بعد مرور شهر على وفاة محمود, طلب أبي أن يجلس معي ومع نادية بمفردنا, كنا نحن في شوق أن نعرف ما هي الوصية, وبالرغم من محاولاتي السابقة لأعرف ولو جزء صغير عن الوصية ولكن دون جدوى, بدا على وجه أبي اضطراب لم أراه فيه من قبل, كان يدور في خلدي أمور كثيرة عن هذه الوصية, ولكن ما قاله أبي لم تصدقه أذناي, وعجزت عن تقلبه, أو أن أفهم الهدف من ورآه, كنت شديدة الغضب حين سمعت ما قاله أبي, نظرت إلي نادية فوجدتها تشهق, لم أراها تشهق هكذا حتى مع لحظة وفاة محمود, ولكنها ظلت صامتة, جرى بعض الدمع على وجنتيها, ولم تنطق بكلمة,
نظرت إلي أبي لم أصدق ما قاله, كيف يقول مثل هذا الكلام, وكيف يوصي محمود بشيء مثل هذا, هل يريد محمود أن يدمرني, قلت لأبي وأنا غاضبة كيف تفكر في شيء كهذا؟, وكيف ترضى بمثل هذه الوصية يا أبي, قال أبي بهدوء, رجل طلب مني أمامكم أن يوصيني, وطلب منكم أن تنفذوا الوصية, قلت له, لماذا لم يخبرنا محمود بهذا فيكون من حقنا الرفض أو القبول, قال أبي لي كانت هذه وصيته, لقد حملني حملا لا أقدر عليه, وقد حاولت طويلا أن أثينية عن عزمه, ولكن دون جدوى, يا ليته استمع لي ولكنه قال أن في هذا خيرا كثيرا للجميع,
نظرت إلى نادية فوجدتها شاردة والدمع ينهمر من عيناها, مازلت تفتح فمها ولا تصدق ما سمعته, أخذت تنظر الي السماء كأنها تسمع لأحد يتحدث معها, حاولت جذب انتباها, ولكنها لم تشعر بي, قلت لأبي لنؤجل الحديث في هذا الأمر, فمازال أمامنا وقت طويل لنفكر فيه, قال أبي وهو ينظر الي حزين مما قلته له, نعم يا أبنتي أمامنا وقت طويل حقا لنفكر في الأمر, والأمر بينك وبين نادية, فكرا في الأمر جيدا, ثم أخبروني بقراركم وأنا لن أتحدث في الأمر مرة أخرى.
تركت نادية في شرودها, ودخلت غرفتي, جلست علي السرير, وأنا أدفن رأسي بين ساقي والدمع يجري من عيني كصخرة انفجرت, فخرج منها ماءها الذي كانت تختزنه لمئات السنين, قلت لنفسي ماذا تريد مني بالضبط يا محمود؟ بل ماذا تريد مني يا رب؟. يا رب لقد وضعتني في وضع صعب حين جعلت لي ضرة, لقد أصررت علي أن أعيش مع ضرتي, وقد تقبلت ذلك مع الوقت وأحببتها وأحبتني, وكان أولادنا يزيدون ما بيننا من الحب, بالإضافة لحب محمود الذي جمعنا معا في حياة قريبة من الجنة بل هي الجنة ذاتها فليست الجنة بأفضل من ذلك, فالحب الصافي هو عنوان بيتنا, حتى أصبحت أحب نادية كنفسي, ثم كان قدرك أن تقبض محمود إليك, فرضيت بذلك واحتسبت الأجر عندك, ووقتها زادي حبي لنادية وصفيت تماما لها وشعرت أنها ضعيفة مثلي, وقررت بيني وبين نفسي أن نقضي الحياة سويا ونعكف على تربية أولادنا, ونحافظ على ثرواتنا, لتكون لهم بعد ذلك فيعيشوا أغنياء متحابون, كما عشنا, فسوف نكمل غرز الحب في قلوبهم, ولن نتركهم إلا حينما يجدوا الحب فيتزوجوا ويتركوني بمفردي مع نادية, لنكمل ما بقى لنا من عمرنا حتى يقضي الله علينا بالموت, فنلحق بمحمود وأحبائنا, ولكن ماذا تريد اذا يا رب؟ هل تريد أن تجمعني مع نادية من جديد بعلاقة قد تفقدنا الحب والصفاء, ليعود لنفسي الصراع الداخلي, بين حب نادية وعدم تقبلي لعلاقتي بها, لماذا تريد يا رب أن تجعلها ضرة لأمي التي ماتت, فتقهر قلبها بعد الموت, وتقهر قلبي معها, وينتزع حب نادية من قلبي, ويقضى تماما على حلمي الذي رضيت به. كنت قد فهمت معنى أنما منعك ليعطيك, ثم معنى أنما يضيق عليك ليوسع عليك. ولكن ما معنى ذلك؟.
ماذا يريد محمود, وماذا يريد الله, من هذا؟.
ظللت ليالي عديدة أبكي, ولا أخرج من الغرفة إلا للضرورة القصوى, ولم أكن أرى نادية خلالها, كنت لا أريد أيضا أن ألقاها, فقد تغيرت نفسي تجاهها, وكان هذا الأمر يحزنني, فليس من الممكن أن يتغير الحب بهذه السهولة, فمعني ذلك أنني كنت أخدع عن حبي لها, وعن حبي لمحمود وعن حبي لله, وكل ما أشعر به الرضا كان كذبا, كنت حزينة, أريد أن أفضفض مع أحد, وهل هناك أقرب من أبي, ونادية, عندما تكون مشكلتك مع المقربين فمعنى ذلك, انك فقدت كل شيء.
كانت نفسي تتوق للحديث الصافي مع نادية, وكنت أعاتب نفسي أحيانا فما هو ذنبها, هي مثلي فرض عليها الأمر فرضا. ذهبت لغرفتها دققت الباب عليها, فلم تجيب, فتح الباب ودخلت فوجدتها نائمة والأطفال في حضنها يشعرون بالهدوء والطمأنينة, اشتقت أنا أيضا لحضنها الدافئ وحضن الأطفال, اقتربت منهم حتى وجدت فرجة صغيرة دسست نفسي فيه, ثم احتضنهم, شعرت ببعض الراحة, وذهبت في سبات عميق فكنت لا أنام منذ ليالي,
حين استيقظت رأت نادية بوجه مختلف, وجه يخفي الخوف والقلق ولكنه يريد أن يطمئن من حوله, تبتسم ابتسامة لتشعر من حولها بالطمأنينة, كانت محاولتها فاشلة, أو ربما أنا التي أصبحت أعرفها جيدا,كانت نفسها مزلزلة لأول مرة في حياتها, لم أرها كذلك من قبل, ولكن يبدو أن ما حدث في الآونة الأخيرة كان أكثر من طاقتها, حاولت أن أتحدث إليها, ولكني لم استطيع, هي لم تحاول على ما اعتقد, عدنا نعمل سويا في البيت وفي المصنع, وكنا نرى أبي كل يوم ولكن لا نتحدث في الأمر, وهو أيضا لم يتحدث في الأمر, رغم أن وجهه كان يقول أكثر بكثير من اللسان, لم أكن أعرف رأيها في الأمر, كنت اعرف أنها تحب محمود ربما أكثر مني, وهذا ما زاد من قلقي فربما توافق لتنفذ وصية محمود, ولكن كيف لها أن تكون زوجة رجل أخر غير حبيبها؟!, أظن الأمر صعب, ولكنها رضيت من أجل الحب أن تصبح زوجة ثانية, فهل سترضى من أجل الحب أن ترضي أن تكون زوجة لرجل أخر؟, أنني لا أقبل بزوج أخر بعد محمود. شعرت داخليا إنني تحاملت عليها, لم يكن لها ذنب, كنت أستغفر لها, وعزمت أن أتحدث لأبي, ذهبت إليه وجدته هادئ, كأنه ينتظرني, قلت له يا أبي ما رأيك في هذه الوصية؟, قال لي, هي وصية لميت ونادية هي الطرف الأساسي فيها, قلت له لعله كان يهذي, قال أبي أنت تعلمي أنه لم يكن, قلت له وأنا أضع وجهي في الأرض لعلك أنت من وضعت الوصية, قال أبي في غضب, هل تعرفي عني الكذب من قبل؟. قلت له معاذ الله يا أبي, ولكن لماذا لم يخبرنا في وقتها وكنا نناقشه فيه, قال أبي لم تكن الظروف تسمح بذلك أنت تعلمين ثم ابتسم أبي وقال لي, أنت لست طرف حقيقي في الأمر, استشاطت غيظا وقلت له كيف تقول هذا يا أبي؟ أنا طرف أساسي في ذلك. ضحك أبي وقال كيف هذا؟ قلت له أنك ستتزوج علي أمي, وسوف تتزوج زوجة زوجي. قهقه أبي وقال إذا ما علاقتك بذلك؟. أمك في رحمة الله, ومحمود أيضا. وقد انتهت العلاقة الدنيوية معهما بمجرد وفاتهما, والطرف الذي له حق الرفض أو القبول هو نادية ثم أنا. كان كلام أبي يغيظني كيف أنني لست طرف بل أنا الطرف الرئيسي في ذلك وسوف يكون لو تم هذا الزواج أثر علي وعلي أبني, وحتى على بناتي بنات نادية, كيف لست طرف؟. هل سيكون سهلا علي أن أجد أبي يدخل الغرفة مع نادية ويبت معها في فراش واحد ويكون بينهما ما يكون بين الرجل وزوجته. فلماذا اغضب ومحمود نفسه لم يغضب, ولكن محمود في دار أخرى, لو كان محمود يحبها فعلا ما رضي أبدا أن تكون مع رجل أخر, حتى لو كان ميتا, لم يكن هناك حبا حقيقا, كل ما كنا نحيا فيه كان كذبا, أن المرأة لا ترضى لزوجها أن يكون له زوجة أخرى, رغم أنها تعرف أنه جائز شرعا, فكيف يقبله رجل, ولكنك قبلته بدعوى الحب, فهل قبله هو بدعوى الحب؟, هل كان يؤمن أن هناك ضرورة بأن يكون أبي معنا في البيت والمصنع وكل مكان بشكل شرعي يقطع كل لسان يحاول أن يتطاول علينا, ثم أنه سيجعل أبي يتحمل مسئوليتنا جميعا, بلا تفرقه, فكلنا سنصبح جزء من عائلته, شرح الله قلبي للأمر, وقلت الحي أولي من الميت, والحمد لله أن الظروف لم تفرض هذا الأمر علي, ولكن ما هو رأي نادية؟.
كانت نادية شاردة بشكل مستمر, ومهما حاولت أن لا تظهر ذلك. كان داخلها بركان يفور ولكنها كانت تبدي عكس ذلك, كانت تفكر في الأمر, ولكن الصدمات كانت كثيرة, فموت محمود كان مفاجئا, وقد شعرت بعده بالغربة على هذه الأرض, لقد عاد إليها شعور اليتم, التي كادت تنساه, كانت حزينة على أبناءها مها, نادية ومحمد, أن يعيشوا أيتاما في مثل هذا المجتمع الذي أصبح كسمك القرش يثيره ضعف الأخر فيسعى بكل طاقته ليقطعه أربا رغم أنه ليس جوعان, يأكل كل ما يقدر على أكله, لقد ذاقت معنى اليتم في مثل هذا المجتمع, ورغم عناية الله بها إلا أنها عانت كثيرا, كانت تتمنى ألا يتعرض أبناءها لمثل ذلك, ولكن لا راد لأمر الله, ثم تتذكر حالها, ها هي الآن أرملة مثل أمها, التي عانت كثيرا بعد وفاة زوجها, كانت مطمع لكل رجل, يريدها طبعا في الحرام, كأنها رخيصة, وسوف تنصاع سريعا, لهذا أو ذاك, لم تجد أمها رحمة ولا رأفة من أحد, وكان الناس يخوضون في عرضها وعرض بناتها, ما أسوء الضعف, يا ليته وحشا يمكن القضاء عليه, ولكن الناس أنفسهم هم الوحوش بل أكثر من ذلك. لم يكن يدور في خلدها أنها ستتعرض لمثل ذلك, الحياة أصبحت صعبة للغاية لقد فقد الحبيب, والأخ والصديق والسند. الرجل الذي يشعر الجميع في جواره بالطمأنينة, بموت محمود فتح باب الخوف الذي كان مغلق, ولكن ماذا يمكننا أن نفعل, ليقضي الله أمره كما يريد, ولا نملك إلا أن نقول حسبنا الله ونعم الوكيل, وأن نستغفر الله من كل ذنب.
لقد تذكرت نادية حالها منذ صغرها والمعاناة التي عانتها, ولكنها بحمد الله انتهت ولم تعد إلا ذكرى مؤلمة فقط, فتمنت أن تمر الأيام سريعا, لتذكرها كذكرى فقط, ولكن هيهات هيهات.
قالت نادية لنفسها, ثم ما معنى هذه الوصية الغريبة, فانهمر الدمع من عيناها, وقالت كيف يا محمود تجرؤ أن تطلب مني مثل ذلك, كيف أكون لرجل غيرك, لقد كنت أؤمن أنك فقط الرجل وأن كل الآخرين ليسوا برجال, أنت فقط الذي تستحق هذا اللقب, إذا ذكر الجمال, فهو أنت, وإذا ذكر حسن الخلق فهو أنت, و إي شمه حسنة فهي أنت لا محالة, كيف تريدني الآن أن أرى رجل غيرك, كيف لي هذا يا محمود؟. لقد أغلق الله قلبي وعيني عن كل الرجال إلا أنت, لما علي الآن , وفي هذه السن أن أفكر في رجل غيرك, لقد كانت آمي رحمها الله لا تفكر في الزواج أبدا, وأغلقت باب قلبها, وشهواتها عندما مات أبي, فكنت أنوي أن أفعل مثلها, أنى لي ذلك يا محمود, كيف أكون زوجة لرجل غيرك؟, كيف يكتب كتابي على رجل غيرك, كيف يقال عني زوجة فلان غيرك, ثم كيف يكون في البيت رجل غيرك؟, وهل يختلي بي غيرك في غرفة النوم؟, هل ينام في سريرك رجل غيرك؟, كيف هذا؟. هل ينكشف جسدي لرجل غيرك, ثم هل يكون بيني وبينه كما بين الزوج وزوجته, لا لا لا أبدا لن يكون هذا. ماذا تريد بالضبط مني يا محمود؟. كيف هان عليك الأمر بهذا الشكل؟, كيف ترضى أن تصبح زوجتك, زوجة لغيرك؟, حتى لو كنت في ذمة الله, وحتى لو كان حلالا, فليس كل حلال يفعله الإنسان. ما هذا الذي أنا فيه, ولماذا أختبر دائما بمثل هذا المواقف الصعبة, فلم يحب قلبي إلا قلب رجل معلق بأخرى أختاره من بين كل القلوب, ثم اليوم علي أن ادخل قلبي رجل غيره, بعدما مليء حبي له كل قلبي, ماذا يريد الله بهذا؟. ما أعجب الحياة وما أعجب ما فيها, أظنني لا أقدر على هذا؟. يا رب لا تحملني ما لا طاقة لي به. هذا كثير علي يا رب أنني أرضي بقضائك في موت محمود, ولكن أن أتزوج بغيره فهو أمر أخر, يا رب كن رحيما بي, ولا تضعني في هذا الموقف الصعب, لأنني أضعف بكثير من أن أتحمله.
ظلت ليالي طويلة لا تريد أن تتحدث مع نفسها في هذا الأمر, وعزمت على أن لا تنفذ هذه الوصية خاصة أنها لن تنفذ لحبها لمحمود, فلم تكن تشعر بالذنب بل كانت تشعر أحيانا أنها ربما كانت اختبارا من محمود عن حبها له, أو ربما كان الأستاذ شهاب هو من أدعى ذلك ربما لرغبته في السيطرة على المال, أو عليها شخصيا, لذلك فعدم تنفيذ الأمر خير ألف مرة من تنفيذه, لأن وراءه شرا كثيرا.
كانت نادية ومها تلتقي يوميا ويهم كل طرف أن يتحدث في الأمر ولكن لم يجرؤ أحد على ذلك, وكانت النظرات توحي بأمور كثيرة ولكن لا أحد يتكلم. بينما كان الأستاذ شهاب ينتظر بفارغ الصبر قرار نادية, لأنه كان الموكل بتنفيذ هذه الوصية, ولكن الحقيقة لم تكن كذلك, كان شهاب قد أحب نادية حتى دون أن يراها, منذ اليوم الذي زارت فيه نادية مها, وبالرغم من أنه لم يراها إلا أن روحها قد غزت جسده, فأحبها وعشقها حتى كاد يهيم بها, فلما خرج من غرفته, قال لمها, من هذه المرأة التي تمتلك هذه الروح الصافية التي تفيض حبا؟, وقتها لم تلقي مها بالا لهذا الحديث, فكانت مشكلتها كبيرة, ولكن مع الوقت كانت مها تشعر بأن أبوها تتغير ملامحه كلما رأى نادية, وكانت تشعر بسعادة كبيرة تشع منه, ولكن كانت تظن أنه ربما بسبب ما كانت تملكه نادية من حب صافي يؤثر على من حولها, ولكنها اكتشفت مؤخرا بأنه يحب نادية لذا كان وجهه غريب يوما التقى محمود بمفردهما وطلب من تنفيذ هذه الوصية, لقد خرج من عنده بروح مختلفة, كانت خليط من السعادة والحزن ولذلك كان متحمس لتنفيذ الوصية, فها هي الفرصة قد جاءته ليتزوج من يحب, شعرت مها بأحاسيس متضاربة عندما فطنت للأمر, وعادوها الصراع الداخلي بعدما كانت قد اتخذت قرار بالرضا عن هذا الزواج, كان الصراع على أشده في داخلها, فهي تحب أبيها وتحب أن تراه سعيدا, ولكنها أيضا تحب أمها ولا تحب أن ترى لزوجة لأبيها غير أمها وخاصة نادية, والتي صفت لها تماما مع وفاة محمود, ولكن بهذه الطريقة فلن يستمر هذا الصفاء, لذا ذهبت لأبيها مسرعة فوجدته شارد الذهن ينظر بغياب تام للسماء, جلست أمامه وانتظرت أن يشعر بها ولكن دون جدوى, طرقت على المكتب الذي يجلس عليه عدة مرات ولكنه لم يشعر, قالت له بصوت عالي يا أبي عدة مرات حتى أنتبه أخيرا, فنظر إليها بهدوء وعين ناعسة كأنها استيقظ من حلم جميل, اغتاظت مها, وقالت له يا أبي فيما كنت شاردا؟, تبسم لها شهاب وقال لا شيء يا أبنتي لماذا أنت واقفة, اجلسي, قالت مها بدهاء, بمن كنت تفكر يا أبي؟. نظر لها بابتسامة صافية وقال لها, لا شيء يا حبيبتي, ها لماذا أتيت إلي, قالت له جاءت لك لأعرف فيمن تسرح, قال شهاب وهو مازال مبتسما, ماذا تريدي بالضبط يا حبيبتي؟. قالت مها بشيء من الغضب, حبيبتك هي من كنت تفكر بها يا أبي, قال شهاب وقد بدأت الابتسامة في الخفوت, ماذا تقصدي؟. قالت مها بحزم شديد, أنني أعرف فيمن تفكر, وفي من تسرح, ومن تحب, تغير وجه شهاب, فاستمرت مها تقول, كنت تفكر في نادية.
بدا الاضطراب على شهاب, واعتدل في جلسته, وقال ماذا تقولين يا مها؟. قالت مها بتحدي, قلت ما سمعت يا أبي, لقد فهمت كل شيء, وعرفت حبك الكبير لنادية.
نهض شهاب من كرسيه, ووضع يديه خلف ظهره, ثم تحرك عدة خطوات في الغرفة قبل أن يتجه للشباك الزجاجي فينظر من خلاله إلي السماء, ويظل صامتا.
شعرت مها بمزيد من الغضب والأسى, وانتظرت أن يقول لها أبوها ولو كذبا أن هذا لم يحدث, وقالت لنفسها سأصدقه لو قال ذلك رغم علمي بأنه غير صحيح, وانتظرت طويلا ولكنه عاد يسرح من جديد.
ظلت صامتة لفترة ثم قالت يا أبي لم ترد علي, خفض شهاب عينيه من السماء بحزن وقال لها ماذا تريدني أن أقول؟.
نظرت له بوجه غاضب وقالت, الحقيقة. قال لها شهاب, وهل ستصدقينني, قالت مترددة, نعم.
تبسم شهاب وقال لها لن تستريحي, نظرت له مها في حيرة, وقالت, بل سوف أستريح.
تنهد شهاب وقال, نعم يا مها وهو ما لا تحبي أن تسمعيه, نعم هو وليس غيره, ما حاولت أن اكتمه ولكن آن للمحبين ذلك, هو ما يقذفه الله في قلب من يشاء وقتما يشاء, والذي يشعر المحب فيه بالسعادة والعذاب في آن واحد وخاصة في بعد الحبيب, ولكن لا يطلب المحب أبدا أن لا يحب حبيبه, أو ينسيه الله الحبيب, هو أجمل وأسمى من كل شيء, لا يستطيع احد أن يلومني على الحب يا مها.
كانت مها تنظر لأبيها لا تصدق ما تسمعه, ولا هذه المشاعر التي ظهرت فجاءه لقد كان أبيها يبدو دائما صارما حازما, لا يبدي المشاعر إلا قليلا, كان يلومها على حبها لمحمود, ويتعجب من مشاعرها, ويسخر كثيرا منها, فهل انتقم الحب منه بهذه الطريقة ليجعلني أرى أبي بهذا الشكل, هل هذا هو سلطان الحب القوي الذي يستطيع أن يأسر أي قلب ويسطر عليه. فيضحي الحبيب بكل شيء من أجله, أنه هو حقا السلطان ولا سلطان غيره, به يذل الملوك, وله يركع العظماء, ومن أجله تبذل الحياة كاملة, ما هذا السلطان, ما سر قوته؟. لابد أنه ما وراء هذا الجسد, ربما النفس أو الروح, ربما شيء أعمق من الجميع, شيء هو جوهر كل هذا, هو ما جعل أبي يتخلى عن وقاره المعهود, وعن سخريته من الحب والمتحابين, أيها السلطان لا أظن أحد يقدر عليك. انتبهت مها لأبيها الذي استمر يقول,
يا مها, لقد أحببت نادية قبل أن أراها, بمجرد شعوري بروحها العجيبة كان يفصل بيني وبينها حوائط وأبواب, والأهم باب القلب الذي كان مغلق بأقفال صدأه, كيف استطاعت نادية فعل ذلك, كيف اخترقت الحجب حتى وصلت إلي أعماقي, فأيقظت بل أحيت جزيء كان ميتا, وأعادته للحياة فكان كمن استيقظ من ثبات عميق, لدرجة أنه لا يعلم شيء مما يدور حوله, ولكنها استقبلته بحب صافي, أحاطه من كل جانب حتى غمره, فكانت له الشربة الهنيئة والتي من يشرب منها لا يعطش أبدا, ولم يحتاج من بعد إلي شيء, فقد كفاه كل شيء,
ظلت مها تنظر لأبيها, وندمت على أنها تحدثت إليه, فقد فتح الباب ولن يغلق أبدا, انتبهت مها لأبيها الذي كان يحدثها بصوت مرتفع, ماذا حدث لك يا مها؟
عادت مها من شرودها وقالت مالي أنا أم مالك أنت؟. ماذا حدث لك ولوقارك؟. ثم نظرت إليه ببعض السخرية.
لم يهتم بتلك النظرة أبوها, بل قال لأنك لم تعرفي الحب الصافي, نظرت مها له وقالت لقد كنت تلومني على حب محمود, واليوم تقول عني أنني لا أحب.
ابتسم شهاب وقال لها, لم يكن قد مسني الحب الصافي.
نظرت مها له في غضب, وقالت, هل لم تحب من قبل يا أبي, أ لم تحبني, والأهم أ لم تحب أمي التي عاشت معك عمرها كله, كانت معك على الحلوة والمرة, أ لم تحبها يا أبي؟, قل لي أخبرني بالحقيقة ولا تكذب علي.
نظر شهاب لمها وقال بهدوء الحب يا مها درجات ودرجات, مراتب ,ومراتب, بل في الحقيقة طبقات وطبقات بعضها فوق بعض. كنت أحب أمك وأحبك وأحب أبي وأمي, وأبني الحبيب إبراهيم الذي أختاره الله إلى جواره, ولكن كان كل هذا الحب في طبقاته الدنيا, ولكن مع حب نادبة صعدت درجات ودرجات في درج الحب, واخترقت حجب كثيرة وسرت من طبقة لطبقة فذقت طعم الحب الحقيقي, ولمس قلبي طبقة الحب الصافي, في أدنى درجاته, فعدت لأحب كل من حولي من جديد, فأحببتك أمك حبا عظيما شعرت هي به, وكذلك أحببتك أكثر وأكثر, وأحببت محمود بعد أن كنت أكره لذلك طلبت منك أن تعودي لمحمود.
نظرت مها لأبيها في دهشة مما يقول, ثم ابتسمت في غيظ وقالت له, بل أعادتني لمحمود لكي تكون قريب من نادية.
نظر شهاب لها, وابتسم ثم قال, بل لتكوني بالقرب من نادية.
قالت مها في غضب, ولما؟.
قال شهاب, لأنها شخصية لا تتكرر إلا قليلا, فكنت أحب لك أن تقتربي منها, ويغمرك أحاسيس الحب, معها ومع محمود فتنعمي بلذة الحب, الذي لا ينعم به إلا قليل من الناس, لقد فعلت هذا لأنني أصبحت احبك أكثر فأحببت لك أن تذوبي في الحب, ولكن يبدو أنك رفضتني.
نظرت له مها في غيظ وقالت الكل يتحدث عن الحب,ولكنكم حقيقة لا تعرفوه لذا تتهمون الأخر بعدم الحب.
نظر شهاب لها ولم يتحدث, فقالت مها, أنني أحببت محمود حب مراهقة ثم حب يافع, أخذ يكبر كل يوم, ثم أنني أحببت بنات محمود مها ونادية وأحببت نادية نفسها, والله يشهد بذلك, فلما تقولون لي دائما أنك لا تحبي,
نظر شهاب لها مبتسما وقال لا انك تحبي ولكننا لا نريد لك هذا الطبقة من الحب بل نريدك أن تصعدي لطبقات أرقى وأرقى, لأنك تستحقي. فلعلك يا مها تصعدي لدرجة لم أصعد لها فتخترقي الحجب, لتصلي لدرجة الحب الأعظم وهي الذوبان في أعلي طبقة الحب الصافي, فتهيمي فيه, كل من وصل لدرجة الحب هذه انقطع عن الكلام ولكنني عندي أمل أن تتحدثي أنت عنه فتخبريني عما عجزت عن الوصول إليه.
نظرت مها له وقالت ولما الجميع يقع ضحية حب نادية, محمود ثم أنت حتى أبني محمد أشعر أحيانا أنه يحبها أكثر مني,
تبسم شهاب وقال لها, كل هذا وهم من الشيطان ليقف بينك وبينها, الجميع يحبك يا مها, وأكثرنا نادية وأنت تعرفي ذلك, و أ لست أنت نفسك تحبيها؟,
بكت مها وقالت نعم أحبها ولكن كل الظروف تدفعني لغير ذلك, ليتني التقي بها في ظروف غير هذا.
ضحك شهاب وقال كلنا نرمي كل شيء على الظروف, وما هي الظروف التي تمنعك عن الحب, ليس هناك شيء يمنع الناس عن الحب أبدا. كلها أعذار واهية.
قالت مها, ولكني أحبها, وأنت تعرف ذلك.
قال شهاب, ولكن يمكنك أن تحبيها أكثر,
نظرت له مها بعيون حائرة ثم تركته وغادرت مسرعة, بينما عاد هو ينظر إلي السماء شاردا.
تحدثت مها مع نفسها كثيرا وقالت لقد رأيت أبي يبكي منذ قليل, وأنا لم أره يبكي من قبل بهذا الشكل, فهو لم يبكي هكذا حين توفيت أمي ولا حتى حين توفيت أمه, وإذا ذهبت أعمق من ذلك فهو لم يبكي كذلك حين قبض الله روح أخي إبراهيم, ماذا حدث له؟, هل هو على الحق أم على الباطل, ليتني اعرف حقيقة كل شيء لأستريح مما أنا فيه, لقد دخلت علي أبي متحاملة عليه, ولكنني الآن أشفق عليه, لقد قطع حاله قلبي, ولكنني لا اقدر أن أفعل له شيء, لن يضايقني الآن إن تزوج نادية إن كان هذا سيسعده, ولكن ماذا يريد أبي من الزواج وهو بهذه السن, الأمر كله بيد نادية, وسأدعم أي قرار تتخذه.
تغيرت مها كثيرا بعد حديثها مع أبيها, وتمنت أن توافق نادية علي الزواج من أبيها.
ظلت الأمور على حالتها من الجمود إلى أن تشجعت مها على الحديث مع نادية بخصوص الزواج من أبيها, ذهبت لها مها فوجدتها شاردة الذهن, فذكرها ذلك بما كان عليه أبيها, فقالت لنفسها لعله بشرة خير, قالت لنادية بصوت رقيق كيف حالك يا حبيبتي؟.
التفتت نادية لها وقالت بصوت حزين, الحمد الله يا حبيبتي, كيف حالك أنت؟.
ابتسمت مها لها وقالت, يبدو على وجهك الحزن, عليك أن تحذري يا نادية فهذا سوف يسبب لك التجاعيد في وجهك.
قالت نادية وهي تضحك, يبدو انك في حالة مزاجية جيدة.
قالت لها مها, نعم يا حبيبتي, ويجب عليك أنت أيضا أن تكوني كذلك.
قالت نادية, إن قلبي حزين ولا أعرف ماذا علي أن أفعل؟.
قالت مها بابتسامة صافية, تعودي لما كنت عليه من قبل, ماذا جرى لك يا نادية؟, لقد كنت الدافع الرئيسي لنا في طريق الحب, أين ذهب صفاء نفسك؟.
قالت نادية وهي تتنهد, ذهب مع محمود ويبدو أنه لن يعود أبدا.
قالت مها وهي تقترب من نادية وتحتضنها, لا يا حبيبتي, لا تقولي ذلك, سيعود لك صفاءك مرة أخرى إن شاء الله أنا على يقين من ذلك,
غرست نادية نفسها في قلب مها وقالت والدمع ينهمر من عيناها, كيف هذا يا مها؟.
تنهدت مها وقالت وهي تتنحنح, ربما إن نفذت وصية محمود.
أخرجت نادية رأسها من صدر مها, ونظرت لها في دهشة, وقالت أنت من تطلبي ذلك مني يا مها؟. أنك تعرفي كم أحب محمود. فهل يمكن أن أتزوج غيره يا مها,
قالت مها, وهل يمنع حبك لمحمود من أن تحبي شهاب؟
قالت نادية بصوت منخفض وكيف هذا يا مها؟.
قالت مها متعجبة وهي تضحك, كيف أقول أنا لك كيف وأنت من علمتني؟. لقد قلت لي أن محمود يمكنه أن يحبك ويحبني, في وقت واحد وكلما زاد حبه لي يزداد حبه لك, وبالعكس, فالحب لا ينقص من حبك للأخر بل يزيده.
قالت لها نادية, هل تعاتبيني على ما قلته لك يا نادية؟.
قاطعتها مها, وقالت لا والله يا نادية فالله يعلم كم أحبك, وكم أنا سعيدة بما فعله الله معي, وسعيدة بتجربتي كاملة, وخاصة معك, لقد تعلمت منك كيف يمكن أن نحب بلا حدود ويكون حبنا صافيا,
تنهدت نادية وقالت, ولكني لا أستطيع يا مها.
ضحكت مها وقالت, وكذلك كنت أنا ولكني حاولت حتى نجحت. فعليك أنت أن تحاولي وأنا واثقة من نجاحك.
قالت نادية وهي حزينة, لا استطيع.
نظرت لها مها بنظرة حاسمة سوف تستطيعي, وسأقول لك شيء لست أعرف إن كان يجب أن أقوله أم لا, أبي يحبك حبا صافيا لا يمكنك أن تتخيليه, أكبر مما تظني رفعه لدرجة الحب الصافي حتى قبل أن يراك.
قالت نادية وهي تنظر إلي الأرض خجلا, كيف كيف هذا يا مها؟.
قالت مها وهي تبتسم, أتذكري يوم جئت لزيارتنا أول مرة, يا نادية, يومها أحبك أبي منذ طرقت الباب, وقال لي أن روحك, اخترقت الأبواب والحوائط وأكثر من ذلك, اخترقت حواجز قلبه, حتى أصبح يحب كل من حوله بشكل أكبر.
قالت نادية وقد تغير وجهها, واختفى منه كثير من عوامل الزمن, أنا من فعل ذلك؟, أنها مشاعر جميلة راقية, ولكني لا يمكن أن أكون لرجل أخر غير محمود.
قالت مها, فكري جيد, ولتعرفي أنك سوف تغمري شهاب بالسعادة.
نظرت نادية لها بعيون مليئة بالدموع ولم تتحدث.
لم تقتنع نادية بما قالته مها, ورغم محاولات مها معها, إلا أنها كانت ترفض, ولم يحدث أي تغيير في موقفها, ولكن حدث شيء غير متوقع, قلب كل شيء, و تحول كل شيء للأسوأ.
ظهرت إشاعة عن علاقة آثمة بين نادية وشهاب,تردد هذا الكلام في كل مكان في المصنع, وحتى بين العملاء, فكانت كالنار في الهشيم, جن جنون نادية حينما سمعت هذا الحديث, وقالت لما يخوض الناس دائما في عرضي؟, في السابق كنت ضعيفة, أما أنا اليوم فقوية والله لن أفوت هذا الأمر, كيف يعمل هؤلاء الناس في مصانعي, ومحلاتي, ويأكلون من خيري ثم يخوضون في شرفي, والله لأعقابهم أشد العقاب, سأغلق المصنع وأشردهم, لم تفلح أي محاولات لتهدئتها, حاولت مها معها كثيرا, إلا أنها قررت غلق المصنع, أغلقت عليها باب حجرتها, لا تتحدث مع أحد, ظلت على ذلك عدة أيام, ترفض الطعام والشراب, ولا تتحدث مع أحد, كان قلب مها ينفطر عليها, وفكرت في طرق ربما تحل المشكلة, خاصة أن والدها شهاب, سقط مغشيا عليه, ولم يغادر الفراش من يومها, يبكي بحرقة وحزن ويقول كيف يأتي اليوم الذي تتأذى به نادية بسببي ليتني مت قبل هذا.
كانت مها في حالة عجيبة من الهدوء النفسي, فتعاملت مع والدها أولا وقالت له لا تحزن أن ذلك هو الفرج بأذن الله, وحكت له ما كان من حديث قديم, وكيف كان حلا, فقال شهاب, التجربة لا تتكرر أكثر من مرة, ثم يا ليتني أكون بعيدا عنها طول الدهر, ولا أن يصيبها أصغر شوكة ربما لا تشعر بها. قالت مها لأبيها مادمت تحبها بهذه الطريقة فأنا واثقة من أن الله رب القلوب, لن يكسر قلبك أبدا, أنا أعرف نادية جيدا, وأعرف كم هي قوية وستخرج من هذه الأزمة أفضل من ذي قبل, وكان يجب أن تضيق الأزمة حتى تصل ذروتها ثم يرسل الله الحل بأبسط الطرق.
ظلت نادية على حالتها, لا تتحدث مع أحد اختفى من وجها, صفاءه وجماله, وحل بدلا منه تجاعيد وسواد ممتد حول العيون, وأصبحت العيون حمراء وذهب منها لمعة الحياة والحب, ولكن مازالت مها ترى ما وراء ذلك من قلب طيب, ونفس صافية, مهما بدا خارجها, أمهلتها مها فترة طويلة, وانتظرت حتى شعر قلبها أن الوقت قد آن, جلست مها بجوار باب نادية الذي أصبح مغلق بشكل تام, وأدارت المسجل على صورة النور, بصوت الشيخ محمد رفعت, حتى وصل القارئ إلى قوله تعالي, ( إن الذين جاءوا بآلافك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم لهم عذاب عظيم) ثم قال القارئ بصوت رخيم ( لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين, لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون) ثم أكمل القارئ هذه الآيات ولكن رأيت نادية تخرج من غرفتها, وقد ارتدت ملابس خروجها, وقالت لمها, أتصلي على الأستاذ شهاب وقولي له أن يقابلني في المصنع, ويستدعي كل العاملين فيه, نظرت مها إليها في تعجب, وقالت لها, ماذا تنوي أن تفعلي, يا نادية’ قالت بابتسامة عريضة, ستعرف عما قليل, الحقوا بي جميعا في المصنع.
جلست نادية لمكتبها, واستدعت عدد من مسئولي الأقسام المختلفة في المصنع في اجتماع مغلق, جلس الجميع في توتر,ينتظرون أن تتحدث, كانت تنظر إليهم بهدوء وثقة, كانت تتفرس في وجوههم, ثم قالت لهم, انصرفوا الآن, وسوف نتقابل, بعد قليل مع باقي العمال, انصرف كل واحد فيهم وهو لم يفهم شيء مما حدث.
بعد عدة ساعات كان كل العمال ينتظرون أمام المصنع, يدور في أذهانهم أمور متضاربة, ويتحدثون مع بعضهم البعض, يملئ قلوبهم الخوف والرجاء.
خرجت نادية بوجه يملئه القوة والثقة والحزم, كان كل شبر من جسدها يوحي بذلك, نظرت تتفرس في وجوه الجميع لعدة دقائق, ثم ابتسمت ابتسامة عريضة, كانت توحي للجميع بأنها عثرت على ضالتها, ثم قالت بعين قوية وجريئة, نمى لعلمي أنكم تخوضون في شرفي, والله من فوق سبع سموات يعلم أنني بريئة, وهذا هو ما يهمني, كذلك أنا أثق في نفسي, ويثق كل من يعرفني جيدا, أنني لم ولن أفعل ما يغضب الله, فأنا حرة بنت أحرار نخاف الله ونتقيه, قد حذر الله المؤمنين من الخوض في أعراض الناس, ووضع حد لذلك, وكذلك وضع حدا للزناة, وأنا جمعتكم, لنطبق شرع الله, وأنا مستعدة لذلك, فهل أنتم مستعدون لذلك؟, صمتت لدقائق تتفرس في وجوه الناس فلم تجد أي شخص يرد, فقالت إذا سنطبق شرع الله, كم واحد منكم رآني أمارس الزنا, نظرت للجميع تنتظر إجابة ولكن لم يرد أحد, أعادت السؤال أكثر من مرة, فلم يعود لها أي رد, قالت بثقة, لابد أن أحد هو من بدء هذه الإشاعة, فهل يملك الجرأة أن يجمع معه ثلاثة يشهدون أنهم رأوني أمارس الزنا, لم يجب أحد, قالت بثقة وهي تنظر إليهم باحتقار, هل لا يقول ذلك خوفا مني أو من الحد أم من الله؟, لو كان يخاف حقا من الله ما خاض في أعراض الناس أبدا, كم أنت ضعيف وساذج حتى لا تقدر في حضوري أن يقول ما تقوله في ظهري, لقد عرفت كم أنا قوية, وكم هو ضعيف, ولكنني أقول لكم, من الذي خاض في شرفي؟, فنظر الجميع لبعضهم بعضا, ولم يجرؤ احد على الكلام, فقالت بصوت قوي, أجيبوني,
سرت رعشة قوية فيما بينهم ثم قال الأسطى إبراهيم, والله ما علمنا عليك إلا الخير, ولم نكن نسمح لأحد أن يخوض في حقك لا في هذا الأمر ولا في غيره,
نظرت له نادية وقالت, الحمد الله انه كان بينكم من قال قول الحق, ولكني أسألك أن تخبرني من قال هذا؟.
قال لها إبراهيم, ما أغناك عن أن تعرفي من قال ذلك, فهو أحقر بكثير من أن تفكري به, أو تنتقمي من مثله, فقد عرفنا عنك أنك أعظم من ذلك بكثير,
تبسمت نادية وقالت ولكني أعرفه جيدا, وأن كان رجلا حقا فليفصح عن نفسه, وأنا لن أنتقم منه ولن أقيم عليه الحد لأنني لا املك ذلك, ولكني أعرف جيدا أن الله يقيم حدوده بطرق كثيرة, لا يعلم عددها ولا كيفيتها إلا الله, وأقول لكم أنني أعرفه جيدا وأعرف من خاض معه وروج لهذا الأمر, وسوف أحاسب كل واحد منهم, ثم انصرفت ولم تنظر خلفها, بينما وقف الجميع في دهشة مما حدث, والكل يقول كم هي قوية هذه المرأة, لكنها لم تخبرنا بما ستفعل في المصنع, هل سنعود للعمل أم نبحث عن عمل أخر.
كانت مها التي تقف قريبا من نادية, لا تصدق ما قالته نادية, كانت كأنها أول مرة تعرفها فيها, كانت أقوي مما تظن, وأكثر حزما وعقلا مما تعتقد, أذكى مما تتخيل, لقد أدارت الأزمة بطريقة لا يتوقعها أحد, وأثبتت أن الحق قوي مهما بدا للبعض غير ذلك, لقد وضعت قواعد جديدة للنساء حين تتعرض لمثل ما تعرضت له, إنها حقا امرأة من هذا العصر, تتميز بالقوة والتجربة, كأنها طورت أفعال ومشاعر النساء حين تتعرض لمثل هذا الموقف من البكاء والانعزال, إلي مقاومة الأمر, أو التعدي على من أخطاء في حقها, إلي مواجهته بقوة الحق, وجعله قزم صغير لا يجرؤ على الظهور بل يتخفى, ويكاد يهرب, حتى الذين سكتوا أو خاضوا مع الخائضين كانوا خائفين مرعوبين منها, كم هي قوية وكم الحق أقوي.
أما الأستاذ شهاب, فقد عادت له عافيته بمجرد أن رآها تقف شامخة قوية, ولكنه كان يزداد قوة وشموخ كلما تحدثت, كما كان يزداد حبا لها, حتى كاد حين أنهت كلامها أن يجري عليها, ويحتضنها ليمسح كل ما في قلبها من الألم والحزن, فهو كان يعرف أنه بالرغم من قوتها وشموخها, كان يعرف أن قلبها, مجروح وممزق. ولكنه خاف من ردة فعلها, تمنى وقتها لو كانت زوجته, فأضمر في نفسه شيء فنظر إلي أبنته نظرة حازمة, فقالت له بعينها ماذا تنوي؟, فقال لها, ما يجب فعله يا مها منذ زمن بعيد.
جلست نادية كرسي مكتبها, وأرجعت ظهرها للخلف, كانت سعيدة بما فعلت كأن صخرة قد أزيلت عن صدرها, أخذت تحلق في سماء السعادة, بينما تحرك كرسيها يميننا, ويسارا, شعرت بنشوة النصر, وقوة الحق فيها, كم هي الحياة جميلة حين نحياها بالشكل الصحيح, الحياة يجب أن نكون أقوياء فيها لا نخاف أي شيء, كل شيء قد قدر من قبل الخلق, وخوفنا لن يرد القدر, بل سوف نشعر معه بالخوف, والقهر, ما أجمل أن تعيش في الحياة بجسدك, بينما وروحك أسمى من ذلك بكثير تحلق في السماء خفيفة متحررة من قيود الجسد, ليس لما يحدث في الحياة أثر على روحك, لأن روحك قد اتصلت ببارئها, فهي قد شغلت به عن غيره, وما يفصلك عن الاتصال الدائم به إلا ترك هذا الجسد البالي وهو العقبة عن بلوغ المراد, فترى حينها جمال خلق الله في كل شيء. فتصبح جميلا وترى كل شيء جميل, فتكون حينها كما قال الشاعر, كن جميلا ترى الوجود جميلا.
قطع صفاءها, طرق على الباب فعادت للواقع حزينة على الخروج من جنة الحب الصافي, ومع ذلك ظلت سعيدة فقالت, بصوت جميل صافي, لو سمحت تفضل,
دخل الأستاذ شهاب سعيدا ترفرف روحه حوله في حالة من النشوة الممزوجة بالسعادة, أضفى ذلك عليه وسامة, وعزة, وعلى الكل نور مشع نفذ من عينيه سريعا إلي قلب نادية, التي كانت مستعدة لتقبل أي شعاع من الحب لعله يدخلها ثانية إلى حالتها الأولى, ورغم أنه رفع من شأنها كثيرا إلا انه لم يعيدها لحالتها, نظرة بعيون جميلة صافية لشهاب الذي بدا أنه ذاب عشقا, فشعر قلبها ومن ورآه الروح التي تسكن في أعماقه, بكم الحب الذي يحتويه, سعدت أن قلب يحبها بهذا الشكل, فقالت لنفسها, يا شهاب أشعر بما في قلبك, وأعماقه من الحب لي, ورغم أن روحي تشعر بروحك وأحبتك, إلا أن جسدي لا يقبل هذا,
ضحكت روح شهاب وقالت,أيهما أثمن يا نادية, أ الروح أم الجسد؟.
ضحكت نادية وقالت الروح طبعا فما للجسد بجوارها بشيء.
ضحك شهاب وقال, فلما إذا تسمعي لكلام الجسد, وتتركي الروح. الروح كلما أحبت ارتقت, ولكن الجسد كلما أحب هوى. الجسد سيفنى ولن يعود كما كان أبدا فلا تشغلي بالك به, وعيشي معي بروحك وأنسى الجسد,
قالت نادية في خجل, هل لا تحتاج جسدي,
قال شهاب, إن حاجتي لروحك لا منتهى له, وان اقتربت من جسدك فهو في حقيقة لأقترب من روحك الطاهرة. لا تجعلي السخافات تشغل, بالك.
قطع حديث الروح هذا, شهاب وهو يقترب من نادية, وينظر في عينها بحب عميق, أريدك أن تكوني بجانبي دائما, لا يفرقنا شيء أبدا, ولا حتى الموت.
وجدت نفسها تقول له, وأنا كذلك.
مها كانت سعيدة بما حدث ووجدت أن أبيها سعيد, وكذلك نادية, وكانت تؤمن أن أمها, ومحمود سيكونون سعداء بذلك أيضا, ولكن كان يشغلها حال المصنع والعمال, فهي تعرف أن أكثرهم ليس له مصدر دخل أخر, كانت تفكر في أمرهم كثيرا, حتى كانت لا تستطيع أن تأكل, فتقول كيف أشبع وأنا أعرف أن هؤلاء جوعي, كم من طفل سوف ينام جوعان, وأنا بطني ممتلئة, لابد من حل سريع لهذا الأمر, وعلي نادية وأبي أن ينسوا ما فعل هؤلاء, ويفكرون فقط في كيف يمكن مساعدتهم, لذا عزمت على السفر لشرم الشيخ للقاء نادية ووالداها.
عندما وصلت للفندق, سألت عنهما, فعرفت أنهما يتناولان الإفطار معا, في مطعم الفندق, ذهبت للبحث عنهما, أخذت تنظر هنا وهناك , ولكنها لم تجدهما, فألتفت لتخرج, فلمحت بعينيها, طرحة تعرفها, فعادت لتنظر فوجدت فتاة ترتدي هذا الحجاب, مع عريسها في شهر العسل, ولكن لما تفرست, اكتشفت أنهما نادية ووالدها, لم تصدق ما ترى, فقالت ما أروع الحب, وأقواه, كم يغير الناس من داخلهم فيتغيروا من خارجهم, فيصبحوا يشبهون تماما كأطفال في ملكوت الله, إن كان الحب بين البشر يفعل ذلك, فكيف بالحب بين الإنسان وبارئه, ماذا سيفعل هذا الحب؟, كانت تنظر فتشعر أنهما يذوبان حبا وعشقا, فتمنت أن تذوب حبا وعشقا, ولكن مع الحبيب الدائم, الذي لا يتركها أبدا, ولا تتركه, لا يؤثر على هذا الحب زمان ولا مكان ولا أي شيء أخر, لا معنى في هذه الحالة إلا للحب, الذي لا يخالطه شيء أخر,
اخرج مها من هذه الحالة تذكرها للأطفال الجوعى, فعادت سريعا للواقع ولكنها لم تجده كما تركته, فلا الفندق فاخرا كما كانت تراه من قبل, ولا شهاب ونادية بالجمال الذي كانت تراه من قبل, أقبلت عليهم مسرعة, كان داخلها بركان من الحزن والغضب, ولكنها قالت لنفسها, ليس عليك أن تروعيهم, فأخفت كل مشاعرها داخلها, وأقبلت عليهم بوجه يحمل كل معاني الحب, ونظرت لهما, وهما مازالا يهيمان في بعضهما البعض, قالت لهما لصوت رقيق ممتلئ حب, السلام عيكم, نظرا إليها, كأنهما أول مرة يسمعوا هذه الكلمة, السلام عليكم, نظر شهاب لها وقال, عليكم السلام يا حبيبتي, ما أجملك يا مها, نظرت مها لهما, وقالت ما أجملكما أنتما, وما أجمل من علمكما الحب, نظرا إليها وهما يحاولان استيعاب ما تقول, ولكنها قالت سريعا, جئتكما في أمر هام, لا تقلقا إن شاء خيرا,
قد جفاني النوم, ولا أستطيع أن أكل أو اشرب, وأنا أعلم أن هناك من هو ربما لا يجد قوت يومه, ونحن يمكننا أن نساعدهم, لقد تركنا العاملين في المصنع بلا مصدر دخل, لمجرد أن بعضهم اخطأ في حقنا, كم نحن منزوعي الرحمة, نظرت نادية لشهاب, ثم نظرا كلاهما لما بين أيديهم من أطعمة, ثم نظرا لبعضهما البعض ثم لمها, وامتلأت القلوب فجاءه بالحزن, وزفت العيون دموعا ساخنة, وتحرك الجميع في اتجاه واحد, للخروج من الفندق, وقالت نادية, لقد عشت معني الجوع والظلم, فكيف لقلبي أن ينسى هذا, ويصبح بهذا الجحود والقسوة, لأن أموت صعقا خير لي مما فعلت.
أٌعدت وليمة كبيرة, في المصنع دٌعي إليها كل من يعمل معهم وعائلتهم, وتم تصفية النفوس, وإعادة فتح المصنع, وتعويض العمال عن الفترة التي توقف فيها المصنع, وعفت نادية عن كل من كل من أخطأ في حقها, وكانت تشعر تجاههم بامتنان لأنهم بدون قصد, فتحوا قلبها تجاه شهاب الذي فعل كل شيء ليرضيها, واحتفى بجميع الأولاد, كأنهم أولاده. وقد قرب نادية من الله أكثر وأكثر, وكانت تدعو الله كل يوم أن يغفر لها ما فعلته مع العمال, كانت تبكي كثيرا لشعورها بالذنب تجاههم وخاصة أبناءهم, فهي من عايشت هذه المشاكل أكثر من غيرها, لذا عاهدت الله أن تبذل كل جهدها, ليعيش من يعمل معها حياة سعيدة, توفر هي لها دخلا محترما يكفيهم, بل ويدخروا منه بعض الشيء للغد, وأنشأت صندوق تكافل خاص بالعمال, يساعد كل عامل في ظروفه التي يحتاج فيه المال, مثل الزواج, والموت وغير ذلك. وأنشأت وحدة خاصة لحل مشاكل العمال الحياتية, مثل المشاكل العائلية, بل وأنشأت مدرسة خاصة للعاملين معا, أمدتها بأفضل المعلمين, وحاربت فيها كل أنواع الدروس الخصوصية وكانت تقدم لهم تأمين صحي محترم, ثم أنشأت مستشفي خاص بهم, قدمت فيه كل الرعاية الصحية للعاملين وذويهم, ورغم أنها لم تكن تريد أن يكون لهذه الأعمال الخيرة أي مقابل, فقد ساعد ذلك العمال على زيادة الإنتاج, وخلقت بيئة عمل ممتازة, وأصبح ما فعلته محل احترام وتقدير في الداخل والخارج, فكانت برامج كثيرة تتحدث عن هذا المصنع وما يوفره من ظروف عمل ممتازة للعاملين فيه, ومردودة على جودة الإنتاج, حتى أصبح أسم المصنع ماركة مسجلة عالمية, يقدم الكثير في الداخل والخارج على شراء منتجاته, احتراما لهذا المصنع وما يقدمه من منتج ممتاز, وظروف ممتازة للعاملين فيه, لم تعد تنتظر أي مردود يأتيها من أي جهة على ما تفعله من الخير, ولم تعد تحزن إن أساء إليها أي شخص بعدما أحسنت إليه, وعلى الرغم أن هذا لم يحدث لفترة طويلة, فقد فهم العمال الدرس, ولم يعودوا ليؤذوها, إما حبا وتقديرا لما تفعله, أو خوف منها.
أما شهاب, فكان يمسك بمسبحة طويلة دائما يسمعه من حوله يقول, الحمد لله, لا يقول غيرها, يقولها بإحساس تام بالرضي, كسي هذا الرضي وجه وجسده, فكان الرضي واضح في كل كلامه وأفعاله, وكيف لا يرضى وقد وهبه الله حب صافي في هذا العمر, كانت حياته جميلة هادئة يهيمن عليها الحب والرضي والشكر, حتى حدث ما كاد يعصف بكل شيء.
شعرت نادية بأعراض الحمل, ولكنها أنكرت ذلك, فقالت لعلها أعراض انقطاع الطمث, ولكن الأعراض زادت, فذهبت لطبيبة النساء مديحه, وهي صديقتها أيضا, والتي قالت لها بعد أجراء التحاليل اللازمة, لم أكن أعرف أن الحب يمكن أن يفعل المعجزات بهذه الطريقة, قالت نادية في قلق واضح, ماذا تعني؟.
قالت مديحه, أنت حامل يا نادية, وفي هذه السن.
أمتلئ وجه نادية خجلا, وقالت كيف؟ لقد كنت أظن أن الطمث قد أنقطع منذ فترة, ولما اشتدت الأعراض ظننت أن ذلك يؤكد ما أشعر به.
قالت مديحه, أنت حامل يا نادية, وعليك أن تفرحي,
قالت نادية, أنني أعرف أن الحمل في هذه السن خطير.
قالت مديحه, أنه سيحتاج لمتابعة أكثر فقط, ولكني مطمئنة أن الحب الذي فعل كل هذا, لن يعجزه شيء .
بكت نادية, وقالت لا أعرف هل أفرح أم أحزن؟
ضحكت مديحه, وهي تحتضن نادية, وقالت لتفرحي يا نادية, أنت دائما تقولي, أن فعل الله كله خير.
مسحت نادية دموعها وقالت, نعم, صدقت, ليفعل الله ما يشاء, ولكني لا أعرف ماذا سيكون رأي شهاب.
وقف شهاب مذهولا, لا يصدق ما يسمع, وقال كيف؟ أنا في هذا السن, وأنت كذلك.
قالت نادية, إرادة الله, يا شهاب.
قال شهاب, نعم, وهو فضل ونعمة, ولكن لغيرنا يا حبيبتي.
قالت نادية ليس لفضل الله موعد يا شهاب.
جلس شهاب علي الكرسي مرة أخرى, ونظر إلي الأرض, وقال في خجل, ربما علينا... علينا.... ربما علينا أن... أن..... أن....
صرخت نادية وقالت إياك أن تنطقها يا شهاب.
قال شهاب, وهو يبكي أستغفر الله. ولكنني أقول ذلك لأنني أخاف عليها, أخاف عليها يا نادية, بكل المقاييس, لا يمكن أن تصل لبر الأمان أبدا, لا يمكن أن أعيش لأربيها يا نادية. أنني أفعل ذلك رحمة بها.
قالت نادية وهي تقترب منه, وتضع يديها على كتفه بحنان, هل أنت أرحم من الله بها يا شهاب؟.
رفع شهاب نظرة لأعلى وقال لها, وهو يضع رأسه على جسد نادية, أستغفر الله, بالطبع لا يا نادية فهو أرحم الراحمين,
جلست نادية بجواره وقالت, نعم هو أرحم الراحمين.
كان ما أراد الله, وجاءت صفاء للحياة, كان الجميع يروق له أن يناديها صافي. استقبلها الجميع بحب غزير, وخوف عليها, كان لها وضع خاص, فهي ابنة شهاب أي خالة الجميع, وأخت الجميع كما كانوا يربوا أبناءهم, فكان لها معزة خاصة, وكانت نادية تداعب محمد أحيانا, فتقول له وهو قد أصبح رجلا, نادي خالتك صافي يا محمد أو أفعل كذا لخالتك, فكان يكون هي أختي وليست خالتي, وكانت صافي تشعر بالحرج أحيانا عندما كبرت قليلا حين يحملها محمد, وهي تعرف أنها خالته, فيقول الجميع له, حاسب توقع خالتك. فكان يضحك لها ويقول, مبسوطة فيما فعلتيه لي, فتضحك, وتقول مالي بذلك, يا واد يا محمد, فينظر كلاهما إلي نادية و شهاب وهما يضحكان, فيقول محمد هذا ما جناه جدي علي, فيمسك شهاب عن التسبيح, ويضحك حتى يختفي صوته, فيخافون عليه أن تخرج روحه من شدة الضحك. ويقول الحمد الله, وكفى. فيقول محمد في عصبية, هي أختي, وأختي فقط, فتضحك مها الصغيرة وتقول له بل هي خالتك, ولكنها أختي أنا ونادية, فيقع الجميع في الضحك حتى محمد, وهو ينظر لصفاء.
كانت صفاء هي السبب الأساسي للضحك في البيت, وليس لوضعها الخاص فقط, ولكن لخفة ظلها ولاشتياقهم لطفلة في البيت, وقد أعطاها الجميع من الحب والحنان ربما لم يحظي الكثيرون به, وخاصة أن البعض كان يخاف عليها من المستقبل, ولكن الله كان قد أعطاهم صفاء هدية على فعلهم الخير, وقد حافظ عليها من كل شر, لما قدمه أبويها من الخير الذي لا يحصى. عندما تزوجت نادية ثم مها ثم محمد, خلى البيت إلا من صفاء التي أصبحت قرة أعينهم, وسبب البهجة, والسعادة في البيت, بل كانت هي من تعطي لهم معنى للحياة, لذا أصبح شهاب, ومن ورائه نادية, تخاف من اليوم الذي لابد أن يأتي فتتزوج صفاء, فيذهب معها روح البيت, لقد كان شهاب يبكي كثيرا, و يقول الحمد لله, الذي فعله كله خير, الحمد الذي جعلني أتخذ القرار الصحيح, فلم أقدم على قتلت أبنتي, الحمد الله الذي منحني زوجة في هذا العمر, وجعلها سبب لسعادتي لقد كنت أظن أن زواجي بها سيكون ربما أياما, وكنت سأكون سعيدا, لو أصبحت زوجة لي لدقيقة واحدة, فان الوقت يفنى حين نشعر بالحب والسعادة, ولكن فضل الله كان علي كبيرا, فقد أمد في عمري لسنوات طويلة عشتها كلها سعيدا راضيا مرضيا, ولم يكتفي الله بذلك فجعل لي منها ابنة, كانت قرة العين ومهجة القلب, فشعرت حينها أنني عشت حياتي من جديد كشاب صغير التقى بحبيبته, وحارب حتى تزوج منها, ثم أنجب منها وعاش معها في تبات ونبات كما يقولون, فلست عشت فقط حياتي مرتين, بل عشت حياة كالأبطال في الروايات, كم الله كريم حليم, فله الحمد والشكر دائما أبدا حتى يرضى كما جعلني راضيا, و له الحمد من بعد الرضا, كما جعلني.
سأله مرة صديق مقرب له, لماذا تقول دائما الحمد لله, وهي ذكر عظيم, ولكن هناك تسابيح وأذكار كثيرا, فقال له شهاب, بابتسامة جميلة صافية, أنني أؤمن أن كل ما يفعله الله هو خير لا شر فيه حتى لو بدا على عكس ذلك, لذلك أحمد الله على هذا الأمر, ليس هذا وحسب بل أؤمن بأن رد فعلي تجاه أمر الله كله خير لي فأنا أؤمن أن الله وفقني للفطرة لذا ما افعله هو الخير لأن نيتي فيه للخير, عندما أفعل أي شيء, تكون نيتي الخير, لذلك فلابد أن يكون المردود دائما من نفس الجنس فيكون خير بحمد الله, لذا احمد الله عليه, احمد الله دائما لإرادة الخير بي, وجعلي أفعل الخير,
أبتسم صديقه و قال له, نعم يا شهاب يستحق ذلك.
قد يقول الجميع أين مها من كل هذا؟, فما حدث مع مها هو شيء مختلف, فمنذ زهد جسدها الطعام, والنوم, ومنذ رأيت ما يمكن أن يفعله الحب, فقد فتح لها باب الحب الإلهي على مصراعيه, فدخلت فيه حتى ذابت, فزهدت كل متاع الدنيا, وعاشت في البداية بين نادية ومها ومحمد, وأعطتهم من الحب ما استطاعت, فالتصقوا بها أكثر من الجميع, ثم دخلت معهم بعد ذلك صفاء, ولكن الحب الذي كانت تشعر جعلها تؤمن أن عليها الانضمام لجمعيات ترعى الأيتام, والمسنين, فكان لها ما أرادت, ولكنها شعرت أن عليها أن تنشأ جمعية خاصة بها, فأنشأت بجوار المصنع دار للأيتام, والتحق الأطفال بالمدرسة التي أنشأها المصنع, وعوضت مها جميع الأطفال عن الحب الذي حرموا منه, فكانت تعطيهم حبا عجز عن إعطاءه لهم ذويهم, فكان هؤلاء الأطفال أكثر من محظوظين, فقد أعطتهم حبا صافيا, غمرهم شعرهم يشعرون أنهم حقا محظوظون, وكان الجميع يتعجب كيف لقلب واحد أن يحوي كل هذا الحب, وكيف يفيض على كل هؤلاء, فيشعر كل واحد أنه الأقرب إليها, وأنه الأقرب لها. قد أعطت للجميع أكثر مما طلبوا, ولم ينقص ذلك من الحب الذي داخلها شيء, بل كان يزداد أكثر وأكثر كلما أحبت. كان كل من عاش إلي جوارها قد نال جزء من هذا الحب الصافي, وأعظم شيء, أنهم كلهم جميعا كانوا سعداء بما أهداهم الله, وقد تخرج كل واحد فيما بعد من الكليات المعاهد المختلفة, كل واحد عمل في مجال مختلف, ولكن لم يكن في قلب أي واحد منهم حقد أو حنق على المجتمع بل كان سعيدا بما حظي به من الحب ويقول بفخر أن السيدة المحترمة مها, هي أمي. لم تكن تعلمهم الحب, بل تهبهم الحب, كانت تغدق عليهم من حبها, فكانوا هم أيضا يفيضون من حبهم على الآخرين. كان أعجب شيء, أن الأطفال الآخرين من كثرة ما سمعوا عما ينعم به الأيتام مع مها من حب, تمنوا أن يكونوا معهم, كانوا يبكون لأهلهم كثيرا ليلتحقوا بالأطفال, وكان الأهل يرفضون في البداية, ولكن مع تواجد الشباب الذي تخرج من مدرسة مها, في مواقع مختلفة من العمل, فمن منهم في المجال الطبي, كان بينهم تعاون جميل, فيقدمون الخدمة كاملة من كشف وعلاج وتحاليل و أشعة وغيرها مجانا للفقراء.
أما المعلمون, مثلا, فيبذلون كل طاقتهم في المدارس, ولا يتركون الطلبة إلا بعد أن يطمئنوا تماما لفهمهم, وكان الطلاب الذين يحظون بالتعلم على أيديهم فهم الأكثر تفوقا علميا وخلقيا. وكان كل واحد يعمل بجد وإخلاص, وكانت أخلاقه سامية, وينشر الحب في كل مكان. ولم ينسى أي منهم فضل المدرسة التي تخرج منها فكان يساهم فيها بجهده وماله, ويرسل أبناءه لينهلوا من فيض الحب. فشجع هذا الكثير من الإباء على إرسال أبناءهم ليتعلموا, وكانت إدارة الجمعية ترفض ذلك, وتقول لأولياء الأمور, إن الجمعية لا تستطيع استيعاب هؤلاء الأطفال, و كان طفل سعيد أنه سيحظى بالانضمام للجمعية, ولكن عندما سمع ذلك, أخذ يبكي حتى كاد يبكي كل من كان حاضرا, سمعته مها من بعيد فجاءت إليه مسرعة وجلست بجواره على الأرض, واحتضنته حتى هدئ ونام في حضنها, ثم سألت لماذا يبكي؟.
ضحكت عندما علمت الحقيقة, وقالت والله لن أرد بعد اليوم طفل, والله المعين, وبالرغم من تحذير أعضاء الجمعية لمها من ذلك أكبر من إمكانيات الجمعية, فكانت تقول لهم بثقة كبيرة الله أكبر.
كان هؤلاء الأطفال يبكون حينما يغادرون المدرسة, ويعودون لذويهم, ويحسدون الأيتام الذين يبيتون في المدرسة بجوار مها. كان لهذا الأمر أثر ايجابي على هؤلاء الأطفال فكانوا يشعرون بفضل الله الكبير عليهم, ويبكون سعداء بذلك. فقد فهموا في هذه السن معني, إنما منعك ليعطيك.
نمت الجمعية أكثر وأكثر, وضخت مها للجميع من نهر الحب الذي لا ينفذ, وضخ هؤلاء أكثر وأكثر من نهر الحب الصافي, فكان يكبر و يكبر وكلما كبر أكثر وأكثر زاد الحب في قلب الجميع أكثر وأكثر. كان أغرب شيء أن محمد ومها ونادية وصفاء لم يشعروا أبدا أن مها كانت بعيدة عنهم, أو أن حبها لهم كان ينقص كلما زاد عدد الأطفال بل كان يزداد لذا كانوا سعداء بهذا الأمر, وكانوا ينضمون لهؤلاء الأطفال فيفيضوا عليهم من حبهم, فكانوا يشعرون حينها, أن الأطفال هم من أفاضوا عليهم من حبهم, ففهموا بعض الشيء, لما إذا أن الحب الصافي حينما يفيض على الناس لا ينقص أبدا, بل يزداد.
هل هناك ما هو أجمل من هذه القصة الرائعة التي تفيض حبا, لذلك فأنا أراها هي أروع ما عرفت وقرأت, أحلى ما فيها, أن كل واحد منهم سار في طريق الحب, وصل إلي غايته, ربما ساعد غيره, ولكنه كان يحترم طريقته في الحب, وكان يسعد عندما يصل أي شخص إلي طبقة الحب الصافي, لأن من يصل إليها يشعر ان الكل واحد, فهي تشجع الأخر ليرقي في هذه الدرجة قدر ما يستطيع فهو يصبح ممثل للجميع, بالضبط كما يشجع الجمهور فريقه بإخلاص تام. لا أحد يفكر أن يغير من واحد فيهم, لأن الفوز في النهاية للجميع. أو بمعني أقرب, مثل رائد فضاء كلما تقدم خطوة في الفضاء هو في الحقيقة يخطوا خطوة للإنسانية, لذا هو يشعر بذلك وسعيد بذلك, وكذلك كل البشر يشعرون بذلك وسعداء بهذا.
نسيت أن أخبركم شيء مهم, أو ربما أخرت أخباركم به, كل المصانع والشركات والمدارس والجمعيات الخيرية والمستشفيات كانت تحمل أسم واحد الجميع كان يحبه, حسن, ذلك الرجل الذي فتح للجميع طريق الحب, من غير أن يعلمهم, أو يكون له أتباع, فان الحب الصافي ينتقل من فرد لفرد ومن زمان لزمان ومن مكان لمكان لا يموت أبدا, معلق في الهواء ينتظر من يفتح له قلبه فهولا يدخل إلا قلبا يستحقه, هو لا يتعجل الدخول بل يتمهل حتى يجد القلب الذي يستحقه.
كان الكثيرون يسأل عمن هو حسن هذا الذي باسمه بكل هذه المشاريع الكبيرة, والأعمال الخيرية التي لا تحصى. وما هي حقيقة هذا الرجل, وما الذي كان يحمله في قلبه ليكون له كل هذا الحب في القلوب؟, وليكون له هذا الأثر على الناس, أصبح أسمه أشهر من قادة دول, ومن رجال دين, ومن علماء كثيرون, كان أسمه يردد في كل العالم وفي كافة الهيئات والمؤسسات الدولية, في الأمم المتحدة, وغيرها, وحصل على جوائز كثيرة أهديت لروحه مباشرة, أو أهداها أحد الفائزين له, جوائز علمية و أدبية في مصر والخارج, بل حصل على ثلاث جوائز نبل, أهداها ثلاثة علماء تربو وتخرجوا من مدرسته, في الطب والفيزياء والأدب, فتح قلبه الصغير ألاف والأف القلوب, أصبح أسمه يعني الحب الصافي في كل مكان, لم يكن له قبر ولا مقام معلوم, ولكن مقامه في القلوب كان هو الأسمى, لم يطلب مجدا دنيويا فأعطى مجد لم يحظى به إلا القليلون, خرج من الدنيا فقير بالمال والجاه, غني بالحب, فذهب كل شيء ولم يبقى إلا الحب, الذي سرى في الكون كله ولم يوقفه شيء, أصبحت صورته البسيطة وهو يمسك المقص ويقص قماش أمامه, ويبتسم ابتسامة توحي للناظر بالحب الذي بين جانبيه, بل تفيض لتملئ العالم بل الكون كله, موجودة في كل مكان, رجل بسيط, لم يكن يملك إلا الحب الصافي, وبالرغم من أن أكثر من حوله لم يفهموا ما يكنه من مشاعر, وبالرغم من أن الكثيرين أساء لإحسانه وهو حي, أو بعد وفاته, ولكن الحب الصافي بقى معلق يبحث عمن يستحقه, فغزا قلوب كثيرة, وكلما نفذ لقلب نمى أكثر وأكثر كأنما القلب هو أرض خصبة, تمد هذه الشجرة الطيبة بما تحتاجه للنمو وهو الحب, وتمد هذه الشجرة القلب بما يحتاجه ليحي وهو الحب أيضا.
لم يكن حسن وهو حي يملك شيء, لم يطلب من أحد أن يدعوا له, لم يطلب من أحد أن يقدم له صدقة جارية, لم يطلب من أحد شيء, ولكنه كان يملك الحب الصافي, الذي هو مزيح من الحب والرضا والتفويض, ذلك الحب الذي منحه كل شيء وأكثر مما يحتاجه إنسان في حياته وما بعد حياته, فبدل من ولد واحد يدعو له, أصبح الألف والألف يدعون له بظاهر الغيب, وبدل من صدقة جارية أصبح له الألف الصدقات, وبدلا من علم واحد ينتفع به فقد أصبح له تلاميذ يعلمون علمه وعلوم أخرى كثيرة, لم يكن هو بمقدوره أن يحصل كل هذه العلوم لأنه في النهاية فرد واحد, كما أنه لم يتاح له فرصة لتحصيل هذه العلوم, فالظروف لم تسمع له, والعمر لن يكفيه, والجسد لن يساعده, ولكن روحه استطاعت أن تبث في أرواح المئات والمئات الحب, الذي دفعهم للعمل والجد, فحصلوا من العلوم ما استفاد منه, ألاف وألاف.
كان مما تعلمته نادية مثلا, حين قيل ما قيل عنها من علاقة بشهاب, فكانت في هذه اللحظة تظن أنها قوية, تملك المال والسلطة والرقاب, فجعلها ذلك أقل احتاج لأي أحد, حتى لحبها لله, وحب الناس لها, ولكن ما حدث زلزل كيانها, فجعلها تعرف حقيقة أن لا حياة حقيقة بغير حب الله والحاجة له, والذي بدونه يتدمر كل شيء, لذا عادت سريعا لربها, علمت أن لا مكان ولا مقام لها بغير الله, ولا معنى للقوة إلا منه ومنه فقط, ولقد فهمت أن الله يأخذ منك ما تظنه سبب قوتك, أو يجعله بين يديك, ولكنك تكتشف أنه لا يساوي شيء, لكي يجعلك تعرف أن لا ملجأ لك , ولا معين لك ولا سند لك إلا الله, وأن لا ملجأ لك من الله إلا الله. كانت قد فهمت خطأها حين رأت قوتها في غير الله, فكانت ضرب قوية لكل قوتها, لتعود ضعيفة كما كانت فتنظر القوة من الله, حينها كانت القوة من الله, فوقفت بمفردها تشعر أنها بقوة الله أقوي من الجميع, ولا يقدر عليها أحد إلا الله. عندها أيضا عرفت أن الأمر ليس شر بل هو خير, فلقد أعادها لثقتها وحاجتها لله, لذلك لم تكن قاصية على من تحدث في حقها, لأنها رأتهم في النهاية ينفذون إرادة الله, التي كانت خير لها. نعم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير. صدق الله العظيم.
أما ما تعلمه مثلا في الفترة الأخيرة شخص مثل شهاب, فهو كما قلنا, أن الله رب قلوب يعطيها ما تريد ما دام التزمت الأخلاق, بالرغم من أنه كان قد أحب نادية دون أن يراها, ولم يكن له سلطان على قلبه, بل عمل بكل ما أوتي من قوة على قتل هذا الحب, لكنه كان يكبر يوم بعد يوم, كان حزينا, أنه أحب وخاصة أنها امرأة متزوجة, وفي عمر أبنته, فكان يلوم نفسه كثيرا على ذلك, يحاول تجنب رؤيتها كثيرا, ولكنه لمجرد سماع حديث عنها يخفق قلبه, كان ينفرد في حجرته يبكي كثيرا, ويشعر بالذنب, ولكن الله وقف لجانبه, فجعل حبه لنادية أشمل بكثير من حبه لها, فأغدق مشاعره على زوجته وابنته وأحفاده, وكل من حوله, كان قلبه أصبح رقيق للفقراء والضعفاء, فوقف لجانب الكثيرين منهم, كان يقضي كثير من وقته في فعل الخير, وكذلك ماله فأصبح في ليلة وضحاها, ممن أتاهم الله مالا فسلط على هلكته في الحق, ولم يكن يدور في خلده أبدا أن يجمعه الله بها, ولكن الله كان له قدر أخر, وكان في نفسه شيء, أن توافق على الزواج منه تنفيذا للوصية الخاصة بمحمود ولكن الله أراد أن يرضيه, فقذف في قلبها حبه, فقبلت الزواج به حبا له وليس تنفيذ لوصية لزوجها, وكانت حياته معها تجعله يقول بقلبه, وعقله وروحه قبل لسانه الحمد الله.
أما مها, حين علمت ما يفعله الحب بين البشر فتعلق كل شيء فيها بحب ربها, وهي لم تعرف لماذا شعر أبيها بأنها يمكنها أن ترتقي في درجات الحب الصافي, ولكن قلب المؤمن دليله, فعندما ذاب قلبها حبا في الله, فاضت منه على الناس فكان ما كان من أفعال الخير, وعرفت لما من يصل لهذا المقام لا يتكلم, لأن اللسان يعجز عن وصفه, ولكن كل من حول هذا الشخص يشعر به بحسب ما فيه من الحب, ويظهر أفعال هذا المحب أكثر بكثير من كلامه, فيفيض على من حوله من الحب, وينذر نفسه لفعل الخير, لا يسأم ولا يصيبه تعب, يكون مع الناس وقلبه معلق بربه, لا فرق عنده بين الموت والحياة فهو دائما حيا مادام الله حيا.
أما من حولهم فكان يفهم شيء غير ذلك, فللحب الألف الطبقات, وفي كل طبقة الألف الدرجات, كلا ينهل قدر سعته منه. ولكن على الأقل المعني الأبسط الذي فهمه الجميع, حب أكثر تعطى أكثر, وإنما منعك ليعطيك.
كان أجمل ما في هذه القصة ليس فقط, أنهم نعموا بالحب الصافي, ولكن أن كل واحد منهم احترم طريقة الأخر في فهم الحياة والحب والطريق الي الله, وكان مشغول بنفسه فقط, كلما يتدخل ناصحا الأخر, وهو يكن له كل الحب, لذا فان الأخر يقبل منه النصيحة بسعادة وحب.