خرجت مها في أحدي الأيام تنوي التسكع في الشوارع لأطول فترة ممكنة لعلها تخرج من حالتها التي أصبحت تلازمها بشكل دائم, وبينما تنظر في وجوه الناس لتنسى بها وجه محمود, ونادية, وكذلك مها ونادية, إذ بها ترى وجهين يشعان حبا ونورا تنظران إليها ثم تجريان نحوها حتى أمسكتا بساقيها كأنهما طفلتان قد فقدتا والداتهما لفترة طويلة ثم ووجداها فجاءه أمامها فأخذها بساقيها وقبل كلا منهما الساق التي تمسكها ثم اليد التي بجوارها فلم يسعها غير الجلوس للأرض واحتضانهما بشوق وحنان واندمجا شيئا فشيئا حتى امتزجت الأجسام, وتقاربت الأرواح وبدأت تتقاطع ثم تتمازج حتى ذابت كليا وأحست أنهن أصبحن واحد وفهمت معنى الفناء في الحب وسكرت من نهر الحب حتى الثمالة.
استيقظت ومازالت تغمض عيناها, ولا تحب أن تفتح عيناها وتخرج من الحلم الذي كانت فيه, وأخذت تحاول أن تتذكره جيدا ولكن الصورة كانت متقطعة فأخذت تجمعها معا لعلها تري الصورة بشكل صحيح فعادت للحظة لقاءها بمها ونادية, وكيف احتضنوها بحب وشوق وكيف احتضنتهما هي أيضا بحب وشوق كيف ذاب الجميع, وتذكرت في صور متقطعة كيف احتضنت نادية بدفء وحب, وظلت تتحدث إليها بود كصديقة قديمة, افتقدتها منذ زمن بعيد, وكيف التقت حبيبها محمود وكيف قبل بين عينيها ثم احتضنها ومسد بيده على جسدها كأنه يخرج سحر اسود منها ثم وضع يده علي قلبها واعتصره بيده فتوقف ضخ الدم للحظة حتى شعرت أنها ماتت ثم فتح يده فجري الدم مرة أخري ولكنه دم نقي يضح معه الحب إلي كل ذرة في جسدها حتى غمرها جميعا فنظرت في وجه محمود فوجدته مضيء كالشمس فلم تستطيع النظر إليه طويلا ولكنه أمسك بوجهها وثبت نظرها علي وجه ثم أغمضت عيناها قليلا ثم فتحتها لتري كل شيء بوضوح ونظرت إلي داخل الشمس فرأت ملكوتا عظيما كل شيء فيه يسبح بحمد الله, وسمعت صوت يقول لها كلنا بداخلنا الله والشيطان, فمن سنختار أن يبقي معنا ومن سنرفضه, وحتى لو رفضنا الله فسيظل كل جزء فينا يسبح بحمده, أما إن اخترنا الله فسوف نستمتع بهذا التسبيح, وندخل ملكوته فلا نخرج منه أبدا, فلا يشغلنا شيء ممن حولنا ونحى ولا نموت أبدا,
تذكرت كيف مارست الحب مع محمود, بالرغم من حبها من قبل, بالرغم من السعادة التي كانت تشعر معه في كل مرة, إلا أن هذه المرة كانت مختلفة, فكانت المتعة لا منتهي لها, وكان الحب بين روحين وليس بين جسدين,
كانت مازالت تغمض عيناها,والدموع تنهمر من عيناها الجميلتين, وفي هذه اللحظة من النشوة تمنت لو أمسكت بيد مها ونادية ثم حركت يدها لتجدها متشابكة مع أيادي صغيرة ناعمة, فظنت أنها تتخيل ذلك ولكنها جستها مرة أخري لتجد حقا أيادي رقيقة تمسك بيدها, فانتفضت واعتدلت في جلستها, وفتحت عيناها ونظرت حولها.
شهقت وهي تمسح عيناها بأحدي يداها بينما تمسك بالأخرى بالأيادي المتشابكة, ثم شهقت مرة أخري وقالت بصوت مرتفع قليلا, ثم أدركت بأن مها ونادية نائمتان إلي جوارها فخفضت صوتها وقالت أين أنا وكيف وصلت إلي هنا؟. وتفحصت كل شيء حولها لعلها تصل إلي شيء ولكن دون جدوى فسحبت يدها ببطء شديد من يد مها ثم نادية بحرص كي لا توقظ أيا منهما ولكنها تحركتا وأخذتا تتقلبان في السرير كأنهما تبحثان عن شيء ما حتى أمسكتا مرة أخرى بيدها فابتسمت ثم جلست بينهما وصمتت قليلا لعلها تستدرك ما يحدث ولكنها لم تصل لشيء, أخرجت يدها من أيديهن برفق وألصقت أيديهما يبعضها البعض ثم نهضت بهدوء من الفراش حتى وضعت قدميها علي الأرض واتجهت نحو باب الغرفة تترنح كأنما أفاقت من سكر, وفتحت الباب ونظرت للخارج فإذ بنادية تمر بجوارها مبتسمة تحمل صينية عليها كوب من الشاي تقول لها, نموسيتك كحلي يا حبيبتي, أنت اعتدت علي الكسل, وعلمت مها ونادية الكسل أيضا ثم ابتسمت لها وسارت في طريقها, مدت مها عينيها معها لتري في الجهة المقابلة كرسي صغيرة أمامه منضدة مستديرة صغيرة يجلس علي الكرسي محمود وينظر من النافدة وعينيه تنظران لأعلي تسرح في أمر ما وعندما سمع صوت نادية نظر ناحية مها وهش لها وغمرها بنظرة ملئها بالحب والحنان ثم عاد ينظر إلي السماء كأن شيء لم يحدث, بينما وصلت نادية له ووضعت الشاي بين يدي ثم لثمته قبلة على جبينه فنظر إليها ثم تبسم وقال, تسلم أيدك يا حبيبتي, ثم عاود النظر للسماء بهدوء تام, كأن شيء لم يحدث.
جن جنون مها ونظرت لكليهما في حنق وقالت بصوت مرتفع لم تخشى وقتها أن يستيقظ من يستيقظ حتى لو استيقظ الأموات من قبورهم, ماذا تفعلون؟....... كيف وصلت إلي هنا؟.
نظر محمود إلي نادية وهو متعجب مما سمع, وظلا ينظران لبعضهما البعض بينما استشاطت هي غيظا ومليء قلبها غيرة وقالت ماذا يحدث هنا؟ لماذا خطفتموني وأحضرتموني ألي هنا؟
ضحك كلاهما ونظر كلا منهما للأخر عازمون علي التندر عليها فقال محمود وهو مبتسم, خطفناك لطلب فدية ولكن يبدو أن أحد لم يهتم لك لذا بقيت عندنا شهرا فلما طالت المدة وفقدنا الأمل احتسبناك واحدة منا واحتسبنا أجرنا علي الله.
استمر الذهول علي وجه مها وقالت شهرا كاملا وأنا هنا كيف هذا؟ أنكما تكذبان علي, لابد أن هناك شيء خطأ,
نظرت نادية وهي تبتسم وقالت لقد أتيت إلي هنا بإرادتك, بل أنت طلبت ذلك.
نظرت مها إليهما وهي لا تصدق ما تسمع وقالت لابد أنكم تكذبون لا يمكن أن أكون أنا أتيت إلي هنا برغبتي ولا يمكن أن يكون مر شهر علي وجودي هنا.
نظر إليها محمود وقال حقا لقد مر أكثر من شهر منذ التقيت نادية مع مها ونادية, واتيت إلي هنا معنا ومن وقتها وأنت تعيشي معنا في سعادة.
قالت مها, لابد أنكم سقيتموني شيء افقدني صوابي
قالت نادية وهى تقترب منها, نعم لقد شربت من كأس الحب.
حاولت الابتعاد عن نادية قد الإمكان وقالت لها, هذا غير صحيح, بل أنتم....
قاطعها محمود وقال لها يا حبيبتي لما كل هذا؟ لقد جاءت إلينا وعشت معنا في حب ووئام طوال هذا الشهر ولست أعرف ماذا حدث لك الآن....
قاطعته مها وقالت, أريد العودة لبيتي.
قال لها محمود, هذا هو بيتك.
حركت فمها بغضب وقالت, أريد العودة لبيت أبي.
ابتسم محمود وقال لها. هذا هو المعني الصحيح لابد أن تكوني دقيقة في حديثك, لقد أتيت إلي هنا بإرادتك ويمكنك أن تغادري بإرادتك, فالباب دائما مفتوح للجميع لمن أراد الدخول أو الخروج, لكنك وعدتني أن تبقي معنا للأبد.
نظرة والدهشة تملئ وجهها ثم حزمت قرارها, لا يمكن أن أكون قد قلت هذا, حتى لو كنت في حالة سكر , مهما بلغ درجته.
حاولت نادية احتضانها وقالت لها, هكذا يكون حال الحب في البداية فانه يزيد وينقص ويبدو أنه يتناقص عندك, لابد أن يزيد مرة أخري.
تركتها مها ودخلت للغرفة تبحث عن ثيابها في الدولاب, فرأت ملابس غير ملابسها, فنظرت لنفسها في المرآة وقالت بصوت عالي ملابس من هذه؟ لو كانت ملابسك يا نادية سأفعل وأفعل.
دخلت نادية الغرفة وقالت لها بهدوء لا يا حبيبتي بل ملابس جديدة أنا صنعتها لك خصيصا منذ يوم التقيت بك, كنت علي يقين انك سوف تأتي.
هدأت مها قليلا ونظرت لنادية وقالت لها لما تفعلي هذا؟ ليس هناك امرأة تفعل ذلك مع من تشاركها زوجها.
لاذت نادية بالصمت قليلا ثم قالت لقد أحببت محمود وأحببت كل من يحب محمود.
كانت مها ونادية الصغيرتان لقد استيقظتا من الصوت العالي فنظرت مها الصغيرة وهي تفرك عيناها الناعستان بيديها إلي مها الكبيرة ثم ابتسمت لها فلم تملك مها إلا الابتسام لها, وقالت لست أعرف ماذا تريدون مني بالضبط؟ إنكم تستغلون نقطة ضعفي تجاه مها ونادية ثم جلست علي طرف السرير وقد وضعت رأسها بين يديها. ارتمت نادية الصغيرة عليها ثم مها الصغيرة واحتضناها بحب وحنان بل واقترب محمود واحتضنها ثم نادية التي احتضنتهم جميعا, فشعرت مها بهدوء نفسي ثم قالت لست أعرف ماذا تريدون مني بالضبط ثم ألقت ظهرها علي السرير وقالت, من المؤكد أنني كان من الممكن أن أحب كل واحد منكم بمفرده, ولكن معا فان المشاعر تختلف.
القي الجميع نفسه فوق نفس الفراش بينما ارتمت الصغيرتان فوقها, وقالت نادية لقد وجب عليك أن تحبي الجميع معا لا مناص, بينما اقترب منها محمود وقبل وجنتها وقال لم يعد مناص من تقبل ذلك, ثم وضع يديه فوق قلبها أنني أدعو الله أن يخلصك من كل المشاعر السلبية تجاه كل واحد منا ولا يبقي إلا الحب فقط فيه,
شعرت بيده تخترق صدرها إلي قلبها وتعتصره ثم يفتح يده فشعرت بالحب يملئ قلبها وتذكرت ما رأته من قبل واختلط الواقع بالحلم فلم تعد تعرف الواقع من الخيال والماضي من الحاضر ولكن أهم شيء هو أن قلبها قد مليء بالحب تجاه الجميع.
تقبلت مها الوضع وهي ليست راضية تمام الرضا, ولكن الحب جمع بينها وبينهم ولكن هناك عقبة هي تقبل هذا النوع من الحب, حب زوجها وبناته وحب نادية في وقت واحد, ثم الرضا بالظروف التي حكمت عليها بهذا الوضع أو الأحرى الرضا بالمقسوم, أو إرادة الله, لم تكن قد وصلت لهذه الدرجة لذا أصبح أكثر ما يثيرها هو أن نادية تعدت هذه المرحلة, فكانت مشاعر الغيرة تجاه نادية تغطي كثيرا علي مشاعر الحب, ولكن بعد قليل تهدأ رويدا رويدا ليعود الصفاء تدريجيا ولكن مازال الصراع قائم داخلها. الوقت دائما كافيا ليغير كل شيء. أحيانا يغلب إحساس الكراهية تجاه نادية التي لم ترى منها إلا الخير ولكن أحيانا تمتد إلى محمود, ولكنها لم تمتد أبدا تجاه مها ونادية, شغلها هذا الأمر كثيرا وكانت سعيدة بهذا, فهي تراهما كملائكة أصفياء لا مكان للشر فيهم. كثيرا ما كانت ترجع ذلك وهي على مضض لأنهما ببساطة بنات محمود ونادية, حيث الحب يملئ قلوبهما, وبالتالي فهن يعشن في حب دائم, حب قبل أن تأتيان للحياة وحب حين جاءتا إلي هذا الوقت, ولأنهما لم يختلطا بالحياة بشكل كبير لصغرهما, لذلك فلم تعرفا معني للشر, ولا مكان للكراهية في القلوب, ولكن مها كانت تري أن هذا لا محالة سوف يتغير مع الوقت عند التعامل مع البشر, حيث الشر هو الغالب دائما, وحيث الكراهية تتحكم في كل تصرفات الناس, ولكن الحقيقة التي كانت تحبها في تلك اللحظة هو الطهارة التي تملئ قلوب الطفلتين, فكانت تحبهما بشدة وحين تغضب أو تحزن كان يكفيها أن تتذكر ضحكات الفتاتين, وملاعبتهما لها, ومشاعر الحب التي تفيض منهما حين يرونها. لقد أصبحتا تستطيعان أن تحب حب صافي, ولكنها كانت تخاف عليهما كثيرا من الحياة فكيف يواجه الحب البريء كل الكراهية والشر, لا يمكن أن يحدث ذلك, فطوال تاريخ الإنسان علي الأرض كان الشر ومعه الكراهية هما المنتصران دائما, وقلما أنتصر الحب والخير, وهذه تكون لحظات قليلة تنتهي سريعا بانتصار الكراهية والشر وتعود الأمور لأسوء مما كان وينكل الشر بالخير ويعاقبه علي محاولته التغلب على الشر, فتزداد الكراهية شراسة وانتشارا, ويختفي معني الحب والخير بين الناس وتبقى قصص تحكى للأطفال فقط قبل النوم عن انتصار الخير على الشر, ولكن سرعان ما يكتشف الأطفال الحقيقة, ويصبحوا جزء من المجتمعات التي يعيشون فيها ويندمجوا تماما, ويظهر الشر والكراهية, ويختفي الخير والحب.
سوف تحكي نادية لمها عن أبيها حسن الرجل البسيط في كل شيء الذي يملئ قلبه الحب ويحسن للجميع رغم فقره ويقول كيف يعطينا الله ونحن لا نعطي, وتتذكر يوم مات ورأت في جنازته الكثير من الفقراء, فتذكرت كم أعطي ولم يأخذ فكأنها سمعت صوتا يقول لها لا تتعجلي في إصدار الحكم ربما هو لم يريد شيء له وربما أراد فقط أن يعطيكم أنتم.
كانت الحياة صعبة بعد وفاة حسن والد نادية, الجميع تنكر لهم, ولم يتوانى أحد عن أذيتهم, حتى المعدمون الذين كانوا يظهرون لنادية وأختها مشاعر جمة من الحب, وإذا رؤوا واحدة منهما تسير في الطريق, يقولون لها يا طيبة, يا بنت أطيب وأكرم رجل, نعم الرجل أبوك أبن أصول وصالح.
أما الآن فنمر بهم ولا نجد منهم كلمة واحدة تجعلنا نشعر ببعض المواساة لنا بعد موت الأب والسند, علي الأقل نجد من بعضهم كلمة تشعرنا أن أبانا فعل معروف فيمن يستحق, ولكن للأسف كل الجميع يعرض وجه عنا, كنت ابكي حين أرى ذلك, حتى الكلمة الطيبة لم نكن نسمعها من هؤلاء الناس, كنا أنا وأمي وأختي نشعر بالحنق والغضب من هؤلاء الناس, فكم محتاج أعطى أبي, وكم ضعيف وقف أبي بجواره, وكم معسر ساعده أبي حتى يقضي دينه, أين هؤلاء جميعا ولماذا يفعلوا ذلك؟. كنا للأسف نزداد حنقا على أبي ونقول لقد ضاع مالك على من لا يستحق أما من يستحق فأصبح معدما, كانت أمي تقول له كثيرا قبل موته, ما يحتاج البيت يحرم على الجامع, لكنه كان يقول لها بهدوء هل عندك ما يكفي يومك, فتقول له في غيظ, نعم, فيقول أحمدوا الله على ذلك, غيرنا لا يملك ذلك, أنني أعيش حياتي مثل الحمام, هل وجدتي حمام يخزن شيء, بالطبع لا, هل تعرفي لماذا؟ لأنه يؤمن بالله ويتوكل عليه, فما دام الله حي فهو سيرزقه, ولكن لو مات الله فلن يجد رزقه, فهل سيموت الله, ولكن إن لم يجعل الله لنا رزق فسيكون هو لحظة موتنا, أقسم لك انك لن تبيتي يوما على جوع, سوء كنت حيا أو ميتا, اقسم لك ولكنك لن تصدقيني, أن الملوك يسقط عرشهم في دقائق فقولي لي ماذا ينفعه ما جمعه أنه ببساطة يؤخذ منه وربما يموت كمدا بسبب ذلك, ولكن يكفي أننا لا نخاف أن يذهب ما لدينا, ونأمل فيما عند الله, كان الغيظ يملئ وجه أمي, فتقول له ولكن الله لم يأمرنا أن نتصدق بكل ما لدينا ونكون بلا مال, فيقول أبي لأمي والدمع يملئ عينه, لا يمكن أن أرد شخص قال لي, لله, ماذا سأقول لله وقتها؟, فتقول له أمي سوف تضيعنا, فيهز أبي رأسه نافيا ذلك بل أجعلكم في ذمة الله, فلا يمكن أن يضيعنا الله, وأنا لست أكرم من الرسول صلى الله عليه وسلم ليموت ودرعه مرهونة, الجميع يقول عند الموت ليت ليس معي مال ليحاسبني الله عليه, ولكن لا وقت للندم ساعتها, ثقي في الله ليرتاح قلبك, ولن يكون إلا ما يريد الله, ولن يكون في إرادة الله شر أبدا ولكننا لا نفهم إرادة الله, إن الله يهدم ليبني, ويمنع ليعطي, وما نراه خيرا ونبكي لأن الله لم يعطيه لنا نكتشف فيما بعد أنه كان شرا وما كنا نرفضه نكتشف أنه كان خيرا, عليك بالرضي بإرادة الله بل أن تفرحي بكل ما يفعل لأنه بالطبع يريد لنا الخير, إن أكثر الناس بلاء هم الأقرب لله. كانت أمي لا تقتنع بما يقول أبي, وتقول له ستضيعني وبناتي, لقد سألت الشيخ محفوظ, شيخ المسجد فقال لي أن النبي نصح صاحبي, بأن يتصدق بالثلث فقط, وقال له أن تترك أبناءك أغنياء أفضل من أن تتركهم فقراء يسألون الله, ابتسم أبي وقال ولكنه لم يقل لك حين جاء عمر بنصف ماله ثم جاء أبو بكر بكل ماله فقال له النبي ماذا تركت لأولادك؟ فقال الله ورسوله, أنني أريد أن اترك لكم الله ورسوله, قالت أمي له ولكنك لم ولن تكون مثل ابي بكر, فقال لها ولكنه قدوة كل من يتوكل على الله حق توكله, هل نال هو وأبناءه مالا مقابل المال, لا والله بل لقد وجدوا جحودا من الناس, فها هم من كان يعطيهم من ماله يخوضون في عرضه ويتحدثون عن ابنته عائشة بما لا يليق, وعندما أراد أن يمنعهم ماله بعد ذلك, عاتبه الله وقال له ( ألا تحبون أن يغفر الله لكم) فبكي وقال بلي نريد, وأعطاه أكثر مما كان يعطيه, هل تريه كان على خطأ والله يحدثه, ويقول له أن أعطيهم,
كانت أمي تتنهد وتقول له إنني أشتكيك لله, فيرد أبي وهو سعيد, الله يعلم أنني لا أريد إلا الخير لك وللجميع,
كانت أمي كثيرا ما تقول لنا أن أبيكم أضاعنا, وكانت أختي ألكبري نرجس توافقها الرأي, أما أنا فكنت صغيرة لأفهم الحقيقة, ولكنني كنت أحب أبي ولا أحب أن يتحدث أي احد تجاه بشيء يؤذيه فكنت ابكي كثيرا, فتقول لي أمي لماذا تبكي؟ أليس هذه هي الحقيقة؟, فكان يزداد بكائي فتحتضنني, وتقول والله كنت أنصحه لصالحنا ولكنه لم يكن يسمع, كان قلبي يحترق من البكاء, وأقول في نفسي يا رب, إن كان أبي بداخله كل هذا الحب والخير تجاه الجميع حتى أنت, فلماذا تفعل بنا ذلك؟. لماذا لا يكون هناك واحد فقط من البشر يظهر تجاهنا بعض الحب, والوفاء؟, ويقول لنا انه معنا وسوف يفعل أي شيء نريده مهما كان هذا الشيء, لأن أبيكم كان خيره يغطيني, ولكن للأسف دون جدوى, اكتشفت الشر الذي في داخل الناس, وضعفت ثقتي بالله, وأصبحت أكثر الجميع حنقا علي أبي وعلي الله. لقد كان أمام عيني, حينما كان أبي في فراش الموت, سمعته يقول وهو مغمض عينيه, والدمع يسيل على خده, أهلي يا رب إنني أدعهم عندك وديعة, وأنت لا تضيع ودائعك, ثم صمت قليلا وزاد انهمار الدمع من عينيه ثم ابتسم. كنت أشعر وقتها أن هذا كان عهد بين الله وبين أبي بأن يكون إلى جوارنا, ولكن للأسف مع الوقت اكتشفت أن الله لا يقف إلي جوارنا, بل على العكس كأنه يقف ضدنا ويستمتع بما يحدث لنا, وكل ما حولنا ينكل بنا, ولا يقف إلى جوارنا, كنت أبيت أبكي حتى الصباح مما كنا نعانيه أثناء اليوم, لقد عرفت وقتها لماذا كان الله يوصي بهذا الحد باليتيم والأرامل, ولكن للأسف اكتشفت أن الناس كانت تفعل عكس ذلك حتى الابتسامة فى وجوهنا كانت كثيرة علينا, لا أريد أن أتذكر كل هذه المعاناة ولكن يكفي أن أقول لك لم يرحمنا قريب ولا غريب, بل الحياة كانت تضربنا بلا رحمة وكنت أقول في وقتها, يبدو أنما كانت تقوله أمي قد حدث وأن الله قد مات, لذا لن ينفعنا غير قوتنا,وغنانا ولكن للأسف لم نكن نملك شيء من ذلك,
الحقيقة أن أبي لم يكن يدخر جهدا أبدا فقد ظل يعمل حتى أخر يوم في عمره, كان يعمل بجد رغم مرضه فمن ضغط وسكر ثم فيروس سي, حتى انتفخت بطنه, وأصفر وجه وكنت أسمعه يسبح الله بنفس راضية, بينما كانت أمي كأنها تستكشف المستقبل فقالت له كثيرا أدعو الله الذي تحبه أن يشفيك حتى لو من أجل بناتك نرجس ونادية, فلو مت الآن فستنهش الكلاب لحومنا, كان يقول لها بهدوئه المعتاد, لو أعطاك ملك هدية أ كنت تجريء علي ردها, بالطبع لا فالله إعطاني هدية فكل مبطون شهيد, ومن أدراك فربما أعيش مائة عام, بكت أمي كثيرا وقالت ستكون بعد قليل أكثر ضعفا ولن تستطيع العمل وسوف نفقد كل شيء بل ستكون بحاجة أكبر للمساعدة وللمال لتغطي تكاليف العلاج, يبتسم أبي ويقول بثقة لا تخافي إنني أضعكم عند الله وديعة فهل تظني أنه سيضيع الأمانة, فكانت أمي تتنهد وتبكي ثم تقول وقد ملئها الغيظ, من أنت حتى تظن الله قد قبل منك الأمانة, لربما يكون لم يرضى أن يأخذ منك الأمانة, فنكون قد ضعنا, يبتسم أبي ويقول ربك رب قلوب أمثالك قد يفعلون ذلك, ولكن الله لم ولن يفعل, ولكن لماذا تظني أن الله فسوف يستجيب لي ما دمت تريني لست أهل لذلك؟.
تقول له أمي أنت تعيش في وهم كبير ولا تعيش معنا علي الأرض, أفعل مرة واحدة ما عليك فعله.
الغريب أن أبي كان يبتسم ابتسامة صافية ويقول سأقول ما هو أفضل مما تريدي, يا رب أفعل الخير لي ولأهلي ولا تسيئني فيهم أبدا.
كانت أمي تبكي وتنتحب ولا تجد ما تقوله إلا حسبي الله ونعم الوكيل فيك يا حسن أضعتنا. فيرد أبي بهدوء غريب لقد وعدني الله وأنا أثق به.
كنت بين ناريين كما يقولون فبين ثقة أبي في الله, وبين ما تؤمن به أمي من شر الناس. كنت أرى أبي علي حق لابد أن نثق في الله, ولكن ما كان يحدث كل يوم سواء في الأيام الأخيرة وبعد موته يؤكد لي أن أمي هي من كانت علي حق, كنت أتذكر كلمة أبي ما دام الله حي فلا خوف من الرزق, فكنت أقول بعقل الطفل الصغير, ما دام أبي قد مات فلابد أن الله قد مات أيضا, فلماذا لا يموت كما مات أبي وربما يكون قد مات حزننا لموت أبي كما مات جدي مدبولي حزننا على موت عمي ناصر.
قاطعتها مها وقالت لها ولكنك لم تقولي لي حتى الآن ماذا كان يعمل والدك؟
مسحت نادية الدمع من عيناها وقالت لمها, وقد ابتسمت ابتسامة خفيفة, كان يعمل طرزي, وكان يفصل جلباب بلدي درجة أولى وكان يربح منها جيدا, ولذلك كان ينفق علي الفقراء كثيرا لم يفكر مثلا في شراء المحل الذي كان يستأجره ولم يفكر أيضا أن يشتري أرضا مثلا سواء كانت زراعية أو بناء, فأسعار العقارات غالبا ما تتضاعف, ولأن الحياة لا تسير علي وتيرة واحدة فقد تغير كل شيء, وأصبح من يفصل جلاليب بلدي يقل يوما بعد يوما, ولما كان أبي قد كبر في السن وأصابه المرض يلي المرض فلم يكن يمكنه أن يتعلم شيء أخر, ولأن المحل كان إيجارا قديما فصاحب المحل كان يرفض أن يغير أبي النشاط, حتى ولو قليلا وكانت صدمة لنا فرغم أن إيجار المحل كان جنيها واحدا حسب العقد فكان أبي يعطيه عشر جنيهات لأنه اشتكي له أن القيمة قليلة ولا تكفي شيء, وعندما طلب أبي منه أن يغير النشاط, فيكون طرزي قمصان بدلا من جلاليب بلدي كما هو في العقد, فانه رفض بشدة وهدده بفسخ العقد إن حاول, وبالرغم من ذلك استمر أبي يعطيه عشر جنيهات حتى مات, ولم يكتفي صاحب الملك بذلك بل بمجرد أن مات أبي وعرف أن أحد لا يقف معنا, أرسل ابنه لنا وقال لأمي بالحرف الواحد ليس إمامك إلا يوم واحد لأخلاء المحل, وعلي الرغم من محاولات أمي اليائسة عن طريق المجلس الحاسبي في الحفاظ علي المحل ولكنها فشلت فالضعيف والفقير لا يقدر علي الحفاظ علي أي شيء, في ساعتها تذكرت ما كان أبي يقول أن الملك يعزل وتقسم أملاكه ولا يقدر أن يفعل شيء, قلت في نفسي لقد بكينا على محل ليس ملكنا ولا يساوي إلا القليل حقيقة أياما وليالي رغم أن إي منا لا يمكنه أن يدير المحل وليس عندنا من نثق به ليساعدنا علي ذلك وأكثر من ذلك فان الجلباب البلدي لم يعد لها سوق حقيقي وخاصة في هذا الحي الشعبي الذي أصبح يرتدي الجلباب الأبيض التي تأتي من الخليج أو تصنع في مصر ونسوا نهائيا الجلباب البلدي كأنها موضة قديمة رغم جمالها وقيمتها العالية مقارنة بالأخرى. وقتها قلت نحن أولي بالجنية وخمنت وقتها لماذا لم يكن يريد أبي أن يترك لنا كذا وكذا لأنه ربما كان يعلم أنه سوف يأتي من يسرقها و ربما متنا كمدا لذلك أو ربما قتلونا ليحصلوا عليها. ولكنني لم أكن مقتنعة تماما ولكني حاولت أن اقنع نفسي.
كان المعاش الذي نحصل عليه من التأمينات الاجتماعية قليل, وكان من سوء حظنا أو في الحقيقة من سوء القوانين التي تحكمنا, أن يعطي أي صاحب عمل معاش اقل من العامل, حتى مع دفع نفس القيمة شهريا أو أكثر, قوانين ظالمة توضع في وقت لما ولا تتغير أبدا, ما دامت ظالمة, بل ما زاد الطين بله كما يقولون هو أن أبي قد مات في سن مبكرة قبل أن يصل لسن المعاش القانوني أي تحت الستين عاما ولذلك لا يستحق معاش كامل. قالت أمي للموظف ماذا يمكننا أن نفعل؟ لقد لبى نداء الله فهل كان من الممكن أن لا يفعل, ضحك الموظف بسماجة وقال لها كان عليه ألا يموت , استشاطت أمي غضبا وقالت والله قلت له أن يدعوا الله ليشفيه ويطيل عمره حتى لا يحوجنا لمن لا يساوي شيء, عندها ثار الموظف وقال لها من لا يساوي شيء يا امرأة , قالت له أمي أنني لا أقصدك أنت, فقال بل تفعلي ولن أنهي لك الإجراءات فلم يشعر الموظف إلا وأمي ترفعه من على الأرض وتلقي به بعيدا ارتجف الموظف ومن حوله فهرول زميله إلي مكتبه وأنهي الأوراق في دقيقة واحدة وأعطاه لأمي التي نظرت لهما نظرات تكاد تحرقهما, بينما ظل الموظف يسب ويلعن وهو علي الأرض ولكن أمي لم تهتم بذلك وقالت له وهي تخرج من الغرفة أنني أدعوا الله أن تموت في سن مبكرة ولا يستحق أولادك معاش كامل كما حدث لي. عندها سكت الموظف ولم يتكلم والغريب أننا علمنا أنه مات بعدها بعدة أيام , المهم, تعودنا علي هذه القيمة والغريب أننا لم نبيت يوما جوعي كما قال أبي وان لم نأكل ما نشتهي, ولكن كنا نحاول أن نجد السعادة في كل شيء بسيط, ولكن كانت الحياة صعبة وكل شيء يدعو لليأس حتى حدث شيء غير كثيرا مما كنا فيه.
جاء اليوم الذي كنا تخشي أن يأتي نفذ كل ما لدينا من مال استيقظت صباحا فوجدت أمي تجلس على الأرض واضعة يدها فوق رأسها وتربط منديل على جبهتها عرفت من ذلك أن هناك مصيبة ما, ولكنني لم أكن أريد أن أعرف فالمصائب كثيرة ولم اعد أتحمل ذلك, فقلت لها محاولة تجنب الحديث عن المصيبة, أمي إنني جوعانة,
رفعت أمي رأسها ورأيت وجهها يملئه الحزن الممزوج بالغضب وقالت ودموعها تسيل ولا تحاول مسحها, والله يا بنتي ليس لدينا أي شيء نأكله, بالأمس نفذ الخبز وليس معي مال لشراء أي شيء, ثم نظرت لصورة أبي المعلقة علي الجدار وقالت أيرضيك هذا يا حسن, ألم تقسم ألا نبيت جوعي في أي ليلة, كان أبي يبتسم في الصورة فازدادت أمي غضبا وحزنا.
ليست أمي فقط هي من ازدادت غضبا وحزنا, أنا أيضا شعرت بذلك, فقلت لنفسي يا أبت لقد ضيعتنا كما تقول أمي لست أعرف عنك شيء بعدما مت, ولكن ما يحدث لنا يجعلني أظن أنك كنت تكذب علينا وعلى الناس وتحاول أن تظهر لنا وللناس أنك رجل صالح وأنك تتصدق علي الناس, لقد سمعت شيخ المسجد يقول على المنبر أن من هو مثلك يكون منافق, لذا فان الله ينتقم منك, ومن أهلك ويسلط عليهم الناس والجوع, أو أن أنك كنت تكذب حين قلت أن وعدك كما كنت تقول, الغريب يا أبي أنهم يصفون الله بالغنى والكرم والرحمة, ولكن ما يفعله بنا وبالناس لا يوحى بذلك, لذلك يا أبي فربما يكون بخيل وليس في قلبه رحمة , لا أعرف إن كان ما أقوله يصل لك بعد موتك ولربك أو لا يصل لأنني لا اعرف أصلا ما هو الموت ولا ما يوجد بعده, ولكن يا أبي أشكرك أنت وربك على ما فعلتما بي,
سمعت أمي تقول يا حسن, هل أفرط في شرفي هل أبيع نفسي؟ , ولكن يا رب لا أظن أن أحد سوف يدفع لي جنيها واحدا فقد غيرت قسوة الأيام كل شيء وبت نحيفة قبيحة, وشمطاء, هل أبيع بناتي للقمة عيش, آه آه آه, وأخذت تضرب بيدها على رأسها,
حين قالت أمي ذلك خفت فأمسكت بياقة جلبابي وضممته جميعا كي لا يظهر أي شيء من جسدي وتكورت إلي جانب حائط ولم أتحدث, كنت أقول في نفسي لو قلت لأمي أنني سأموت جوعا, فأنني علي يقين أنها ستكون أكثر حنقا وغضبا ولربما ضربتي وربما قالت لي أن أذهبي لتبيعي نفسك, لذا كفيت خيري شري ونظرت بطرف عين إلي صورة أبي فوجدت ابتسامته قد ازدادت فازددت أنا غضبا, وحنقا, وقلت لتذهب أنت وربك بعيدا عنا, قلت قي نفسي أنزل إلي الشارع وأجلس عند باب المسجد أتسول كما أري الناس تفعل لعل أحد يشفق على ويقول رحم الله أباك عودي لبيتك وسوف أتكفل أنا بكل ما تحتاجونه لنعم الرجل كان أبوك ومهما أعطيت لكن لن نرد له الفضل أبدا ولكن خلال الفترة الماضية كنت أعلم أن هذا لن يحدث, فقلت أتسول أسهل من الأمر الأخر, وأن كان كلاهما مر وكسرة نفس,
في هذه اللحظة سمعت أمي تتحدث بنبرة مختلفة فيها رجاء وأمل وقالت بهدوء, يا رب يا رحيم يا كريم يا غبي يا رزاق يا من ترزق الدودة في بطن الحجر, أرزقنا من فضلك, يا رب أنني أشهد أنني عاشرت حسن سنوات طويلة, كان فيها نعم الزوج, لم يجعلني أنام غاضبة منه قط ولم يقصر في حق من حقوقي أبدا, بل كنت أنا من يقصر في حقه, كما أشهد أنه لم يقصر في حقك أبدا, بل كان عبدا مطيعا, يؤدي الفرائض حتى موته لم يقصر في أي منها رغم مرضه الشديد والأهم كان راضيا بقضائك, ولكن الدنيا أدبرت بعد إقبال فذاق وذقنا معه معني الفقر بعد الغني ولكني اشهد أنه لم يغضب ولم يبدل مما كان يفعل من الخير بل ربما كان يزيد من ذلك, وهو ظل حتى موته يثق بك, ويؤكد انك لن تتركنا أبدا, ولكننا وصلنا لليوم الذي قال أنه لن يأتي أبدا, من أجل ذلك أقول لك يا رب, لا أحد يعرف ما بداخل النفس إلا أنت فان كان صادقا غير منافق, فأفرج ما نحن فيه, أما إن كان غير ذلك فكن بنا رحيما ولا تأخذنا بذنبه,
تعجبت أن أمي قد دار في خلدها ما دار في خلدي, وقلت أمين ثم لزمت الصمت أريد أن أعرف حقيقة أبي وحقيقة الله.
دق الجرس طرقا خفيفا, لم تتحرك أمي من مكانها, استمر الطرق على الباب وكان بين الطرقات دقات جرس على فترات متفاوتة, لأنني لم أكن انتظر خيرا يأتي من الخارج, فلم أعير الأمر اهتماما, قلت ربما يفقد الأمل ويذهب, ولكن هذا لم يحدث, بدى أنه شخص مصمم على أن نفتح لباب, تحركت متكاسلة ومسحت دموعي وعندما فتحت الباب وجدت رجلا يرتدي جلباب بلدي ويبدو انه كما يقولون معلم ابن بلد قال بنبرتهم السلام عليكم, محسوبكم منصور عمران, ابن المعلم عمران الضبع, سمعت أمي صوته فأقبلت مسرعة فنظر إليها بأدب وقال, لا أعلم إن كنتم ستذكرونني أو لا, لقد كنا جيرانكم في الحي حتى اضطر أبي للعودة للمنصورة والبقاء هناك, أولا ورغم أنها متأخرة جدا ولكن البقاء لله في الحاج حسن, ليرحمه الله لقد كان رجل صالحا, بكيت حين سمعت هذا, بينما ابتسمت أمي بحنق, فاستطرد قائلا, لكي لا أطيل عليكم اسمحوا لي بالدخول ولتتركوا الباب مفتوحا, لأن ما سأقوله لا يصلح على الباب, ظلت أمي كما هي بينما فتحت له الباب سعيدة بشخص يقول في حق أبي كلمة حسنة, دخل مسرعا ثم جلس وهو يخرج منديلا من جيبه ويضعه أمامه على المنضدة الخشبية وأخذت عيناه تدور في أرجاء الشقة يتفحصها بدقة, حتى انتابني الخوف منه وكذلك أمي, لقد خشينا أن يقول, معي أوراق في هذا المنديل تثبت أن هذه الشقة من حقي, ولكنه ابتسم وقال يبدو بركة الشيخ حسن تملئ البيت, اقتربت أمي منه مضطربة وقالت له ما تزيد يا معلم؟. زوجي مات وتركنا ولم يكن شيخا في يومي من الأيام بل طرزي, عاش مصر علي الفقر وتركنا في عيشة ضنك,
ابتسم منصور وقال لا سمح الله كيف يترككم في عيشة ضنك, أنما يعيش في عيشة ضنك من لا يعرف الله, يا حاجة رحم الله عبده حسن كان صالحا يشهد له القاصي والداني,
قاطعته أمي وقالت لم نري من الناس إلا عكس ذلك, ولا يقول لنا شخص عنه كلمة خير إلا يتبعها بشيء يريده منا, وتكون أن ينهش لحمنا, وينهب أي شيء,
قاطعها منصور وقال لها لماذا تتعجبي أنهم فعلوا ذلك بزوجك رحمه الله, إنهم ببساطة يفعلون ذلك بالله عز وجل فينكرون فضله عليهم, ولا يذكرونه إلا عندما يريدون منه شيء, فان لم يعطهم ما يريدون حتى لو كانوا يعلمون أن ما يطلبون لا يمكن أن يحققه لهم الله لأنهم يطلبون منه أن يفعل الشر, ومع ذلك يقفون بسخافة ويقولون يا رب لماذا لم تستجب لنا, فيكفرون جهرا أو يخفون ذلك,
قالت أمي غير مهتمة بما يقول, لا أحب أن أسمع هذا الكلام, ماذا تريد بالضبط؟.
ابتسم منصور وقال لها,لقد اقترض أبي من شيخنا خمسمائة جنيها منذ وقت طويل ولكن للأسف نسى أبي هذا الأمر نهائيا, حتى كان بالأمس, استيقظ أبي من النوم يبكي بحرقة, فقد رأى فتاة تبكي في الحلم فسأل شخص بجانبه وقال له لما تبكي هذه الفتاة؟ فقال له وهو يبتسم غيظا لأن أمثالك اقترضوا مالا من أبيهم ولم يرجعوه وتركوهم فقراء, يمنعهم الحياء من سؤال الناس, فاستيقظ من النوم وقال يا ويلي, لقد نسيت دين الشيخ, ما أسوء قلبي كيف نسيت الشيخ ودينه, فقال لي أذهب الآن وخذ معك كذا وكذا واذهب به إليهم واسألهم أن يسامحوني, واقل لهم أن ما أملكه لا يكفي لدفع الدين, ولو كنت أملك الأرض وما فيها بل ربما السماء وما فيها, لذلك فهو يرد المبلغ ولأنه يعلم أن الشيخ ما كان ليأخذ غير المال إن أخذه رغم مرور سنوات طويلة فأنني أعيد لك خمسمائة جنيها, وقد أمرني أن أخذ لكم هدية,
قالت له أمي يا معلم رغم فقرنا فإننا لا نقبل الصدقات بل نموت جوعا ولا نأخذها.
تبسم لها منصور وقال, كان أبي يعلم ذلك لذا أرسل معي المنديل الذي كان قد وضع فيه الشيخ حسن المال حين اقرض أبي, امسكي المنديل لتتأكدي منه.
مدت أمي يدها وأمسكت بالمنديل ثم بكت, وتنهدت وقالت نعم هو منديل كان لزوجي رحمة الله, فقال منصور, وفيه خمسمائة جنيها, ولكن أبي يريد أن يستعيد المنديل وقال لي سلهم بكم يبيعونه؟. هو يريد أن يدفن معه, ليؤكد لأبيكم انه قد رد الدين وليتبارك به,
كانت أمي لا تصدق ما تسمع فهي بين السخرية منه ومن حديثه عن صلاح أبي والتبرك به ومن السعادة بما تمسك في يدها من مال ولكن نبرتها تغيرت عندما تتكلم عن أبي فربما لم أسمعها تترحم عليه من قبل, ولكن الآن تترحم عليه بين كل كلمة وأخري.
كنت مندهشة مما أسمع وأحببت منصور من كل قلبي لقد أعاد في لحظة واحدة حبي لأبي وحبي وثقتي في الله, ولا أخفي تمنيت أن يكون زوجي, بالرغم من أنه لم يكن أبدا فتى أحلامي, ولكن ما قاله وما فعله قد أسر قلبي له مدي الحياة ولم أكن في هذه اللحظة أفهم سوي أن حب بين رجل وامرأة هو الزواج بل ربما يكون الزواج بلا حب أصلا, فليس بين رجل وامرأة غير محارم إلا الزواج وغير ذلك هو قلة أدب, كما كانت أمي تقول, كنت وقتها بدأت ما يسمونه مرحلة المراهقة لذا بدأت افهم ما يمكن أن يكون بين رجل وامرأة ولكن بنظرة ضيقة كان هو الحب بمفهومه الضيق, أما الحب بمفهومة الواسع, فلم أكن قد فهمته بعد.
قاطع حديثه ما كنت فيه فقال كم تريدون ثمن هذا المنديل,
صمتت أمي قليلا تفكر ثم قالت كأنها تلقي قنبلة, وقالت خمسمائة جنية, ولكن منصور تجاهل ما قالت, وحاول أن يظهر كأنه لم يسمعها, ظننت أنه شعر أن المبلغ كبير, قال منصور بهدوء, أبي يعرض أن يشتريه بألفي جنيها, فما رأيكن؟. نظرت لأمي ونظرت هي لي. قال منصور متحرجا, أنني أعرف أنه لابد يساوي عندكم أكثر من ذلك, لذا أطلب منكن أن تبيعوه لنا مقابل هذا المبلغ. قالت أمي نوافق يا ولدي,
ابتسم منصور وقال يجب أن تكوني وبناتك في تمام الرضا ليرضي الله عنا, ثم قال لتسمحوا أن أقدم هدية أبي لكن, نهض نحو الباب ونزل السلم ثم صعد الدرج و صعد معه رجلان يحملان قفصان بهم دجاج وبط وديك رومي وإوزه, ثم نزل السلم مرة أخري شعرت بالسعادة فمثل ذلك لم نأكله منذ زمن بعيد, وكدت ابكي من إحساس السعادة والرضا, ولكنني قلت ومن يقدر أن يذبح وينظف ثم يطهي الطعام, لا يعلم أحد كم نحن جوعي ولكن الرجلان عادا مرة أخري يحملون على رؤؤسهما مشنتان وفاحت روائح مختلطة كلها توحي بالطعام الشهي, كدت أن أجلس بجوار المشنتان وافتحهما بل وأجهز عليهما تماما, لكن الحياء منعني وقلت بعد قليل سيرحل ووقتها سأنفرد بهذا الطعام الشهي, لكن ما قاله غير كل هذا,
تنحنح قليلا بينما جلب الرجلان أقفاص أخرى مملوءة فواكه كثيرة كنا قد حرمنا منها, فقلت في نفسي لتذهب بعيدا عنا واتركنا مع هذه الأطعمة الشهية التي فقدناها منذ زمن بعيد, ولكنه استمر يتنحنح كأنه سيقول شيء يزعجنا لذا انتابني وأمي الخوف وبدا هذا جليا علي وجهي ووجه أمي, نظر إلينا وهو ينظر للأرض وقال, لقد قال لي أبي أنه يتمنى لو توافقي علي أن نناسبكم,
شهقت أنا وكذلك فعلت أمي في نفس الوقت وبدا هو متوتر, كأنه شعر أننا سوف نرفض, فلزم الصمت ينتظر منا كلمة ولكن أمي لم تتحدث.
تذكرت أمي حين كانت تقول لن يرضى أحد أن يناسبنا أبدا, فنحن فقراء بل من المعدمين, فمن سيرضي بنا نسبا, ولكن أننا نجد كل شيء يتغير, لقد كنت أقول في نفسي منذ قليل لقد أصبح معنا بعض المال ولكننا بحاجة لرجل شهم يكون بجانبنا, ليصد عنا إيذاء أهل الحارة, لقد أصبحت مقتنعة أنهم أهل سوء, وهم ممن قال الشيخ عنهم, اتقوا شر من أحسنت إليه, فها هو شاب يبدو قوي البنيان ذو عائلة كبيرة في المنصورة, وغني, إذا سيكون ظهر جيد لنا, فنظرت لأمي كأني أحثها على الرد عليه, قالت أمي, ماذا تقصد بالضبط, قال منصور, أبي يقول أنه يسعده أن يناسب الشيخ حسن, وحين أرسلني قال لتسأل ستنا زوجة الشيخ إن كانت تقبل بنا نسبا, فولدي منصور في سن الزواج وكذلك بنتكم نرجس, فان لم تكونوا قد قلتم كلمة لرجل ما, فانه سوف يصلي لله شكرا ما بقي من عمره, ولكم ما تريدون من المهر والشبكة وغيرها مما يحتاجه الزواج بل أكثر من ذلك فرد لفضل الشيخ علي, فأنني سأقدم شوار نرجس من عندي, هدية لمولاي الشيخ أما لو كانت قد خطبت فان شوارها وكل ما تطلبه سأقدمه لها, ولست أعرف إن كانت الصغرى نادية في سن الزواج أم لا,
تمنيت وقتها لو كانت نرجس قد تزوجت وشعرت ببعض الغضب, ولكني سعدت أنه سيكون قريبا على أي حال وأن أختى ستكون سعيدة معه, وعاودني الشعور بالجوع, فتمنيت أن توافق أمي أو تؤجل الكلام لوقت أخر, بينما نحن على هذا الوضع إذ خرجت نرجس من الغرفة التي كانت تحبس نفسها فيها وقد أحمر وجهها خجلا ولكن الخجل زادها جمالا وحسنا وعندما رآها منصور وقف من فوره وقال ما شاء الله, تبارك الله , ثم قال يا أم نرجس وأنا يسعدني أن أطلب يد بنتك المصون نرجس.
سمعت صوت أمي سعيد, وقالت يا بني يسعدنا نسبك ولكن أعطنا ثلاثة أيام وسوف نرد عليك.
قال منصور وهو يهم بالوقوف وينظر لنرجس بإعجاب, إذا اسمحوا لي أن انصرف وسوف أعود بعد ثلاثة أيام وكلي أمل أن تقبل نرجس بي زوجا لها, وأعدها أنني سأفعل كل شيء لأجعلها سعيدة.
قالت له أمي نأسف لم نقدم لك شيء, لقد انشغلنا بكل ما قلت, ولكنني آسفة فهذا ليس عذرا, دقيقة واحدة وسوف اعد لك أي شيء,
قال منصور هادئا, أنا علي يقين من كرمكم فأنتم أهل أكرم من عرفنا, ولكنني لن أشرب في هذا البيت إلا شربات, وخرج مسرعا يلقي التحية وعينيه تختلس النظر لنرجس, التي بدت السعادة علي وجهها, فأشرق وكان أجمل من البدر في ليلة تمامه,
بمجرد أن خرج من الباب ارتمينا في أحضان بعضنا بعضنا أنه أحساس لم نشعر به من زمن طويل, ونظرنا جميعا تجاه صورة أبي وأقسم أنني رأيته يبكي سعادة, ثم نظرنا إلي السماء معا ولن ننبس ببنت شفة, ولكننا احتضنا بعضنا أكثر وأكثر. أنه أجمل أحساس حين يجتمع الحب والرضا مع السعادة.
بعد هذا بسنوات طويلة فهمت أمور كثيرة, منها أن لله في الأرض مثل سفراء يفعلون ما يريده الله وربما ليس بينهما اتصال وربما بينهما اتصال, ولكن المهم أنهم يفعلون المعروف وخاصة في من لا يستحق,
صدمت الكلمة مها وقالت لها لم افهم كيف يفعلون الخير في من لا يستحق؟
قالت نادية بابتسامة هادئة لأنه لو لم يفعل فسوف يكونون أكثر شرا, فهذا من رحمة الله بالناس وكونهم لا يشكرون الله ولا من فعل معهم الخير فهذا من سخط الله عليهم, لذا لم يكن يغضب أبي مثلا من صاحب البيت الذي رد معروفه معه بالشر, لأنه يعلم أن داخله شر أكبر ربما يكون المعروف كاسرا لبعض شره إن لم يكن مع أبي فليكن مع غيره, وكذلك كان المثال الذي قاله أبي عن أبي بكر الصديق, فقل ظل يعطي من أخطأ في حق أبنته لأنه لن ينصلح حاله ولكن ليقل شره.
هذا مثلا مثل ما فعل الرجل الذي كان من بني إسرائيل حين تصدق علي السارق والغني والزانية.
قالت مها مستفهمة, ولكنني لا اعرف هذه القصة
ابتسمت نادية وقالت باختصار تصدق رجل من بني إسرائيل في ثلاث ليالي على غني وزانية وسارق, فكانت الناس تقول تصدق بالأمس علي غني ثم زانية ثم سارق فكان المتصدق يحمد الله على ذلك, فلما سأله الناس في ذلك, قال أما الصدقة على الغني فلعلها تجعله يتصدق, وعلي الزانية لعلها تتوقف عن الزنا, وعلى السارق لعله يتوب,
كنت فيما بعد أصبحت مقتنعة بأن أهل الحارة هم أهل سوء وأن محاولة أبي ومن مثله هو فقط للتقليل من شرهم تجاه الناس كما فعل هذا الرجل من بني إسرائيل.أما الإصلاح فأمر أخر, ربما يجعله الله على يد من يشاء وقتما يشاء, أما بالنسبة لي فعلي مغادرة هذا المكان وهذا ما سيحدث بعد قليل, أما الآن فسأعود لمنصور وزيارته لنا, ثم اغرورقت عيناها بالدموع ولمعت ثم ضحكت وقالت بعدما رحل منصور, كنا في حالة من السعادة لا يمكن وصفها, كنا نأكل من كل شيء, دون حساب حتى لم يبقي مكان لنضع فيه طعام بينما كنا ننظر لصورة أبي على الجدار وعيوننا وقلوبنا تقول صدقت يا أبي صدقت,
كان مبلغ المال يعتبر كبير بالنسبة لنا, فمعاش أبي أن تعرفي كان قرابة عشرون جنيها فقط, ومن هذا اليوم انتهى عهد سوء الظن بأبي ثم من بعده بالله طبعا, وعرفنا حقيقة أبي وصدقه, وسوء أهل الحارة لذا أصبحنا نتعامل معهم بشكل مختلف.
في اليوم التالي ذهبت أمي للسوق واشترت بعض حاجات البيت, وأصبح واضحا أن لدينا مال فتهامس أهل الحارة بسوء عنا وبدءوا يتسألون من أين المال؟ ومن هذا الزائر, لما علمت أمي بذلك غضبت كثيرا وقالت لواحدة سألتها في الأمر كيف تجريء أن تتحدثي هكذا عنا, ألا تعرفي من نحن, من كان زوجي رحمه الله, لقد كان خيره على الجميع ثم تردون فضله عليكم بهذه الطريقة يا أهل السوء, هو منصور ابن عمران جارنا القديم جاء يطلب منا يد أبنتي نرجس, ويرد دين كان عليه لزوجي, فيه الخير رد دينه, أما أنتم فلم يفعل واحد منكم, لا احد رد دين ولا فكر للحظة أن يرد معروفا مما فعله زوجي, لا أعرف لما خاف الجميع, حتى نهض كثير من أهل الحارة مسرعون,والجميع يسترضي أمي ويقول نعم الرجل كان الأسطى حسن, وقال واحد منهم والله ذهبت البركة من الحارة منذ مات, شعرت وقتها أنه ربما كنا بحاجة فقط لنثق في أنفسنا حتى نستطيع الرد على مثل هؤلاء الناس, ولكن منذ ذلك اليوم لم يجرأ أحد على الكلام عنا وعن أبي رحمة الله إلا بالخير, فيما عدا مرة واحدة سأحكي لك عنها.
عندما زارنا منصور في اليوم الثالث جاء بوجه فيه بعض القلق, وعندما دخل علينا أغلقت أمي الباب ورآه وليس كما فعلت في المرة السابقة, ورفضت أن تتحدث معه حتى قدمت له شاي وقالت له سوف تتناول معنا الغداء اليوم, فلم أعد أفهم أمي فالرجل قال أنه لن يشرب إلا شربات, وأختي موافقة على الزواج, وكلنا سعداء بذلك, نظر منصور إلي كوب الشاي ثم قال في تردد وقد مسح عرقه بمنديل, يا ست الكل, ثم ابتسم ابتسامة أعربت عن قلق, لقد قلت لك لن اشرب إلا شربات فقط, ابتسمت أمي وقالت له ستشرب شربات وشاي وأمور كثيرة أنك في بيت حسن المشهور بالكرم أما الشاي والغذاء فكان واجب علينا في المرة السابقة ثم سوف تشرب شربات بعد ذلك.
ابتسم منصور ولمعت عينيه وهو ينظر تجاه نرجس, والتي شعرت بسعادتها الكبيرة,
تزوجت نرجس, وسافرت مع زوجها للمنصورة, وبقيت معي أمي حتى توفاها الله وظللت بمفردي في بيت أبي, وكانت نرجس, ومنصور حاولوا معي بشكل متكرر أن أسكن معهم في المنصورة ولكني فضلت البقاء كما أنا, حتى حدث ما غير كل حياتي.
جاءني الحج محفوظ عبد المنعم صاحب البيت, وقال لي في شيء من الحياء, وهو ينظر إلي صورة أبي المعلقة علي الجدار ويظهر قدر كبير من التأثر تجاه, رحم الله والدك, ثم تنحنح عدة مرات وقال, أبني يريد الزواج, لا أعرف لماذا شعرت بالاضطراب عندما قال ذلك, خشيت أن يطلب يدي لأبنه, كنت أؤمن أنني لن أتزوج بدون حب, وأن الله سوف يعطيني حب عظيم لا تسأليني لماذا, ولكن هكذا كنت أشعر,
قلت له مضطربة, وما علاقتي بذلك؟.
قال يا بنتي أعلم أن ما سأطلبه يبدو صعبا ولكن الشقة ملكي وأنتم فيها بعقد إيجار قديم, وكما تعلمي أن القيمة لا تكفي شيء, ولكن ليس هذه هي المشكلة ولكن المشكلة أن ليس لأبني مكان يقيم فيه, فقلت في نفسي انك تسكنين هنا بمفردك, ولن تحتاجي كل الشقة, لذا فعندي في ظهر هذا البيت بيت ملك لي أيضا وبه فوق السطح شقة صغيرة غرفة وصالة بمنافعهم, ستكون كافية لك ولن تحتاجي شيء أخر غيرها, نظرت إليه متعجبة, وقلت له كيف تفكر في هذا الشيء يا معلم, وأبي كان صديقك, فقال أنني أستجديك ليس أكثر, وأنا أعرف أن قلبك كبير مثل أبيك,
لست اعرف لماذا كنت أشعر انه يكذب رغم محاولاته إظهار غير ذلك, فقلت له سأفكر في الأمر واستشير أختي وزوجها المعلم منصور, قال الحج محفوظ, ليكن يا بنيتي ولكن دون أن يغضب احد خاصة المعلم منصور, وسوف اجعل قيمة الإيجار كما تريدي.
عندما عرضت الفكرة على أختي وزوجها وجدت منهم قبولا كما كان لي خاصة أننا جميعا نعلم أن أهل هذه الحارة هم أهل سوء وتذكرت الرجل الذي قتل 99 نفسا وعندما أراد أن يتوب ذهب لعابد يسأله هل له من توبة فقال لهظ, لا, فقتله وأكمل به المائة ثم ذهب لعالم فقال له نعم لك توبة, ولكن عليك ترك القرية لأن أهل قوم سوء وما دمت فيهم فلن تتوب, لذا غادرها لقرية كذا فان أهلها صالحون,
كانت الشقة التي فوق السطح هي في ظهر هذا البيت ولكنها تفتح على حارة أخرى, طلبت من المعلم أن ازور الحارة أولا وسألت منصور زوج أختي إن كان أبوه يعرف سكان هذه الحارة أو لا, وأخذت أتذكر ما كان يقوله أبي عن الحارات المجاورة, ولكني لم استطيع أن أتذكر, ولكن عندما زرتها انشرح قلبي فكانت عمارات صغيرة في شريط مستطيل في الجهة الأخرى ترعة صغيرة, عليها أشجار عتيقة, من الخيزران, وغيرها, وقفت عن بيت منهم كان جميلا من الخارج هو عبارة عن دور أرضي به مكوجي, وحلاق ومحل صغير للبقاله والخضروات, ثم دور أول به ثلاث شرف, في كل شرف عدد كبير من الأزهار والنباتات في أواني زرع أنيقة, ثم بدت شقة صغيرة في الدور العلوي, رأيت سيدة أربعينية تدخل البيت بهدوء وتؤدة, يبدو وجهها بشوش ويوحي بطيبة القلب, لا أعرف لما أحببت هذا البيت وتمنيت أن يكون هذا هو البيت المقصود, عندما ظللت أقف لفترة أقترب مني, رجل يبدو في أواخر العقد الخامس, وقال لي بوجه طلق, هل تبحثي عن شيء ما يا ابنتي, انتبهت إليه وقلت له نعم يا عمي, هل هذا بيت المعلم محفوظ؟, نظر لي مبتسما وقال, أ هو أنت يا بنتي؟. ألف مرحبا بك في الحارة يا بنت الرجل الطيب, رحم الله أباك.
نظرت له وقلت له هل تعرفني, قال وهو يبتسم انظري جيدا لهذا الجلباب انه من صنع أبيك, ربما أنت لا تعرفيني, ولكنني كنت اعرف أبيك جيدا ولكنني سافرت للسعودية لفترة طويلة وعدت منذ عدة أيام وعندما سألت المعلم محفوظ بالأمس عن والدك قال أنه في ذمة الله, قلت له أريد زيارتهم فقال أن زوجته أيضا توفت إلى رحمة الله ولم يبقى في بيته إلا أبنته نادية أما أبنته نرجس فقد تزوجت وسافرت مع زوجها للمنصورة, وعندما قلت له أنني أريد زيارتها, قال لا تتعب نفسك, هي سوف تأتي لكم قريبا وشرح لي الأمر.
شعرت بالغضب لأن المعلم محفوظ قال له كأن الأمر منتهي بأنني سآتي لهذا الحي, وبدا ذلك علي وجهي ولكنني قلت له وأنا أحاول أخفاء ما في وجهي,
شكرا لك على هذا الكلام الطيب عن أبي لا نسمعه إلا قليلا, فنظر متعجبا وقال قليلا, ثم صمت قليلا وقال نعم عندك حق فجيرانكم دائما ينكرون الجميل, ولكن إذا وافقت على أن تجاورينا فسوف تعرفي كم يحب الناس أبيك, ونكون قد كسبنا نحن بنت الأسطى حسن بيننا ولن تري منا إلا الخير بإذن الله.
نظرت إليه في دهشة وشعرت أنه ربما استأجره المعلم محفوظ ليقول ذلك, رغم أن وجه كان يوحي بغير ذلك, ولكنني كنت اعتدت على أن يظهر الناس عكس ما يخفي,
قاطع هو فكري وقال, يمكنك أن تدخلي هذا البيت لتري الشقة التي حدثك عنها محفوظ, ليس في البيت إلا ساكن واحد في الدور الأول ثم فوق السطح شقة, هي إلي عليها الكلام, دخلت البيت فشعرت بالحب يملئه, فصعدت الدرج ثم وقفت عند شقة الدور الأول فوجدت زهور في كل مكان وقطط صغيرة من أنواع مختلفة, وباب مفتوح بدا انه لا يغلق, لمحت السيدة وكذلك لمحتني فقالت لي بوجه بشوش, أتفضلي يا بنتي, شعرت بالحرج وقلت لها شكرا, أنني جاءت لأري الشقة التي في الدور العلوي, فقالت لي في ابتسامة مرحبة, مرحبا بك جارة, فقلت لها سأكون أنا الأسعد بأذن الله, واستأذنت منها ثم صعدت فوق السطح فانشرح قلبي فجاءه, ونظرت حولي فوجدت أن لا شيء يعوق نظري, فاستراحت نفسي وتنفست الهواء بشكل عميق وعزمت علي الموافقة حتى دون أن أدخل الشقة ثم اتجهت للشقة وقبل أن افتح الباب, أخذت أقول هنا سأضع أواني زرع بها ريحان وهنا سأزرع كذا وكذا, ثم ابتسمت وقلت كأنها ستكون ملكي, ثم ورد على ذهني وقلت لماذا لا تكون ملكي ثم قلت من أين لي بالمال, ولكن حين دخلت وجدتها , عبارة عن صالة صغيرة ثم غرفة على يمين الصالة ثم طرقة صغيرة لحمام صغير ثم مطبخ أيضا صغير. كانت ضيقة ولكنني استرحت لها, وخاصة إذا أضفت إلى ذلك السطح الذي يعطي أحساس بالهدوء والطمأنينة,
عدت إلي حارتي فانقبض قلبي, ومليء قلبي كآبة كأنني دخلت قبر مغلق, فاعتبرتها علامة من الله ووافقت على المغادرة للحارة الأخرى وأنا احسبها من باب الهجرة في أرض الله الواسعة ولكنني وضعت شرطا أن اشتري هذه الشقة, فدفعت قرابة ألف جنيها التي أخذتها من أمي, فقد أعطت كل واحدة منا مبلغ ألف جنيها, أصرت أمي أن تجهر أختي بها, رغم إصرار منصور وأبوه على تجهيزها, ولكن أمي رفضت وقالت لأختي أنني اشتري كرامتك طول عمرك, وأعطتني الألف الأخر لجهازي, وكان بعد موت أمي أعطى خالي لي ولأختي مبلغ ثلاثة الألف جنيها لكلا منا, كانت ثمن ميراث أمي من أبيها حيث رفض أعطاء أمي أي شيء وقال نحن لا نورث البنات ورغم حاجتنا بعد موت أبي إلا أنه صمم على ذلك ولكن حين موته خاف من حساب الله, فأرسل ابنه وقال لنا هذا هو حق أمكم في الميراث, وأبي يريد أن يراكم قبل موته, وعندما زرناه طلب منا أن نسامحه وقال ليتني فعلت ذلك وأمكم على قيد الحياة ولكنني اطمع في عفو الله و أن تسامحني أمكما, قلت له لا أحد يعرف أين الخير لعل الله جعلك تحفظ لنا حقنا حتى نحتاج له ونقدر على حمايته, كان هو سعيد بما قلته وقال سأقابل ربي وأختي الآن مستريح, ولكن أختي لم ترى ذلك بل كانت ترى أنه تركنا حين كنا في حاجة ملحة للمال, ولكنني قلت لها فيما بيننا رب ضارة نافعة. بالفعل فالمعلم قدر سعر البيت بحوالي ثمانية الألف جنيها, فدفعت له كل ما كان معي ولم يبقي معي أي مال لحين زواجي ولكن كنت على يقين انه كما رزقني الله في ذلك الوقت سوف يرزقني غدا, وأصبح لي ثلث البيت, وسعدت أنني أصبحت صاحبة ملك,
حين انتقلت للحارة الجديدة احتفي بي أهل الحارة وظللت أيام يأتني صواني أهل الحارة, أكراما لأبي, وسعدت بذلك أيما سعادة وقلت لأختي فلم تصدق,وبكت من السعادة, ولكن جارتي سعاد أصرت أن أتناول معهم الغداء يوم الجمعة, لأتعرف على جيراني وقد وافقت وسعدت بأنه لي جيران طيبون, يوم الجمعة نزلت علي استحياء الساعة العاشرة, طرقت الباب, ففتحت لي الحاجة سعاد مسرعة, ثم قالت لي ادخلي بصوت منخفض, فشعرت أنني أخطأت ولكنها ابتسمت لي سريعا وقالت لا تقلقي إنما لا نريد أن نوقظ زوجي وابني, ثم سحبتني بيد حانية افتقدتها منذ وقت طويل, إلي المطبخ وقالت لي اجلسي احضر لك إفطارك, فابتسمت لها وقلت بصوت خفيض لقد تناولت إفطاري منذ وقت قصير إنما جاءت لأحضر معك الغداء ابتسمت لي وقالت يا بنتي لا يمكن أن تضعي يدك في أي شيء, فقلت لها, لماذا تشعريني أنني غريبة, أنني اشعر أنني في بيتي, ثم ذرفت عيني دمعة, احتضنتني بدفء وقالت والله لقد شعرت بأنك بنتي منذ رأيتك, وكنت أتمنى أن يرزقني الله بنبت مثلك, ثم ابتسمت وقالت لي, هل تعرفي أن تطبخي بطاطس في الفرن, فقلت وأنا امسح دمعتي نعم, وان شاء الله تعجبك.
على مأدبة الغداء جلست الحاجة سعاد التي اتفقنا أن أناديها أمي, وزوجها الحاج توفيق, ثم انضم إلينا أبنهما, محمود, نعم يا مها محمود كانت المرة الأولى التي أراه فيها, سلم علي بأدب ولكن ببرود ولم يهتم بالنظر لي إلا بطرف عين, ولكنني نظرت له نظرة بطرف عين, في حياء ولكن شعرت انه لم يهتم بي ولم اعرف لماذا شعرت انه مغرم بفتاة ما لذا لم ينشغل بالنظر لي ولكني أحببته هو كان فتى أحلامي الذي ابحث عنه, طول عمري, مدحت أمي كثيرا في, وفي شطارتي في المطبخ وأثني الجميع علي ما أعددت من طعام حتى محمود, ولكن بدا واضحا أن فؤاده مشغول,
حين تركت بيتهم وصعدت أخذت ابكي حتى وصلت لشقتي, ثم ارتميت علي سريري واضعة يدي فوق عيني والدمع ينهمر من عيني, ثم قلت في نفسي اشتقت لإحساس العائلة لا حرم الله أحد منه, جاء في خاطري محمود فنظرت إلي السماء وقلت يا رب لقد وقع حبه في قلبي ولكني اشعر أن قلبه مع غيري فلا تجرح قلبا لترضيني,
كنت كل مرة أري فيها محمود ينتابني شعور جميل بالسعادة, ولكن بعد مروره من أمامي ينتابني إحساس عميق بالحزن لأنني كنت أظن أننا لن نجتمع سويا معا, كنت أتمني أن يكون بينا أكثر من مجرد سلام عابر, كنت أتمنى إن يكون بيننا أي كلام لأستأنس به ولو قليلا, ولكن الحياء كان يمنعني, أعرف يا مها أن هذا ربما يحزنك ويجرحك, ولكنك أنت من أصر على أن أحكي لك كل شيء, كما حدث, ابتسمت مها وقالت لها يا نادية لقد تغيرت أمور كثيرة بيننا, وأصبحت أري الموضوع وأنت تحكي كأني استمع لقصة من ألف ليلة وليلة, أو قصة رومانسية, وقد أحببتك يا نادية, ولكنني مازلت أعتقد أنه ربما أحببتك أكثر لو لم نكن تجمعنا هذه العلاقة.
ابتسمت نادية وقالت ربما لم نكن سنتعارف لولا هذه العلاقة, وهذا هو قدر الله الذي لا مناص عنه, ولكن نحن بيدنا أن نختار ماذا سنفعل خلال تجربتنا.
ما حدث بعد ذلك كان مؤلم للجميع, توفي والد ووالدة محمود, في اللحظة التي بدأت أتقبل فيها محمود كأخ لي أكن له كل مشاعر الحب, وليس كزوج, وفي اللحظة التي أصبحت بالنسبة لوالد ووالدة محمود أكثر من أبنتهم, كنا لا نكاد نفترق, إلا عند النوم, تجاذبنا أطراف الحديث في كل شيء تقريبا, جمعنا حب كبير, ولكن الحياة دائما ما تفرق أجساد الأحباب ولكن الله دائما ما يجمع أرواح الناس فلا تفترق أبدا.
كانت الألم شديد علي محمود, وكذلك علي ولكن ماذا يمكنا أن نفعل؟, قدر الله وما شاء فعل.
ها هنا حدث الشر الذي كان في حقيقته خيرا كثيرا, ولولاه لما كانت حكايتنا قد بدأت.
تبسمت مها, وقالت لعله ربما كان أفضل ألا يحدث, هنا ضحكت نادية بقهقهة وقالت بالنسبة لي كان بداية كل خير, وأنا على يقين أنه بداية أيضا لخير كثير لك فعليك الصبر, ليس هناك أصعب على أي امرأة من الخوض في شرفها, فهل من الممكن أن يكون فيه خير!, هذا ما حدث لي يا حبيبتي,
فوجئت بزيارة من جارة قديمة في الحارة, دخلت على بوجه مبتسم ومشهد حب حاولت فيه أن تخبرني بكل ما تملك أنها تحبني, ثم قالت لي الحاجة أم مجدي, أنها تشتاق لي منذ غادرت الحارة, وأن الحارة قد أظلمت من بعدي ظللت أظهر تعجبي مما تقول ولا أخفيه أبدا, فلما شعرت بأني لا أصدقها قالت لي لقد جئت لك لأخبرك بأن الله انتقم من المعلم محفوظ, فقلت لها ولما ينتقم الله من المعلم محفوظ يا خالة؟. نظرت مندهشة أنني لا أعرف وقالت, ألست تعرفي أن المعلم كان يريد بيع البيت الذي كنت تسكني فيه ولم يكن يريد تزويج أبنه كما كان يدعي, ولكن بعدما غادرت لم يفي المشتري بالاتفاق, واختفي, نظرت إليها وأنا في حيرة وقلت لها, ولكن لماذا كذب علي من البداية كان يجب أن يصدق معي, قالت لي مندهشة, كأنني ساذجة, لأن باستعطافه لك تركتي شقتك دون مقابل, ابتسمت لها وقلت ولو قال دون كذب كنت سوف أوافق, نظرت لي غير مصدقة, وهل أنت لست حزينة مما حدث, قلت لها, ولما أكون حزينة بدلني الله بما هو أفضل, كانت كلمتي هذه قد أغاظتها, كأنها كانت قد أتت لكي تلقي علي جبل من الغضب والكراهية تجاه محفوظ, ولكن ورغم حزني أنه حاول أن يخدعني ولكنه حاول أن يضرني فنفعني, لقد خلصني من جيران السوء وجعلني صاحبة ملك, وأعطاني حب عمري,
نظرت مها لها وهي تبتسم في غيظ, فابتسمت لها نادية ثم قالت, نعم حب عمري, هل تريدني أن أكذب؟ ثم أردفت, ولما لم تجد لهذا الكلام صدي قالت لي أم مجدي, يا غالية يا بنت الغالية, لقد أصبحت أعمل دلالة بعدما توفي زوجي, ولقد أتيت لأقول لك كل ما سوف تحتاجيه في جهازك فسوف تجديه عندي, ثم فتحت حقيبة كانت معها وبدأت تعرض ما فيها.
كنت تعجبت مما في يدها حين جاءت وكنت واثقة أنها ليست هدية مثلا لي وكنت أريد أن أعرف ما فيها, وبينما كانت تعرض ما فيها ابتسمت لها في هدوء وقلت, يا خالتي يرسل الله العريس أولا ثم يكن ما يكون, نظرة لي في دهشة وقالت, اشتري الآن فالأسعار ترتفع كل يوم, وما دام معك مال فنفعيني, قلت لها بهدوء إن شاء الله, سوف اشتري منك لا تلقي, شعرت أنها قد غضبت ولكن لم أكن اعرف أن بداخلها كل هذا الشر.
بعدما قدمت لها واجب الضيافة, وتحدثنا كثيرا وكنت أتجنب أن نتحدث عن أهل الحارة, ولكنها كانت تعود كلما حاولت أن أبعدها لنفس الحديث الذي ينصب دائما على ذكر الناس بالشر, فلما أيقنت أنني لن اشتري منها, ولن أشاركها في اغتياب الناس لملمت حاجتها ونفسها وهمت بالانصراف, نزلت معها لتوصليها لباب البيت, حينها دخل البيت محمود وتقابلنا علي السلم, قالت لي حين ألقى السلام, من هذا؟ قلت لها جاري محمود, قالت لي هل يسكن مع أهله في البيت؟ قد لها وأنا حزينة, توفي أبيه ثم أمه رحمهما الله, فقالت مسرعة وقد مليء سوء النية وجهها كله, هل لا يسكن معه احد في الشقة, قلت لها, نعم, فابتسمت ابتسامة ماكرة, وقالت, أي تبيتون بمفردكم في هذا البيت, فقلت لها غاضبة, وتمنيت لو كنت قد كذبت عليها, فقد فهمت سوء نيتها, ماذا تقصدين يا خالة؟. قالت, لا شيء يا بنت الرجل الطيب ورحلت.
تسمرت في مكاني ولم أرد عليها التحية, بل شغلني نظرتها, وسوء نبرات صوتها, فطنت لما قد دار في خلدها, واجتاح جسدي رعشة ممزوجة بالخوف, وقلت يا ليتني كذبت عليها, لن تصمت هذه المرأة وسوف تتحدث هذه المرأة لا محالة في عرضي بالسوء, ظللت أدعو الله أن يكذب حدسي, وأن يرحم فتاة مثلي لم يبقي لها إلا شرفها, كنت أدعو بحرقة شديدة, وقلت يا رب ليس في هذا الأمر خير أبدا, ولكنني كنت علي خطأ.
كانت نادية تبكي حين تذكرت ذلك فاقتربت منها مها, وقبلت جبهتا ثم مسحت بيدها دمعة ساخنة من عين نادية, فكأنما حركت الدموع في عينها فبكت هي الأخرى, ثم كفكفت دمعها وابتسمت لنادية, التى بدأت تبكي بحرقة شديدة, وقالت مها وهي تضع رأس نادية علي صدرها, كان هذا خيرا لك أنت يا نادية وليس لى,
مسحت نادية أخر دمعة وقالت لمها, وهي تبتسم, مصائب قوم عند قوم فوائد, فقالت مها مغتاظة أ هكذا تردي لي حبي وتعزيتي لك, فقالت نادية بمكر لا أقصدك أنت بل المعلم محفوظ, فابتسمت مها وقالت وما دخله بها الأمر وحاولت نادية التهرب من الإجابة لذا قالت, المهم هو ما حدث بعد ذلك, فقد نشرت هذه المرأة السيئة إشاعة مفادها أن بيني وبين محمود علاقة آثمة وادعت كذبا أنها رأتنا سويا في أوضاع سيئة, وانتشرت الإشاعة بين الناس في هذا الحي, والحي السابق, ولم يكن هناك فرق كبير بينهما, إلا أن الحي الجديد كان فيه من قال للناس اتقوا الله, ولكن ظل الناس تتحدث في الخفاء, بينما في حي الأول مشت فيه الإشاعة كالنار في الهشيم حتى وصلت, لا أعرف كيف؟, لأختي وزوجها, فكانت الفاجعة.
لأول مرة أري وجه زوج أختي منصور بهذه الطريقة, فجاء مع أختي غاضبا فقال كلام لا أحب ذكره, فبكيت حتى ظننت أن دمعي أصبح دم, وقلت له وقد نزع كل حب له, مالك ومالي, إليك عني, والله ليس بيني وبين هذا الشاب شيء مما تقولون, وما ذنبي وقد قضى الله علي بأن مات أبي وأمي وأبيه وأمه, هل كان لي من ذلك الأمر شيء, والله لو خيرت بين أبي وأمي والدنيا بأسرها لاخترتهما, ولكن لا اعتراض على أمر الله, هل كان علي أن أترك بيتي, عندما مات أهله سبحان الله, ماذا كان علي أن افعل, ثم شهقت بحرقة وقلت يا منصور عد من حيث أتيت, وخذ زوجتك, لا أريد أن أراكم مرة أرى ولي رب سوف يقف إلى جانبي أنا أثق في ذلك, كنت أظنك ظهر لي ولكن كنت مخطأة فالله هو ظهري فقط لقد أخطأت في حقك يا رب حين لجأت لغيرك, كفي بك ربا ووليا, أستغفرك اللهم وأتوب إليك, نظر لي وقد أحمرت عيناه وقال أتطردينني من بيتك, فأختك عندك, أما أنا فسوف أرحل, ولن أعود حتى تجدوا حلا ثم رحل دون أن يسمع ما كنت أود قوله, لم اقصد طرده ولكنه لم ينتظر,
ظللت أنا وأختي نبكي ليالي طويلة, ونتحسر على ما وصلنا إليه, وقالت أختي وهى تتنهد تكاد لا تستطيع أن تأخذ نفسها, لو كان لنا ظهر ما فعل الناس بنا ذلك, كسر ظهرنا, قلت لها بهدوء وثقة, يجبره من كسره, فله في كل شيء حكمة, فقالت أختي وهي تحاول إدخال الهواء لرئتها, فلماذا لذا تبكي, فقلت لها أبكي حزنا على ما حدث لي ولكنني لست ساخطة على ما حدث بل راضية به, فعسى أن تكرهوا شيء وهو خير لكم, ولقد ابتلاني الله بما أبتلى به أم المؤمنين عائشة, فهل هناك محبة من الله أكثر من ذلك, فهي كانت تبكي وهي تعلم برأتها, وكانت تبكي وهي تعلم أن الله سوف يقف معها, إن هذا من قبيل ما فعله رسول الله حين قبض الله ابنه إبراهيم حيث قال, إن العين لتدمع وان القلب ليحزن وان علي فراقك يا إبراهيم لمهمومون ولكن لا نقول إلا ما يرضي ربنا, فبكينا كثيرا حتى كاد الدمع يجف, وكنا لا نخرج من البيت ولكننا اضطررننا بعد لم يعد في البيت شيء نأكله, فقلت لأختي انهضي فاغتسلي وضعي عليك من الزينة ما يخفي حالتنا, وكذلك سأفعل أنا, حتى لا يشمت بنا الناس, ولنخرج ونشتري ما نريد بل وأكثر دون أن نشعر احد بأي شيء, فعلنا ذلك وقد نزلنا الدرج, وأرجلنا ترتعش, ولكن مع خروجنا من البيت وتنسمنا الهواء العليل, عادت ثقتنا في أنفسنا ومن قبل ذلك بالله, الذي لا يمكن أن يكون يريد لنا الشر أبدا, سرنا نلقي التحية بهدوء علي الناس, فكانوا يردون التحية إما بود صافي أو بحنق خفي وربما لا يردون, فشعرنا بثقة أكثر, وعندما عدنا طهونا بطة كنا اشتريناها, أعددتها بطريقة شهية علمتني أمي أم محمود الطريقة, فأكلنا منها بنهم من حلاوة الطعم والجوع وكأن الله قد فتح شهيتنا بشكل كبير, وقالت أختي الحمد الله على كل حال, ولكني في شوق لأبنائي, قلت لها اصبري لعل الله له حكمة في ذلك.
كان صدري يمتلئ حقدا وحنقا مما قالته أم مجدي, ولو كانت أمامي لكنت ربما قتلتها, ولكن كانت أخذ نفسي بقوة لأعفو عنها ولكني لم استطيع في هذه اللحظة.
وحدث ما أخبرتك به من قبل, ولكن حدث أمران مهمان, الأول أنني ذهبت للحارة بعد إعلان خطبتي لمحمود لحارتي وكانت هذه أول مرة أدخلها منذ تركتها, وذهبت لبيت أم مجدي التي ظنت أنني جاءت لكي أضربها او ربما أقتلها, ولكنني أظهرت أنني لا أعرف ما قالت وقلت لها أنني أريد أن اشتري كل ما احتاجه من جهازي منك, بدت مضطربة ولا تعرف ما عليها أن تفعل, ظلت متسمرة في مكانها, قلت لها أكثر من مرة أن تعرض علي ما لديها, ولكنها ظلت في مكانها لا تتحرك, فقلت لك مالك يا أم مجدي؟. فقالت بوجه متجهم, ماذا تريدي مني, فقلت لها وأنا ابتسم أنت من جاءت لي تطلبي مني أن اشتري جهازي منك, فماذا حدث لك؟
نظرت إلي والشرار يتطاير من كل جسدها, ولكنك تعرفي جيدا أنني أنا من قلت عليك ما قلت, فكيف تأتي إلي, هل جئت لتنتقمي مني, ولكن كيف سوف تفعلي ذلك هل تخفي شيء في كيس نقودك وعندما أدخل لأحضر البضاعة تدسيه في أي مكان, هذه حيلة قديمة لن أنخدع بها, شهقت لا أصدق ما قالت, وقلت لها يا أم مجدي ولما افعل هذا, فان الله أمر الصديق بأن يعفو عمن قال في حق ابنته عائشة وان يستمر في التصدق عليه, وأنا اتخذته قدوة وعفوت عنك, وأردت أن اشتري منك, نظرت إلي وهي لا تصدق ما أقول ثم قالت لا أريدك أن تشتري مني شيء, شكرا لك.
ابتسمت في تعجب, وقلت لها, هل ترفضي فضل الله ورزقه, فقالت نعم أرفضه أنا حرة لا أريد أن أبيع لك, زادت ابتسامتي وقلت لها والله أنني سامحتك, و والله انك تستحقين الشكر علي ما فعلتي, ورب ضارة نافعة, لقد أردت لي الضرر ولكن الله جعل شرك خير لي فصدق الله ( لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير) ولأن الله صدق معي فقد صدقت أنا معه أيضا وقلت بلي أريد أن تغفر لي, وتعفو عني, لذا جاءت إليك.
قالت وهي تفتح الباب وتدعوني للمغادرة, لا أحد يفعل ما تقولي, وأنا على ثقة انك تكذبي, فتحت كيس الفلوس وأخرجت لها ما فيه من مال وقلت ليس في الكيس إلا المال, وأنا أريدك أن تأخذيه, نظرت إلي المال وابتلعت ريقها وقالت لن تخدعيني, فقلت لها وأنا أغادر, على العموم أنا فعلت ما أمرني الله, وأنا عند كلمتي فلو أحببت أن تبيعي لي فأنت تعرفي العنوان ثم نزلت الدرج وأنا لا أصدق ما حدث, وأخذت أتحدث لنفسي طوال الطريق حتى وصلت لبيتي وحكيت لأختي التي ضحكت وقالت احمدي الله أن الله أخرجك من بينهم وهي لن تأتي لك أبدا, لأنها ستخاف أن تستغلي وجودها في بيتك وتفعلي بها أي شيء, فضحكت بصوت عالي وقلت سبحان الله, والله ما كنت أنوي إلا الخير فقد تذكرت أنها ذكرت ضيق حالها, فأردت التوسيع عليها, ولكنها رفضت فضل الله, ومن المؤكد أن احد أخر يستحق فضل الله أكثر منها وقد كان ما كان فقد جاءتني دلالة أخري بعد ذلك تربي أطفال يتامى, فسعدت أن الله وفقها لي ووفقني لها فمن كان يتيما وعانى مثلي فلابد أن ينفطر قلبه على كل يتيم, فاشتريت منها كل ما أريد ولم أدقق معها في السعر احتسابا لفضل الله, وسبحان الله كانت معرفتي بها فتحة خير لي ولها, وسأحكي لك هذا بعد قليل, ولكن الأمر الثاني العجيب الذي حدث, لقد رفضت أختي العودة مع منصور رغم اشتياقها لزوجها وأبناءها, ولكنها قالت له ماذا تريد مني, انا مع أختي في هناء وسعادة, نظر لها متعجبا, وقال إن لم يكن من أجلي فمن أجل أولادك, فقالت في ثقة كما تحملوا ما مضى يتحملوا ما هو آت,
لم يكن منصور يصدق ما يسمعه فقال في تعجب, نحن في حاجة إليك, فقالت, وأنا لست في حاجة لكم, نظر لي منصور وقال لي قولي شيء يا نادية, وقبل أن أتحدث عفتني نرجس من الحرج وقالت ليس لنادية دخل في الأمر هو بيني وبينك فقط, لزمت الصمت حتى أصاب اليائس منصور ورحل غاضبا يتمتم بكلمات كثيرة لم أنتبه لها, ولكن نظرت في حيرة لنرجس التي قطعت الصمت وقالت نعم كنت أبكي حرقة على زوجي وعيالي ولكن كما سمعتم يقولون أصون كرامتي من بعد حبي, نظرت لها بابتسامة وقلت ليس بين المرأة وزوجها وأبناءها مثل هذا الحديث, فقالت له في دهشة أنني لا أفعل ذلك من أجلي أنا فقط بل من أجل ما فعله معك, فقلت لها مبتسمة مالك ومالي, إن كان ما فعله معي يغضبك فقد غفرت له, فقالت لي كيف تغفري له, قلت لها لقد غفرت لمن أطلق الإشاعة, فكيف لا اغفر له, لقد كان هو وهي من جند الله الذين فعلوا معجزة بمعني الكلمة, فقد جمعوني بحبيب قلبي وأنا كنت اظنن أن هذا لن يحدث أبدا ورضيت بأنه معي في بيت واحد وكنت أخاف أن يتزوج يوما ويترك هذا البيت, فحقا علي شكرهم, قالت لي نرجس, أتحبينه لهذا الحد؟ انه شيء لم اسمع عنه من قبل. ابتسمت لها وقلت أحبه أكثر مما يمكنك تخيله, وهذا الحب يزداد يوما بعد يوم. ضحكت نرجس وقالت وأنا أيضا أحب منصور ولكن, ضحكت لها وقلت انك لا تحبينه, لو كنت تفعلي حقا لما رضيت أن يمشي من عندك غاضبا لهذا الحد, نظرت لي متعجبة وقالت ولكن كرامتي, فضحكت وقلت كرامتكم واحدة يا نرجس, إن الحب ألا ترضي لحبيبك أن تدخل شوكة صغيرة حتى لو قتلت أنت, نظرت لي متعجبة وقالت أين هذا الحب يا أختي, فقالت هناك صحابي أسر من قبل قريش فقالوا له أترضي أن يكون محمد مكانك وأنت بين أهلك, فقال لا والله لأن اقتل خير لي من أن يشاك بشوكة صغيرة, فمن شدة غضبهم قتلوه في هذه اللحظة, هل تري هذا الحب, يا نرجس هذا هو الحب الصافي, نظرت نرجس إلي الأرض, ثم قالت ولكنني سمعت أن عائشة حين برأها الله من فوق سبع سموات, فقال لها أبوها أن اشكري رسول الله, فقالت بل اشكر الله, فهو من برئني, قلت لها مبتسمة هل قالت إلا الحق, الله أحق أن يشكر, ثانيا كان في نفسها شيء من أن النبي ظل صامتا طوال هذه المدة ولكنها عادت لبيتها مع رسول الله ولم يغضب من قولها رسول الله ولم يعاتب أحد منهم الأخر بعد ذلك ولم تجدي اثر لهذا الشيء بينهما بعد ذلك أبدا, وقد توفي رسول الله على صدرها وعندما كان أبيها يحتضر وضعته في حجرها فقال لها ضميني لصدرك فقالت هذا مقام زوجي رسول الله.
نظرت نرجس لي في سعادة وقالت هل الحب يفعل ذلك, قلت لها وأكثر من ذلك بكثير يا نرجس, يفتح لك كل الأبواب المغلقة ويعلمك ما لا تعليمه إلا بالحب.
بكت أختي التي كانت تمسك دمعها فانهمرت بغزارة وقالت يا أختي, أنني حزينة لابد أن منصور سوف ينام باكيا, وكيف حال أبنائي؟ وأستمر الدمع ينهمر, اقتربت منها واحتضنتها وقلت لها لعله خير, صبرا يا أختي فقالت لي وصوتها لا يكاد يخرج كيف أصبر؟, سأذهب الآن للمنصورة فقلت لها الدنيا ليل, ولا يمكنك أبدا فقالت لي كيف يمكنني أن أنام وزوجي وأبنائي في هذا الوضع, صمت قليلا ثم قلت لها, سأنزل لعم عبده البقال واتصل بالمنصورة لأطمئن على أولادك وزوجك وأطمئنهم عليك, فاستمرت في البكاء ونزلت أنا فاتصلت كثيرا ولكن لم يجيبني أحد حتى أصابني القلق عليهم وقلت في نفسي ليتني تدخلت بينهما للإصلاح, ماذا حدث لهم, جيب العواقب سليمة يا رب, لو كنت سامحته حقا لتدخلت في الأمر ولكن يبدو أنني لم أكن صادقة في ذلك, فصعدت الدرج وأنا لا أدري ماذا أقول لنرجس, فدخلت عليها فوجدتها ارتدت العباءة وجهزت حقيبتها ونوت علي المغادرة. حاولت أن اثنيها ولكن دون جدوى, بينما نحن نتجادل دق الجرس, فذهبت افتح فدخل مسرعون أبناء أختي يقبلون كل ما وصلوا له من جسدها ويمتزج البكاء والضحك, حملتهم أختي واحتضنتهم وهي تبكي ونظرت بعين الرضا لمنصور الذي انضم إليهم سعيدا واحتضنهم معا, وقال لا حرمني الله منكم وقالت أختي له وهي تقبل جبهته لا حرمني الله منكم أبدا, تناولنا العشاء سويا وصفت نفوسنا تماما في هذه الليلة, وبتنا ليلة يملئها الحب, وشعر كل واحد فينا بالفرحة تملئ قلبه, وصفت نفسي لمنصور ولكنني تعلمت كثيرا مما حدث, وكان أهم ما تعلمته هو أن سندي هو الله وحده أما غيره فلا, كان درسا قاسيا ولكن العبرة بأن نفهم الدرس وراءه ونحمد الله ونعود إليه سريعا.
لم يبقى إلا شيء واحد على ما أظن لا تعرفيه ألا وهو ما قلته عما يخصني والدلالة. اشتريت منها ما احتاجه من لوازم الزواج, وبدأت بيننا علاقة صداقة, نظرا لتقارب الظروف فهي تربي أيتام كما حدث لنا, وكانت لا تقبل الصدقات بأي شكل, وتقول أخرج في كل يوم ورزقي علي الله وأنا أعيش على قدر ما يرزقني, ويكفيني, فلما علي طلب الرزق من غيره, نعيش يوم بيوم ورزقنا على الله مثل الطير والحيوانات, وغيرها, أعجبني ثقتها في الله ورضاها وتوكلها عليه, كنت إذا أردت شيء اسألها أولا إن كان يمكن أن تشتريها لي أم لا ثم أبحث عن غيرها إن لم تكن تستطيع,
في يوم كنا نجلس سويا بعد زواجي من محمود, وكنت شاردة بعض الشيء, فسألتني, ماذا بك؟ فاستحييت أن أشكو الله لغيره فقلت, خيرا إن شاء الله. صمت برهة تتفرس وجهي ثم قالت وجهك يخبرني أنك في ضائقة مالية, قلت لها وكيف عرفتي؟, تبسمت وقالت كم مررت بما تشعري به وليس هنالك أفضل من البحث عن عمل يحل لك المشكلة, قلت لها كيف؟
وضعت رأسها بين يديها تفكر ثم رفعت رأسها وقالت محلولة إن شاء الله, كان أبوك يعمل طرزي, وكانت يده تتلف في حرير, ابتسمت لها وقلت, ولكنه لم يجني منها شيء, قالت مبتسمة لا تحكمي على الأمور قبل أن تجربي, وأنا كدلالة سوف أساعدك في جلب الناس لك, أو بيع ما تفصيلية, وسوف نتفق على نصيبي فيما بعد, ولكن نحتاج ماكينة خياطة, هل تستطيعي تدبير ثمنها, ظللت فترة أفكر ثم قلت ولما اشتري فماكينة أبي موجودة, وأظنها جيدة بل كل عدة أبي كنت احتفظ بها, ضحكت أم جميل وقالت الحل وراء ظهرك وأنت حزينة قومي معي سنذهب لجارة لي تعلم الحياكة وستجعلك أسطى بجد, نهضت دون تفكير , وقد كان, كانت تجلب لي زبائن, أو افصل أنواع مطلوبة ثم أعطيها لها تبعها, وتعطيني الثمن المتفق عليه تحسنت أحوالنا قليلا وخاصة حين عمل محمود أيضا أثناء الدراسة.
علمت مها بعد ذلك أن المعلم محفوظ كان يضايق والد محمود وكذلك مستأجري المحلات لطردهم من العقار, وحاول أن يحصل على قرار إزالة للعقار, وهددهم انه سوف يطردهم لأن ليس معهم العقود منه أو من أبيه, غضب أصحاب المحال وقالوا لقد كان بيننا وبين أبيك كلمة هي أهم من أي عقد, ضحك منهم في سخرية وقال كانت الكلمة مع أبي وهو قد مات, وليس بيننا عقد, قالوا له أتخلف عقد أبيك ليتعذب بذلك في القبر, فقال يتعذب كما يتعذب سآخذ المحلات والشقة, شعروا بالقلق وبأنه ربما يحاول بطريقة ما, , والد محمود كان الوحيد الذي يحتفظ بعقد إيجار ولكنه مع ذلك كان يرى كأبي أنه مجرد عقد إيجار وليس ملكا له, حتى لو لم تحدد المدة وحتى لو كان الدولة تحمي هذا العقد فكان يراه جورا, فاستخار والد محمود الله وباع أرض له في البلد واشترى حصة المعلم محفوظ مقابل ثمانية الألف تقريبا كما فصل العقار في وقتها, وأبقى على أصحاب المحال على وضعهم لأنه كان يعرف حالهم, وقال لقد دفعني شراء العقار ليس فقط من أجلي ولكن من أجلهم فليجزينا الله عنهم خير,
عندما رغب محمود من الزواج من مها, لم يكن معه مال فعرضت نادية عليه أن تساعده, فرفض كثيرا هذا الأمر حتى قالت له, انظر كم تحتاج ويكون لي حصة في البيت, وبالفعل اشتريت سدس البيت ليصبح بينهما مناصفة, وسبحان الله بعد ذلك بقليل, ردمت الترعة, وأصبح طريقا مزدوجا, وبدأت الأبراج في الظهور في المنطقة,
قصت علي مها, كان محمود يعمل محاسبا في شركة قطاع غزل ونسيج قطاع عام, بيعت وسرح العمال وأعطت الدولة لكل موظف أموال قليلة, وضع محمود المال أمامه وقال ماذا سأفعل بهذا المال, ظل محمود مع نادية ومها يفكرون في الأمر, أياما طويلا حتى جاءت فكرة سريعة في عقل نادية فتحدثت فيها مع مها, ماذا لو نستغل البيت كمشغل فلدينا محال ثلاث ثم شقة صغيرة فوق السطح, وكان علينا أن نناقش الأمر مع محمود فهو لديه خبرة كبيرة, في مجال الغزل والنسيج, يعرف من أين يشتري الأقمشة بأسعار جملة ممتازة وكيف يروج للبضائع, بالإضافة لتمكنه من الإدارة والحسابات, اشتركنا في دراسة جدوى بسيطة, ولكن كان علينا إخلاء الدور الأرضي, فكان يجب أن نتحدث مع أصحاب المحال الثلاث, كان اثنان منهما قد أغلقا محلاتهما, بسبب السن, ظلوا لسنوات لا يدفعوا قيمة الإيجار ولم يطلبها منهم أحد كانت جنيهات قليلة, لا تغني وقد طلب والد محمود منه ألا يزيد لهم الإيجار وأن يتجاوز عنهم إن لم يستطيعوا دفع المال, كانت مشكلة كبيرة كيف سنطلب منهم ترك المحال, وماذا إذا رفضوا, شعور محمود بالحرج جعله يؤجل الأمر عدة مرات حتى ألحننا عليه أنا ونادية التي قالت لو فيها خير سوف يقضيها الله بسهولة ويسر وتكون علامة من الله, أما لو حدث العكس فيكون علامة من الله على أن نبتعد عن الأمر.
ذهب محمود يوما ليجلس مع عم عبده صاحب محل البقالة وهو الوحيد الذي كان مازال يفتح محله, حاول محمود أن يتحدث إليه ولكن كان الكلام يقف في حلقه ولا يستطيع الكلام, وبينما هو على ذلك قال الحاج عبده, يا بني لقد تعبت من التجارة ومشاكلها, وأنني لا أريد إلا أن أتي كل صباح لأجلس هنا على باب المحل وأضع الطاولة الصغيرة هذه أمامي , ويأتيني صبي القهوة بالقهوة ثم الشيشة ويليها الحلبة ثم الشاي قبل الظهر ثم أصلي الظهر, وأذهب لأستريح قليلا وأعود بعد العصر ليعاود صبي القهوة الروتين اليومي, ولكنني لم أعد اقدر على مناكفة الزبائن والتجار فهل تعرف لي حلا لهذه المشكلة,
ظهرت علامات التعجب على وجه محمود وقال في نفسه هل يعرف المعلم عبده ما يدور في ذهني أم هي من تساهيل الله, فابتسم له وقال, وهل إذا ظلت الطاولة المستديرة هذه مكانها, وتركتك المحل لي فانا في حاجة إليه, أنت تعمل بعد تركي العمل, فكرت في فتح مشغل, تبسم الحاج عبده ثم نهض فدخل المحل, وعاد سريعا يحمل مفتاحا أعطاه لمحمود وقال له يا سلام تحت أمرك, هل جزاء الإحسان إلا الإحسان يا بني, قال له محمود أ بهذه البساطة؟, قال له الحاج عبده, نعم بهذه البساطة, فوالدك رحمة الله كان كريما معي للغاية, أ فليس علي أن أرد هذا المعروف بمثله, تبسم محمود وقال وهذه البضائع, قال الحاج عبده, لا تشغل بالك أنها اقل من أن تكفي بيتي شهور قليلة, قال له محمود, إذا سأشتري منها ما احتاج. فقال لا بأس ولكن الأهم, هل تريد المحلات الأخرى؟, قال له محمود باستحياء, نعم لو أمكن فقام ثم دخل إلي المحل وعاد بمفتاحين وضعها علي الطاولة وقال له وهذه هي المفاتيح, قال له محمود متعجبا ولكن ألا تسأل أصحاب الشأن, فقال له, هما لن يعترضان, رفض محمود أن يأخذ المفاتيح, وقال استأذنهما أولا, قال الحاج عبده ليكن, غدا بأذن الله سيكون عندك الرد ولكنك تضيع وقتك.
في اليوم التالي جاءنا الحاج عبده بوجه مبتسم, وقال يا أستاذ محمود كما قلت لك, ولكنهما يطلبان أن تسامحا في قيمة الإيجار المتأخرة, ضحك محمود وقال طبعا يا عم عبده, ولو أرادا أي مال كنت سأعطيه لهما, تبسم الحاج عبده وقال, يا بني هل يقابل الخير إلا بالخير.
كانت نادية ومها ومحمود في دهشة مما حدث, وعرفوا كيف ينعكس صلاح الإباء على الأبناء. قالت نادية وهي تبكي رحم الله أبي, ترك لنعطى, رحم الله أبي, قال محمود وهو يبكي مثلها نعم, فعل الخير كما الشر يورث كما يورث المال من جيل لجيل., فبكينا جميعا عرفان بجميل الله معنا.
قالت مها, بدأنا نعمل بجد في هذا المشعل يد بيد, لم يكن معنا في البداية احد, يعمل وكنا في سعادة لا توصف, فضل الله كان علينا عظيما وزاد الله من رزقنا ولم ينقص من سعادتنا شيء, وشعرنا بأن يد الله وروحه معا, فكانت بركة عظيمة في كل شيء, وأراد الله أن يكمل سعادتنا حملت, في لحظة لم أكن أفكر فيها, بهذا الأمر, وربما يئست من هذا الشيء وكان حب مها ونادية قد ملئ قلبي, واشبعا عندي, كل مشاعر الأمومة, وكنت أشكر الله على فضل ولم اطمع بأكثر من ذلك, كنت استحي أن أطلبه منه وهو أعطاني كل هذا الحب والخير والبركة, فإعطاني الله أكثر مما كنت أتنمي طفل جميل سميته محمد, وكانت مها ونادية تظنان أنني ربما أنساهما, أو يقل حبي لهما, ولكن في الحقيقة هذا لم يحدث فقد كنت قد تعلمت أنه كلما أحب شخص ما حبا كبيرا فعلي أن أحب معه شخص أخر حتى يتمدد قلبي ويتسع من الحب أكثر وأكثر, وبعد الولادة وعند استيقاظي من المخدر كنت مشتاقة لمها ونادية وكنت أحلم بهما, لذا عند استيقاظي أتتني نادية سريعا بمحمد, فقلت لها أين مها ونادية, أنني اشتاق إليهما, كانت الصغيرتان مختبئتان وراء أبيهما ظنا منهما أنني لا أريد إلا رؤية محمد, ولكن حين قلت هذا اقبلا علي في سعادة غامرة يقبلوني بحب صافي, بادلتهم هذا الحب وأنا احتضنهم بينما اقتربت نادية وهي تقبل محمد وتقول كالبدر ما شاء الله مثلك يا مها, يتربي في عز أبوه وأمه, ابتسمت لها وقلت في عزك يا حبيبتي, اقتربت مني تخفي دمعة ووضعته إلي جواري, فنظرت إليه في سعادة واتجهت إليه, فرأيته كالبدر حقا فقبلته, ورفعته على صدري, بينما نظرتا إليه الصغيرتان بحب, واقتربتا منه بحذر, وقد قبلته كل واحدة برفق, شعرت أن حبي الصافي لهما, انتقل منهما إلي أبني محمد, كنت سعيدة بذلك, واكتشفت أن الإخلاص يؤتي ثماره خاصة عندما يزرع في تربة خصبة.
لكن صفاء الحياة لا يدوم كثيرا, كان حجم العمل يزداد يوما بعد يوم, وبعد نقاشات بيننا طويلة توصلنا بأن علينا أن نوظف عدة فتيات ماهرات في الحياكة, فالإضافة لعدد من العمال ليساعدوا في النقل وتجهيز الطلابيات, ولكن في هذه اللحظة, دخل شر كبير علينا لم نكن نعرف ماذا نفعل فيه,
حين زاد حجم أعمالنا, وعمل معنا عدد كبير من الفتيات والشباب, تناقل الناس أخبارنا, وأصبح من يعمل معنا يخبر أهله ومن حوله عن نجاحنا, سواء قال الحقيقة أو بالغ فان شخص أخر كان ينقل الواقع مبالغا ثم أكثر وأكثر حتى قيل أننا نضع الأموال في أكياس من القماش, وأننا اشترينا أراضي في مدينة نصر ومصر الجديدة, بل ومصنع في العاشر, وكذلك فيلا, كان محمود يضحك حين يسمع هذا ويقول يا رب انك تعلم أن كل هذا كذبا وافتراء ولكن فضلك كبير يا رب لتجعل لنا من جودك ولو نصف ما يقولون, وبدت نظرات الناس لنا تختلف, فبعد الصفاء وحسن الجيرة أنقلب الأمر غيرة وحقد, حتى عم عبده الذي كان لا يزال يجلس في مكانه أمام المشغل و كان كثيرا يهب ليساعد محمود حين كان يحمل شيء, ويساعد بجدعنة أبن البلد المخلص انقلب حاله, وأصبح يجلس أمام المشغل, وقلبه ممتلئ غيرة وحقد, ينظر للبضائع ويتمني أن تحترق في أكياسها, وذكر لمحمود أكثر من مرة أننا خدعناه حين طلبنا منه أن يترك المحل, ولم نقل له أننا سوف ننشئ مصنع كبير كهذا, حاول محمود أن يقنعه بأن كل ما يقال ليس حقيقي وأنه كذب وغيرة, وقال له انك ترى بنفسك, فكان يقول له ألا يكفيك ما تربح ألا يكفيك الملايين التي تربحها, لم يستطيع محمود أو أي منا أن يقنع من يعمل معنا أو جيراننا بأن ما نربحه يكاد يكفي بعد زيادة مصاريف التشغيل من عمالة, ونقل وغيرها, كما أننا خفضنا الأسعار لننافس كثرة المشاغل المماثلة ولكن دون جدوى, ذهب الصفاء من بيتنا, وأصبحنا نتشاجر كثيرا فيما بيننا, وأصبح الأطفال يتشاجرون معا, ولم نعد نعرف ماذا علينا أن نفعل, حتى ذبح محمود عجل علي باب المشغل ووزع لحمه على الفقراء وأهل الحارة, ولكن دون جدولا, أخذنا نفكر ربما قصرنا في حق الله ولكننا لم نصل لشيء كنا نقيم الفروض كاملة, ونزكي ثم نتصدق, ولكن الحسد أصبح يشتد يوما بعد يوما, كنا ندعو الله أن يرحمنا مما نحن فيه, حتى فكرنا أن نسرح العمال, ونعود لنعمل بمفردنا فقط كما كنا, ورغم أن ذلك كان يحزنا أولا لأننا كنا سنقطع رزق من يعمل معنا, وكذلك لأن لدينا التزامات مع شركات ومحال لابد أن نفي بها وإلا تعرضنا لخسائر كبيرة, كنا كمن في شلال ماء يحركه الشلال حيثما يريد, ولكننا وضعنا ثقتنا في الله وقلنا مادمنا لا نخالف الله في شيء, وما دام نياتنا خيرا فلابد أن الله سيقف معنا وسوف يحول الله هذا الشر خير, وانتظرنا فرج الله.
ظللنا في هذا الوضع عدة سنوات نتجرع فيها كؤوس الحقد والحسد, لم نكن نصدق ما رأينا, نكن لا نؤمن بأن ذلك بسبب أن الله فتح علينا من رزقه, ولكن بسبب امتلاء القلوب بالشر ربما بسبب الحياة المادية التي أصبحنا نعيشها, أو بسبب اختناق الأنفس من ضيق ذات الأيد, أو ربما لعدم الرضا بما قسم الله, أو الطمع أو الزحام, ولكننا نكن نؤمن أن الحب الصافي هو الحل لهذه المشكلة, حين تحب لأخيك ما نحب لنفسك, تستريح نفسك, ولا ترضي له إلا بالخير, وتحزن إذا أصابه مكروه, وتدعو الله بظاهر الغيب, أن يفرج همه, وقتها سوف ترتاح نفسك, وتعرف أن فضل الله عليك عظيم, وتنعم بسعادة الحب الصافي, ويملئ الرضا قلبك, فلا تنظر إلا لمن هو دون نظرة شفقة وحب, تقدم له ما تستطيع أن تقدمه وتنتظر الأجر من ربك, حتى لو قابل هو هذا الخير بشر فاستمر بفعل الخير وكن على ثقة أن ذلك سيعود عليك بالخير إن عاجلا أو أجلا, لك أو لأبنائك وأبناء أبناءك.
لقد كنا في حالة من الرضا قبل أن يحدث ما يحدث من الناس ولكن الله كان يريد لنا أفضل مما نحن فيه, فكان الله يدفعا دفعا لنغير واقعنا, وهو عندما يبتلي يهب مع البلاء الصبر, لذا صبرنا حتى كان ما لم نفكر فيه أبدا,
ردمت الترعة التي أمام البيت, ثم سفلت الطريق ليصبح طريقا مزدوجا وتغيرت المنطقة نهائيا, وأصبح الطريق الذي أمامنا محور مروري مهم, وبدأت الأبراج تظهر في المنطقة, حيث بيعت البيوت القديمة وبني المالك الجدد أبراج شاهقة, وفكرنا بجدية أما أن نهدم البناء القديم ونتشارك مع مقاول بنظام المناصفة كما أصبح معمول به في المنطقة نقدم نحن الأرض وهو يقوم بالبناء, ثم نتقاسم الربح, والذي كان يؤكد المقاولون أنه يكون ضعف ثمن الأرض, أو نبيع الأرض ونأخذ المال لنشتري أرض نقيم عليها مصنعا صغيرا في العاشر من رمضان وأرض نبني عليها بيت جديد يكون لنا وللأولاد, كانت حيرة كبيرة إلى أن ارتاحت قلوبنا للمشاركة بعد الاستخارة, لأن ثمن الأرض لم يكن ليكفي ما نحتاج, وبالفعل نجح المشروع وضاعف الله أموالنا, فسافرنا جميعا لأداء فريضة الحج. أثناء الحج تقاربنا معا مرة أخري وصفت نفوسنا وعدنا لسابق حالنا حب يملئ قلوبنا جميعا,
عندما عدنا من الأراضي المقدسة, اشترينا قطعة ارض لإنشاء مصنع صغير للملابس في مدينة العاشر, ثم أرض لإنشاء بيت جديد به حديقة صغيرة في نفس المدينة, ولكننا استطعنا أن نجعلها جميلة وأنيقة وكذلك البيت فأصبحنا نملك فيلا جميلة كانت جنتنا ومستراح قلوبنا بعد ساعات العمل, لم نجعل أحد ممن يعمل معنا يعرف عن بيتنا شيء, حتى يظل صفاء نفوسنا فقد تعلمنا الدرس جيدا, فليس من داعي أن يستفز الناس بما وهبنا الله من الحب والغنى, وان أكملنا طريقنا في حث الناس على الحب,
كان محمود يضحك ويقول حين يتذكر ما قاله الناس عما نملك, فدعي الله أن يعطينا نصف ما قالوا, فهو الآن يضحك بصوت مرتفع ويقول يا ليتني دعوت الله أن يعطينا كل ما قالوا, فكنا نضحك ونقول الحمد لله على ما أعطانا, فيبتسم ويقول بالطبع الحمد لله, يكفي أنكم بالقرب مني ثم يحتضننا جميعا مع الأطفال.
استمر محمود في زيارة الحارة من حين لأخر, وكان يخرج معظم الزكاة والصدقات عليهم, ولكن في السر, وذات مرة علم أن الأستاذ عبده مريض ويحتاج عملية في القلب تتكلف قرابة أكثر من عشرين ألف جنيها, فذهب لزيارته فوجد حاله يرثى له بالكاد أستطاع محمود أن يعرفه, تعجب في البداية لوجود محمود وقال له هل تزورني بعد كل ما فعلت معك, فقال له ألسنا جيران لسنوات كان بيننا مواقف كثيرة جيدة بيننا, فلا يمكن أن يمحو خطأ واحد كل أفعالك الخيرة, فكيف نطلب من الله إذا أن يسامحنا ونحن لا نسامح, فان الحسنات تذهب السيئات, فقال الحاج عبده, إذا فلتسامحني يا بني, قال محمود من فوره بالطبع لقد سامحتك, وأرجو أنت أيضا أن تسامحني, فقال عبده, على ماذا بني؟. فقال محمود على أي شيء كان يضايقك مني, أبتسم عبده وقال لقد سامحتك, ولست أعرف على ماذا, قال له محمود لقد اتفقت مع الطبيب والمستشفي على العملية, وسنكون الأحد القادم إن شاء الله, قال الحاج عبده وهو يبكي , ولكن يا بني......, فضحك محمود وقال هل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟.
قالت مها, بعدما خرج أبي شهاب على المعاش, عرض علينا أن يشاركنا ويعمل معنا, سعد محمود بذلك جدا, وتحمس له, وبدء أبي يعمل معنا, كان سعيدا بذلك, كان يشعر حين أحيل للمعاش أن حياته انتهت, لكن مع العمل معنا, شعر أن حياة جديدة بدأت معنا, شعرت أنه أصبح أصغر سنا ووجهه أكثر إشراقا, كنت أظن انه ربما وجد نفسه في العمل معنا, ولكنني سأعرف السبب الحقيقي بعد ذلك.
توفيت أمي بعد صراع طويل مع مرض سرطان الثدي, وفيروس سي, سبحان الله أصبح كلا المرضان منتشر في مصر بشكل كبير, وكانت راضية بهذا الأمر, وكذلك كنا جميعا وكنا نتعامل مع الأمر بهدوء نفسي كبير, كان محمود يؤكد لأمي أنها يمكنها الانتصار على هذه الأمراض إن أرادت, وكان يحاول معها كثيرا ولكنها كانت لا تتحمس لهذا الكلام, وتقول لا أظن يا بني,وكانت مستسلمة للمرض وراضية بأمر الله, وتقول هو تكفير لأي ذنوب, فنحن نفعل الكثير من الأخطاء كل يوم تفرضها علينا ظروف الحياة في مصر, فمن منا لم يعطي رشوة مرة حتى ينهي معاملة في الحكومة, ومن منا لا يغتاب الناس كل يوم, من منا لا يكذب كل يوم لذا أنا سعيدة بما أنا فيه لعل الله يكفر عنا سيئاتنا. شعر أبي بعدها بالوحدة وتغير وجه قليلا قليلا ليختفي الصفاء والسعادة من وجه, ولكن حين يرانا أنا ونادية والأطفال فكان يعود له صفاءه, ويشرق وجه, مرت هذه المرحلة الصعبة, وعدنا إلي الصفاء مرة أخرى,ولكننا أصبحنا نفكر في الموت وما بعده, ولم نعد نشعر أنه بعيد عنا, بل ربما أقرب إلينا مما نظن.
مع الوقت كبر المصنع شيء فشيء, وكنا نواجه الصعوبات بنفس مطمئنه هادئة فلا ننزعج من أي أزمة لذا كنا نستطيع أن نجتاز أي أزمة سريعا وبحلول صحيحة, لكن الحياة كما هي لا تتغير يوم لك ويوم عليك, يوم تعطيك فتظن أنك ملكتها ويوم يأخذ منك فتظنها عدوتك, ولكنها في الحقيقة ليست ذاك ولا ذاك هي تجربة يختبرنا الله فيها من معرفته هو ذاته, إلي أفعال الخير والشر, كأن يريد الله أن يرى أفعال العباد في كل موقف, لكل واحد من البشر تجربته الخاصة, وهذه التجربة لا تتكرر أبدا, مهما ظننا أن تجارب البشر متشابه, الله لا يريد أن تتكرر التجربة بل تكون فريدة,
كنا قد نسينا الموت لفترة , لكنه لم يفعل بل كان يخطط لخطف أعز واحد علينا جميعا, كما يقولون الموت تختار الأفضل, للأسف قدر الله ولا راد لقضائه أن يصاب محمود في حادث سير بسيارته حين كان عائد من الحارة, فقد انقلبت به السيارة ورغم أنه خرج بلا كسور تقريبا, إلا أن النزيف الداخلي كان غزيرا, ورغم المحاولات في المستشفي لانقاذة إلا أنها لم تنجح, ظل محمود في غيبوبة فترة طويلة, حتى ظننا أنها النهاية, ولكنه أفاق في أحدى الليالي, وانتظم نبضه, وكانت كل المؤشرات ايجابية, فظننا أنه سيبرأ تماما, جلس معنا جميعا يلاعب الأولاد, ويبتسم لنا, كانت السعادة تملئ وجه بل جسده كله, كان يريد أن يطمئننا على نفسه, ولكنه طلب الخلوة مع أبي,لم نعرف وقتها ماذا يريد منه, إلا أن محمود قال, لو قدر الله علي الموت فلتفعلوا ما سيخبركم بما عمي شهاب, أصابتنا حالة من الذعر, ونظرت أنا إلى نادية, في تعجب وقلت لمحمود لما تقول هذا؟ إن شاء الله ستقوم بالسلامة, فقال محمود مبتسما, قدر الله وما شاء فعل, وكل ما يفعله الله هو خير دائما لا شر فيه, فلتصبروا على ما أرادة الله, لأن فيه خير كبير للجميع وحتى لو لم تفهموا الحكمة منه الآن, ليس هناك شيء أحب إلي نفسي من أن أكون معكم, ولكن البقاء إلي جوار الله شيء أخر, فان اختارني الله إلي جواره فأنني أسبقكم, وأنتم سوف تلحقون بي إن شاء الله,
الخلوة بين أبي ومحمود طالت كثيرا, وكنا نريد أن نعرف ما دار بينهم, ولكن حين خرج أبي من عنده, نظرت في وجه, لأتفرس ما قاله له, ولكن وجهه أعطى لي أحساس انه ربما حزين, أو ربما سعيد, ولكنه كان لابد مندهش, حاولت أن أوقفه ولكنه خرج مسرعا لا ينظر تجاه أي منا, حتى ظننا أن محمود قد توفي فدخلنا بسرعة للغرفة فوجدنا محمود ممسك بسبحته يسبح عليها وهو يهيم في شيء لا نعرفه, بدي وجه سعيدا منتشيا, لم يشعر بنا حين دخلنا, ولم يلتفت لكلامنا, ولم يشغله خروجنا من الغرفة.
ظل محمود ثلاث ليالي معنا بجسده ولكن روحه لم تكن معنا, لا يتحدث إلينا ولا ينظر إلينا ولا حتى لأطفاله, الذين بكوا كثيرا بسبب ذلك, فكنا نحاول أن نطمئنهم ونقول أن والدكم مريض وسيشفي غدا بأذن الله, بعد ثلاثة أيام دعانا إليه, دخلنا جميعا, صمت محمود برهة ثم قال, حان الوقت لألبي نداء الله, وأنني سعيد بذلك, ولا يحزنني غير بعدكم المادي عنكم, ولكن أعدكم أن أكون معكم دائما بروحي, سيروا على نفس الدرب الذي كنا عليه, فأنا الآن أرى نتيجة ما فعلنا, الحمد لله, الله راضي عني وعنكم, ولابد أن تظلوا في هذا الترابط الذي بينكم, ولا تختلفوا أبدا, ولا تنقصوا شيء من الخير الذي كنا نفعله, ولا تنقموا على أهل الحارة, واستمروا على فعل الخير معهم, ولا تأخذوهم بذنب لم يفعلوه, فان الله قد قدر هذا الأمر قبل أن يخلق السموات والأرض, أهم شيء أن تظلوا مترابطون معا, وسيقول لكم عمي شهاب كيف, هذه هي وصيتي فلتنفذوها, ولا تختلفوا عليها أبدا, وداعا يا أحبابي, نلتقي عند الحبيب قريبا, ثم صمت وصمت معه كل شيء, إلا صوت الأنين الصادر منا, قالت نادية ومن بعدها أنا, رضينا يا رب بما قسمت, بينما بكي الأطفال بحرقة فاحتضناهم وبكينا معهم, قال أبي ليرحمك الله يا محمود, وليساعدني الله على تنفيذ الوصية,
لم نكن نصدق أنه سيأتي اليوم الذي يفارقنا فيه محمود, لم نكن نصدق أنه سيأتي اليوم الذي نضع فيه حبيبنا في التراب, في هذه اللحظة تذكرت قول السيدة فاطمة للصحابة, كيف استطعتم أن تحثوا على وجه نبيكم التراب, صدقت والله ما أغرب الحياة التي نعيشها, لا أفهم الدفن هل هو تكريم أم أهانه. ولكن عندما عدنا للبيت شعرنا أن محمود معنا لا يفارقنا, يضحك معنا, يجلس معنا, يأكل معنا, بل وينام معنا, أشعرتنا روحه بالهدوء والطمأنينة, وأعادت للبيت دفئه وروحه, وزال الحزن والخوف رويدا رويدا وتأقلمنا على الوضع وعاد لنفوسنا الحب والصفاء, كان الأطفال خاصة محمد يحكي أنه يلعب معه ويذاكر له دروسه, أما مها فكانت تقول أنه يلاعبها كما كان دائما ويناغشها, أما نادية الصغيرة فكانت تقول أنه يجلس معها على السرير ويحكي لها حكايات شيقة جميلة حتى تنام وهي في حضنه, حتى حدث ما زلزل كل شيء.