أما قصتي أنا فتختلف عن هذه القصة و سأرويها لكم أولا لتقولوا أي قصة أفضل ما يخص مها أم ما يخصني, ثانيا لأنني أصبحت أؤمن أن وراء كل إنسان قصة تستحق أن تحكى, وثالثا لأنني لست البطلة في هذه القصة بل هناك بطل عظيم ستعرفونه قريبا كما لم تكن مها هي البطلة , بل كان هناك بطل عظيم في قصتها.
كنت أؤمن في مرحلة المراهقة, أنني سأحظى بالحب, سيكون هناك شاب أحبه ويحبني, وأنني سأحظى بحياة هادئة, قريبة من حياة أمي, فهي وأبي لا يتشاجران إلا نادرا, وإذا حدث ذلك فلا يبتان إلا وقد تصالحا, يجمعهما الحب, أشعر بهدوئهما النفسي, يتعاونان على أمور الحياة يخوضان في نقاشات كثيرة حول مصروف البيت, وطريقة التربية الصحيحة, يختلفان كثيرا في الرأي, ولكن قلوبهما لا يختلفان, كانا اقرب إلي صديقين منهما إلى زوجين, هكذا كنت أشعر لم يكن لي مطمع أكبر من هذا, أن أحظى بحياة مثل هذه, حياة هادئة, لا تخلو من الحب, والمودة والرحمة. ولكن ما كان قد قدره الله, فكان شيئا أخر, ظللت وأنا أعاني فيما بعد, أتمني حياة مثل أمي, ولكن الله كان يريد لي شيء أخر, فلكل واحد على ظهر هذه الأرض تجربته الخاصة, هو بطلها وله مطلق الحرية في ردة فعله تجاه كل شيء فيها. أما الإرادة نفسها فليس له خيار فيه, هذا ما فهمته خلال تجربتي.
كنت كما قلت اسكن في حلميه الزيتون كما قلت من قبل, التي كانت منطقة راقية, ولكن مصر الجديدة أكثر رقي, وعين شمس أقل رقي من الحلمية, ولكن مع الوقت تغير كل شيء, فلم تعد مصر الجديدة راقية كما كانت ولم تعد عين شمس كما كانت, فقد تغير كل شيء, للأسف للأسوأ, فذهب مع جمال كل منطقة, وخصوصيتها, أيضا أفضل أخلاقهم, كأن الحضارة عندما تختفي بشكل عام من وطن ما , فانه يختفي تدريجيا من كل منطقة, و من كل شخص.
في طفولتي حظيت بجارتي الانجليزية الأصل مارجريت, والتي تعدتني منذ صغري, فكانت تعلمني الانجليزية كما ينطقها أهلها, فكانت لكنت تبدو غريبة في الفصل, وكانت مدعاة للسخرية مني من جانب التلاميذ ومدرس اللغة الانجليزية, الذي ينطق كل شيء بشكل خطأ. كنت أبكي من سخريتهم مني مع أنني كنت على الحق, وكان هدف المدرس الحقيقي من سخريته, هو أن التحق بحصص الدروس الخصوصية الخاصة به, وكنت قد تغيرت تجاه مارجريت, فلم اعد أذهب إليها لتعلمني الانجليزية, فكانت تسأل عني, فأتهرب منها بحجج مختلفة, حتى التقيت بها مصادفة على الدرج, فأخذتني من يدها إلي بيتها, ثم نظرت في عيني وقالت, مالك يا حبيبتي, شعرت في كلامها حبا وألفة, فحزنت داخليا لأنني أهملتها, ولم أراعي مشاعرها, فهي كانت تعلمني الانجليزية, وكان ذلك لأنها أحبتني, فهي لم تكن تفعل هذا مع أي فتاة أوصبي من الجيران, لا حتى أخوتي, والغريب أنني لم اشعر أنها غاضبة مني على تجاهلي لها, ولكن أنا من كان في داخلي شيء تجاهها.
ظللت صامته فترة من الزمن, ثم بكيت طويلا, وقلت لها, أنهم يعايروني في المدرسة, بسبب نطقي للانجليزية, قهقهت وهي تحضنني, وظلت تقهقه طويلا, حتى دمعت عيناها, ثم قالت ولا تستطيع أن تكمل الكلام من كثرة الضحك, على ماذا يضحكون؟. الأغبياء, لا يعرفون لغتهم جيدا, ويريدون أن يعدلوا على لغات الآخرين, هكذا هم المصريون, لا يبذلون جهدا في التعلم, وبدلا من ذلك يريدون هم أن يغيروا لغات الآخرين.
في وقتها غضبت منها, وقلت في نفسي, هكذا هم الانجليز, احتلوا أرضنا, وها هم يسخرون منا الآن,
كانت لا تزال تتحدث بلطف وابتسامة حتى قالت لي بهدوء, أنني أحبك يا ياسمين, ربما لأن اسمك هو أسم أحب صديقة لي في بريطانيا, وبالرغم من الابتعاد جسديا, إلا أن الحب مازال بيننا, أو لأنني أرى قلبك الرقيق, لست اعرف بالضبط, ولكنني أحبك, إن الحب في حقيقته لا يحتاج لسبب ولكننا نحن الذين نحاول أن نفسر لماذا نحب, كلها محاولات فاشلة يا حبيبتي, كيف نفسر الحق بالباطل, نظرت لها لا أفهم ما تقول ولكنني حفظت ما قالته ولم أنسى منه شيء, لا أعرف لماذا ذهب ما كان في قلبي من الكراهية حين سمعتها قالت ذلك, كأن الحب حتى لو لم تفهمه, فان له قوة لا توصف في إزالة الكراهية من القلوب. بل مسحها من القلوب كأنها لم تكن.
قالت بهدوء وحزم, ما أود أن تفهميه جيدا يا بنتي, هو أن تنظري بعمق ودارية لكل شيء, فان كنت لا تعرفي الصواب من الخطأ, فابحثي بجد حتى تصل لمعرفة الصواب, وأتبعيه ولا تتبعي الباطل أبدا, لأننا هنا في الحياة لنعرف الحق, ونصل له, ونطبقه قدر استطاعتنا, لا تجعلي من حولك يجروك في طريق الباطل, لأنك في النهاية’ أنت وأنت فقط من يتحمل نتيجة أفعالك, وكل من حولك لن يفعل لك شيء وقتها, الحق أحق أن يتبع.
نظرت لها نظرة من لا يفهم كثيرا مما يقال, فقالت أعلم أنه ربما لا تفهمي كل شيء الآن, ولكن سيأتي اليوم الذي سوف تفهميه وسوف تفهميه جيدا, فهذه اللمعة التي في عينك توحي بذلك.
ثم قالت, ما يهمك الآن هو أن تعرفي إن كنت أنا على صواب أم المدرس. ليكون الأمر سهلا, سوف أعطيك شرائط فيديو عليها أفلام باللغة الانجليزية لتعليم اللغة من هيئة بي بي سي, وفيها يتحدث الناس لبعضهم البعض باللغة الانجليزية بطريقة صحيحة, فقارني بين ما أقول وبين ما يقول هذا المدرس, لتعرفي الحق, أريدك أن لا يكون هدفك, هو أن تنصري وجهة نظرك, أو وجهة نظري, أو وجهة نظر المدرس, وحاولي ألا تجعلي لسخرية الناس تأثير على قرارك, ابحثي عن الحقيقة فقط.
تناولت أشرطة الفيديو, وأنا أنظر في عيناها, فوجدت فيهما حبا, لم أره من قبل.
أيماني بصدقها جعلني, أشعر بالحب لها, وجربت ما قالت, فكنت أقارن بين ما تقوله, وبين ما يقوله المدرس, فكان الفرق شاسع بينهما, أصبح كشخص يتحدث بلغة أخرى, وما تكشف فيما بعد من حقائق جعلني أكون في صفها, فقد عرفت من المدرس ذاته, أنه خريج كلية حقوق, وكان يتفاخر أنه يدرس كثير من المواد باللغة الفرنسية, وكان هو نفسه يتعجب من تعينه مدرس لغة انجليزية, ولكنه قال مرة, كنا بعد الحرب, يقصد السادس من أكتوبر, وكانت الدولة تريد تعين كل الشباب, فلذلك فقد عينتهم, في أي وظيفة شاغرة, حتى لو لم يكن تخصصه, ونتيجة لأنه وغيره كانوا في حاجة للعمل, فقد قلبوا ذلك, كان واضحا بشكل كبير أن هذا المدرس لا يفتقد فقط للغة الانجليزية, ولكنه يفتقد أيضا للطريقة التربوية للتعليم, وليس هذا فقط, ولكنه كان يفتقد حبه لمهنته, وكذلك حبه للتلاميذ, فقد سيطرت عليه, الرغبة في جمع المال بكل الطرق, وبغض النظر عن كيف سيحصل عليه, والأهم هو كيف سيوفر له الطلبة تلك الأموال, إذا ذهب الحب و ملئت النفوس بالجشع, فلا تسأل لماذا يحدث هذا وذاك؟. سوف تنعدم الرحمة والبركة, وسيتحول المجتمع لذئاب, لا يهمها غير جمع المال, بأي طريقة حتى لو تسبب ذلك في موت وقهر الآخرين. إن كانت نظرة الدولة للتعليم بهذه الطريقة, تضع شخص غير مؤهل للعمل كمدرس, لا يشغلها أبدا, ما سوف يحدث لطلاب وماذا سوف يحصلون فان فاقد الشيء لا يعطيه, هذا مدرس كانت أخر علاقته بالانجليزية هي المرحلة الثانوية, درس سنوات قليلة لغة انجليزية, لا يعلم شيء عن الأدب الانجليزي الحقيقي, ولا ما وراء كل كلمة من معاني, ماذا ننتظر من معلم مثله, ليس هذا فحسب فان اللغة الفرنسية, قد تداخلت مع الانجليزية, فلا هو أتقن هذا, ولا ذاك. كانت دراسته الجامعية خليط من الفرنسية والعربية, فكانت لغته الفرنسية أقوي, وكذلك العربية, فلما لا يتم تعينه مدرس للغة الفرنسية مثلا, ولماذا لم يتم تدريبه وتعليمه ليصبح مدرس متفوق, فيكون من تحت يده طلبة متفوقون, ولكن كل ما يهم الدولة تعيين الخريجين فقط, لقد اكتشفنا أن الكثير من المدرسين ليس لدراستهم علاقة بمهنتهم, في , لو أعطتهم الدولة رواتب بدون عمل كان أفضل ألف مرة من إفساد التعليم الذي أفسد كل شيء أخر, بل أكثر من ذلك, لم تهتم الدولة بكفاءة المدرس, ولا راتبه, ولم تحاسب المقصر, بل كان كل ما يهم الموجهون هو كشكول التحضير, والكتابة على السبورة فقط, فأصبح المدرس لا يشغل باله بتعليم الطلاب, فهو غير مؤهل من ناحية , كما وأنا راتبه أصبح ضعيفا, لم ينشغل الكثيرون منهم بإتقان المواد التي يدرسونها بل أصبح كل مدرس يبحث عن مصدر أخر للدخل, منهم من عمل على تاكسي, منهم من افتتح مكتبة لبيع الكتب الخارجية, والكشاكيل وغيرها مما يحتاجه الطلبة, ومنهم من لجأ للدروس الخصوصية على استحياء في البداية, ولكن ضميره أخذ يموت شيئا فشيئا, حتى مات نهائيا, وأصابه النهم والجشع, وساعدته الدولة بأن وضعت في يده درجات أعمال السنة, والعصا في يده, فأصبح يملك العصا والجزرة, ولم تهتم الدولة بمتابعته, فاستخدم ما يملك أسوء استخدام, وزال من نفسه كل معنى للمعلم, وكان بدلا من هذه المعاني معنى واحد للمال, وطرد بقوة الحب والرحمة من قلبه, وزرع بيده بدلا منها الجشع والغل والكراهية, لم يعد يشبع أبدا, حطم كل شيء, وكان أول من حطم هو نفسه, ليس لأنه زرع الكراهية فقط في القلوب, ولكنه أهمل نفسه, أصبح يعمل أكثر من ستة عشر ساعة كل يوم ولا يعطي لنفسه أبدا حقها, ناهيك عن أبناءه وزوجته, أهمل كل شيء, أصبح مسعورا لا يجد الوقت ليجلس مع نفسه ليراجع أفعاله, لذا سيخرج من الدنيا كما كان لا يملك شيء, ولم يفهم معنى الحياة أصلا.
إن هذا هو حال المدرس, والذي هو في الحقيقة قدوة للطلبة, فكيف سيكون من سوف يتخرج من تحت يده, بالطبع سيكون أكثر جشعا, وأقل علما, كان والدي يحكي لي أنه لم يكن يأخذ درس خصوصي إلا الطالب الفاشل, وكان يخفي ذلك تماما, وكان سبب لسخرية الطلاب منه, وكان المدرس يعطي كل طالب يجيب على سؤال بطريقة صحيحة, قطعة من الحلوى, يشتريها هو من جيبه الخاص, وليس من المدرسة, أو الوزارة, يقول أبي كنت أقبل يد المدرسين حينما أراهم, وهم كبار في السن, الشيء الذي لم أكن أظن أنني سأفعله يوم ما مع احد, وخاصة مع المدرسين, فقد كانوا يقسون علينا, ولكنهم كانوا يريدون مصلحتنا, لم يكونوا يفعلون ذلك كراهية لنا, أو لأنهم ينفسون فينا طاقتهم السلبية, أو لنأخذ دروس خصوصية, كانوا أحيانا يقسون علينا, ولكنها قسوة من يحب من باب, من يكن راحما فليقسوا أحيانا على من يرحمه, كانوا يقولون لنا ذلك, لم نكن نفهمهم حينها, ولم يجعلهم ذلك يتراجعون عما كانوا يفعلونه, لأنهم ببساطة يؤمنون بما يفعلون, كان مدرس منهم يقول لأبي بهدوء, لا أريدك إن أصبحت يوما طبيبا أن يموت المريض بين يديك لجهلك. أو أن تصبح مهندسا, فتسقط العمائر التي تبنيها على رؤؤس الناس, تعلم وأجتهد, لا تغش أبدا, لأن ذلك لن ينفعك في مستقبلك. لقد فهمت ما قاله الأستاذ حمدون فيما بعد, حين كان معنا طالب يغش في كل امتحانات, وبهمل دروسه, كان والده مقاول كبير, وقد تخرج هذا الطالب سامح من كلية الهندسة, كنا نعلم ونحن أصدقاءه, انه يستخدم كل الطرق لينجح وبتفوق بدون أن يتعب نفسه بمذاكرة دروسه, يتدخل والده كثيرا لأن يعرف كثير من الأساتذة, لأنهم يعملون معه في كثير من مشاريعه, أو مصانعه, فينجح بسهولة, وبتفوق, وحين تخرجنا كان يطمع في أن يكون معيدا في الكلية, فاستخدم نفوذ والده في ذلك وكان له ما كان, وحرم أبي من التعيين في الجامعة, كان أبي بالطبع قد حزن كثيرا, ولكنه لأنه كان يحب يستمر في دراسته حتى يحصل على أعلى الدرجات العلمية, ويكون أستاذ يتخرج من تحت يده كثير من الطلبة, وبل وتكون أبحاثه جادة وتقدم حلول حقيقة لمشكلات الإسكان في مصر, لم يكن أبي يهتم كثيرا بالمال, لكن بالعلم. كما أنه كان يرى أن صديقه سامح ليس مجتهد من الأساس, وأنه لن يهتم بالعلم نهائيا, فكان يكفيه أن يعمل مع والده ويربح الملايين ويترك أبي ليجد في تحصيل العلم, ولكننا اعتدنا على الجشع في مجتمعاتنا, كما وأنهم لا يهتمون نهائيا بمصلحة المجتمع والوطن.
ولكن كان القدر يخفي الكثير للجميع, فسامح كان ينشأ مبنى سكني جديد, لم يهتم كثيرا بجودة الأساسات وأدار كل شيء فيه بإهمال, الغريب أنه كان له شقة فيها, وفي ليلة زفافه أنهار المبني كله, ومات هو وعروسه, ابنة الوزير, وزير الإسكان , جلس أبيه يبكي بأشد ما يملك, فقد مات أبنه وحيده في ليلة زفافه, وقال في بكاءه, أنا من قتلك يا بني, أنا من قتلك, فاتخذها الوزير الواقف إلي جواره اعتراف منه, قال له أنت المسئول عن قتل أبنتي, حسبي الله ونعم الوكيل فيك وفي ابنك, لن أترك حق بنتي, فرفع قضية على الشركة, وأوقف كل نشاطاتها مع الحكومة, وشهر بها في كل مكان, فأفلست الشركة, وأنهار كل شيء, ومات والد سامح كمدا, فمن خسارة أبنه, لخسارة كل شيء, وكان يقول أنا من قتل أبنه بيده, جشعي فعل ذلك, أرادت له كل شيء, فذهب وأخذ كل شيء, كم ساعدته على المضي قدما في الجشع, لم يكن متفوقا,فساعته باستحلال الغش, وساعدته بشراء ذمم المدرسين, والأساتذة في الجامعة, لم يكن يستحق النجاح, ولكنني جعلته من الأوائل, وجاء العقاب, الجزاء من جنس العمل, أمنته على برج سكني, فأهمل فيه كعادته, فكانت النتيجة, هي دمار كل شيء. يا رب اغفر لي, رب اغفر لي, رب أغفر لي ولأبني, ولا تعذبه بذنبي أنا المخطأ يا رب وليس أبني, أنا وكل لم يقف ضد فسادي, كل من لم يقل لي أنك مخطأ, كل من ساعدني, يا ليت أحدهم قال لي, اتقي الله
ويا ليتني, كنت اسمع له. أظن أن نفسي لن تسمع له أبدا, بل ربما أذيته على نصحه لي.
سأعود لعلاقتي بمارجريت, كنت قد عرفت أنها على الحق, وأصبحت مؤمن جدا بأنها على الحق, وكان أغرب شيء فيما بعد, أن فهمت أن مارجريت كانت تعمل أستاذة في الأدب الانجليزي, تدرس في مصر, وفي بريطانيا, ولها اسم كبير في هذا الفرع من العلم, وهي تترجم كتب في مجالات مختلفة علمية, وأدبية, من العربية للانجليزية, وبالعكس, كنت أضحك أن كيف لي أن أقارن بينهما وبين مدرسي, ولكن ما كان يثيرني أكثر, أنها لم تقول لي بفخر من هي, ماذا تعمل. بينما كان مدرسي, يتفاخر بأنه خريج كلية حقوق, كم هي غريبة الحياة, حينما يتفاخر شخص, بما يدينه, بينما لا يتفاخر صاحب العلم الحقيقي بعلمه, ولكن الأغرب هي الطريقة التي دعتني إليها لأعرف الحق من الباطل, التجربة, والاختبار, أنا أدين لها, بكل فخر بأنها علمتني كثيرا جدا, ليس فقط اللغة الانجليزية, التي أصبحت أتقنها بشكل رائع, فقد أصبحت أقرأ الروايات الانجليزية من سن مبكرة ربما الصف السادس الابتدائي, قرأت لكبار الكتاب مثل شكسبير, تشارلز ديكين, ألان مور وجون بنيان وغيرهم أحببت الأدب الانجليزي كثيرا, نسيت أو تناسيت, تاريخ الاحتلال الانجليزي لمصر, فقد ولى بشره, ولكني أحببت الأدب الانجليزي ومارجريت. وقد علمتني مارجريت أيضا, استخدام العقل, والبحث عن الحقيقة, واستخدام الوسائل المتاحة, والعقلية للوصول للحقيقة, علمتني أيضا, التواضع, ولكنها علمتني شيء أخر أكثر أهمية, معنى الحب, أقول بوضوح أكثر أنها فتحت لي باب صغير للحب, ومعانيه, وما يمكن أن يفعل. وضعتني فقط عن أول طرقه, ولكني لم أكن أعرف كم هو عميق وطويل الطريق,و لم أكن أعرف أنني سأخوض يوم في طرقه ودروبه التي لا تنتهي. نظرة واحدة من الحب الصافي من مارجريت تجاهي, أزالت من نفسي كل المشاعر السلبية تجاهها وبدلتها بمشاعر حب لا توصف.
كانت هي تحفزني على القرأة والكتابة بالانجليزية. كانت صعبة في البداية, ولكن مع الوقت, نجحت في ذلك, انطلقت بسرعة في ذلك, وظننت أنني وصلت لما تريده مني مارجريت, كنت أريد أن أرضيها, لذا عملت بهمة في ذلك, وعندما ظننت أنني وصلت لما كانت تريد مني, ذهبت لها بموضوعات كتبتها بالانجليزية, ليس فيها خطأ واحد مما كانت تعلمني كيف أتجنبها, بدأت أقرأ لها بهدوء وثقة, ما كتبته, وهي سعيدة بلكنتي, وصحة تركيب الجمل, حتى لما وصلت لنهايتها, احتضنتني, وقال لي ممتازة يا ياسمين, ولكن هناك شيء أخر ناقص,
نظرت لها في تعجب, ما هو يا مرجريت؟.
تبسمت لي وقالت, اهدئي يا حبيبي, ليس فيما قلتي أي خطأ لغوي, أو خطأ في النطق, ولكن هناك ما وراء ذلك, هو الروح, أن تظهري فهمك لما هو مكتوب في الإلقاء, فتحزن روحك حين يكون هناك حزن فيما تقرئي , فيظهر ذلك في صوتك, وتفرحي حين يكون فيما هو مكتوب ما يفرح, فيبدو ذلك على صوتك وأداءك, ترفعي صوتك حين يجب أن ترفعي, وتخفضي صوتك حين يجب أن تخفضي. هل تابعت أوبرا من قبل؟.
ضحكت وقلت لها, أنني أضحك حين أشاهدهم في التليفزيون, وأسمع الكثيرون يسخرون من أداءهم, ويقولون أنهم يقطعون شعر بعضهم بعضا من شدة التأثر.
ابتسمت بهدوء وقالت لي بجدية, وأنت ماذا تظنين فيهم؟.
فهمت قصدها تماما, فبدا الجد في صوتي, وقلت لها, لم اهتم بها من قبل, ولكن يمكن أن أهتم بالأمر, حتى أستجلي حقيقتها.
قالت مارجريت, الغريب يا ياسمين أنكم, تملكون واحد من أفضل عروض الأوبرا في العالم, يأتي ليشاهدها ويستمتع بها مئات بل الألف من البشر من كل العالم, بينما أنتم لا تهتموا بها.
قلت لها, إن أوبرا عايدة ترتبط هنا بذكرى غير جيدة, أولا هي أقيمت لافتتاح قناة السويس, وكان فيها من البذخ والترف ما أثقل كاهل الشعب المصري, وقناة السويس بدلا من أن تكون سبب لقوة وغنى مصر, كانت سببا لفقرهم وذلهم, كما لم يحضر أحد من أبناء الشعب العادي هذه الاحتفالات, ومن حضر من المصريين لم يفهم محتواها, لأن لا أحد يشغله أن يوضح لهم مفهوم الأوبرا, ولا ما تحمله أوبرا عايدة من معاني, كانت همة الحكام قديما, وحديثا هي مخاطبة غير المصريين, وعدم الاهتمام بالمصريين. الآن يروجون لأوبرا عايدة في الخارج, وقلما يتحدثون عنها في الداخل.
نظرت لي نظرة أكبار مختلطة بالشفقة, وقالت, يا حبيبتي, قناة السويس واحدة من أفضل المشروعات في العالم, وليس للقناة نفسها ذنب في سوء استخدامها, هي أداة فقط, كالسكين قد تستخدميه, لقتل إنسان, أو لاستخراج طلقة رصاص من إنسان, النقيض تماما, عليك أنت أن تحسني استخدام الشيء, يا ياسمين, لأنني أحبك, لا أريد العواطف أن تستطر على تفكيرك, فتعميك عن الحقيقة, القناة في حد ذاتها نعمة كبيرة لمصر, وللعالم, ولكن الإدارة في مصر أساءت استخدامها, وجعلت النعمة نقمة, وما أسهل أن يحدث هذا, يا حبيبتي, سأضرب لك مثلا, كانت انجلترا ارض مهملة, حتى تم اكتشاف أمريكا فتحولت بريطانيا تدريجيا, لمحطة رئيسية في الطريق للأمريكتين, اشتغل الملك ومن حوله ذلك ونمى بلده, وأنشأ أسطول قوي, وخاض البحر, وانتصر على الأسبان والبرتغاليين, وأسس العرش البريطاني, أكبر إمبراطورية في التاريخ, أما في مصر قد أراد الخديوي إسماعيل, أن يظهر نفسه أمام العالم بالرجل المتحضر, فكان من حضر ومن سمع قد مليء جشع وطمعا مما في يد إسماعيل, وقال في نفسه كيف لمثل هذا, أن يملك كل هذا, فزاد من طمع الدول تجاه مصر, أو بالأحرى أحيا بداخلهم هذا الطمع القديم وحفزهم على احتلالها, خاصة لأنها كانت ضعيفة عسكريا, اضعف إسماعيل جيشه بنفسه, حيث حارب في الجنوب مع مملكة الحبشة, من أجل يبدو أمام أوربا بأنه يحارب العبودية في إفريقيا, كان فهمه لأوربا خطأ, إن الأوربيين أنفسهم هم من كانوا يجلبون هؤلاء العبيد لأوربا, وقد زاد من سوء تقديره للموقف أن جعل على رأس الجيش المصري قائد انجليزي. أعطى كل المعلومات التي لديه لانجلترا, والتي استغلتها فيما بعد لاحتلال السودان والسيطرة عليها,أنظري يا حبيبتي, لهذا الكم من الأخطاء, خطأ جر خطأ فخطأ, هذه هي المشكلة, أتعرفي ما هي المشكلة الحقيقة يا ياسمين هي سوء النية.
صدمتني هذه الكلمة بدرجة لا توصف, تسمرت في مكاني, ما أعطي هذه الكلمة الظروف المواتية لتنتقل بسرعة من رأسي إلي كل جسدي ثم عادت إلي رأسي, جعلت كل جسدي يرتجف, سوء النية, كم هي عميقة هذه الكلمة.
استمرت مارجريت في حديثها, كأنها تقرأ ما في نفسي, نعم سوء النية, لو كانت نيته أن ينمي وطنه, وأن ينهض بشعبه, كان الله سيوفقه, أما نيته كانت الظهور أمام العالم الأوربي أنه رجل متحضر, هو فقط لا يهتم لشعبه, أثقل كاهله بالضرائب, وأثقل مصر كلها بالديون من أجل نفسه, وكان رد أوربا عليه عظيما, خلعوه, وهو أول خديوي يخلع عن مصر, فوقف عاجزا عن فعل شيء, ووافق على ذلك, وقال كلمة كانت ضده أكثر منه معه, مبررا كل الخطايا التي ارتكبها, لقد جعلت مصر قطعة من أوربا وليس من أفريقيا, هذه هي المشكلة, يهمه الجماد أكثر من الإنسان نفسه, يشغل باله بشكل شارع و تخطيطه, أكثر من الإنسان نفسه الذي يسير فيه, لو كان نمي الناس أنفسهم, ونهض بهم, علميا وحضاريا وأخلاقيا لكانت مصر حقا جزء من أوربا, لقد نظر للشوارع والميادين في أوربا, وحاول أن ينشأ مثلها, ولكنه لم ينظر للتعليم, للصحة, للصناعة و للزراعة, نظر على الشكل ونسى المضمون, افتخر بأن مصر تشبه أوربا في شكلها الخارجي, ولكن الأوربيون أنفسهم كانوا ينظرون لجوهر مصر, هذا هو الفارق.
قالت الأمر يختلف عن محمد علي, عندما أرسل قواته للسودان.
نظرت لها مبتسمة, وقلت لقد كان هو أيضا يريد مجده الشخصي.
تبسمت لي وقالت, نعم بالضبط, الجميع يريد مجده الشخصي, أتظن, الملوك في انجلترا حين كانوا يغزون البلاد المختلفة, كانوا بدافع الوطنية, لا بالطبع بدافع المنافع الشخصية, ولكن المنافع الشخصية لهم, كانت في صالح بريطانيا, كذلك كان محمد علي يريد مجدا شخصيا, ودولة قوية, وممتدة, فكانت في صالح مصر أيضا, انشأ مدارس محترمة, اهتم بالتعليم بصفة عامة, اهتم بالزراعة, وأهتم بالصناعة, انشأ جيش قوي, كان عنده بعد نظر, خاف من مشروع قناة السويس, رغم قوته في هذا الوقت, ولكنه رفض وحذر أبناءه من حفر القناة, ولكن سعيد قال لدليسبس, إن أبي أوصاني بعدم حفر القناة, ولكنك صديقي ولا استطيع رد طلب لك, كان دليسبس في نفسه يسخر من سعيد, ولم يكن حقا صديقه, فضحه دليسبس في العالم كله, وقال بسخرية أنه حصل على امتياز حفر القناة بقفزة حصان, هل هناك استخفاف حاكم بحقوق وطنه مثل ذلك؟, أمثاله ما كان يجب أن يتحمل مسئولية كهذه, ولم يكن مصير دليسبس بأفضل من ذلك, فان انتقام الله كان قويا, فبعد الظلم الذي فعله مع مصر وشعبها, أراد أن يحفر قناة بنما, ولكن المشروع فشل, غالبا كانت أمريكا وراء ذلك, فأفلس دليسبس ومات كمدا, كما قتل الألف كمدا, صدقيني, يا ياسمين, لم يكن هناك حكام ينعمون حقا, أتعرفي لماذا؟.
لأن الأمر ببساطة, هو يخاف أن يترك هذا الملك العظيم بالموت, أو أنه يتركه هذا الملك العظيم بثورة أو انقلاب ضده, قد يكون من أقرب الناس له, قد يكون قادته المقربون, أو أخوته, بل وأولاده, هل تري في هذا سعادة؟, كانوا يسرفون في الشهوات حتى تقتلهم, لا يريدون لأحد أن يردعهم عن ذلك. يحكي أن جنكيز خان, كان يعاني من نفس المشكلة تنغص عليه حياته, كان يسرف على نفسه في الشهوات كلها, ولكنه كان يخاف الموت, يخاف أن تزول هذه النعم, فكان يريد الخلود فيها, فذهب لحكيم يسأله عن سر الخلود, صمت الحكيم قليلا ثم قال له, قلة الشهوات, غضب جدا من هذا القول, فقتله, بالرغم من أن هذه الكلمة, معاني كثيرة, وليس فقط هي كبح الشهوة, فان تقليل شهواته, سيجعله يعامل الناس بشكل أفضل, سيقلل قتله, وسلبه للناس, وجمع الكنوز, واغتصاب النساء, سيكون ذكراه أفضل في قلوب الناس, ولكنه رفض هذا, رفض الخلود الحقيقي, لأن الجسد لا يمكن أن يخلد هو لا يصلح ذلك, ولكن الحب والعطف والخير يمكن أن يخلد, ويخلد ذكر صاحبه, ينتقل من قلب لقلب, وعصر لعصر, يخلد دائما ما دام الإنسان موجود,بل مادام رب الإنسان موجود,
أتعرفي كيف مات جنكيز خان؟.
ابتسمت لها وقلت لا لم يدرسوها لنا. ضحكت وقالت, هم لا يدرسونكم التاريخ كما يجب, بل كما يريدون, إن نهايته كانت ببساطة, سقط من فوق حصانه, لإسرافه في الشهوات, لو درسوا لكم التاريخ كما يجب, لعرف الجميع أن نهاية الشر, دائما شرا, وأن الخير والحب, وهو الأبقى, مادام الرب موجود, سيظل الحب والخير هو المنتصر. إن إبليس كان ذكيا حين قال لأدم, إن الله شرير لأنه لا يريد لك الخلود في الجنة, فهو قضى عليك بالموت, فستترك الجنة, ولن تبقى لك الجنة لأنه سيأخذها منك, ربما قال له ما كان سيشعر به لو مكانه. كانت لهذه الكلمات وقع عظيم على أدم, كأنه فكر هو نفسه في شيء مماثل, أن يحرم من الجنة, لذا دله إبليس على الشجرة, التي قال له أنها شجرة الخلد وملك لا يبلى, نسى في هذه اللحظة, وعد الله له, بالا يخرجه من الجنة إلا في حال معصيته, وأكل من هذه الشجرة, نسى عهد الله, وصدق عدوه, فكان جزاءه الطرد من الجنة, وليس هذا فقط بل غضب الله, الغريب أن ادم وأبناءه لم يتعلموا من هذا الدرس, فظلوا يتبعون ما يقوله لهم الشيطان, وينسون ما يقوله لهم الله.
يصدق الإنسان الباطل أسهل بكثير من تصديق الحق. عجب للإنسان, حين أقرأ قصة ادم في مختلف الأديان أقف في حيرة من أمره, فهو رغم أنه رأى ما حدث بين الله والشيطان, ومعصية الشيطان لله, وطرد الله له من الرحمة,وهذا أسوء جزاء, ورغم تحذير الله له من الشيطان بأنه عدوه ويكره, وأنه يريد له النار مثله, ورغم تحذير الله له من الخروج من الجنة, ولكن الشيء الغريب, أنه عصى الله, ولكن الأغرب هو أن الله كان يتحدث له مباشرة, يبدو بدون وسيط بينهما, ومع ذلك كان يعصاه, هذا يعني لي, أن احتجاب الله عنا هو رحمة لنا, لأننا ساعتها كنا سنعصيه و كنا سنكفر به, وحينها سيكون غضب الله أكبر. وسنكون نستحق عقاب أكبر, ربما خروجنا من الجنة كان رحمة لنا, لأن وجودنا فيها لم يكن عاصم لنا من معصية الله, ربما كانت للجنة معاني كثيرة, ولكن ما أثق فيه, هو أن الخروج من الجنة كان فيه رحمة من الله, أكثر من عقاب, أدم حينها كان يمثل البشرية كلها, لأن الجميع, كانوا هم من يكونوه, هو عبارة عن الكتلة التي تحوي كل البشر داخله, وكل البشر كانوا شركاء في ذلك الذنب, لم يكن تفكيره وحده, ولكن تفكر الجميع, لذا كان العقاب للجميع, وهذا شيء لابد منه لأن الله عدل. ربما لذلك كان عقاب الله لبني إسرائيل للجيل السابع, كأنهم هم كانوا راضون عن اقتراف الذنوب.
لم أكن أعي جيدا هذه الأمور بشكل جيد, ولكنني كنت أثق بها وبرأيها, ولكن مع الوقت فهمت ما تعنيه, والغريب أن من يلي المسئولية حتى الآن في مصر يهمه الرأي الخارجي أكثر من الداخلي, يهمه أن يظهر بشكل جيد أمام أوربا وأمريكا وليس أمام شعبه, يتغير الحكام, وطريقة الحكم, لكن للأسف العقلية واحدة لا تتغير أبدا.
قالت أيضا لي, لا تظني أن الشعب الانجليزي كان يحظى بالغني والحقوق في أوج الإمبراطورية الضخمة, كان الوزراء يركعون ويسجدون للملك, والملكة. ولم يكن للشعب صوتا يسمع, المستفيدون الحقيقيون هم الملك, وعائلته ومن حوله من الدوقات, وكبار التجار, ومن على شاكلتهم, ولكن الشعب كافح من أجل حقوقه, فمن رئيس وزراء يسجد تحت أقدام الملك, إلي ملك لا يملك ,و لا يحكم, يبقي الشعب برغبته علي هذا العرش, وإذا أراد أن يعزله لفعل, بل تجري استطلاعات على بقاء الملكة أو رحيلها, لا تملك منعا, أو التأثير فيها, من ملوك يملكون كل شيء حتى رقاب البشر, إلي عائله حاكمة تنتظر مصروفها السنوي, الذي لا يكلف كل مواطن أكثر من 50 سنت فقط كل عام, كان الشعب يعرف حقه وجاهد حتى وصل له, وكان الحكام أذكياء أظهروا مرونة كبيرة ليبقوا على عرشهم بينما تهاوت عروش أخرى, لم تظهر الذكاء والمرونة, فخسرت البلاد الكثير من الأنفس والممتلكات, وخسر الملوك عروشهم.
العائلة المالكة في انجلترا اليوم محبوبة بشكل حقيقي, يرى فيها كثير من الشعب, امتداد لمملكة عظيمة, كانت الأكبر تاريخيا. ويشعرون تجاههم أن يمثلون القصص الرائعة, حول الأمراء, والحب الرومانسي, بين الأمير من ذوي الدم الأزرق, وبين فرد من الشعب, يذهبون بالألف ليروا مراسم زفاف أمير, يحبونه ويحبون تلك التي ملكت قلبه, تتمني كثير من الفتيات أن تكون هي الأميرة, ويتمنى كثير من الشباب أن يكون هو الأمير, فتصبح حياتهم بالنسبة لكثير من الناس, أشبه بقصة خيالية, يعيشون أحداثها, ويرون أبطالها بأعينهم.
أنني على يقين أن الملكة هذه, هي الأسعد حظا من كل عائلتها, فهي تنام هادئة, لا تخاف من انقلاب عليها سواء من داخل الأسرة أو خارجها, كذلك لا تشعر أنها ملئت بطنها وخزائنها, بينما شعبها جائع وفقير.
تشعر بأن شعبها في غالبه, يرضى بها ملكة, والأهم من ذلك يحبها. لذلك فلابد أنها تنام وهي اهدأ نفسا من كل الحكام الآخرين, الذين ملكوا أكثر, ولكن لم يكن لهم هذا الحب في قلوب الناس, ولا الطمأنينة التي تحظى بها الملكة.
قرأت عن أوبرا عايدة, بدقة ودون تحيز, فعرفت أنها تدور عن الحب, الحب بين الأعداء, بين عايدة الفتاة الحبشية أبنه الملك الحبشي, والأسيرة لدي مصر, وبين رادا ميس القائد المصري, ماذا يمكن أن يفعل هذا الحب, وكيف يتصرف من حوله تجاه, الكل لا يريده, ابنة الملك التي تحب رادا ميس, والملك الحبشي, أيضا لا يريده, بل يريد من عايدة أن تستغل حب رادا ميس لها. هل من الممكن لهذا الحب أن يستمر؟ كانت إجابة الأوبرا نعم, ولكن في عالم أخر, حيث يرفض رادا ميس أن يتخلى عن حبه مقابل حياته, وترفض عايدة أن تعيش بدون حبيبها فتدفن نفسها مع رادا ميس ليتلقوا في العالم الأخر.
ذهبت أول مرة إلي الأوبرا في عرض لأوبرا عايدة, بصحبة مارجريت, بالطبع فهمت كل شيء في هذا العمل الرائع تناسيت كل ما كان سلبي تجاه العمل, وأرادت الاستمتاع, بهذا العمل, تفاعلت مع كل حركة, وكل كلمة, فهمت استماع كل شخص شارك في العمل, كنت أري نفسي في كل فرد منهم, أندمج معهم, أدندن معهم وتحمسه له, عندما أنتهي العرض كنت كمن استيقظ من حلم جميل, لم أكن أريد أن استيقظ منه. صفقت كثيرا, نظرت لي مارجريت بعين الرضا
قالت لي مارجريت عندما عدنا للمنزل, أنني أريدك أن تقرأ أوبرا عايدة مرة أخرى, قرأتها مرة أخرى, ففهمت ما كانت ترمي له, أن أفهم ما وراء الكلمات, أن أفهم معني كل كلمة, وكل همسة, أن أفهم مشاعر الناس, وليس الكلمات فقط.
قالت لي مارجريت يوما, يا يا سمين, منذ يوم أن رأيتك أحببتك, رأيت فيك شيء لم أفهمه أنا نفسي وقتها, ولكني بعد ذلك, رأيت فيك خليفتي, رأيت فيك نفسي, أرادت أن تكملي ما بدأت, أردت منك أن تتفوقي علي, إنني بجانب أنني أستاذة للأدب الانجليزي, فانا اعمل مترجمة, من العربية للانجليزية, وبالعكس. كنت أترجم أولا الكتب السياسية, والعلمية, وهي كتب جامدة, تريدي توصيل المعني من لغة إلي لغة, عرض علي كثيرا أن أترجم روايات أدبية, ولكنني لم أتحمس في البداية, لأنني كنت أرى الأمر صعب, أتعرفي لماذا؟.
نظرت لها و أومأت برأسي بمعنى لا, فقالت لأنني لا أترجم الكلمة بل المشاعر وراء الكلمة, الكاتب يستخدم الكلمات ليعبر عن مشاعره التي يريدها أن تصل للقارئ, فعلى المترجم إذا أن يترجم مشاعر هذا الكاتب, وليس كلماته ويضعها في كلمات بلغة أخرى, يكون المترجم على يقين أنه حين يعبر بهذه الكلمات, فان المعني الذي أراده الكاتب سيصل لروح القارئ, أنني كنت أراه أصعب من الكتابة ذاتها, لأن الكاتب ينقل مشاعره مباشرة للقارئ, وهذا القارئ مشترك معه في اللغة وفي طريقة تعبيره عن المشاعر, إذا فالأمر سيكون أسهل, أما المترجم فلعيه أولا فهم مشاعر هذا الكاتب, ويتعمق فيها بشكل كبير, ثم يحاول أن يصوغ هذه المشاعر في كلمات بلغة أخرى, لشخص يفهم المشاعر أيضا بشكل مختلف.
نقل المشاعر عن طريق الفيديو أسهل بكثير من الكتاب, لأن القلوب تستطيع تفهم ما ترى, وتشعر بما يشعر به من تراه, حتى تستطيع فهم الكثير من المشاعر حتى لو اختفى الصوت.
ابتسمت وقلت لها, ولكن المشاعر واحدة يا مارجريت.
نظرت لي بابتسامة وقالت, هناك مشاعر واحدة حقا, ولكن طريقة الفهم تختلف, كيف تنقل مشاعر حب مواطن انجليزي مثلا لوطنه, لمواطن مصري, ربما هو أصلا يكره هذا المواطن الانجليزي, فكيف سينفعل, مع هذا المواطن, وكيف سيتمنى النصر إذا لانجلترا, إذا كانت تحارب ألمانيا مثلا . الكثيرون في مصر كانوا يتمنون النصر لهتلر على انجلترا كرها لانجلترا, وليس حبا لهتلر, وهناك فارق كبير, بين تمني النصر لمن تحب, وتمني الهزيمة لمن تكره, فإذا أرادت أن اجعل مصري يتعاطف مع هذا الجندي, في حربه تجاه ألمانيا, فلابد أن يحب هذا المصري الانجليزي أولا حتى يتعاطف معه. أما الكاتب نفسه, الذي يكتب للانجليز فلن يشغله كثيرا هذا الأمر, لأنه يعرف أن غالبية الانجليز يريدون لانجلترا, وجنودها الانتصار في الحرب, لذا فمن السهل عليه, أن يحمس القارئ لإنجلترا, ولحب جنودها لأنهم في الأصل يريدون ذلك.
الأمر سيكون أصعب بكثير, لو أرادت نقل رواية انجليزية عن الحرب العالمية الثانية للألمان.
نظرت لها ولم أتحدث فقالت, هب أنك تشاهديني فيلما أمريكيا أحببتي البطل, وتعاطفت معه, ولكنه في لحظة كان يهاجم بلدك ماذا سيكون شعورك. فيلم مثلا مثل, يوم الاستقلال, يتحدث عن تعاون العالم معا, ولكنه في لحظة يظهر المصريين كأنهم بربر, يعيشون في العصور الوسطى,
نظرت لها متفهمه ما قالته, فأردفت تقول, لذلك قبل ترجمة الرواية, كان يجب أن أقرأها جيدا فان أعجبني فكرة الكاتب, وتقبلتها, فأنني سأستطيع بسهولة نقل هذه المشاعر للطرف الأخر, لذلك قبل أن اقبل الترجمة الروائية, كنت قد مكثت في مصر عامان كاملان, أدرس في الجامعة الأمريكية, وجامعة القاهرة, وغيرها من الجامعات المصرية, في المدن الأخرى, أتحدث مع الطلاب, أتناقش معهم, وكنت سعيدة بإقامتي في هذا الحي, الذي يجمع الطبقات الاجتماعية, والثقافية المختلفة, استطيع من خلاله فهم أغلب المجتمع المصري, وليس هذا فحسب بل يمكننني, أن اتصل بأولاد البلد في عين شمس والمطرية, والطبقة الأرستقراطية في مصر الجديدة و روكسي, لم أقبل الترجمة إلا حينما فهمت جزء كبيرا من ثقافة هذا الشعب, وقرأت تاريخه, وعدد كبير من الأعمال الروائية, لكتاب مشاهير, وغير مشاهير. سافرت لعدة دول عربية, واختلطت مع أناس كثيرون, شعرت أنني فهمت مشاعر الناس, لذا أصبحت أرى أنني يمكنني أن أنقل مشاعر الانجليز للمصريين, ومشاعر المصريين للانجليز, وان لم أرضى كل الرضا, ولكن مع كل ترجمة كنت أشعر كثيرا, أنني أصبحت أفهم الناس أكثر وأكثر.
ترجمت كتب أحببتها من الانكليزية إلي العربية, خاصة تلك التي تحوى مشاعر راقية من الحب بين الناس, أو التي تتحدث بعمق عن المجتمع الانجليزي مشاكله, وهمومه,ومشاعره وترجمت من العربية إلي الانجليزية, روايات كثيرة, لم أكن أهتم باسم الروائي بل بكتاباته, وقد حظيت هذه الترجمات, بنجاح كبير, فقد نشرت عدد من دور النشر الانجليزية هذه الروايات, وأعجب بها الانجليز وحصلت على جوائز عديدة في الترجمة, وكذلك حصل الكتاب على جوائز كثيرة, وحصل بيننا تعاون مثمر ونشأت صداقات ممتازة معهم, ترجمت رواية لكاتب مصري, ربما لم تبع في مصر إلا إعداد قليلا, قال لي هذا الكاتب, محمود خضر, حين قلت له أنني أريد أن أترجم روايتك, قال لي, لم يقرأ شعبي الرواية, وهي متعمقة جدا فيما يخص المجتمع المصري, ومشاكله, فهل سيهتم المجتمع الانجليزي بها. قلت له بثقة, أنني أرى في الرواية قيم جميلة ومشاعر راقية, وأنا أريد أن أنقل هذه القيم والمشاعر للشعب الإنجليزي, وأنا على يقين أنه سيتفهمها, ويحبها, وكذلك الشعب الانجليزي يريد معرفة ثقافات المجتمعات الأخرى, لذلك كلما تعمقت في مجتمعك, فانه سيكون أكثر اهتماما بالرواية, أنا علي أن أهيأ الرواية لتتوافق مع فهم المجتمع الانجليزي.
نظر لي بخجل وقال, ولكنني للأسف لا املك المال.
ابتسمت له وقلت, لا أريد منك المال, بل أن توافق على الترجمة.
ابتسم وقال لي موافق, ولو نجحت الرواية فلك ما تريدين,
بالفعل نجحت الرواية, وحققت مبيعات جيدة, وتحدثت الجرائد في انجلترا كثيرا عن الرواية, الغريب أن أحد في مصر لم يلحظ نجاح هذه الرواية, إلا بعد أن حصدت عدة جوائز أدبية, فعندها بدأ الأعلام المصري يهتم بهذا الكاتب قليلا, وبيعت روايته في مصر بشكل جيد, ولكن لفترة قصيرة ثم أهمل مرة أخرى. ربحنا كلانا من وراء هذه الرواية, وترجمت له بعد ذلك عدة روايات, نجحت بشكل كبير.
لذا أريدك يا ياسمين أن تشاركيني في عملي في الترجمة, سأعطيك رواية الكاتب محمود خضير, وهي بيت مدبولي, أريد أن تقرئيها جيدا, أريدك أن تفهمي مشاعر الكاتب, أريدك أن تشعري بمشاعره. ثم عليك أن تخبريني بما شعرت به.
كانت الرواية تتحدث عن بيت كبير يعود لعصر المماليك, يبدو أنه كان بيت لثري في هذا العصر يسكن فيه, عدد من العائلات, البيت عبارة عن مستطيل, كبير بداخله صحن واسع, به نفورة قديمة, له سلالم تصل للدور الثاني, تنفتح كلها على شكل يد تأخذ وضع الدعاء, يصل بك لسبعة أبواب من كل جهة, أجمالي الغرف ثمانية وعشرون, يسكن به, ثمان وعشرون عائلة, وضح الإهمال على البيت من الداخل, والخارج, فلم تعد نافورة الماء تعمل, وتهدم بناءها الداخلي, والخارجي, بشكل كبير, كان الجميع يشكو من ضيق الحال, وضيق الغرفة, كانوا يشكون لبعضهم بعضا, في البداية, ثم بدءوا يتشاجرون, فيما بينهم من الضيق, ثم بدء البعض يفكر فيما في يد جارة, من غرفة يريد طرده منها, ثم ما في يده من نعمة, كزوجة,وأولاد وظلوا كذلك لفترة طويلة, تملئ الكراهية القلوب, يتباعدون كل يوم عن بعضهم بعضا, فأصبحوا رغم تلاصق البيوت, وكانوا يحتكون كثيرا, لضيق المكان, فيسب كلا منهما الأخر, ولا يهتم ولو للحظة بأن هذا جاره, وما يجب أن يتعامل معه بهذا الشكل, ومهما أذي واحد منهم جاره, فلا يشعر أنه أخذ حقه, فغالبا, ما يرجع له ,ويسبه وربما يتعاركا بالأيدي, حتى النخوة بدأت تقل شيء فشيء, فلا يحجز بين المتشاجرون أحد, بل يوقع البعض بينهم أكثر وأكثر, وهم سعداء, بالتقاتل, ووصل الأمر, لأن أصبح كل واحد يملك شوم, ثم سلاح أبيض, أصبحت المعارك دموية, لأول مرة بدءوا يتحدثون, عن الفروق بينهم بعضا, عن أصول كل واحد الدينية, والعرقية, فأصبح هناك حلف مسلم ضد حلف مسيحي, ولكن ما لبث, الحلف المسلم ما اختلف, إلي شعب كثيرة, وكذلك الحزب المسيحي, اختلف, وتقاتل المسلم مع المسلم, ووجد في المسيحي قرب له عن المسلم الذي كان صديقه, وكذلك المسيحي, وجد في المسلم قرب عن المسيحي الأخر, فأصبحت جبهات لا تقوم على الدين بل الحب والكراهية, حاول واحد منهم اسمه عادل, أن يصفو ويعلوا فوق هذه التلال من الكراهية, ويؤكد لهم أنهم كانوا متقاربون متحابون منذ وقت قصير, لم تكن للكراهية وجود بينهم, لكنهم هم أنفسهم لم يصدقوه, حاول كثيرا التقريب بين الناس, ولكن كانت تضيع محاولاته سدى, طرد البعض من غرفهم, واستولى عليها البعض الأخر, وسكن من طرد بجوار النافورة, أو في الطرقات بين الغرف, فضيق على الجميع, وقامت صراعات طويلة بينهم, كاد البعض أن يقتل فيها, لولا تدخل, عادل بينهم, مما أدى إلى إصابته, بجرح غائر, كاد يموت منه, رجع الجميع إلى رشده ثانية, وشعروا بأنهم كلهم سيضيعون بسبب ما فعلوا بعادل, فهم يعلمون أن الدولة, سوف تطردهم جميعا من هذا المكان بسبب ما فعلوا, وهي كانت تنتظر ذلك بفارغ الصبر, فكثيرون يطمعون بهدم هذا البيت, الذي لم يسجل في هيئة الآثار, وبالتالي فالكثيرون من رجال الأعمال يتهافتون على الاستيلاء عليه والاستفادة منه, بهدمه واستغلال هذه المساحة الشاسعة, لإقامة مباني جديدة, تدر الملايين, وليس هذا فحسب, فبموت محمود سوف يسجن الجميع لأنهم كلهم متورطون في دمه, فمنهم من ضربه بعصاه, أو سلاح أبيض,
جلس الجميع يبكي ويندم وهو يتذكر الأيام الخوالي, حين كان الجميع متآلف, لم يكن بينهم حروب وكان بعض الحب يسيطر عليهم, وتذكروا ما كان يحكيه الآباء عن الود الذي كان بينهم, فلا ينام جار إلا بعدما ينادي, على جاره, هل عنده عشاء لبيتك أم لا, وكثيرا ما كان الجميع, يجلب ما لديه من طعام, ويضعه إلى جانب طعام أخيه, في طبق مغطى بطبق, ثم يجلس الجميع حول النافورة, ويستمتعون بصوت الماء, وبعض الرذاذ الذي يدغدغ خدودهم, وهم سعداء, وقلوبهم صافية, تمنى كل واحد, لو تعود الحياة كما كان يحكى له, بل زاد الجميع من ذلك, فوضع كل واحد فيهم حلم لحياته مع هؤلاء الناس, أفاق في هذه اللحظة عادل, كالعائد من الموت, فقال لهم, وهو سعيد, لقد رأيت في غفوتي صفاء قلوبكم, ورغبتكم في التوبة, ولكن ليقبل الله هذه التوبة فقد أمرني, أن تعيدوا كل شيء لطبيعته, وأن يسود الحب في قلوبكم, وان تدعو الله بإخلاص ألا أموت فتطردوا من الجنة التي أنتم فيها, فقسم بينهم العمل, ووضع الأعداء معا في مجموعة عمل واحدة, أعيد كل ساكن لبيته الأصلي, وأعيد طلاء كل البيوت من الداخل, والخارج, ثم صلي الصحن من الداخل, وأصلحت النافورة التي جلبت في البداية ماء اسود كريه الرائحة, ظلوا ينزحون ويقلونه في الخارج, حتى صفي وغسل الماء كل شيء حتى القلوب, وظلوا يعملون نهارا, يدعون الله ليلا ألا يموت عادل, فيهلكوا جميعا, كان وجه عادل, وتلتئم جروحه, كلما صفو لبعضهم بعض, أما إذا حدث العكس, فان وجه يعكر, وتنزف الجروح, فيطلب منهم, أن يخلصوا نياتهم مرة أخرى, فعندما يفعلوا, تتحسن صحة عادل الجسدية والنفسية.
بعد ثلاثة أيام, عدت لها فقلت لها, ما فهمته, ما شعرت به, فقالت لي وهي تبتسم, أقرئيها مرة أخري ثم ثالثة, قلت لها فهمت ما يود الكاتب قوله, الحب لا دين له, لا وطن له, لا حدود له, وهو أقوى من كل شيء,
ابتسمت لي ابتسامة رضي, وقالت أريدك أن تترجمي هذه الرواية الآن, عليك بنقل مشاعر هذا الكاتب للشعب الانجليزي.
قلت لها وأنا ابتسم, ولكنك فعلت, أسهل علي أن اقرأها, وأقول لك, إن كنت قد شعرت بنقلك لمشاعر الكاتب, أو لا.
تبسمت لي وقالت أفعلي, ما أطلبه منك.
لأنني كنت أحبها فعلت فعلا ما طلبته مني, وقد راودتني نفسي كثيرا, بأن اقرأ ترجمتها لهذا الكتاب, والتي أعطتني هي نفسها نسخة منها, ولكني استطعت أن أتحكم في نفسي, ولم أفعل.
استغرقت قرابة شهر, شعرت فيها بالتعب, والإرهاق, ولولا أنني أحب مارجريت ولولا وعدي لها, ما أكملت هذا العمل, ولكني ثابرت لأجلها, حتى أتى هذا الأمر, فوائده, وقدمت لها, العمل مترجم, وأنا أخاف جدا ألا يرضيها ترجمتي, قرأتها كلها وأنا أجلس معها, ظللننا ساعات طويلة, لم نأكل أو نشرب شيء في هذه الأثناء, ثم رفعت رأسها أخيرا, وهم تبتسم, وقالت, بالرغم من أنها لا تشبه ترجمتي, للنص, وبالرغم من بعض الأخطاء, إلا أنها أكثر من رائعة, قامت ودمعة حائرة في عينها اليمنى, بادرتها دمعة من عينها اليسرى, واحتضنتني بقوة وقالت, رائع يا حبيبتي, تفوقت على تصوري لك.
كنت سعيدة لسعادتها, لم أعرف من قبل معنى أن تخاف من أن حزن حبيبك, وليس من غضبه, أو ما يمكن أن يفعله وهو غاضب معك, عرفت معنى أن ترى السعادة في وجه حبيبك, فيسعد قلبك لذلك, أكثر بكثير من فرحته هو. إن في الحياة معاني كثيرة ربما نخرج من الحياة, ولم نفهمها ونعيها. فكأننا وقتها لم نأتي للحياة, ولم نحظى بالتجربة الحقيقة فيها.
كنت حين تحسنت أحوالنا المالية, قد انتقالنا لحي مصر الجديدة, في ميدان الحجاز وانتقلت معنا بالطبع مارجريت مع زوجها جورج, الذي كان شريك أبي في المكتب الهندسي, الذي تمتع بحسن السمعة بين كل شركات المقاولات, فكان هذا المكتب هو الأفضل في مصر, فربح أبي وشريكه جورج الكثير, وكان لهذا الأمر أثر كبير على أبي, فقد أصبح سعيدا لأنه لم يتم تعينه في الجامعة, فعزم على أكمال الدراسة في بريطانيا, وتعرف خلال ذلك على جورج الذي أكد له أنهما يمكنهما افتتاح مكتب هندسي في مصر, وخاصة أن شركة انجليزية, ستقيم مشروع سكني كبير, وسيكون هذا المشروع, هو أول مشروع لهذه الشركة ولنا في مصر, فعاد أبي مع جورج لمصر, وأقيم المشروع بشكل رائع جذب انتباه الجميع, فكان الكل يسأل عن جميع من ساهم في المشروع ومن ضمنهم طبعا مكتب أبي. ثم بعد ذلك أصبح لهم مشاريعهم الخاصة, وكبر المكتب إلي شركة مقاولات أكبر وأكبر, لذا فقد انتقالنا لعمارة سكنية كانت من أنشاء أبي وشريكه, وعشنا في شقة كبيرة دوبلكس أقرب للفيلات منها للشقق, وكان أبي سعيدا بذلك, يحمد الله, على ما أعطاه, وكان لا يزال يدور في باله, حلمه لبناء مساكن اقتصادية للشباب, ونجح مشروع صغير يليه اكبر, وكان الشباب وذويهم يدعون لأبي بالبركة, فكان سعيدا بذلك, ويقول هذا يكفي.
عندما انتقلنا للمسكن الجديد, تعرفنا على بعض الجيران, كان أبناءهم في مدارس أجنبية, وكانت أمهاتهم والأطفال ينظرون لأمي, ولي طبعا نظرة دونية حين يعلمون أني في مدارس حكومية عادية وليست لغات, ولكن كان يكفيهم أن أتحدث الإنجليزية بطلاقة أمامهم, فينقلبوا صاغرين.
عزمت أمي أن أنتقل لمدرسة خاصة لغات وليست أي مدرسة بل أفضلها, وحدثت أبي, الذي تحمس وقال لأمي, نعم ليكن, فالآن لا نستحق مجانية تعليم, ولكن الأمر صعب, لن يقبلوا فتاة من مدرسة عربي, صمتت أمي برهة ثم قالت, مارجريت, نعم مارجريت ستجد حل.
سألت أمي مارجريت بخصوص هذا الأمر, فكانت سعيدة جدا بذلك, ومتحمسة, وقالت كنت أتمنى هذا منذ زمن بعيد.
اختارت مارجريت أفضل مدرسة انجليزية في مصر, وكانت بطبيعة الحال, تعرف مدير المدرسة, وكثير من المدرسين, فهم في معظمهم طلاب لها. كان المدير فقط متحفظ لأنني لم ادرس الانجليزية, فقالت مارجريت له, أنها أبنتي, تعلمت الانجليزية مني, فقال مدير المدرسة, هذا يكفي إذا, فابتسمت له وقالت لا بالطبع لا يكفي, ثم تحدثت إليه بالإنجليزية حديث طويل, ظهرت خلاله تمكني من اللغة, ثم أمسكت كتاب من رفوف المكتبة, وأعطته لي وقالت, ترجمي الصفحات العشر الأول من الكتاب, جلست في ركن من المكتبة, ظللت طويلا حتى وجدت التململ في وجه مدير المدرسة, وكذلك في وجه المدرسين الواقفين معه, ولكن مارجريت كانت تبتسم لي بثقة, لذا ظللت هادئة أقرأ الصفحات بهدوء ثم أمسكت القلم وترجمت الصفحات العشر في دقائق معدودة, لم يكد أحد منهم أن يرى يدي, ثم أعطيتهم الورقة بهدوء وثقة, وأنا ابتسم لمارجريت, التي نظرت لي نظرة رضا.
امسك المدير بالورقة, فنظر فيها عدة دقائق, ثم انفرجت أساريره, وقال, ممتازة, وأعطي الورقة لمدرس يقف بجواره, فنظر هذا المدرس لي, وقرأ على مهل, ثم ابتسم وقال, أكثر من ممتازة. نظرت مارجريت لي بابتسامة صافية, وقالت لمدير المدرسة, ياسمين هي مساعدتي في الترجمة من العربية للإنجليزية وبالعكس ويمكن أن تخضع ياسمين لأي اختبار حتى تتأكد أدارة المدرسة من تفوقها في المواد, وهي يمكنها, أن تخضع لكل الاختبارات باللغة الإنجليزية.
قبلت بالمدرسة, بشكل يليق بي, وكان الجميع يتحدث عن الفتاة الصغيرة التي تستطيع أن تترجم الكتب بشكل احترافي, ولم أكن حتى ذلك الوقت أعرف أن مارجريت تقصد ذلك, ليذاع أسمي كمترجمة رائعة فقد كانت تخطط, أن أكون خليفة لها في الترجمة, بل وفي كرسي التدريس الجامعي, فقد كنت أساعدها في الترجمة, وفي يوم من أسعد أيام حياتي, أعطتني كتاب من ترجمتها, وقد كتب عليه ترجم بواسطة مارجريت جون, وياسمين عبد الله , لم أصدق هذا, أمسكت الكتاب بيدي, وظللت أنظر فيه كثيرا, كنت سعيدة بشكل لا يمكنني وصفة, نظرت لها نظرة مليئة بالحب, واحتضنتها بشدة, وكذلك فعلت هي أيضا.
كان هذا الأمر هو بداية جديدة في حياتي, كنت قد كبرت وظهرت علي علامات الفتاة, وكان الجميع يصفني بالجمال والرقة وعذوبة الصوت, كنت اشترك في غالب الأنشطة في المدرسة, كان صوتي مميز, حين أقرأ شعر بالعربية أو الإنجليزية, كنت أشعر بما في روح الكاتب, ثم أتحدث بروحه, فكان الجميع يسعد بطريقتي في القرآة, كما يسعد الكثيرون بترجماتي.
لكن أبي لم يكن سعيدا بذلك, فقد كان يريد أن أدرس الهندسة مثله, وان أكمل طريقه, لذلك غضب من مثل هذا الأمر, وشعر أن مارجريت ستأخذني في طريق لا يريده هو, وقد دار حوار طويل بينه وبين مارجريت, وزوجها جورج من ناحية أخري, كان يحتدم أحيانا, ثم يهدأ أحيانا أخرى, ولكن ظل الحب والتقدير موجود بين الجميع, كنت أميل لأن أكون مثل مارجريت, ولكني كنت أحترم وجهة نظر أبي, أما أمي فكانت تريد أن أفعل ما أحب, ولم تستطيع أن تنسى ما فعلته مارجريت معي, فأصبحت أمي ترفع رأسها أمام الجيران والأصحاب. ولكنها حاولت بقدر الإمكان أن تقرب وجهات النظر, ولكن كل محاولاتها كانت تبوء بالفشل.
كنت أحب أبي ولا أريده أن يغضب, وكذلك كنت أحب مارجريت, وكنت أرى أن لكل طريق منهما مميزاته, وان كنت أميل كثيرا لأكون مثل مارجريت, وقد اقترحت أن أدرس الهندسة, وأن استمر اعمل بالترجمة, ولكن ما فاجئني إن كلا الطرفين رفض هذا الاقتراح, وقال أبي, الهندسة ستأخذ كل وقتك, لا أريدك مهندسة عادية, ولكن أن تكون الهندسة حياتك.
كذلك قالت مارجريت, تريدني متفرغة تماما للغة الإنجليزية.
لم استطيع أن احل المشكلة, رغم محاولاتي الكثيرة, حتى قالت أمي بهدوء, كلنا نحب ياسمين أليس كذلك؟.
رد الجميع نعم, ولكن أبي قال في شيء من الحدة, ولكنها بنتي.
ساد صمت فترة طويلة, ظهر الحزن على وجه مارجريت, فاحتضنها جورج, وكذلك فعلت أمي, وزرفت مارجريت دمعة حارة, ثم قالت, لو أعطاني الله مائة طفل لم أكن سأحبهم كما أحببت ياسمين. نظر أبي إلي الأرض في حياء ثم قال, لم أقصد ما بدر مني, بل انك تعرفين أنني أقدرك, وأقدر حبك لياسمين, ولكني كنت أحلم بها كمهندسة تحمل أسمي, وتكمل مشواري. أبتشمت مارجريت وقالت, وكذلك حلمت أنا أيضا لابنتي ياسمين, وهي أبنتي الوحيدة, أعدك أن تكون أشهر مترجمة في العالم كله فهي تملك المؤهلات لهذا, ولكن هل تضمن أنت أن تكون ياسمين أنجح مهندسة في العالم؟.
صمت أبي قليلا ثم قال, لا يعرف الغيب إلا الله.
قالت مارجريت, أنك صادق, ولكن أمامنا فتاة ناجحة بشكل ممتاز في عمل مرموق, لما عليها أن تترك هذا المجال, لمجال أخر, لو وجدت هي نفسها في الهندسة لوضح عليها كما حدث في إتقان اللغة الانجليزية والترجمة.
تدخلت أمي وقالت بهدوء مادمنا جميعا نحب ياسمين, ونحب لها الخير, إذا لنقترع على ذلك.
وجد هذا الأمر صدى كبير وكنا خمسة, ويكفي ثلاث أصوات لنجاح كل فريق, نظرت في عين الجميع, كانت مارجريت وزوجها سيصوتون طبعا لصالحهم, وكان أبي سيصوت لصالحه, كذلك كان ينتظر من أمي مثل هذا, وكنت أنا من سيحدد المصير, ولكنني نظرت في عيني أمي فعرفت أنها ستصوت لصالح مارجريت إرضاء لي, حينها خشيت من عواقب ذلك بين أبي وأمي, ولكني لم أكن على يقين, وقفت حائرة, ولكن خوفي على أمي جعلني أصوت لصالح أبي, وقلت في نفسي لعله خير, وليفعل الله الخير لي.
حبست أنفاسي, حتى كان التصويت ثلاثة أصوات لصالح مارجريت, وصوتان لصالح أبي, حمدت الله كثيرا, وحافظت على علاقة أبي وأمي, وأعطاني الله ما أريد.
ظل أبي صامتا قليلا ثم قال ليكون ما يريد الله, وكان سعيدا أن أمي صوتت لصالحه كما يظن, وغاضب مني بعض الشيء, لظنه أني صوت لمارجريت, لم يشغلني هذا الأمر كثيرا فقد كنت البنت المدللة لأبي, وأعرف كم يحبني, وعلي بذل الكثير من الجهد مع أبي حتى يرضى عنى.
أبي قال بحزن لمارجريت, ليكن يا مارجريت ولكن على وعد أن تبتعدي عن أبنائي الآخرين.
نظرت برهة للسماء فكأنها تخفي دمعة ثم قالت, لا يا باش مهندس لن أبتعد عنهم, وسأعلمهم اللغة الانجليزية بشكل ممتاز, ولكني أعدك أن أحببهم في الهندسة.
شعر أبي بالحرج, وقال لها, أعلم كم تحبي ياسمين ولكن.....
قالت مارجريت, كفي يا باش مهندس, وأنا أشكرك على أنك وافقت على ما أريد, وهذا فضل لن أنساه لك أبدا.
قال أبي, بل الفضل لك, لعل أن يكون هذا هو الخير لها.
كان هناك دمعات حائرة في عيون الجميع, لكل دمعة معاني مختلفة, ولكن الحب كان سائدا بين الجميع.
عندما كنت صغيرة, وكنت أتحدث الإنجليزية, بالطريقة الصحيحة, كان هناك زميل لي أسمه محمد حبيب, كان دائما يناصرني, وكان الأستاذ يضايقه كثيرا بسبب ذلك, كنت أنظر له, فأشعر بالرغم من أنه طفل صغير, ولكنني كنت أراه رجل بكل معني الكلمة, أنظر في وجه فأجد حزما غريب على طفل مثله, ووراء ذلك كانت نظرة حب أيضا غير عادية, لا أعرف كيف فهمتها, كنت أشعر أنه هو رجلي المناسب, بالرغم من أن الأستاذ كان يعاقبه بالضرب, ولكنني لم أشعر أبدا, أن المدرس كان ينتصر عليه, حتى يوم بكى من شدة الضرب, كنت أراه المنتصر أيضا, يكفي أنه استطاع أن يقف ضد الظلم والفساد, وكان المدرس يقف سعيدا بقمعه لمحمد , وربما أنتقم منه أكثر وأكثر, لأنه كان في النهاية يخشى من أبي, فكان يحاسبه مرتين مرة لنصرته للحق ومرة لأنه يريد أن ينتقم مني.
لم أكن أعرف إن كان ما بيننا هو الحب أو لا, ولكنني كنت أراه فتى أحلامي, وكنت احلم به لسنوات طويلة, خاصة حين تركت المدرسة, والحي, وانتقلت لحياتي الجديدة, ولكنني نسيته مع الوقت أو هكذا كنت أظن.
كنت حين التحقت بالجامعة الأمريكية, أدرس الأدب الإنجليزي قد أصبحت مترجمة حقيقية, كنت ترجمت روايتان, واحدة من العربية للإنجليزية, والأخرى من الإنجليزية للعربية, وبالطبع كنت استشير مارجريت, ولكن كتب أسمي وحدي علي الروايتين, ترجمة ياسمين عبد الله, كنت امسك الكتاب كثيرا سعيدة بما وصلت له, سعيدة بأسمى, ثم أسم أبي, ولكني كنت حزينة لأن أسم مارجريت ليس معي. وقد نقلت لها هذا الشعور, ولكنها قالت, كذلك كنت أنا أيضا أريد ذلك ولكن هذا أفضل لك يا حبيبتي. أبي أصبح سعيدا بهذا الأمر, وخاصة حين كان يقرأ أسمي وأسمه, وان كان يتمنى أيضا لو كتب اسمي على رسم هندسي, وعلى مشروع, ولكنه كان يسعد حين يقول له أحد أصحابه, عن نبوغي في الترجمة. أما أمي فكانت تبات كثيرا, وهي تمسك بواحد من الكتب التي عليها اسمي, تضعه في حضنها وتنام, وكانت سعيدة بما وصلت له من إجادة العربية والإنجليزية. تقرأ ترجمتي والنص الأصلي وتقول لي وهي سعيدة, كم أحببت ترجمتك, أنني أشعر انك تضيفي للنص معاني جديدة, وبالرغم من أن تلك الكلمة كانت تقلقني أحيانا, ولكنها كانت تقرأ وجهي فتطمئنني وتقول هذا شعوري وربما لأنك أبنتي, ولكنك حافظت على معني النص, لا تقلقي.
كنت أتحدث في الجامعة مع الجميل بلباقة كبيرة, وربما مع الأسف بغرور, ولكنني كنت أحب كل زملائي, وأحاول بقدر الإمكان أن أجعلهم يحبوني. ولكن النفس البشرية يختلط فيها النقائض. باختصار كنت محط أنظار الجميع, أعجب بي زميل كان يدرس الهندسة بالجامعة الأمريكية, حاول بشكل أو أخر جذب انتباهي, ولكنني تجاهلته, ظل لوقت طويل ولكنني لم ابدي أي اهتمام به, لست أعرف لماذا, ربما بسبب حبي أو إعجابي القديم بمحمد حبيب, وربما نوع من الغرور, بالرغم من أنه كان وسيما كما أنه متفوق, وكذلك ثري جدا. كان معظم الطالبات يتمنين أن يعرفوه, ولكنني لم أكن, كن يحسدونني على ذلك, لكنني لم أهتم لهذا الأمر. ظل يحاول لفترة طويلة لم ييأس, ولكنني أيضا لم أهتم به. ولكن إصراره, وما كان يبدو على وجه من الحب, والسعادة التي كانت تغمره حين يلتقي بي, ثم أنه كان يتصبب عرقا, فتح ذلك له قلبي شيئا فشيئا, حتى ظننت أنني أحبه, ولكنني لم أتغير كثيرا في الظاهر تجاه, ولكني لم أعد أستطيع أن أقاوم, أصبحت أتحدث معه بطريقة أفضل قليلا, ولكن بتحفظ. فوجئت به يذهب ليقابل أبي, فقال لي أبي وهو سعيد, إن هاني فهمي قد قابله, وأنه يريد أن يتقدم لخطبتك, وقفت مندهشة ومنزعجة, من جرأته ومن سعادة أبي. فقلت له بغضب, من هو هاني فهمي؟.
نظر لي أبي في تعجب وقال, هل لا تعرفيه؟ لقد قال أنه زميلك في الجامعة.
قلت له بفتور, آه نعم تذكرته, هو طالب في كلية الهندسة, وليس معي في الكلية, وليس بيني وبينه شيء.
قال أبي في جدية, بالطبع ليس بينك وبينه شيء, من كان يسمح لك بذلك,
قلت له, يا أبي ليس بيني وبينه أو غيره شيء.
قال أبي سعيدا منشيا أعرف ذلك, لذا أجده شخص مناسب, أنت على أعتاب إنهاء دراستك, فهو مهندس متفوق, وسيم, ثري, وليس هذا فقط بل والده المهندس فهمي حليم من كبار المقاولين في مصر والشرق الأوسط.
قلت لأبي, ماذا يعني ذلك؟.
قال أبي, يعني خيرا أن شاء الله, ولكن ليس الوقت مناسب لذلك, بعد الامتحانات سنرى.
كانت فترة عصيبة, تغير فيها وجهي وأصبح شاحبا, وكنت شاردة بشكل كبير, شعر أبي بذلك, وكان حلمه لي أن أصبح أستاذة جامعية, وكان هذا سيعوضه قليلا عن كوني لم أصبح مهندسة, لذا بادرني سريعا وقال لي لم أفرض عليك شيء, ولو لم تريديه, فلن أفرضه عليك, المهم الآن هو دراستك.
هذا الكلام جعلني أطمئن قليلا, ولكني مازلت قلقة, لقد عاودني ذكرى محمد حبيب لست أدري لماذا كدت أنساه, ولكنه الآن قد عاد بقوة, رغم أن ملامحه بالطبع قد تغيرت, ولكنني كنت على ثقة أنني سوف سأعرفه حين أراه, سألت نفسي, هل ما زال يذكرني؟, أم تراه قد نسيني, لا أظنه مازال يذكرني, بالطبع قد نسيني, لا أعلم لماذا أقنعت نفسي بذلك, ولكن نظرات الحب الصافية من عينيه لم تفارقني أبدا, كانت بالنسبة لي في هذه السن, نظرات طفل بريء لفتاة يحبها في مثل عمره, ولكنني الآن لست هذه الفتاة, وبالطبع ليس هو الآن هذا الفتى.
مرت فترة الاختبارات, وتفوقت كما كان يريد الجميع وينتظر, وربما يخاف, حتى مارجريت كانت قلقة, ولكنها لم تتحدث معي طوال الفترة الماضية, كانت ترى أن لا صوت يعلو فوق صوت المعركة. لكن الآن الأمور اختلفت, فقد ظهر عنصر جديد, والد هاني, المهندس فهمي حليم ظهر على الساحة, فقد جمع أبي به مشروع جديد, لست أدري إن كان صدفة أو مقصود, ولست أعرف من أي طرف.
دعي أبي عائلة هاني للإفطار في رمضان, حضر الجميع حتى مارجريت وزوجها جورج. كانت ليلة هادئة, بدت عائلة هاني, كعائلة محترمة مترابطة, كان والده هادئ مهذب ومتواضع, وكذلك كانت والدته السيدة ألفت كذلك, وكان هاني وحيدهما, بدا هاني وسيما وجميلا ليس هذا وحسب بل وأنيق, قال لي حين اختلى بي لحظة, كم أن سعيد أنني معك, نظر في المرآة ورائه وقال وهو يبتسم, أنني أرى وجهي جميلا, لأنه ينظر إليك.
نظرت له خلسة, فوجدته فعلا كما قال فتبسمت ونظرت للأرض.
قال لي وهو ينظر حوله, أنت لا تعرفي كم أحبك, وأقسم لك لأفعلن أي شيء لتكون سعيدة.
نظر لي ينتظر مني كلمة, ولكنني لم أستطيع, وشعرت بوخز في صدري, وظللت صامتة.
ظهر هذا في وجهه, حتى أختفي الكثير من جماله, وقال لي بهدوء, يا ياسمين, هل هناك شخص أخر في حياتك؟.
لم أجبه ونظرت له في غضب وتعجب, كأني أقوله له, كيف تقول ذلك, ليس هناك أخر. أو كأنما هو أراد أن يقرأ ذلك, فعاد له كثير من جماله ورونقه, وقال مادام كذلك, فسوف أفعل أي شيء لأجعلك سعيدة.
لست أعرف لما لم أقول شيء, ظللت صامتة لا أحرك ساكن. بينما استمر هو في الوعود.
قال أبي لي بعد عدة أيام, لقد تركتك تختارين مستقبلك كما تشاء, رغم أني لم أقتنع بما فعلت, ولكنني احترمت رغبتك, وأنا مستعد أن احترم رغبتك هذه المرة ولكن عليك أن تقنعيني, بدون إقناع تام, لن أرفض هذا العريس.
أوحى أبي لمارجريت عن طريق أمي, أنه عليها أن تقنعني بهذا العريس, ولكن مارجريت كان ما يهما فقط هو أنا وليس شيء أخر, فقالت له عن طريق أمي , لو لم تريده سأقف معها, هذه الكلمة أغضبت أبي, ولكنه كان ينتظر ذلك.
دار حوار بيني وبين مارجريت, قالت هي لي,
حبيبتي ياسمين, لقد كانت حفلة ممتازة, هاني وعائلته يبدو أنهم عائلة محترمة.
تنهدت وقلت لها, نعم يا مارجريت.
فقالت وهو تنظر في عيني, ما رأيك في المهندس هاني؟.
قلت لها وأنا انظر للأرض, إنسان محترم.
قالت, سمعت أنه تقدم لخطبتك.
قلت لها, لا ما زال لم يفعل بشكل رسمي.
قالت مارجريت, المهم أنهم يريدون ذلك, فما رأيك أنت؟. هذا هو ما يهمني.
قلت لها, لا أعرف يا مارجريت.
نظرت مارجريت لي مندهشة, كيف هذا؟.
قلت لا افهم حقيقة, هو إنسان ممتاز من كل اتجاه, ولكنني لا أحبه.
نظرت مارجريت لي, ثم قالت في حزم, ولكن بود, هل هناك شخص أخر؟.
قلت لها, لا أعرف؟.
تبسمت مارجريت وقالت, كيف هذا إذا؟.
تبسمت أنا أيضا وقلت لها هي قصة طويلة وغريبة.
قالت لي في دهشة وحزن, هل تخفي عني شيء؟.
قلت لها, لا ليس الأمر كما تظني, أتذكري حين كنت تعلميني اللغة الإنجليزية بطريقة صحيحة, وكان المدرس والطلاب يسّخرون مني.
قالت مارجريت, نعم أذكر, كم مر من وقت؟. كان شيء مضحك.
قلت لها وأنا ابتسم, نعم, كان هناك طالب واحد اسمه محمد حبيب, كان يقف معي, وقد تعرض للعقاب أكثر من مرة بسببي, وكانت نظراته مملوءة بالحب, وكنت أشعر أنه رجل, رجل حقيقي, ومحب حقيقي لي.
تنهدت مارجريت وقالت, كم هو طفل جميل, ولكن ماذا كنت تشعرين تجاه.
نظرت للأرض, وقلت, لا أعرف بالضبط.
قالت مارجريت وهى تهز رأسها بمعني فهمت , وأين هو الآن؟.
قلت لها, لا أعرف عنه شيء منذ وقت طويل, حتى صورته أصبحت مهزوزة في ذاكرتي. كنت أذكره لفترة من الوقت ثم كدت أنساه, لا أذكره إلا قليلا. كنت أذكره خاصة حين أشعر أنني بحاجة لرجل يقف بجواري, وفي أي موقف صعب, كانت صورته تأتي أولا حتى قبل أبي.
قالت لي, لماذا تذكرتيه الآن؟.
قلت لها, منذ حاول هاني التقرب مني, تذكرته فجاءه, كأني سأفعل شيء خطأ, كأني سأخون حبيبي.
تنهدت مارجريت مع ابتسامة وقالت, ألا تعرفي عنه شيء الآن؟.
قلت لها, ولا أي شيء, المشكلة الحقيقية, هل هو يذكرني كما أذكره؟.
ظلت مارجريت صامتة لفترة طويلة, فقلت لها مباشرة, ماذا تظني؟.
قالت بعد تمهل, وكأنها تحاول ألا تقول الحقيقة بشكل واضح, إنني أظن أنه ربما مازال يتذكرك, ثم صمت برهة وقالت, يا حبيبتي, حقيقة, أنني أعتقد بشكل كبير انه مازال يحبك, فمن يحبك بهذا الشكل ليس من السهل أن ينسي, ثم صمتت برهة وقالت, ولكن ربما كان انشغل بحب أخر, ولكن يجب أن نستجلي الحقيقة.
قلت لها في تعجب, هل علي أن أبحث عنه؟.
قالت لي مارجريت, نعم, حتى لا تندمي فيما بعد.
قلت لها, كان عليه هو أن يبحث عني.
قالت مارجريت, ربما يحاول هو أيضا, ولعل البحث من الطرفين يجدي الآن.
كان للقدر تدخل, فقد قابلتني صديقه لي منذ الطفولة مصادفة,كنت مازلت اذكرها, كان اسمها رانيا فجلسنا في نادي على النيل, وتحدثنا كثيرا, عن الطفولة وعن المدرسة, كدت أسألها عن محمد حبيب, لولا أنها قالت,
وهي تظهر أصابع يدها اليمني لتريني خاتم خطوبة, بينما تنظر ليدي لترى, إن كان هناك خاتم في يدي أو لا,
هل تعلمي, لقد خطبت منذ عدة أشهر, هل تعلمي لمن؟, لابد أنك مازلت تذكريه, فهو كان معنا في المدرسة.
انقبض قلبي كأني انتظر أن تقول محمد حبيب, وقد لاحظت هي تغيري, فبدا التعجب في وجهها, فقالت, محمد عبد ربه, هل تذكريه. انه الطفل الذي كان مملوء لحد كبير, ويأكل كثيرا ودائما, ولكنه تغير الآن, أصبح مدرس, وكان زميلي في الجامعة, التقينا صدفة, وقعنا في الحب سريعا,........
كانت مستمرة في حديثها, بينما ارتحت أنا قليلا, وتنهدت مع ابتسامة لها. ولكنني مازال قلبي مشغولا, انتظرت أن تقول شيئا عن باقي زملاء المدرسة ولكن دون جدوى, فاضطررت أن اسألها, هل مازلت على صلة بأي من زملاء المدرس؟.
قالت رانيا بعض الزميلات نعم, مثل مريم, رهام, وجيهان, ومها ولكنها علاقة متقطعة, ولكنني دعوتهم جميعا, لحضور الحنة, يوم الأربعاء القادم, ثم حفل الزفاف يوم الخميس, وبالطبع ستحضرين, وبالتأكيد سيكون كل الزملاء والزميلات سيكونون موجودون, فلا تنسي أن خطيبي كان زميل لنا.
كنت سعيدة بهذه الدعوة, وانتظرت يوم الأربعاء, وذهبت للحنة, وبالطبع كانت مليئة بالفتيات, ولكن لن يكون هناك شباب, كانت الحنة تقريبا تدور عني, فقد كادوا ينسونني, كما كنت أيضا, فهم كان بينهم بعض الصلات كالقرابة, أو الجيرة, أما أنا فلا, كنت أشعر بينهم في البداية بالغربة, ولكن مع تذكر أيام الدراسة, شعرت ببعض الراحة. حاولت أن أجرهم تجاه ما أريد, فقلت وأنا ابتسم, هل تذكرن, الأستاذ عبد السميع مدرس الإنجليزية, الذي كان يهاجمني بسبب طريقة نطقي للإنجليزية, انتظرت منهم جواب , لكنهم كأنهم نسوا الأمر إلا واحدة, منهن, وهي مها التي قالت وهي تنظر لي بخبث, لا اذكر من هذا الأمر, إلا هذا الفتي الذي كان يدافع عنك, فيتعرض للعقاب.
كنت كمن رد له الروح فجاءه, فتبسمت وقلت نعم, كنت أرق لحاله, وأقول له أن يكف عن ذلك ولكنه لم يكن يفعل.
ضحكت مها وقالت, يبدو ربما أنه كان يحبك, هل تذكرين أسمه؟.
تظاهرت أني أعسر ذهني في محاولة للتذكر, ثم قلت أظنه محمد... نعم... محمد, كان أسمه مميزا, نعم ....تذكرت محمد حبيب.
تبسمت مها, وقالت نعم, هل تعرفي عنه شيء الآن؟.
قلت لها وقلبي يكاد ينخلع, بالطبع لا.
قالت مها, لجيهان, هل تذكري محمد حبيب؟.
تبسمت جيهان وهي تنظر لي وقالت, نعم, حبيب ياسمين.
نظرت للأرض خجلا, بينما هي قالت, لا أعرف عنه شيء الآن, يا ياسمين, من يدري ماذا فعلت الأيام به؟.
عندما عرفت أن الجميع يعرف قصتي ذهب الخجل قليلا قليلا, فقلت لها, أنني كنت أعرف منزله, كان قريبا من منزلي, فهل مازال فيه؟.
قالت رهام, لا أظنه, فقد علمت أنه سافر مع والده خارج مصر, ولكنني لم أعرف شيء عنه بعد ذلك, هناك من قال أنهم اشتروا بيتا جديدا في مصر الجديدة, ومنهم من يقول العكس, اشتروا أرضا في عين شمس. ولكن ما هو مؤكد, أنه لم يعد يسكن هنا.
دارت بي الأرض, وشعرت بالحزن الممزوج باليأس, ولكنني قلت لنفسي, لعله يكون موجود في الغد.
لبست أفضل ثياب لي, ووضعت أدوات زينة مناسبة, وذهبت للحفل, يملئني الأمل, والخوف. كنت أتلفت كثيرا حولي, لعلي ألمحه, كنت أنظر في شاشات التلفيزيون لعله يكون موجود, كانت قاعة الفرح, كأنها أكبر من الأرض, ابحث فيها على غير هدى. كنت أقف مع مها, كلانا ينظر في كل اتجاه بحثا عنه, كان لدينا أحساس كبير أنه سيأتي, كانت تمسك بيدي, تحاول طمأنتي ولكن دون جدوى, كانت تؤكد لي أنه سيأتي. مر الحفل, ولم استطيع أن أراه, أو حتى أعرف شيء عنه, وحاولت بعد ذلك عدة محاولات, ولكنها كلها بآت بالفشل. بذلت مها كذلك مجهودا جبارا تشكر عليه ولكن دون جدوى.
قالت لي مارجريت, الآن يا ياسمين يجب أن تفكري بشكل مختلف وعقلاني, أنتهي هنا دور القلب يا عزيزتي, لا أقول لك هذا لتقبلي بهاني, ولكن لتعملي عقلك في أي قرار تفكري فيه.
قلت لها, يا مارجريت, ما بيني وبين محمد لا أجد له مسمى حقيقي, هو شيء مختلف عن الحب, أو ربما هو نوع خاص للحب, كنت أراه ظهري الذي يحميني. ربما مثل أب, أو أخ, أو ربما صديق, لم أفكر فيه كزوج, ولا في غيره. إلا أن له مكانه خاصة في قلبي, حتى لو قدر لي الزواج بغيره, فلن يتغير ما في قلبي تجاهه.
قالت مارجريت, يا ياسمين للحب, معاني وأسماء لا منتهى لها, وليس هناك حب مثل حب, ولكنهم في النهاية, يرون من نفس النهر, ويصبون في نفس النهر.
ظللت صامتة ثم قلت لها, ما هو رأيتك لما نحن فيه؟.
قالت لي, أقول لك يا ياسمين, وبخبرة الأيام, الحياة هي دار واحدة لنا, لا ننال منها الكثير مما نريد, الصعوبات في الحياة كثيرة, ولا أحد يعلم الغيب إلا الله, ولكن ما أمامنا الآن, علينا أن نفكر في المستقبل بعقلانية. فكري جيدا إن كنت تريدي أن تتزوجي أو لا؟, وان كنت تريدي أن تتزوجي من هاني أو لا؟. عليك أن تنظري لحياتك اليوم وبعد عشر سنوات وما هو أبعد من ذلك. لابد أن يكون لك رفيق في هذه الحياة, لأنه من الصعب أن تكملي حياتك بمفردك.
أخذني التفكير للصمت فترة طويلة, ثم قلت لها, لابد من التفكير العميق.
كان التفكير يقلقني لفترة طويلة, وأصبح علامات القلق, والتفكير واضحة علي, فتغير وجهي, حتى يكاد كل من يراني يظنني مريضة, حتى أشفق علي الجميع ومعهم أبي, الذي كان أكثرهم اضطرابا, فقال لي مرة, يا بنتي, إنني لن افرض عليك شيء أبدا, وما أريد لك إلا الخير. أنسي الأمر برمته إن كان هذا يريحك.
كنت اعلم أن هذا الكلام من وراء قلبه, هو يتمنى أن أتزوج هاني فهو يراه شاب ممتاز, بالإضافة لأنه ثري ومهندس, وربما هذه أهم نقطة.
لا اعرف ماذا حدث بعد ذلك بالضبط, دعانا والد هاني لزيارتهم, ولبينا الدعوة جميعا, بدا لي هاني مختلف, ربما لأنه أصبح يعمل مع أبيه بشكل رسمي, وأن والده جعله يعمل في المواقع مباشرة, ورفض أن يعمل من مكتب, رغم أنه كان متخصص في الديكور, وليس إنشاءات, ولكن عمله هذا جعلني أشعر أنه أصبح أكثر نضوجا, بل أيضا أكثر رجولة, لم أعد أراه هذا الشاب الثري المدلل, ربما هذا هو ما فتح له في نفسي شق صغير, لست أدري ربما رأيت فيه بعض رجولة وشهامة محمد حبيب, ولكن إن يكن فهو جزء صغير. لم يعد يتحدث عن الحب كما كان أصبح عملي أكثر, وهذا شيء أحبه في من سيكون شريك حياتي, وليس معني هذا ألا يكون رومانسيا, ولكن أن يكون مزيج من هذا وذاك.
تعددت اللقاءات, مرات يكون فيها كما كان مدلل يتحدث عن الحب بطريقة ساذجة وتري هذا الحب بوضوح في عينيه وكل جسده, ومرات يكون جدي جدا, ويبدو في عينيه صرامة, وجزم, ولكن تختفي من عينيه كل معالم الحب. لم يستطيع أن يمزج الرجولة بالحب, كما كان يفعل محمد حبيب, أنها معادلة صعبة, ليس من السهل حلها.
كنت اشعر أنه أقرب إلي حين يكون جادا, وكان يتحدث عن المستقبل, كيف ستنمو شركات والده, لتصبح الأكبر عالميا, كان طموحه يعطيه, هيبة وقوة تجعلني أشعر بجواره بالطمأنينة.
ظللننا لعدة أشهر على ذلك, حتى قابلني ذات يوم, في أحد النوادي, فقال لي, بوجه فيه الحب والرجولة لأول مرة, أريد أن أتزوجك, كأنه وجه أصبح وجه الفتى محمد حبيب الذي يمتزج في عيونه كل معاني الرجولة والحب.
لست ادري لماذا تبسمت له, ونظرت للأرض وأحمر وجهي خجلا, وقلت ليكن, فقال لي وهو يبتسم, غدا سأزوركم مع أهلي.