبة, ولا يخرجها مما هي فيه سوى تذكر مها ونادية والتي أصبحت تحبهما وأصبحتا سلوتها في حياتها التي سيطر عليها الحزن حتى نست من تكون أمهما. ولكن كان لابد أن يحدث شيء ما يغير هذا الوضع, الذي بدا انه لن يتغير أبدا.