عندما علم هاني أنني سأتزوج من محمد, جن جنونه وهدد بأمور كثيرة, كان أهمها أنه سيضم فرحة لحضانته, على الرغم من الاتفاق بأن تبقى فرحة معي, سبب لي هذا الأمر انزعاج كبير, وحاول محمد أن يطمئني, فقال لي, لا تقلقي لن يحدث إلا الخير إن شاء الله, ثقي في الله واهدئي, ولا تعكري صفو مزاجك بأفكار سيئة, وهاني رجل طيب محترم, وهو في النهاية والد فرحة, لن يؤذيها أبدا, وسيختار في النهاية مصلحة أبنته, عليك أن تفهمي ذلك جيدا وأن تتفهمي مشاعر الناس ولا تغضبي منها.
قلت له, أنا لا اطمئن لهاني بالرغم مما قلته عنه, وهو حقيقي ولكنه تغير في الفترة الأخيرة كثيرة, ولم يعد العقل هو من يسيطر عليه, بل الهوى.
قال محمد, لا تقلقي ولكن عليك ألا تتدخلي حتى أطلب منك ذلك, مهما حدث, وأن تبدي عدم الاهتمام بالأمر, وبأذن الله ستكون فرحة معك.
كنت أثق في قدرة محمد على تسوية مثل هذه الأمور, لذا كنت هادئة بعض الشيء, حتى حضرت لقاء مع هاني, الذي بدا غاضبا, والكراهية والغيرة تسيطر عليه, حاولت أن التزم الصمت والهدوء قدر المستطاع.
تكلم هاني وقال, أنني سآخذ أبنتي بأي طريقة, ولن أسمح لرجل غيري أن يربيها وخاصة محمد.
نظرت لمحمد فوجدته هادئ, فقال لهاني, أما أنا فلو كان لي ابن لجعلتك تربيه ليكون رجل أعمال ومهندس ناجح مثلك.
شعر هاني ببعض الخجل و بدا عليه بعض الهدوء والارتياح ولكن معالم الغضب ظهرت عليه مرة أخرى, وعاد غاضبا وقال, ولكن لن أجعلك تربي أبنتي.
قال محمد بهدوء, ماذا تريد بالضبط يا سيد هاني؟.
قال هاني في حدة, أريد أبنتي.
قال محمد, وهل أخذها أحد منك, فهي كما اتفقنا تسكن مع أمها, وأنت تأخذها وقتما تشاء.
نظر محمد في غيظ وقال, دعك من كلام المحامين,أريد أبنتي معي.
قال محمد, لقد اتفقنا يا.....
قاطعه هاني, دعك من هذا الاتفاق, لم أكن أظن أن ياسمين يمكن أن تتزوج رجل غيري, ثم نظر لي وقال, لقد كان بيننا حبا كبيرا.
نظرت لمحمد فلم أجد أثر لكلام هاني عليه, ورغم أنني اعرف نية هاني لم أستطيع أن أرد عليه, حاولت جاهدة ولكني لم أستطيع, كأنما قد خيط فمي, بينما قال محمد, أنني اعلم عنك رجوعك للحق, وحسن خلقك, كما أنك ستراعي مصلحة أبنتك كما فعلت من قبل ومن مصلحة أبنتك أن تعيش مع أمها.
تبسم هاني في غيظ وقال, وهل مصلحتها أن تتربى مع زوج أمها؟.
قال محمد, يعلم الله أنني أحب فرحة حبا كبير وأنت تعلم ذلك, والحب هذا من عند الله ولا فضل لأحد فيه, وأعدك أن أعاملها كما تحب.
قال هاني, وهل لو رزقك الله, بأولاد فهل سيظل حبك لها كما هو.
قال محمد مؤكدا, بالتأكيد بل سيزداد, من قال أن حبي لشخص يقلل من حبي للأخر, هذا كلام ساذج.
قال هاني في تحد واضح, سآخذ أبنتي بكل الطرق.
تبسم محمد في هدوء, وقال له هي أبنتك, ولن يستطيع أحد أن يأخذها منك, ولكنني أقول بصراحة أن من الأفضل أن يظل الوضع كما هو.
شعرت أن محمد ربما لا يريد فرحة فعلا معنا, لذا يعرضها على هاني بلباقة, لست أعرف لما انتابني هذا الشعور, وشعرت ببعض الضجر, ولكنني لزمت الصمت, ورفض هاني كل المحاولات, وأصر على موقفه.
كنت في حيرة وحزن, فقد أصبح حبيبي إلى جواري, وكدت أرتبط به, ولكن هل يجب أن افقد حبيب لأنال حبيب, كم هي قاصية الحياة, احتضنت أبنتي, خوفا من فقدانها, وقلت في نفسي, لما كان هذا الزواج من البداية؟, لقد كان تجربة صعبة وقاسية عانيت فيها كثيرا, لقد عشت فيها مع رجل لم أقدر أن أحبه, الله وحده يعلم ما صعوبة أن تعيش مع من لا تحب تحت سقف واحد وفي فراش واحد وبينهما ما بين الأزواج, لقد كان سلوتي الوحيدة هي فرحة وهي سبب تقبلي لكل ما حدث , وها هي الآن قد تضيع مني, يا رب لم أقحمتني في كل هذا, كانت حياة هادئة بسيطة مع من أحب أفضل بكثير مما أنا فيه, حياة مع محمد منذ الصغر وتكون فرحة هي أبنتي منه, ونبني حياتنا سويا نتعب ونكافح من أجل حياتنا وأبناءنا. لم تكن هذه الزيجة ذات قيمة, ولم أفهم الهدف منها, حتى فرحة, لابد أن أفقدها, لأتزوج محمد.
فكرت كثيرا بأن اطلب من محمد أن لا يفكر في أمر الزواج, وأن أغلق باب قلبي على ما هو فيه, وأتفرغ لابنتي فقط, رغم أن الأمر صعب, ولكن ليس هناك خيار أخر, خاصة أن محمد ربما لا يريد فرحة معنا, وهو أمر لا ألومه عليه, فأنا نفسي لم أكن سأقبل بسهولة لو كان الأمر معكوسا, قلت يا رب, لقد وضعتني في اختبار صعب, لا أشعر أنني استطيع تحمل هذا. وأخشى ما أخشاه أن لا انجح في هذا الاختبار, أنه أكثر من قدرتي, قلت وقتها ربنا لا تحملنا ما لا طاقة لنا, وكنت بعد تفكير عميق ومستمر قد قررت, أن أحافظ على أبنتي, وأن أخسر محمد, رغم أن قلبي كان يتقطع.
حين التقيت محمد وقلت له ذلك, بدا منزعجا قليلا, وقال هل علي أن أخسرك دائما, لا والله لن يحدث ذلك, وان كان قد رضا ذلك لحكمة, فأنني على يقين أن هذا لن يحدث هذه المرة.
قلت له, من أين لك بكل هذه الثقة؟.
قال محمد, من الله.
قلت له ولكن الله قد جعلني أتزوج من هاني, فما الفرق الآن؟.
قال محمد بثقة كبيرة, لأنني أثق في ذلك, في المرة السابقة لم يكن عندي مثل هذه الثقة, وقلب الإنسان دائما لا يخدعه. عندي ثقة كبيرة في الله انه سيرضي قلبي ويعطيه ما يتمنى.
قلت له, ولكنني لن أترك أبنتي أبدا.
قال محمد, ومن قال أنك ستتركينها؟.
قلت له, رغم ترددي, إنني أشعر أنك لا تريد أبنتي معنا, نظرت في عينيه فوجدتها لم تتغير, قلت له محاولة استدراك الأمر, إنني افهم أن الأمر صعب, ولو كنت مكانك ربما لن أوافق.
قال محمد, لا والله يا ياسمين, أنني أحبها حبين, حب لأنها أبنتك, وحب أخر ليس له سبب هو أكبر من الأول. والله لن يسوءنا الله أبدا, وسيجمع ثلاثتنا معا ولا تقلقي فالكلمة الطيبة تفتح أبواب لا يعلمها إلا هو, وأنا واثق من ذلك تماما, مهما طال الوقت.
سعدت بما قال وثقته الكبيرة, ولكنني لم أكن أريد أن يطول الوقت فلم أعد استطيع العيش بعيدا عنه, كنت أدعو الله ليلا ونهارا أن ينجز وعده ويجمعنا سريعا.
بعد مفاوضات طويلة مع هاني, وبالين الشديد وافق هاني على ما كنا عليه, أن تكون فرحة معي, وأن يطلبها وقتما يشاء لتكون معه, أصر أن يكتب محمد تعهدا أنه في حالة شعر هاني بعدم الاهتمام بفرحة أو أن فرحة حزينة, يكون من حقه ودون إنذار ودون اللجوء للقضاء أن يضمها لحضانته, لقد وقع محمد هذا التعهد, وطلب مني مثل ذلك, كنت مترددة بشكل كبير, ولكنه نظر لي نظرة ثقة, وأومأ لي بالتوقيع, لست أعرف لماذا صدقته بهذا الشكل ووقعت. كنت أتعجب من طول هذه المناقشات ثم العودة لما كنا عليه, لست أعرف معنى لذلك غير العند وربما الكراهية.
قال لي محمد بعد ذلك لما شعر بأنني أخاف من هذا الإقرار,
انه أمر تافه هو فقط لحفظ ماء وجه هاني, ولا تعني شيء, وثقي في ذلك, ستنعم فرحة معنا بالسعادة بأذن الله.
عشت مع محمد حياة جديدة, أحببتها وشعرت بالسعادة فيها, عشت معه حياة الزوجين الشابين الذين يحبون بعضهم بعضا, ويكافحون سويا لتحسين مستواهم المعيشي, فبرغم من أنني عشت معظم حياتي مع والدي في ترف كبير, باستثناء فترة قصيرة وأنا صغيرة, ولكنني كنت أحب أن أعيش حياة الكفاح, كم تمنيتها وكم قرأت عنها, وخاصة مع من تحب, لم يكن محمد أيضا فقيرا, ولكنه كان من الطبقة المتوسطة, وفي منتصفها, فلا هو غني ولا فقير, لذلك بدأنا حياتنا في شقة تمليك متوسطة الحجم, استلمناها نصف تشطيب, وأخذنا نرسم ونحلم بتصميمها الداخلي, سوف نهدم هذا الحائط, سيكون المطبخ على الطراز الأمريكي مفتوح في الاستقبال, وسنوسع الاستقبال بإدخال هذه الغرفة فيه, ثم نعود في كل ذلك ونفكر من جديد, ظللننا عدة أشهر نفكر في هذا التصميم, شعرت أنني شابة صغيرة في الجامعة قد خطبت لحبيبها وتعيش معه أجمل أيام حياتها, وقد ترك هذا اثر علي, فقد عاد إلي كثيرا من تألقي وجمالي, وعاد جسدي ممشوقا كما كان, ولكن أهم شيء هو عيني التي عادت لها الروح وسكنت فيها, فأضفى هذا عليها جمالا لا يوصف, كنت أنظر لنفسي في المرآة وأنا معه فأجد عيني في غاية الجمال وتلمع لمعة جميلة عدت أحب نفسي كما كنت من قبل, فزاد ذلك من حبي لمحمد وتعلقي به, كنت أحمد الله على ذلك, وتناسيت تماما كل الألم الماضي, وعشت اللحظة بلحظتها في غاية السعادة.
بعدما استقر رأيّ أنا ومحمد على تصميم للشقة, بدأنا فكر في الأثاث, وموضع كل قطعة فيه, هنا الصالون وهنا الأنتريه أما ها هنا فستكون السفرة, المكان ضيق قليلا ولكنه سيتسع, ربما سنضع كرسيان ها هنا, وكنت سعيدة وكذلك محمد, كان يملئنا السعادة والرضا.
كان يثقلنا أقساط الشقة, التي ندفعها كل ثلاثة أشهر, نتكاتف معا حتى نجمعها, كانت فترة عصيبة نشعر بالتوتر كلما اقترب موعد القسط حتى إذا ما دفعناه تشهدنا ثم بعد قليل نفكر في القسط الجديد, وهكذا حتى انهينا كل الأقساط كنا كمن خرج من صيام طويل, يشعر بالتعب والإنهاك, وكنا في أثناء ذلك نقول أننا لن ندخل في أي أقساط جديدة, ولكننا وجدنا أنفسنا بعد قليل ندخل في أقساط شقة أكبر دوبلكس, ثم تعاهدنا ألا ننهك أنفسنا بمثل هذا الأمر مرة أخرى, ولكن ما حدث كان أغرب, إذ أقحمنا أنفسنا في فيلا جديدة في التجمع الخامس, أثقلتنا أكثر مما مضى, ولست أعرف حين أنهي هذه الأقساط سوف نشتري شيء ما أم لا, ولكن في الحقيقة في كل مرة كنت أشعر بسعادة أكبر, لأننا كلما انتقلنا لبيت جديد, كان الرزق يزداد بالمعاني المختلفة لكلمة الرزق.
كان محمد لا ينسى حق الله أبدا, فكان يخرج الزكاة, ثم يتصدق, حتى في أحلك المواقف. كان عنده عادة جميلة, قد اعتاد عليها منذ صغره, كان في شهر الصيام, يخرج كل يوم من مصروفه الخاص, إفطار صائم, كان يقول ربما لا يقبل الله مني ولكنه لابد سيقبل الأخر. فلما تخرج وأصبح يملك دخلا, كان يطعم اثنان كل يوم ثم ثلاثة, وأكثر كلما فتح الله عليه, وصلنا في فترة فيما بعد أن أصبحنا نقيم مائدة إفطار كبيرة كل عام.
بعد الزواج كنت سعيدة, لم يكن ينقصني شيء, فقد حظيت بالحب أخيرا ومعي أبنتي فرحة قرة عيني, بعد خلافات طويلة مع هاني, ولكن بقى شيء واحد أن يرزقني الله بالولد من محمد, كان بداخلي أسباب كثيرة, منها أنني أحب محمد وأتمنى أن يكون لي منه ولد, كما أنني أريد أن أكمل سعادته بولد من صلبه, ولكن للأسف لم يكن ذلك كل شيء في هذا الوقت, بل كان هناك سبب أخر, أو بالأحرى سببان, الأول أن أثبت لهاني وأهله ولأهلي أيضا أنني يمكني أن أنجب وبدون علاج, الأخر أن أثبت لنفسي أنني سليمة يمكن أن أنجب وأيضا أنني مازلت صغيرة, وكانت هذه نقطة هامة بالنسبة لي بعدما خضت من تجارب صعبة أثرت على ثقتي ورضائي عن نفسي.
كان محمد لا يبدي أي اهتمام بهذا الأمر, وكنت أتفهم أنه ربما يتظاهر بذلك حتى لا يجرح مشاعري, وكنت أتحدث أحيانا عن هذا الأمر معه, فأجده يتحدث برضا كامل عما نحن فيه, ولا يشغله أمر الإنجاب, فقلت له,
ألا تحب أن يكون لك ولد؟.
تبسم وقال,
ومن تكون فرحة إذا, يا حبيبتي.
تبسمت له وقلت,
فرحة هي قرة عيوننا ولكن ألا تحب أن يكون لك ولد من صلبك؟.
قال لي محمد,
الأولاد بالذات هي فضل وهدية من الله, إن أعطاه لأحد فهو هبه, ليس لنا فيه فضل ولا حق, وبالرغم من أنه جزء من الرزق إلا أنه منة يعطيه الله من يشاء ويمنعه ممن نشاء.
قلت له,
ولكنني أحب أن يكون لي ولد منك.
قال محمد,
وأنا أيضا أتمنى ذلك, ولكن لما تريدي مني ولد؟.
قلت له لأنني أحبك, وأتمنى أن يكون لي ولد منك, يشبهك كثيرا, اعلمه أفضل تعليم, ليكون مفيد للمجتمع وللناس عامة.
تبسم لي وقال, لو صدقت مع الله, لوهبك الله الوهاب, ولمن عليك المنان, ولكن يجب أن تصدق النية تماما, وأن تخلو من كل شيء غير هذا.
قلت له, وهل تشعر أن في داخلي شيء غير هذا؟.
قال لي محمد وهو يحتضنني, في كل واحد منا تدور أفكار متضاربة من الخير والشر, حتى ينتصر فريق, ولكن يظل الأخر موجود ومن الممكن أن يظهر في وقت ما, وهذا انتصار جزئي. أما الانتصار الحقيقي هو أن يسود الخير فيملئ كل شيء ويتبدل الشر خيرا, حينها يكون الانتصار الحقيقي.
سعدت بما قال وقلت له,
ولكن من الممكن أن يسود الشر, ويتحول كل الخير إلى الشر.
قال لي, نعم وهذا يحدث كثيرا, ولكنني لا اسميه نصر, فالنصر هو للخير على الشر وليس العكس. ولن يمن الله علينا بفضله, إلا لو تخلصنا من كل شر قد يمتزج مع الخير.
كنت أناقش هذا الأمر مع نفسي كثيرا, لأعرف هل من الممكن أن يحدث ذلك؟. هل علي ألا أتمنى الولد إلا حبا في زوجي مثلا؟. أو يكون شاب صالح مفيد للناس؟. هل يجب أن أنسى أن أنجب لأثبت لهاني والجميع أن أقدر على الإنجاب وأن هاني لا يقدر؟. ظللت أفكر في هذا الأمر طويلا, هل أستطيع أن افعل ذلك؟. لم يكن الأمر سهلا علي, ولكنني كنت أحاول.
كلما مضى وقت أطول مع محمد كنت أرى نفسي تصفو أكثر وأكثر, ويضمحل الشر والكراهية في قلبي أكثر وأكثر, فمحمد كان يتمتع بهدوء نفسي لا يتزعزع أو ينزعج مهما أصابه من ملمات ومشكلات, يواجهها دائما بهدوء نفسي, فهو يقول دائما أنه لن يحدث شر أبدا ولن تكون إلا مشيئة الله ومشيئته كلها خير, كنت أحاول أن أكون مثله, ولكنني لم استطيع رغم محاولاتي المستمرة, ودعائي الدائم, في يوم وبعد جهاد نفسي طويل, وجدتني أقول لنفسي, يا رب لقد سامحت هاني وأهله على كل ما فعل بي. شعرت بعدها براحة كبيرة كأن صخرة كبيرة قد رفعت عن صدري. استمتعت بهذا الإحساس الجديد القلب الخالي من الكراهية, ولو مؤقتا.
كانت فرحة تزور والدها وقتما يريد ووقتما تريد, كان محمد يحزن حين تذهب فرحة لزيارة والدها, وعرفت حقا كيف يحبها, وكنت أسأل لو أن الأمر معكوسا, هل كنت سأحب ابنة محمد كما يحب محمد أبنتي؟. كنت أعرف كم يحبني محمد, وكم يحب فرحة محبة لي, ولكنني كنت أشعر بالتقصير في حب محمد, فبالرغم من أنني أحبه جدا, إلا أنني أشعر أن حبي له يتضاءل أمام حبه لي, كم هو عظيم محمد.
من خلال زيارة فرحة لوالدها, عرفت أن هاني سيتزوج السكرتيرة بشرى. لا أعرف لماذا شعرت ببعض الغضب بالرغم من أنني لم أكن أحب هاني, وسعادتي بالبعد عنه وبالرغم من حبي لمحمد, وسعادتي في هذه الحياة الجديدة, ولكنني شعرت بالغضب, لقد فهمت غضب هاني حين علم بأنني سأتزوج وما اصطنع من مشاكل معي حول فرحة, لقد التمست له العذر في ذلك, وأزال ذلك من قلبي كثير من المشاعر السيئة تجاه, وبدلها بمشاعر طيبة.
تزوج هاني وظل هو أيضا دون أنجاب رغم محاولاته الكثيرة, لقد كان ينفق الكثير ولكنه لم يوفق, وكان رأي الأطباء كما كانوا يقولون لنا, ليس هناك مشاكل تمنع حدوث الحمل ولكن هذه إرادة الله, ساءت حالة هاني النفسية أكثر وأكثر, وأصبحت فرحة تعود من عنده حزينة, فهو لم يعد يلعب معها, كما كان يفعل وخاصة بعد زواجه مباشرة, فقد كان يغمرها بمزيد من مشاعر الحب, أما الآن فقد أصبح يهملها, وكانت بشرى تحاول أن تلاعب فرحة وتسليها, ولكن فرحة كانت حزينة, وبقيت فترة لا تذهب لزيارة والدها, وكان لي ولمحمد دور كبير في تجاوز هذه الأزمة, لقد كان دور محمد عظيم, احترمه الجميع أكثر وأكثر بسبب ذلك, ولكن فرحة لم تعد فرحة كما كانت.
علمت أنا ومحمد بأن هاني يرغب في طلاق بشرى, كان محمد حزين لذلك, كان يقول إن هاني يخطئ في حق نفسه, لن يكون له إلا ما أراده الله, وسمعته يدعو له, كان يقول, اللهم رد لهاني عقله وقلبه, وارزقه ولدا صالحا.
كنت أتعجب من أن يدعو لغيره, بينما لم أسمعه يدعو لنفسه بالذرية الصالحة, كنت أقول في نفسي, لعله يدعو من دون أن أعرف, أو لعله يدعو لهاني, بظاهر الغيب, ليرد ملاك له, بأن لك مثله, فيكون بذلك قد ضمن أن يستجاب دعاءه, ولكنني لم أعرف الحقيقة في تلك الفترة, ولكنني عرفت فيما بعد.
من كثرة دعاء محمد لهاني, شعرت بغضب من محمد وقلت فليدعو لنا أفضل من أن يدعو لهاني, فقلت له في يوم وأنا غاضبة, ليتك تدعو لنا نحن.
تبسم في تعجب وقال,ألا تدعي له؟. كيف تعلمي أن إنسان في محنة ولا تدعي له؟
قلت له, أننا أيضا في مثل هذه المحنة.
قال وهو يضحك, نحن في نفس المحنة؟. كيف هذا؟. أننا في خير نعمة من الله. الله يبتلينا في شيء يمكننا أن نصبر عليه, فيزيد الله من ثوابنا, ويضاعف لنا أجورنا, أنني أدعو لهاني, الاختبار صعب عليه, ربما يكون عدم إعطاءه الله للولد سبب في فساد أمره لذا أدعو الله له, رغم علمي بأن الله اعلم بما يصلح لأمره أكثر مني. وعليك الرضا بذلك, بل والاستمتاع بأن الله يختبرك, تلك مرتبة راقية لو وصلت لها ربما ستحزني حين يعطيك الله, لأنك خرجت من الاختبار, وستفرحين لأن الله أخرجك من الاختبار وهو راضي عنك. لم استوعب ما قال ولكن كان يزداد فهمي كل يوم لهذا الأمر, حتى وصلت ليوم وجدتني أدعو لهاني, بأن يرضى الله عنه, وأن يرزقه الذرية الصالحة, وسبحان الله, كان ما دعوت, فبعدها بفترة قصيرة, دعانا هاني لزيارته, وكانت هي الأولى, وقال أنه سعيد لأن الله أنعم عليه, وان زوجته حامل, شعرت بفرحة لأن الله قبل دعائي, وتمنيت لو كان قبل دعائي لنفسي.
لبينا دعوته, ولقد وجدنا حفاوة غير عادية, لقد كان كما يقولون يكاد يحملنا فوق رأسه, يخدمنا بنفسه, يتحدث عن محمد بمحبة وعرفان بالجميل, لم أفهم هل علم أن محمد يدعو له؟, وكذلك كان معي.
وقف على المسرح المعد في حديقة الفيلا وأمسك بالميك وقال, أنني أقدم اعتذاري لكل شخص أساءت له يوما, وأرجو أن يسامحني, أنني اعرف أنني ربما لا استطيع أن أمسح هذا الأمر من ذاكرته, وربما لا أقدر أن أقدم له تعويضا عن ذلك, ولكنني على يقين بأن الله, يقدر, وأنا أضع نفسي وكل ما أملك في خدمة كل واحد أساءت له, فله مني ما يريد حتى يرضى, هناك أشخاص أعرف جيدا, أنني وما املك, لن يمسح شيء مما فعلت, ولو كان لي أضعاف ما أملك, ثم نظر لي باستحياء وقال, ما يمكني أن أفعل له, هو أن أدعو له في كل وقت, بأن يرزقه الله الحب والسعادة, وأنه يعطيه كل ما يريد. كانت عبرة حائرة قد تحركت في عيني, وشعرت برجفة تسري في جسدي, شعرت بيد محمد الرقيقة, تلتف حول كتفي بحنان كبير, ومسح بيده دمعة انسابت دون إرادتي.
الغريب أن المولود الذي رزقه هاني كان بنتا, ولكن هاني وزوجته كانا سعداء بذلك, وعندما قمنا بزيارته, ولاحظنا في عينيه الرضا, وقد سماها يسر, وكان يحمل فرحة, ويسر معا ويقول الحمد لله الذي أعطاني فرحة ويسر بغير حول لي ولا قوة, فكان من ثمار ذلك عليه, أن أعطاه الله ثلاثة صبيان, محمد, ومحمود, ويس.
أما بالنسبة لي فقد مر عدة أسابيع, حتى شعرت في لحظة بأعراض الحمل, التي كنت أعرفها جيدا, ومع ذلك لم اسبق الأحداث حتى تأكدت من ذلك, وحين عرف محمد وجدت في وجهه فرحة كبيرة, لم أرها في وجهه من قبل, كان يكاد يطير من على الأرض حين علم بذلك, سجد حمدا لله على ذلك, وحمل فرحة على كتفه, وأخذ يقفز في الهواء منشيا سعيدا, بينما فرحة تكركر من الضحك وهو يحملها, احتضنني وقبل جبيني, وقال لي, أ لم أقل لك لا تتعجلي, سيجعل الله من أمرنا يسرا. كانت فرحة أبي وأمي ومارجريت بهذا كبيرة جدا, لقد غمرتنا السعادة, التي كانت قد ابتعدت عنا لفترة طويلة.
كان أول حمل لي من محمد هو إحساس أخر, وبالرغم من حملي قبل ذلك, ورغم سعادتي بهذا الحمل ورغم إحساسي المتواصل بهذا الجنين, ولكن هذا الحمل مختلف وخاصة حين تحب أب هذا الجنين مثل هذا الحب, وكذلك حين يحبك هو مثل هذا الحب, لقد كان إحساسي به منذ أن كان خلية واحدة, يفور جسدي وهو يتكون خطوة بخطوة, كنت سعيدة بهذا الشعور, كنت كأنما أراه يتكون أمامي كان أحساس رائع, الأكثر من ذلك شعرت بنفخة الروح في هذا الجنين, كان إحساس من الصعب فهمه, فروح جديدة تمتزج في روحك, روح جديدة, طاهرة بريئة, تشعر بالغربة في هذه الأرض لذا تلوذ بي, كنت سعيدة بذلك عشت مع هذه الروح يوما بيوم وساعة بساعة وثانية بثانية بل وأقل من ذلك بكثير, كنا ممتزجان تماما, يشعر بكل شيء يخصني, بفرحي وحزني, وكذلك كنت أنا أيضا كنت أسمعه يضحك,.بل يقهقه من الضحك, اسأله ما سبب ذلك فيحكي أنه رأى حلم جميل من العالم الأخر حيث يجلس مع أصدقاءه هناك يتبادلون أطراف الحديث ويضحكون معا, تحدث كثيرا من أصدقاءه, وعن الحب الذي يجمعهم, أحيانا كنت أشعر أن روحه انفصلت عني, فأسأله حين يعود وأقول له, ماذا حدث, فيقول كنت أهيم في ملكوت الله, لأرى بديع هذا الملكوت, أسأله كيف يحدث ذلك, فيقول أنني أترك جسدي, وأترك ظل ضعيف يربطني به, ثم أسبح في الكون البديع, أجوب في ملكوت الله, وكان يشعر بالحزن حين يعود, فقلت له عليك أن تعتاد على ذلك, فإننا نعيش منفصلين عن هذا العالم, ولا نتصل به إلا قليلا وخاصة حين ننام أو نصاب بالغيبوبة, وقد شعرت أن ما حدث لي من قبل في تجربتي الاقتراب من الموت له أثر بجانب الحب, بالتجاوب مع جنيني هذا, وربما امتزج كلاهما لتنتج لي هذه المعرفة الممتعة الغريبة.
تحدثت كثيرا معه, عن كل شيء, عن أبيه أول وأكثر شيء, عن الحب المتبادل بيننا, كم هو وسيم ,كم هل مهذب, كم هو عظيم, عن قصتنا كاملة, كان متأثر بما حدث لنا, تعجبت من فهمه لهذه المشاعر, فعرفت أن المشاعر وحدة واحده مثل الحب يمكن للجميع أن يفهمها., رويت له كثيرا عن أخته فرحة, عن حبها له واشتياقها لأن تراه, عن شقاوتها, وخفة دمها, أحبها من الصميم, اشتاق ليلعب معها, وهو يراها تلعب بمفردها, خاصة حين تقول لي أريد أخي ليلعب معي, فحينها يهيم في جسدي سعادة ويكاد تخرج ليلعب معها, فأقول لها, يا حبيبتي, أنه أيضا يشتاق لذلك, فتبتسم وتقول لي هل يستطيع أن يسمعنا؟. كنت أقول لها, بالطبع يستطيع يا حبيبتي, انه يحبك حبا لا تتخيليه, كانت فرحة تصدقني, لست أعرف لأنني كنت صادقة, أم لأنها طفلة صغيرة مازال عندها بعض النقاء, والاتصال بالعالم الأخر. كانت أحيانا تضع رأسها على بطني وأنا نائمة, فاسمعها تضحك كثيرا, وأشعر به يضحك, كنت أظن أن بينهما نوع من التواصل.
ثم تحدثت معه عن الحياة بصفة عامة, أهم ما يميزها, عن خيرها وشرها, حكي هو أيضا لي, عن أنه جاء متفائل بهذه الحياة, وأنه سعيد أنه سيخوض هذه التجربة, تجربة الحياة هنا, وحكي عن تحمسه لهذه التجربة حين كان يتحدث مع الأرواح الأخرى, في العالم الأخر, قلت له أن يصف لي هذا العالم, فقال لي, أنه يبتعد كل يوم عن هذا العالم ويندمج أكثر في هذا العالم الجديد, ولكنه وصف لي أشياء كثيرة لم أستطيع فهمها, لقد وصف لي عن حياة أخرى, لا تمت لحياتنا بصفة, حاول أن يقرب المعنى, ولكن الأمر كان صعبا, فهو يعرف العالم الأخر, ومن السهل عليه وصفه, ولكنه لا يعرف هذا العالم حتى يستطيع تقريب الصورة, وكان كل يوم يقترب فيه من عالمنا, يبتعد فيه عن عالمه الجميل المثالي الخالي من الشر والكراهية المملوء حبا وخيرا, فيحاول جاهدا وصف عالمه, ولكن للأسف بقدر أقل من حقيقته التي يبتعد عنها كل يوم, حتى حين جاء وقت الولادة, شعرت أن روحه انفصلت تماما عن العالم الأخر, وأقبلت على عالمنا هذا, فبكى, وكنت أفهم لماذا كان يبكي. شعرت وقتها ليس بانفصال جسد عن جسد بل روح عن روح, وقبل أن يقطع الحب السري, كان هناك حبل أهم بكثير قد قطع, فبكيت كما كان يبكي.
بعد الولادة, كان مازال ارتباط روحي بيني وبين أبني, الذي سميناه حبيب واختار محمد هذا الاسم ليس لأنه اسم أبيه فحسب, ولكن لأنه اسم يحمل معني الحب. كان هذا الرباط يقل مع الوقت كلما كبر, واندمج أكثر في الحياة, عندما رضع لأول مرة, شعرت بروحي تسري من جسدي لجسده, شعرت أن الأمر قد تغير, فقد أصبح حين يرضع مني يحتضنني, وليس العكس, لم يعد هو من بحاجة إلي بل أنا من بحاجة له, لم أتعجب من ذلك, فهو ابن محمد, الذي معه اشعر بالأمان, وبدونه أشعر بالخوف, الآن مع وجود أبني حبيب.
كان الرباط الروحي بيننا يكون في أوجه حين يرضع مني, لقد كنا ننظر إلى بعضنا البعض بحب شديد, كان يمسك بيده أحد أصابعي, يغلق عليه بأصابعه الصغيرة التي كانت في البداية مثل الفتل, ولكنها كانت تكبر سريعا كما كان هو أيضا يكبر, كنا نتحدث عن كل شيء, وكان أشد ما يحزنه أنه فقد اتصاله بالعالم الأخر إلا قليلا, وكان حينما يتصل بهذا العالم الأخر, أراه يبتسم ويضحك بشدة, كنت أفهم ذلك, كان يكاد يرقص من السعادة, يحرك كل جسده تقريبا في فرحة كبيرة ينظر للسماء, ويحرك أطرافه طربا, تمنيت لو أحظي بلحظات مثل هذه ولكن هيهات.
كانت سعادة محمد بحبيب كبيرة جدا, كان ينظر له بسعادة ويتحدث معه كأنه شاب وليس طفل رضيع, أقول له انك تتحدث معه كأنه شاب وليس رضيع, كيف سيفهمك؟. كان يبتسم ويقول كما يفهمك.
كان حب محمد لحبيب يجعلني أشعر في البداية أنه ربما يؤثر على حبه لفرحة وخاصة أن لفرحة أصبح أخت من هاني, وأخ من محمد, ولكن في الحقيقة, كان حب هاني لفرحة, يزداد يوما بعد يوم, ولكن العجيب هو حب محمد لفرحة الذي يزداد يوما بعد يوما, ولم يتأثر بحبيب الصغير, بل ربما كان يزداد, وكانت لو ضربت فرحة حبيب كنوع من الغيرة, كنت أنهرها, فيجيء محمد ويحتضنها, ويقول لي لا تصرخي في وجه بنتي بهذا الشكل, فأقول له, لقد ضربت أخيها بغباء, فيقبلها ويحملها على كتفه, ويقول هما أخوة وأحرار في بعض, وليس هناك أحن من فرحة على حبيب, مالنا نحن. لقد جعل ذلك فرحة رغم صغرها تشعر بالحرج, ولم تعد تضربه إلا نادرا, بل كانت تعامله كثيرا كابنها, وتضعه على صدرها وتقول له أرضع يا بني, يا حبيبي, كان محمد أكثر خبرة مني بمعاملة الناس, وخاصة الأطفال. كان يحلو لمحمد أن ينادي حبيب, بحب وكذلك كنت أفعل أنا,وأعجبت مارجريت بذلك وكانت تحب هذا الاسم الرقيق, وتناديه من قلبها بهذا الاسم, كنت أبتسم حين أسمعها تناديه بهذا الاسم, كان صوتها رقيق ومعبر حين تقول حب.
بعد عدة سنوات حملت لمرة جديدة, شعرت بالحمل منذ اللحظة الأولى, كنت اعلم أنه سيحدث حمل, ليست الأمور عشوائية كما كانوا يقولون, فشق الخلية التي تأتي من الذكر لا يلتقي بشقه من الأنثى بمحض الصدفة كما يدعون, أنه يعرف طريقه وهدفه, ويصله سريعا, أنه مثال غريب للاجتهاد, والقدر, فملايين أنصاف الخلايا ينطق, ,لكن واحد فقط ينجح, أنه تحفيز لهذا الشق من الخلية للسعي حتى في هذه المرحلة, كنت أعرف أن هذا الشق هو من سينجح وربما هو أيضا يعرف ولكنه لابد أن يتعب ويجاهد حتى يصل لهدفه, لقد فهمت قانون الحياة, الكد والتعب, لقد فهمت معنى لقد خلقنا الإنسان في كبد, منذ اللحظة الأولى في كبد, رغم أن الحصيلة تافه, ربما لذلك نسميها الحياة الدنيا, وربما لذلك يجب أن نتطلع لما هو أسمى, وأرقى ولن نصل له إلا بالكد هاهنا. كانت تجربتي مع أبنتي هذه المرة مشابهة للحبيب, ولكن كان هناك تقارب أكبر بحكم أنها أنثى, لا أعرف لماذا شعرت بنصف الخلية هذه ولم أشعر بها مع حبيب, ربما لأنني وصلت لدرجة أعلى من المعرفة, أو ربما لأنها تحمل صفات الأنثى, لا أعرف ما هو السبب بالضبط, ولكنني كنت سعيدة, بل كلمة سعيدة لا توحي بالمعنى, خاصة حين كانت أرواحنا تندمج, وأشعر بنا نتحرر من هذا الجسد, ونسبح حيث نشاء بلا حدود أو فواصل نرى أصغر شيء, كالذرة مثل المجرة, ونرى المجرة مثل الذرة, عرفت أن من السهل أن يلج الجمل في سم الخياط, كم هو الأمر سهلا, كنا سعداء حين نستطيع أن نخرج من عالم الملك بكل ما فيه, ونتقرب من عالم الملكوت حيث لا معنى لما هو له معنى عندنا الآن, كم هو رائع أن تخترقي حجب, وأن نلتقي مخلوقات أخرى غير البشر, مثل الملائكة بل مخلوقات أخرى غير الملائكة, لم نعرف أسمائها, ولكننا عرفناها, ربما لم تكن من الأسماء التي تعلمها أدم, ولكننا كنا سعداء بذلك.
إن الكون أكبر بكثير من السموات والأرض, بكثير, وتعجبت كم يساوي عندنا متر واحد من الأرض, يتقاتل عليه الأخوة وهو في هذا الكون, بل الأرض التي يوجد فيها, وكذلك السموات التي تحتوي الكل, لا يساوون شيء في هذا الكون الواسع, بل الكون كله نفسه لا يساوي شيء, يستطيع الله أن يعطي كل إنسان كون بأكمله, ولا ينقص ذلك من ملكه شيء, ولكن الإنسان لن يشبع أيضا.
حين جاء وقت الميلاد, أصابني حزن شديد, فها أنا أفقد هذا الرابط مرة أخرى بالعالم الأخر, لقد أصبح من الصعب علي أن أعيش في هذه الأرض, وفي هذا الجسد الذي أصبح لي مثل السجن, وكم تمنيت أن أتحرر منه, لم أعد أهب الموت أو أخاف منه, ولم أعد أطيق الحياة ها هنا.
ما كان يدهشني حقا, هو محمد, كنت أخبره بما يحدث معي, فلا أجد دهشة بل إقرار بصحة ما أرى, وعلمه التام بذلك بل بأكثر من ذلك, ما فهمته أنه يستطيع أن يهيم في الملكوت كما يشاء دون مساعدة من أحد, كم كنت أتمنى أن أكون مثله, قلت له كيف تستطيع أن تعيش على الأرض بعد ما علمت, قال الأمر ببساطة, لأن كل شيء هو ملك لله, فما الفرق إذا بين هنا وبين أي مكان أخر, مادام الله جعلني هنا, فمعناه أن هنا أفضل لي الآن, وعندما يأخذني من هنا, فمعناه أن المكان الجديد سيكون أفضل. إن الأرض جميلة أ لم تري كم هي جميلة من بعيد, أجمل الكواكب كلها ,ولكننا جعلناها قبيحة من قريب, ولمن يعيش فيها, صدقيني, لو أحببنا هذه الأرض وأحببنا أنفسنا كما يجب, فنشعر أننا في أجمل مكان في الكون, فالحب يجعل القبيح جميلا فما بالك بالجميل. نحن نصعب الحياة على أنفسنا, نجمع ما لا نحتاج, ونحن نعرف كم ظلمنا ونحن نجمع ما لا نحتاج, وننسى أننا ضيوف على هذه الأرض, وما كان ينبغي لنا أن نأخذ شيء معنا, فليس من حق الضيف سرقة المضيف, كما أن المضيف لن يدعنا نأخذ شيء معنا حين نرحل, لقد كان ما فعله النبي محمد صلى الله عليه وسلم وما قاله أصدق معنى للحياة, فقد قال, نحن معشر الأنبياء لا نورث و ما تركناه صدقه, أنه فهم عميق لمعنى الحياة, وأننا ضيوف فيها.
حملي الأخير كان الأغرب, الغريب فيه, أنه جاء في وقت شعرت فيه بأن موضوع الحمل قد انتهى, ولم أكن استخدم أي وسيلة, ولكني شعرت بأن روح قريبة مني تلازمني ليل نهار لا تغادرني في أي وقت, كنت أشعر في البداية بالحياء تجاهها, ولكن مع الوقت اعتدت عليها, لقد كانت روح الجنين الجديد, الذي لم يتكون بعد, روح قد نزلت لتنتظر الأمر, عرفت وفهمت الأمر سريعا, شعرت بالحرج أنني سأحمل في هذه السن, وقد تعديت الأربعين, كما أنني أعلم أن الحمل في هذه السن خطر كبير علي وعلى الجنين, ولكنني لم أحاول أن أفعل أي شيء لأمنع ذلك, بل كنت مستسلمة لإرادة الله كيفما تكون, بدأ الترابط بيني وبين هذه الروح مبكرا قبل أن يخلق الجنين, عرفت أنها روح ذكر, وليس أنثى, وان الأمر قد أقترب, وبالفعل, كان ما كان, وشعرت بشق الخلية التي سيكون منها الجنين وهي مازالت لم تتكون في جسد زوجي, بالطبع عرفت أي شق خلية عندي سيكون منها الجنين, فهمت أن كل شيء مخلوق بقدر, كانت الروح التي أصبحت حولي هي ما تدير كل شيء, فشقي الخلية مثل قطبي مغناطيس يتمنيان الاتحاد بينهما ويسعيان لذلك, ليس أي شقي خلية تلتحم, ولكن لكل خلية شقها الذي تلتحم به, كأن بينهما كود خاص,
كان ما أراده الله, واجتمع النصفان, وكانا خلية واحدة سرعان ما بدأت تنقسم, وفي خلال عدة أسابيع, كان هناك جنين في رحمي.
ذهبت للطبيبة مبكرة, وكانت صديقتي, وقلت لها أنني حامل, وبعد تأكدها هي وليس أنا, قالت لي في تردد,
صديقتي ياسمين انك قد تخطيت سن الأربعين,وتنحنحت ثم قالت, والحمل في هذه الفترة فيه خطورة كبيرة.
تبسمت لها في ثقة كبيرة, وقلت لها, لا تشغلي بالك بهذا الأمر.
قالت الطبيبة أمنية, وهي في حرج,ربما عليك أن تفكري في إجهاضه.
قلت لها, يا أمنية لا تفكري في مثل هذا الشيء.
قالت د أمنية, ربما علينا أن نفكر, وأنا لا أفعل هذا إلا في هذه الفترة التي مازال ليس فيها روح وفي مثل حالتك., وقد أجاز بعض علماء الدين هذا.
قلت لها, من قال أن الروح ليست موجودة, بل الروح موجودة قبل وجود الجسد, والله لم تكن ليتكون الجسد لولا الروح.
قالت د أمنية, لم أفهمك؟. أنني كنت أجرى اختبارات مع عدد من الأساتذة الكبار حول العالم, عن الروح ومتى تنفخ في الجسد, وما يحدث عندها, وبعدها. أحاول أن أجد طريقي معتمدة على التجارب المعملية, وعلى المعلومات الدينية, في محاولة لدمج هذه الأفكار لأخرج بنتيجة قاطعة في هذا الأمر
قلت لها مقاطعة, أعرف أن كثيرون يحاولون ذلك, ويريدون أن يضعوا علاقة بين نبض القلب ونفخ الروح وغيرها من الأفكار, لقد قرأت عن ذلك كثيرا, ووجدت أراء واختلافات كثيرة, فتوقفت عن البحث, لأنني شعرت وقتها أن الاختلاف, سوف يخرجني مما أنا فيه, فأنا الآن في علم اليقين, فلماذا أرجع بظهري, لأفكار بدائية متضاربة.
قالت لي أمنية في تعجب, لم أفهم ما تقولي.
قلت لها, في محاولة لتبسيط الأمر, كنت مع كل حمل أشعر بالحمل منذ بدايته أدير حوارا مع الجنين في داخلي, كنت أرتقي بمعرفتي في كل حمل, حتى هذا الحمل شعرت بشيء جديد مطلقا شعرت, بل عرفت قبل أن يحدث الحمل به, لقد شعرت بروح حولي تلازمني, تهيأ كل شيء, للجنين المنتظر, تدير الأمر باحتراف تام, وقدرة مطلقة, كنت أعرف شقي الخلية اللتان سوف تلتحمان معا من قبل تكوينهما.
قالت لي الطبيبة غير مصدقة, ماذا تعني بما تقولي؟.
قلت لها, ما أشعر به هو أن روح الإنسان تنزل للأرض قبل خلقه, لتعد كل شيء وتديره ثم حينما يصبح الجسد مستعدا, لدخول الروح فيه, عندها تدخل الروح للجسد, وأنه لم يكن هناك روح ما اتحد شقي الخلية, وما نمى الجنين من البداية, فالروح موجودة فعلا, وتعمل في الجسد, تؤثر فيه, قبل أن تكون داخله, لأنها ترتبط به ارتباط من نوع خاص, مثل ارتباط الجسد بالروح أثناء النوم, رغم أن الروح لا تكون في الجسد, إلا أن دورها موجود فيه, فكل شيء في الجسد يعمل بكفاءة فالقلب مثلا يعمل بشكل طبيعي وغيره من الأجهزة كذلك, أنه رباط خاص ربما لا نفهمه جيدا, ولكنه موجود.
قالت د أمنية, إن ما تقوليه هو شيء خارج عن أطار ما نقوم به في المعامل, ولكنني أتفهم ذلك وأشعر به, رغم أنني لم أشعر بمثله أثناء حملي, وأتمنى لو تقدمي محاضرة عن هذا الموضوع أمام مؤتمر علمي.
قلت لها, لا أظنني أفعل ذلك, ولا أظن العلماء يأخذون بهذا الأمر, ولكنني أؤمن بأنه لابد من دمج كل المعارف للوصول للحقيقة.
قالت د أمنية, سأبحث هذا الأمر, و إذا كنت لا تريدي أن تتخلي عن هذا الحمل فعليك الحصول على أجازة طوال فترة الحمل.
كنت سعيدة بالحصول على أجازة طوال فترة الحمل, فأنا كنت استحي أن أقف أمام الطلاب وأنا حامل في هذا السن, لقد كنت استحى وأنا اصغر من ذلك بكثير, ولكن ليس هذا هو السبب الحقيقي لهذه السعادة, بل ما هو أهم من ذلك بكثير, هو أن استمتع بالحمل, نعم أن استمتع بالحمل في كل مراحله, مراحله التي تخصني أنا وما يخص الجنين, كأنني احمل لأول مرة في حياتي, وخاصة أنني كنت أشعر به منذ اللحظة الأولى, كنت استمتع بما كنت أتضجر منه من قبل, مثل القيء, والتعب, والشعور بالغثيان, والحموضة, والمغص, كل شيء كنت لا استمتع به, أنه مفهوم جديد للاستماع, بل للحياة بصفة عامة, أن تستمع بكل شيء في الحياة, بما تراه خير أو شر, كنت أنتظر لحظة نفخ الروح, كان كل شيء في جسدي ينتفض وقتها, وكذلك كنت أشعر بالجنين يحدث له مثل هذا الشيء, ولكني شعرت بعد نفخ الروح, بشيء أخر, كأن شيء أخر قد نفخ, رجفة أقل حدة ولكنها أطول وقتا, ربما هي النفس, لأول مرة أشعر بذلك, أصبحت أفرق جيدا بين النفس والروح, بدأت أقرأ كثيرا عن هذا الأمر, ورغم أنني لم أصل لشيء يرضيني, إلا أنني كنت اشعر أن النفس والروح شيء واحد, وأحيانا أشعر أنهما مختلفان, لست أعرف الحقيقة بالضبط, لأنني أحيانا أشعر أن النفس والروح والجسد شيء واحد. ولكن ما أنا أثق به أن كلاهما لا يفارق الأخر أبدا, مدام في الجسد, أما قبل ذلك وبعده, فالأمر مختلف. كنت أشعر بكل مرحلة من التكوين منذ البداية, كأنني أنا من أتكون وليس الجنين, أنه أحساس رائع وممتع, وغريب في نفس الوقت, أن تشعر أنك تتكون من جديد, وأنك تولد من جديد, تحيي من جديد, كنت أسأل نفسي, هل هذا لأننا كلنا نفس واحدة, أم لسبب أخر, كانت هذه الأحاسيس تشعرني كل يوم بمعني جديد, ولكنني لم أشعر أنني وصلت لكل ما أحب معرفته, فأنا مازلت في بداية الطريق الذي بدا أمامي ممتد بلا نهاية.
كان أشد ما يدهشني فعلا, هو كيف للروح التي كنت أشعر أنها كبيرة جدا, أن تدخل لهذا الجسد الصغير, أنها معجزة حقا, أمنت وقتها, أن الله على كل شيء قدير, وأنه ليس هناك معنى للمستحيل مع الله. من السهل أن تلج الأرض بمن فيها في سم الخياط, بل السموات والأرض جميعا, وليس هذا بشيء, بل أن يلج الكرسي هو أمر سهل على الله, بل أقول لكم الحقيقة التي أصبحت أؤمن بها, لأن يلج العرش بأكمله في داخل ذرة هيدروجين واحده, بين الإلكترون والبروتون, بل لا يؤثر ذلك على حركة الإلكترون لأمر سهل على الله.
حين جاءت ساعة الميلاد, شعرت أن كل شيء أصبح بمفردة, كأنه صراع بين الجميع, من يريد أن يأتي للدنيا ومن لا يريد, أحيانا يتحمس الجسد, وأحيانا يتراجع, وكذلك النفس والروح, لذا يحاول الجنين الخروج أحيانا ثم يتراجع, حتى تأتي لحظة يجتمع الشمل كله, ويكون القرار واحد, أن نأتي للحياة, ولكن يكون بعدها البكاء دائما, حزنا على القدوم لهذه الحياة. كنت أشعر أنني أنا من ولدت وليس أبني أحمد.
كنت أتمنى أن أحظى, بحمل جديد, لعلي أصل لمعرفة أرقى. عشت على هذا الأمل فترة من الزمان, ولكن الوقت كان متأخرا, حمدت الله على ما أعطاني من معرفة وحمدت الله أنني امرأة تحظى بالحمل والإنجاب, لتصل بهذا الأمر لمعارف جديدة, بل لا يستطيع أي رجل أن يحظى بها.
كنت قد ألقيت محاضرة أمام مؤتمر علمي عن تجربتي هذه, كنت انظر في عيون الحضور, كان البعض يصدق ويقتنع بما أقول, بينما آخرون لا, بينما كان محمد مقتنع تماما بما أقول, وكان يشجعني, لإلقاء هذه الكلمة, وكان يدعمني بشدة أثناء المحاضرة, كم هو عظيم, كنت أشعر أنه يعلم جيدا, بل وربما أكثر مما أعلم ولكنه لم يكن يتحدث. لأنني كنت صادقة, وأتحدث بطلاقة وثقة, ومتحمسة للغاية, فقد حظيت باحترام الجميع, وكان هناك تصفيق كبير من جميع الحضور, من شعر وفهم ما قلت ومن لم يفعل.
أغرب وأجمل ما في علاقتي بأبنائي أنني أحبهم جميعا, وبنفس المستوى الراقي من الحب, بالرغم أنهم ليسوا من أب واحد وفارق كبير بين حبي لمحمد وعلاقتي بهاني, ولكن هذا لم يكن له تأثير على حبي لأولادي, ليس هذا فحسب فبرغم من أنني كان لي تجربة خاصة مع كل حمل, وفي كل حمل كانت مشاعري تختلف ودرجة رقي لأفهم الجنين في بطني, وبالرغم من أنني خضت تجربة مختلفة تماما في كل حمل, إلا أنه ومع ذلك كان حبي لهم جميعا متساوي تماما, كلما أحببت واحد فيهم أكبر نمى حبي للآخرين في نفس اللحظة لنفس درجة الحب, ما أجمل الحب.