GilbertKeith

Share to Social Media

هل لاحظت نوع الورق الذي كُتِبَت عليه الرسالتان؟ أكان » : وحينئذٍ، سأله الأب براون
«؟ نوعًا شائعًا من الورق
فتحوَّلت تعبيرات أبي الهول التي كانت تكسو وجه أيلمر فجأةً إلى ضحكةٍ غليظة.
«. يمكنك أن تراه بنفسك؛ لأنني تلقَّيتُ رسالة تهديدٍ صباح اليوم » : وقال بتجهُّم
كان أيلمر يتكئ في هذه اللحظة على كرسيه مائلًا بظهره إلى الوراء ومادٍّا ساقَيه
الطويلتَين اللتَين كانتا بارزتَين من أسفل الرداء الأخضر، الذي كان قصيرًا بالنسبة له، فيما
كان ذقنه الملتحي يتوسَّد صدره. ولم يُحرِّك أيَّ جزءٍ من جسده باستثناء أنَّه دس يده
بعمقٍ في جيب ردائه وأخرَج منه قصاصةٍ ورقية كانت ترتعش في نهاية ذراعه الجامدة.
كانت وضعيته كلها توحي بأنَّه مُصابٌ بشللٍ ما؛ لأنَّه كان جامدًا وشديد الوهن، لكنَّ الرأي
التالي الذي أبداه القَسُّ أثاره بغرابة.
كان الأب براون ينظر رامشًا بعينَيه بطريقته المعتادة التي توحي بأنَّه مُصاب بقِصَر
النظر إلى القصاصة الورقية التي أعطاه إيَّاها أيلمر. ووجد أنَّه نوعٌ فريد من الورق،
نوعٌ خشن لكنَّه ليس شائعًا، كما لو كانت الورقة مُقتطَعةً من كرَّاسة لوحات رَسَّام؛
وكان مرسومًا عليها بخطٍّ سميك بالحبر الأحمر خنجرٌ مُزيَّن بجناحَين مثل عصا هرمس،
«. الموت سيُدركك في اليوم التالي، كما أدرَك أخوَيك » : ومكتوبًا عليها
فرمى الأب براون الورقة على الأرض، وجلس منتصبًا على كرسيِّه فجأة.
يجب ألَّا تدع مثل هذه الأشياء تعجزك عن التفكير؛ فهؤلاء » : ثم قال بنبرةٍ حادة
«. الشياطين دائمًا ما يحاولون أن يجعلونا عاجزين ببثِّ اليأس في نفوسنا
دُهِشَ القَسُّ حين أحدَث كلامه انتفاضةً في جسد مضيفه الواهن المُمدد بدا أنَّها
أيقظته، وجعلته يهُبَّ من كرسيِّه كأنَّه استيقظ على كابوسٍ مُفزِع.
إنَّك مُحِق. إنَّك مُحِق! وسيعرف الشياطين أنني » : وصاح أيلمر بحيويةٍ غريبة نوعًا ما
لست يائسًا إلى هذا الحد رغم كل شيء، ولست عاجزًا أيضًا. ربما أحظى بأملٍ أكبر وعَوْنٍ
«. أفضل ممَّا تتصوَّر
وَقَف أيلمر ويداه في جيبي ردائه ناظرًا بعبوسٍ إلى القسِّ، الذي انتابه شكٌّ خاطف،
في أثناء هذا الصمت العصيب، في أنَّ الخطر الذي يعيش فيه أيلمر منذ فترةٍ طويلة ربما
أضرَّبسلامة عقله، لكنَّ مُضيِّفه بدا رزينًا جدٍّا حين تحدَّث مُجددًا بعد هذا الصمت.
أعتقد أن شقيقَيَّ التعيسَين أخفقا لأنَّهما استخدَما أسلحةً خاطئة؛ إذ كان » : قال
فيليب يحمل مُسدَّسًا؛ لذا وُصِفَت وفاته بأنَّها انتحار. فيما كان ستيفن يحظى بحماية
الشرطة، لكنَّه أيضًا كان يُفكِّر بطريقةٍ جعلته أحمق، ولم يسمح لشُرطيٍّ بصعود السُّلَّم
وراءه إلى السقالة التي لم يقف عليها سوى لحظةٍ واحدة. كان كلاهما يتعامل باستهزاءٍ
وشك حيال التصوُّف الغريب الذي اعتنقه والدي في أواخر عمره، لكنني دائمًا ما كنت أعلم
أنَّ ثَمة أمورًا أخرى في والدي غير التي فهموها. صحيحٌ أنَّ دراسته السحر دفعَت به في
نهاية المطاف إلى الخضوع لآفة السحر الأسود؛ أي السحر الأسود لهذا الوغد ستريك، لكنَّ
شقيقَيَّ كانا مُخطئَين بشأن الترياق المناسب. فترياق السحر الأسود ليس المادية الوحشية
«. ولا الحكمة الدنيوية، بل السحر الأبيض
«. يعتمد ذلك على ما تقصده بالسحر الأبيض » : فقال الأب براون
ثم صمت بُرهةً «. أقصد السحر الفضي » : فهَمَس الآخر بصوتٍ خافتٍ كأنَّه يُفشيسِرٍّا
«. أتدري ما أقصده بالسحر الفضي؟ أمهلني لحظةً وسأعود إليك » : قبل أن يقول
ثم استدار وفتح الباب الواقع في وسط الغُرفة ذا الزجاج الأحمر وسار في رَدْهةٍ تقع
خلفه. كان المنزل أقل عُمقًا ممَّا كان براون يظن، فبدلًا من أن يؤدي الباب إلى الغرف
الداخلية، انتهت الرَّدهة التي يؤدي إليها ببابٍ آخر يُطل على الحديقة. وكان أحد جانبَي
الرَّدهة يحتوي على باب غُرفةٍ، وقد قال براون لنفسه حين رآه إنَّها لا بد أن تكون غرفة
نوم صاحب المنزل التي هُرِع منها مرتديًا رداءه المنزلي. ولم يكن هذا الجانب يحتوي على
أيِّ شيءٍ آخر سوى حامل قُبَّعاتٍ عادي يحمل مجموعةً من القبعات والمعاطف القديمة
العادية التي يكسوها الغبار، ولكن على الجانب الآخر، كان يوجدشيءٌ أكثر إثارة للاهتمام؛
خِزانةٌ جانبية داكنة عتيقة من خشب البَلُّوط تحتوي على مقتنياتٍ فِضِّية قديمة، وتحمل
فوقها حاملًا تذكاريٍّا أو أسلحة قديمة تزيينية. وقد توقف أرنولد أيلمر عندها، ناظرًا إلى
مُسدَّسٍ طويل بفوَّهةٍ جَرَسيَّة الشكل يبدو مهجورًا منذ فترةٍ طويلة.
كان الباب الواقع في نهاية الردهة مفتوحًا بالكاد، ومن خلال هذه الفتحة الضيقة،
ظَهر خطٌّ من ضوء النهار الأبيض. وقد كان القسُّ لديه حِسٌّ غريزي بديهي تجاه الأشياء
الطبيعية، ويبدو أنَّ شيئًا ما في البريق غير المعتاد لهذا الشعاع الأبيض أوحى إليه بما
حدث في الخارج. لقد حَدَث ما تنبَّأ به بالفعل حين كان يقترب من المنزل؛ إذ ركضالقسُّ
في الردهة متجاوزًا مُضيِّفه، الذي كان مشدوهًا بعضالشيء، وفتح ذلك الباب ليرى شيئًا
أبيض ولامعًا في آنٍ واحد. وتبيَّن حينئذٍ أنَّ البريق الذي لمحه عبر فتحة الباب لم يكن
البياض الفارغ لضوء النهار فحسب، بل البياض المُمتلئ بالثلج. كانت الأراضي الريفية
المتموجة الشاسعة في جميع الأنحاء مُغطاةً بذلك البياضاللامع الذي بدا ناصعًا ومَشوبًا
بلونٍ رمادي خفيف في آنٍ واحد.
ثم هَمَس «. ها هو السحر الأبيض على أيَّة حال » : فقال الأب براون بنبرته المبتهجة
لأنَّ البريق الأبيض «. والسحر الفضيُّأيضًا على ما أظن » : قائلًا بينما كان عائدًا إلى الصالة
لامس الفضة بروعةٍ وانعكس لمعانه على أجزاء الصُّلب المنتشرة في خِزانة الأسلحة الداكنة.
فيما بدا الرأس الأشعث لأيلمر، الذي كان مستغرقًا في التفكير، أشبهَ بهالةٍ من النيران
الفضية، بينما كان يستدير ووجهه في الظل حاملًا المُسدَّس الغريب في يده.
أتعلمُ لماذا اخترتُ مسدسًا كهذا؟ لأنني أستطيع تذخيره برصاصةٍ » : قال أيلمر للقسِّ
«. كهذه
كان أيلمر قد أخذ ملعقةً فضيةً صغيرة مُذيَّلة بتمثال قِدِّيسٍ صغير من الخزانة
«. هيا لنعُد إلى الصالة » : الجانبية، وكَسَر منها التمثال الصغير بعُنفٍ شديد. ثم أضاف
كان أيلمر «؟ هل قرأتَ عن موت دندي » : وحين جلسا مُجددًا، سأل أيلمر القسَّ قائلًا
قد تخلَّص آنذاك من الانزعاج اللحظي الذي شعر به قبل قليل بسبب نهوضالأب براون
أقصد جون جراهام، ليرد » : من كُرسيِّه ودخوله الردهة بلا استئذان. ثم واصل كلامه قائلًا
كلافيرهاوس، الذي اضطَهد المُعاهدين وكان يمتطي حصانًا أسود اللون يستطيع أن يصعد
به أي جرف شديد الانحدار. ألا تعلم أنَّه كان من المستحيل أن يُردَى قتيلًا إلَّا برصاصةٍ
فضية، لأنَّه باع نفسه للشيطان؟ هذا أحد الأسباب التي تجعل الحديثَ إليك مُريحًا؛ فأنت
«. على الأقل مُلِمٌّ بقَدرٍ كافٍ من المعرفة يجعلك تؤمن بوجود الشيطان
آه، صحيحٌ أنني أوُمن بوجود الشيطان، لكنِّي لا أوُمن بوجود » : فأجاب الأب براون
دندي. أعني دندي الوارد في حكايات المُعاهدين الخرافية عنه وعن حصانه المُرعِب. فجون
جراهام كان مُجرد جنديٍّ محترف في القرن السابع عشر أبرع نوعًا ما من معظم أقرانه
آنذاك. وإذا كان قد اضطهد المُعاهدين، فهذا لأنَّه كان جنديٍّا في سلاح الفرسان، وليستنِّينًا
خُرافيٍّا. ومن واقع تَجارِبي الحياتية، فهذا الشاب المندفع المتبختر ليس من النوع الذي
يبيع نفسه للشيطان؛ لأنَّ عَبَدة الشيطان الذين عرَفتهم كانوا مختلفين تمامًا. وبدون ذِكر
أسماء مُعاصرة، لأنَّها قد تُحدِث بلبلة اجتماعية، سأضرب مثالًا برجُلٍ كان يعيش في عصر
«؟ دندي. هل سمعت من قبل عن دالريمبل، إيرل ستير
«. لا» : فأجاب الآخر بفظاظة
أعتقد أنَّك سمعت عن أفعاله؛ لقد كانت أسوأ من أي شيء فعله » : فقال الأب براون
دندي على الإطلاق، لكنَّه كان يُفلِت من وصمة العار مُستغلٍّا آفة النسيان؛ فهو الرجل الذي
ارتكب مذبحة جلينكو. غير أنَّه كان رجلًا مثقفًا للغاية ومحاميًا ذكيٍّا، وقائدًا سياسيٍّا لديه
أفكارٌ رصينة وكبيرة للغاية عن فنِّ القيادة السياسية، ورجلًا هادئًا ذا وجهٍ فَطِن مُثقَّف
«. للغاية. هذه هي نوعية الرجال الذين يبيعون أنفسهم للشيطان
وحينئذٍ، قام أيلمر من كرسيه نصف قومةٍ بانفعالٍ يَنُم عن اتفاقه المتحمِّس مع رأي
الأب براون.
«. أقسم بالربِّ إنَّك مُحِق! وجهٌ فَطِن مُثقَّف! هذا هو وجه جون ستريك » : وصاح قائلًا
إذا انتظرتني هنا قليلًا، » : ثم نهض ووقف ناظرًا إلى القسِّ بتركيزٍ غريب، وقال له
«. فسأريك شيئًا
وذهب إلى الردهة مرَّة أخرى، وأغلق الباب ذا الزجاج الأحمر خلفه. وهنا افترضَ
القسُّأنَّ مُضيِّفه ذهب إلى الخِزانة الجانبية القديمة أو ربما إلى غرفة نومه. ظلَّ الأب براون
جالسًا على كُرسيه مُحدِّقًا بشرودٍ إلى السجادة، التي لمع عَليها وميضٌأحمر خافت أتى من
وراء زجاج الباب الأحمر. وبَدا الوميض لامعًا كالياقوت ثم صار قاتمًا مرَّة أخرى، كأنَّ
شمس ذلك اليوم العاصف قد انتقلت من وراء غيمةٍ إلى أخرى. وكان كُلُّ شيءٍ ساكنًا بلا
حراك إلَّا الكائنات المائية التي كانت تسبح يمينًا ويسارًا في الوعاء المخضرِّالقاتم. وفي هذه
الأثناء، كان الأب براون منهمكًا في تفكيرٍ عميق.
وبعد ذلك بحوالي دقيقة أو دقيقتَين، نهض وتسلَّل بهدوء إلى كوة الهاتف، حيث
أردتُ أن » : اتصل بصديقه بوين الذي كان في مقر الشُّرطة الرسمي. وقال بصوتٍ خافت
أحدِّثك عن أيلمر وقضيته. إنَّها قصة غريبة، لكنَّني أظنُّ أنَّها تنطوي على خَطبٍ ما. من
الأفضل أن تبعث ببعض الرجال إلى هنا فورًا، حوالي أربعة أو خمسة رجال على ما أظن،
«. وتُحاصروا المنزل. فإذا حدث أيشيء، فسيحاول شخصٌما الهروب فجأةً على الأرجح
ثم عاد وجلس مرَّة أخرى، مُحدِّقًا إلى السجادة الداكنة، التي توهَّجت مُجدَّدًا باللون
الأحمر الدموي للضوء القادم من وراء الباب الزجاجي. ويبدو أنَّ شيئًا ما في الضوء المار
عبر زجاج الباب جعله يشرد بتفكيره في أشياء معينة، بدءًا من ضوء النهار الأبيض الذي
كان ظاهرًا في البداية قبل ظهور ذلك اللون الأحمر، وكل هذا الغموض الذي شعر به
يُكشَف تارةً ويصير مبهمًا تارةً أخرى؛ كأنَّ النوافذ والأبواب تُفتَح فتكشفه، وتُغلَق فتجعله
غامضًا بالتناوب.
ثم انطلقَتصرخةٌ بشرية أشبه بعواء حيوانٍ من وراء الباب المغلق، بالتزامن تقريبًا
مع دَويِّ إطلاق رصاصة. وقبل أن تتلاشى أصداء الرصاصة، فُتِح الباب بعنف ودخل
مُضيِّفه الصالة مُترنِّحًا، وكان رداؤه المنزلي شِبه مُمزَّقٍ من عند كتفه فيما كان الدخان
ينبعث من فوهة المسدسالطويل الذي كان يمسكه. وبدا حينئذٍ أنَّ جميع أطرافه ترتجف،
لكنَّ جسده كان يهتز أيضًا لأنَّه كان منخرطًا في نوبة ضحكٍ غير طبيعية.
المجد للسحر الأبيض! المجد للرصاصة الفضية! لقد حاول الكلب » : وصاح قائلًا
«. الجهنمي أن يصطاد مَرَّة ثالثة بحيلته المُكرَّرة المكشوفة، ونال شقيقاي ثأرهما أخيرًا
ثم جَلَسمنغمسًا في كرسيِّه، وانزلق المسدسمن يده وسقط على الأرض. فهرول الأب
براون متجاوزًا إيَّاه، وتسلَّل إلى الردهة عبر الباب الزجاجي. وبينما كان في الردهة، أمسك
بمقبضباب غرفة النوم كأنَّه يَهمُّ بدخولها، ثم انحنى بُرهةً كأنَّه يفحصشيئًا ما، وبعد
ذلك، ركضإلى الباب المُطِل على الحديقة وفتحه.
وفي الحديقة الخارجية المُغطَّاة بالثلج، التي كانت فارغةً قُبيل لحظات، كان يوجد
جسمٌ أسود بدا للوهلة الأولى أشبه بخُفَّاشٍ عملاق، ولكن تبيَّن بنظرةٍ ثانية أنَّه شخصٌ
مستلقٍ على وجهه، ورأسه كلُّه مغطٍّى بقبعة سوداء واسعة تُشبِه القُبعات الأمريكية
اللاتينية، أمَّا الذي أوحى بأنَّ لديه جناحَين أسودَين، فهو أنَّ الكُمَّين الفضفاضَين للعباءة
السوداء المُهلهلة التي كان يرتديها كانا مُمتدَّين، ربما بمحض المُصادفة، إلى أقصى طولٍ
لهما على كلا الجانبَين. وكانت كلتا اليدَين مُستترة، لكنَّ الأب براون ظَنَّ أنَّه استطاع تحديد
مكان إحداهما، ورأى بالقرب منها، أسفل حافة العباءة، وميضَسلاحٍ معدني، لكنَّ الغريب
أنَّ الطابع الرئيسي الذي كان يغلب عليه كان أشبه بطابع المُبالغة البسيطة في شعارات
النبالة، مثل نسرٍ أسود مرسومٍ على خلفية بيضاء. غير أنَّ القسَّ ظلَّ يحوم حوله ويُحدِّق
إلى أسفل القُبعة حتى لمح وجهه، الذي بدا بالفعل كالوجه الذي وصفه مُضيِّفه بأنَّه فطنٌ
مُثقَّف، بل كان متشكِّكًا عابسًا أيضًا؛ وجه جون ستريك.
حسنًا، إنني متحيِّر. يُشبه مصاصدماء ضخمًا حاول » : وهنا تمتم الأب براون قائلًا
«. الانقضاضعلى فريسته كطائرٍ
أتوجدُ أيُّ طريقةٍ أخرى كان » : فجاء صوتٌ من المدخل المُطِل على الحديقة قائلًا
فنَظر الأب براون إلى المدخل ليرى أيلمر واقفًا مرَّة أخرى هناك. «؟ بإمكانه أن يأتي بها
«؟ ألم يكن باستطاعته المشي » : رَدَّ عليه بإجابةٍ غير مباشرة قائلًا
فمدَّ أيلمر ذراعه ولوَّح بها مشيرًا إلى المنظر الطبيعي الأبيضالمُحيط بالمنزل.
أليس الثلج خاليًا من أيِّ » : ثم قال بصوتٍ عميق به بعضالصدى والحماس الشديد
علامات، ونقيٍّا كالسحر الأبيضمثلما وصفته بلسانك؟ هل تشوبه أيُّ بقعةٍ في نطاق أميال
من هنا، باستثناء تلك البقعة السوداء الكريهة التي سقطت هناك؟ لا توجد آثار أقدام،
«. سوى بضعةٍ من آثار أقدامك وأقدامي، لا يوجد أيٌّ منها يقترب من المنزل من أي اتجاه
سأخبرك بشيء آخر. » : وبعد ذلك، نظر إلى القسِّ القصير بُرهةً بتركيزٍ غريب وقال
تلك العباءة التي يُحلِّق بها أطول من أن يستطيع السير بها؛ فهو لم يكن طويلًا جدٍّا، لذا
كان ذيلها سيُجَر خلفه كقطارٍ ملكي لو سار بها. ابسطها على جسده وانظر بنفسك إذا
«. شئت
«؟ ماذا وقع بينكما » : فسأله الأب براون فجأة
ما وقع كان أسرع من أن يوصَف؛ نظرتُ إلى الخارج من الباب، وبينما » : فأجاب أيلمر
كنت أعود إلى الوراء، شَعرتُ بشيءٍ أشبه باندفاع الريح من حولي، كأنني أتعرض للَكماتٍ
هوائية من عجلةٍ تدور بسرعةٍ في الهواء. فاستدرتُ بطريقةٍ ما وأطلقت النار عشوائيٍّا. ثم
لم أر سوى ما تراه الآن، لكنني متيقنٌ تمامًا من أنَّك ما كنت لتراه لولا وجودُ الرصاصة
«. الفضية في مسدسي. بل ربما كنت سترى جثَّةً أخرى مستلقية هناك على الثلج
بالمناسبة، هل نتركها مستلقيةً على الثلج؟ أم ترغبُ في أن نُدخلها » : فقال الأب براون
«. غرفتك؟ أظنُّ أنَّ تلك الغرفة في الردهة هي غرفة نومك
لا لا، يجب أن نتركها هنا حتى تراها الشرطة. وفوق ذلك، » : فأجاب أيلمر بعجالةٍ
تحمَّلت قدر استطاعتي من هذه الأشياء في الوقت الحالي. مهما سيحدث الآن، فسأشرب
«. شَرابًا. وبعدها يُمكن أن يشنقوني إذا شاءوا
وداخل ردهة المنزل، تعثَّر أيلمر في كرسيٍّ بين النبات النخيلي ووعاء الأسماك. وكاد
قبل ذلك أن يُسقِط الوعاء بعدما اصطدم به عند دخوله الغرفة مندفعًا مترنِّحًا، لكنَّه
تدارك نفسه واستطاع العثور على إناء الخمر بعدما ظلَّ يبحث بيده عشوائيٍّا في العديد من
الخزائن والأركان. وصحيحٌ أنَّه لم يكن يبدو شخصًا مُنظَّمًا على الإطلاق، ولكن لا بد أنَّ
ذهنه كان مُشتتًا للغاية في تلك اللحظة. كان أيلمر يتجرَّع كمية كبيرةً في كل شربة، وبدأ
يتحدَّث باهتياجٍ كأنَّه يملأ الصمت بأيِّ كلام.
أرى أنَّك ما زلت متشكِّكًا، مع أنَّك رأيتَه بأمِّ عينَيك. صدِّقني، كان » : قال للأب براون
يوجد خَطب خَفيٌّ وراء النزاع بين روح ستريك وروح آل أيلمر. وفوق ذلك، لا يجوز لك
ألَّا تُصدِّق. بل يجب أن تؤيِّد كل هذه الأشياء التي يصفها أولئك الحمقى بالخرافات. والآن
أجبني، ألا تؤمن بوجود حقائق كثيرة في تلك القصصالغريبة عن الحظ والسحر وما إلى
«؟ ذلك، بما في ذلك الرصاصات الفضية؟ ماذا تقول عنها بصفتك كاثوليكيٍّا
«. أقول إنني لا أدري » : فأجاب الأب براون مبتسمًا
«. هراء. فمهنتك تُحتِّم عليك أن تُصدِّق ما تسمعه » : فقال أيلمر بنفاد صبر
حسنًا، إنني أصدِّق بعض الأشياء بالطبع؛ ومن ثَمَّ، لا » : فاعترف الأب براون قائلًا
«. أصدِّق أشياء أخرى بالتأكيد
كان أيلمر يميل إلى الأمام وينظر إلى القسِّ بتركيزٍ غريب كأنَّه يمارس معه التنويم
الإيحائي.
إنَّك تُصدِّق ذلك. تُصدِّق كلشيء. كُلُّنا نُصدِّق كلشيء، حتى حين نُكذِّب » : ثم قال له
كل شيء. فالمُكذِّبون يُصدِّقون. وغير المؤمنين يُصدِّقون. ألا تشعر في وجدانك بأنَّ هذه
التناقضات لا تتناقضحقٍّا؛ لأنَّ كونًا واحدًا يحتويها جميعًا؟ تدور الروح في عجلةٍ زمنية
وتتحول معها كل الأشياء مرارًا وتكرارًا، ربما كُنت أصارع ستريك بصورٍ عديدة، كوحشٍ
ضد وحشوطائرٍضد طائر، وربما سنتصارَع إلى الأبد، ولكن لأن بعضنا يبحث عن بعض
ويحتاج بعضنا إلى بعض، فحتى الكراهية الأبدية تُعَد حُبٍّا أبديٍّا. والخير والشر وجهان
لعملةٍ واحدة ليس أكثر. ألا تُدرِكُ في وجدانك، وألا تعتقد في أصل كل معتقداتك، أنَّ الكون
فيه حقيقةٌ واحدة وأننا مُجرَّد ظلال لها، وأنَّ كل الأشياء مجرَّد وجوهٍ لشيء واحد؛ مركز
«؟ يذوب فيه البشر في بوتقةٍ إنسانية واحدة، ثم تذوب هذه البوتقة وتصبح إلهية
«. لا» : فقال الأب براون
كان الشفق بدأ يُسدِل أستاره في الخارج متشحًا بثوب أمسيةٍ مليئة بالثلوج تبدو فيها
الأرضأكثر إشراقًا من السماء. ومن خلال نافذةٍ نصف مُغطاة بستارةٍ، رأى الأب براون
طيفًا خافتًا لشخصٍضخم يقف فيشرفة المدخل الرئيسي. ثم ألقى نظرةً خاطفة عابرة من
خلال النافذة الفرنسية التي دخل المنزل منها في البداية، فرأى طيفَيْ شخصَين واقفَين بلا
حراك يُخيِّمان عليها. ومن وراء الباب الداخلي ذي الزجاج الملون الذي كان مفتوحًا قليلًا،
رأى في الردهة القصيرة رأسَي خيالَين طويلَين، وصحيحٌ أنَّهما كان متضخمَين ومشوَّهَين
بسبب خفوت ضوء المساء، لكنَّهما كانا أشبه برسمتَين ساخرتَين رماديَّتَين لرجُلَين. وهنا
أدرَك الأب براون أنَّ بوين أخذ بنصيحته التي أسداها إليه عبر الهاتف. لقد أصبح المنزل
مُحاصَرًا.
ما فائدة إصرارك على » : وقال مُضيِّفه مُصرٍّا وهو ما زال يُحدِّق إليه بنظراتٍ مُنوِّمة
عدم التصديق؟ لقد رأيتَ جزءًا من تلك الدراما الأبدية بأمِّ عينَيك. رأيت تهديد جون ستريك
بقتل أرنولد أيلمر بالسحر الأسود. ورأيت أرنولد أيلمر يقضي على جون ستريك بالسحر
«. الأبيض. وها أنت ترى أرنولد أيلمر حيٍّا يُرزَق ويتحدَّث إليك الآن. ومع ذلك لا تُصدِّقها
ونهضمن كرسيه كأنَّه يُنهي الزيارة. «. كلَّا، لا أصدِّقها » : فقال الأب براون
«؟ لماذا لا تُصدِّق » : فسأله الآخر
لم يرفع القسُّ صوته إلَّا قليلًا، لكنَّ صداه رَنَّ في كل رُكنٍ من أركان الغرفة كأنَّه
لأنك لست أرنولد أيلمر. أعرفُ هويتك الحقيقية. اسمك جون ستريك، وقد » : جرس. وقال
«. قتلتَ آخر الأشقاء الثلاثة الذي ترقد جثته خارجًا في الثلج
وحينئذٍ بدأت عينا الرجل الآخر في الجحوظ وظهرت حلقة بيضاء حول بؤبؤ العين
وبدا كما لو أنَّه يبذل جهدًا أخيرًا بمُقلتَيه الجاحظتَين لتنويم الأب براون إيحائيٍّا والسيطرة
عليه. ثم تحرك جانبًا فجأةً، ولكن في اللحظة نفسها، فُتِح الباب من خلفه، وفوجئ بمُحقِّقٍ
شُرطيٍّ ضخم البنيان ذي ثيابٍ مدنية يضع إحدى يدَيه بهدوءٍ على كتفه، بينما كانت يده
الأخرى متدليةً إلى الأسفل، لكنَّها كانت تُمسِك مسدسًا. فنظر الرجل حوله بجنونٍ ورأى
رجالًا آخرين يرتدون ثيابًا مدنية في جميع أنحاء الغرفة الهادئة.
وفي ذلك المساء، تبادل الأب براون أطراف الحديث مرَّةً أخرى مع بوين في محادثةٍ
أطول عن مأساة عائلة أيلمر. وكانت الحقيقة الرئيسية في القضية قَد تكشَّفت آنذاك بما
لا يدع مجالًا للشك، لأنَّ جون ستريك اعترف بهويته، واعترف بجرائمه، أو على وجه الدقة
تباهى بانتصاراته. ومقارنةً بأنَّه أتَمَّ مهمته الرئيسية في الحياة بقتل آخر الأشقاء الثلاثة،
بَدَت جميع الأشياء الأخرى بلا قيمةٍ بالنسبة له، بما فيها الحياة نفسها.
لقد كان مهووسًا بغايةٍ واحدة؛ لذا لا » : قال الأب براون متحدثًا عن جون ستريك
يكترث بأيِّ شيءٍ آخر، ولا حتى ارتكاب أيِّ جريمة قتل أخرى. وأنا مَدينٌ له بشيءٍ بسبب
ذلك؛ لأنني اضطُرِرت إلى طمأنة نفسيبهذه الفكرة مرارًا عصراليوم. فكما قد يخطُر على
بالك بالتأكيد، كان بإمكانه أن يُردِيَني قتيلًا برصاصةٍ عادية ويخرج من المنزل بدلًا من
أن ينسج كل هذه الحكايات الخيالية، التي كانت غريبةً لكنَّها عبقرية، عن مصَّاصيالدماء
«. المُجنَّحين والرصاصالفضي. وأؤكِّد لك أنَّ ذلك خَطَر على بالي مرارًا
أتساءل لماذا لم يفعل ذلك! لا أفهم السبب، كما أني لا أفهم أي شيء » : فقال بوين
«؟ حتى الآن. ما الذي اكتشفتَه، وكيف اكتشفته بالله عليك
أوه، لقد أعطيتني معلوماتٍ قَيِّمةً للغاية، لا سيما تلك » : فأجاب الأب براون بتواضع
المعلومة التي كانت بالغة الأهمية؛ أعني حين قُلتَ إنَّ ستريك كان كاذبًا مُبدعًا في اختلاق
الأكاذيب بمُخيِّلةٍ واسعة وارتجالٍ بديهي. وقد احتاج إلى استخدام تلك المهارة في عصر
اليوم، لكنَّه كان على قَدر التحدِّي. ربما كان خطؤه الوحيد أنَّه اختار قصَّةً خارقة للطبيعة.
«. كان يظنُّ أنني ينبغي أن أصدِّق أيَّشيءٍ لأنني قسٌّ، وهذا ما قد يظنه الكثيرون
«. لكنني لا أفهم شيئًا على الإطلاق. يجب أن تسرد ما حدث من البداية » : فقال الطبيب
بدأ كل شيءٍ برداءٍ منزلي. لقد كانت هذه إحدى أفضل » : فقال الأب براون ببساطة
حِيَل التنكُّر التي شهدتها في حياتي. فحين تُقابل رجلًا يرتدي رداءً منزليٍّا في منزلٍ، يتبادر
إلى ذهنك تلقائيٍّا أنَّه يعيش في هذا المنزل. وقد ظننتُ ذلك بالفعل، ولكن بعد ذلك، حدثَت
بضعة أشياء غريبة؛ فحين أخذ المسدس من الخزانة، أبعده عن جسده قدر الإمكان قبل
أن يضغط عليه، كرجُلٍ يُمسك سلاحًا غريبًا عليه ويحاول التيقُّن من أنَّه ليس مُذخَّرًا،
ولو أنَّه كان صاحب المنزل حقٍّا، فبالطبع كان ليعرف ما إذا كانت المسدسات الموجودة في
ردهة منزله مُذخَّرةً أم لا. وكذلك لم تعجبني الطريقة التي كان يبحث بها عن الخمر، أو
الطريقة التي كاد يصطدم بها بوعاء السمك. فحين يملك رجلٌ شيئًا هَشٍّا كهذا في أثاث
منزله، يتفاداه تلقائيٍّا بحُكم العادة، لكنَّ هذه الملاحظات ربما كانت مجرد أوهام خيالية.
أمَّا الخيط الحقيقي الأوَّل، فتفتَّق ذهني عنه بِناءً على ذلك؛ دخل الرجل الصالة في البداية
من تلك الردهة الصغيرة، التي كانت تقع بين بابَين ولا تحتوي إلَّا على بابٍ واحد آخر
فقط يؤدي إلى غرفةٍ؛ لذا افترضتُ أنَّها غرفة النوم التي جاء منها للتو. ولكن حين جرَّبت
فتحها بمقبضالباب، وجدتُها مُقفَلة. فظننت ذلك غريبًا، لذا نظرت إلى داخلها من خلال
ثقب المفتاح، لأجد أنَّها كانت خاليةً تمامًا، ومن الواضح أنَّها كانت مهجورة، لأنَّها لم تكن
تحتوي على سريرٍ ولا أيِّ شيءٍ آخر. لذا تبيَّن لي أنَّه لم يأتِ من داخل أي غرفة، بل من
خارج المنزل. وحين تفطنتُ إلى ذلك، أظن أنني أدركتُ الصورة كاملة.
لا شكَّ أن أرنولد أيلمر المسكين كان ينام في الطابق العلوي وربما كان يعيش فيه
طوال الوقت، وحين نزل إلى الطابق السفلي مرتديًا رداءه المنزلي وفتح باب الردهة الزجاجي
الأحمر، وجد في نهايتها، التي كانت مُعتمة أمام ضوء النهار الشتوي الخافت، عدو عائلته.
رأى رجلًا مُلتحيًا طويلًا يعتمر قبعة سوداء عريضة الحواف، ويرتدي عباءةً سوداء كبيرة
ذات كُمَّين فضفاضَين، ولم يرَ الكثيرَ في هذه الدُّنيا بعد ذلك؛ إذ انقضَّستريك عليه، وربما
خنقه أو طعنه؛ لا يمكننا التيقن من ذلك حتى إجراء التحقيق. ثم سمع ستريك، الذي كان
يقف في الردهة الضيقة بين حامل القُبَّعات والخزانة الجانبية القديمة ناظرًا بانتصارٍ إلى
جثة آخر خصومه الهامدة على الأرض، شيئًا لم يكن يتوقعه. سَمِع خُطَا أقدام في الصالة.
لقد كانت هذه خطواتي بعدما دخلت من النافذة الفرنسية.
كان تنكُّره معجزةً من حيث سرعةُ البديهة؛ إذ لم يقتصر على التنكُّر بالثياب، بل
بنسج قصة خيالية أيضًا بارتجالٍ فائق. خلع قبعته السوداء الكبيرة وعباءته وارتدى رداء
الرجل الميت. ثم فعل شيئًا مُروِّعًا إلى حد ما، أو على الأقل شيئًا أصاب مُخيِّلتي بتأثيرٍ أفظع
من أفعاله الأخرى. علَّق الجثة كأنَّها معطف على أحد مشاجب القبعات. ثم كَساها بعباءته
الطويلة، ووجد أنَّ طولها يُغطِّي الكعبَين. ثم غَطَّى الرأس كُلَّه بقبعته العريضة. كانت
هذه الطريقة الوحيدة الممكنة لإخفاء الجثة في هذه الردهة الضيقة ذات الباب المُغلَق، لكنها
كانت شديدة الذكاء، لدرجة أنني مررت بنفسي بجوار حامل القبعات مرَّةً دون أن أنتبه
إلى وجودشيءٍ غريب فيه. أظنُّ أنَّ عقلي الباطن سيُشعرني دائمًا برجفة كُلَّما أعُلِّق قُبَّعتي
من الآن فصاعدًا.
وربما كان بإمكانه أن يترك الجُثَّة مُعلَّقةً هكذا، لكنني ربما كنت سأكتشفها في أيِّ
لحظة، ولا شَكَّ أنَّ وجود جُثَّة مُعلَّقة في هذا المكان كان سيتطلَّب ما تُسمُّونه تفسيرًا؛ لذا
أقدَم على الخطوة الأجرأ وكلَّف نفسه عناء كشفها وتفسير وجودها.
ثم تفتَّق هذا العقل العجيب ذو المخيلة الخصبة عن فكرة تبديل الأدوار؛ إذ كان قد
تقمَّصدور أرنولد أيلمر بالفعل. فلماذا لا يجعل عدوه الميت يتقمَّصدور جون ستريك؟
ولا بد أنَّ شيئًا ما في ذلك الوضع المقلوب استهوى ذلك المهووس. لقد كان الأمر أشبهَ
برقصةٍ تنكُّرية خيالية ومخيفة يؤدِّيها عدوَّان فانيان يتنكر كُلٌّ منهما بملابس الآخر. كُلُّ
ما هنالك أنَّها كانت أشبه برقصة الموت، وأنَّ أحد الراقصَين كان ميتًا؛ لذا يمكنني أن أتخيل
«. ذلك الرجل وهو ينسج تفاصيلها في ذهنه، وأتخيله وهو يفعل ذلك مُبتسمًا
كان الأب براون يحدق إلى فراغ الغرفة بعينَيه الرماديتَين الواسعتَين، اللتَين تُصبحان
الشيء الوحيد البارز في وجهه حين لا يَشوبُهما رَمْشهما المعتاد. وواصل كلامه ببساطةٍ
كل الأشياء من عند لله، وأهمها التفكير والخيال والهِبات العقلية العظيمة؛ لذا » : وجدية
فهذه الأشياء طيِّبةٌ في حد ذاتها، ويجب ألَّا ننسى أصلها الطيب إطلاقًا حتى حين يُساء
استعمالها. وفي هذه القضية، أساء هذا الرجل استخدام موهبةٍ نبيلة جدٍّا: سرد القصص.
كانت لديه قُدرة رائعة على تأليف القصص، لكنَّه استغلَّ مُخيِّلته المميزة في أغراضٍدنيوية
خبيثة؛ من أجل خداع الآخرين بحقائق خيالية زائفة بدلًا من إثراء مُخيِّلاتهم بخيالٍ
حقيقي. لقد بدأت هذه العادة الخبيثة بخداع أيلمر المُسِن بحججٍ محبوكةٍ وأكاذيب مُفصَّلةٍ
بدهاء، لكنْ حتى ذلك ربما كان أشبهَ في البداية بالقصص الطويلة والتفاهات السخيفة
التي قد يرويها طفلٌ يدَّعي بالطريقة نفسِها أنَّه رأى ملك إنجلترا أو ملك الجِنِّيات. ثُمَّ نمَت
داخله بتغذِّيها على رذيلة الاختيال التي تُديم كل الرذائل؛ إذ أصبح أكثر اختيالًا ببديهته
السريعة في اختلاق قصصٍ من وحي ابتكاره، ودقته الشديدة في نسج تفاصيلها. هذا ما
قصده الأشقَّاء الثلاثة حين قالوا إنَّه دائمًا ما كان يستطيع السيطرة على أبيهم بتعويذة
خفية، وقد كان ذلك صحيحًا. إنَّها كالتعويذة التي كانت الراوية تؤثِّر بها على الحاكم
وهكذا عاش حياته كُلَّها باختيال الشعراء وشجاعة .« ألف ليلةٍ وليلة » المستبد في قصص
الكذَّابين البارعين الزائفة وغير المفهومة في آنٍ واحد. ودائمًا ما كان قادرًا على اختلاق مزيدٍ
من القصص على غرار قصص ألف ليلة وليلة كُلَّما أصبحت حياته في خطر، مثلما كانت
اليوم.
لكنني متيقنٌ، كما قُلتُ سَلفًا، من أنَّه استمتع بالخيال الكامن فيما فعله كما تلذَّذ
بالخديعة الكامنة فيه. لقدشَرَع فيسرد القصة الحقيقية بتفاصيل معاكسة، مُعتبرًا الرجل
الميت حَيٍّا والرجل الحيَّ ميتًا. وكان قد ارتدى بالفعل رداء أيلمر المنزلي؛ لذا واصَل حيلته
بتقمُّص جسد أيلمر وروحه. نظر إلى الجثة الباردة المستلقية في الثلج كأنَّها جُثَّته، ثم
مَدَّ أطرافها بهذه الطريقة الغريبة ليوحي بأنَّ القتيل كان أشبه بطائرٍ جارح يحاول
الانقضاضعلى فريسته، ولم يَكتفِ بأنَّه كساها بعباءته السوداء ذات الكُمَّين الفضفاضَين
الأشبه بجناحَين، لكنَّه غَلَّفها بقصةٍ خرافية خبيثة عن الطائر الأسود الذي لم يكن من
الممكن أن يُردَى قتيلًا إلَّا برصاصةٍ فضية. لا أعرف ما إذا كان البريق الفضيفي الخزانة
الجانبية أم الثلج اللامع وراء الباب هو الذي أوحى إلى مُخيِّلته الخلَّاقة بموضوع السحر
الأبيض والمعدن الأبيض الذي يُستخدَم ضد السحرة، ولكن بغضِّ النظر عَمَّا أوحى إليه
باستخدام هذه الفكرة، فقد كيَّفها ليَحبِكَ بها قصته كأنَّه هو الذي ابتدعها كشاعرٍ يَنظِم
قصيدة، وفعل ذلك بسرعةٍ بالغة كرجُلٍ عَمَلي. ثم أتَمَّ تبديل الأدوار برمي الجثة خارج
المنزل إلى الثلج كأنَّها جثة ستريك. لقد بذل قصارى جهده لتأليف فكرةٍ مُخيفة تُصوِّر
ستريك كائنًا يُحلِّق في كل مكان كخُفَّاشٍ يطير بجَناحَين سريعَين وينقضُّ على فريسته
بمخالب فتَّاكة، ليُفسِّرعدم وجود آثار أقدام أو أيِّ علاماتٍ أخرى. وأودُّ القول إنني معجبٌ
جدٍّا بأحد تصرُّفاته التي تجلَّت فيها صفاقته الخلَّاقة؛ إذ حوَّل أحد التناقضات في حَبْكة
قصته إلى حجةٍ تُبرهِنها، وذلك حين قال إنَّ طول عباءة الرجل الهائلة بالنسبة لقامته يُثبِت
أنَّه لم يكن يمشي بها قَط على الأرضكأيِّ بشرٍ عادي، لكنَّه كان ينظر إليَّ بصرامةٍ شديدة
بينما كان يقول ذلك، وهنا أوحى إليَّشيءٌ ما بأنَّه كان يحاول إقناعي بخدعةٍ هائلة في تلك
«. اللحظة
هل كنت قد اكتشفت » : كان بوين يُنصِت إلى الأب براون بتفكيرٍ عميق. ثم سأله
الحقيقة بحلول ذلك الوقت؟ أظنُّ أنَّ هناك أمرًا شديد الغرابة ومثيرًا للتوتُّر حول المفاهيم
المتعلقة بالهُوية؛ لذا لا أعرف ما إذا كان الأغرب أن تتوصَّل إلى تخمينٍ كهذا بسرعةٍ أم
«. ببطء. كما أود أن أعرف متى شككت في هُويته؛ ومتى تيقنت من شكوكك
أظنُّ أنني شككت حقٍّا حين اتصلت بك. ولم يكن ما أثار » : فأجاب صديقه قائلًا
شكوكي سوى شعاع من الضوء الأحمر القادم من وراء الباب المغلق سطع على السجادة
ثم خبا مرَّة أخرى. لقد بَدَا أشبه ببقعة دماء تزداد سطوعًا وهي تصرخ برغبتها في الانتقام.
فكرتُ حينئذٍ في السبب الذي يجعله يتغير هكذا، وكنت أعرف أنَّ الشمس لم تبرز من وراء
الغيوم بعد؛ لذا تفطَّنتُ إلى أنَّ السبب الوحيد الممكن أنَّ الباب الثانيَ المُطِل على الحديقة قد
فُتِح ثم أغُلِق مرَّة أخرى، ولكن لو كان صاحب المنزل قد خرج ورأى عدوه آنذاك، لأطلَق
صيحةً تحذيرية مدوِّية، وبعد ذلك ببعض الوقت، بدأ الشجار وسمعت صوت الضجيج
ودوي إطلاق النار. وهنا بدأت أشعر بأنَّه خرج قبل قليلٍ لفعل شيء ما … أو من أجل
تحضيرشيء ما … أمَّا بخصوصما أكَّد شكوكي، فكان شيئًا آخر. إذ تيقنت من شكوكي
أخيرًا حين حاول تنويمي إيحائيٍّا والسيطرةَ على روحي بفنِّ العينَين الأسود الذي بدا
كالطلاسم ونبرته التي بَدَت كالتعويذة. وهذا ما كان يفعله مع أيلمر الكبير بلا شك، لكنَّ
الأمر لم يقتصرعلى الطريقة التي كان يُحدِّثني بها، بل يشمل ماهية ما تكلَّم عنه، أقصد
«. جانبَيه الديني والفلسفي
يؤسفني القول إنني شخصٌعملي، ولا أبالي كثيرًا بالدين » : فقال الطبيب بفُكاهةٍ فَظَّة
«. والفلسفة
لن تكون رجلًا عمليٍّا أبدًا إلى أن تُبالي بهما. أصغِ إليَّ أيُّها الطبيب، » : فقال الأب براون
أنت تعرفني جيدًا، وأظنُّ أنَّك تعرف أنني لست متعصِّبًا، وتعرفُ أنني على درايةٍ بوجود
كلِّ أنواع البشرفي جميع الأديان؛ أناسٌصالحون ينتمون إلى أديانٍ فاسدة، وأناسٌطالحون
ينتمون إلى أديانٍصالحة. ولكن توجد حقيقةٌ بسيطة تعلَّمتها بصفتي رجلًا عَمَليٍّا، حقيقةٌ
عَمَلية تمامًا، اكتشفتها بحُكم التجرِبة، مثل معرفة عادات أحد الحيوانات أو أجود أنواع
النبيذ؛ نادرًا ما التقيتُ مجرمًا يتفلسفإلا في موضوعاتٍ على غرار الاستشراق والعَود الأبَدي
وتناسُخ الأرواح، وعَجَلة القَدَر والثعبان الذي يَعَضُّذيله. وقَد اكتشفتُ بالممارسة العَمَلية
وحدها أنَّ هناك لعنةً على خُدَّام ذلك الثعبان؛ فهم سيزحفون على بطونهم وسيأكلون
التراب، وأنَّه لا يوجد أيُّ إنسان وغدٍ أو فاسق لا يستطيع التحدُّث في أمورٍ روحانية كهذه.
قد لا تكون هذه الأمور هكذا حَقٍّا في أصولها الدينية الحقيقية، ولكن هنا في دُنيانا العَمَلية،
«. فهي دينُ الأوغاد، وحينئذٍ عرَفت أنَّ الذي يتحدث وغدٌ
لماذا؟ لقد كنت أظنُّ أنَّ الإنسان الوغد يستطيع أن يعتنق أيَّ دينٍ » : وهنا قال بوين
«. يختاره تقريبًا
نعم، يستطيع أن يعتنق أيَّ دين، أو حتى يتظاهر » : فصَدَّق القسُّ على ذلك قائلًا
باعتناق أيِّ دين، إذا كان تصرُّفه يقتصر على التظاهر. أمَّا إذا كان مجرد كذبٍ تلقائي
مُعتاد، فلا شك أنَّ فاعله مُجرَّد كذَّابٍ معتاد الكذب بتلقائية. يمكن وضع أيِّ قناعٍ على
أي وجه، ويمكن لأي شخصٍ أن يتعلم عباراتٍ معينةً أو يدَّعي أنَّه يحمل وجهات نظر
معينة؛ إذ يمكنني أن أخرج إلى الشارع وأقول إنَّني ميثوديٌّ وسلي، أو ساندمانيٌّ، وإن
كُنتُ لا أستطيع قول ذلك بلهجةٍ مقنعة جدٍّا مع الأسف، لكنَّنا نتحدثُ هنا عن فنان، ولكي
يتلذَّذَ الفنان بعمله، يجب أن يكون القناع مضبوطًا على الوجه بإحكام إلى حدٍّ ما، ويجب
أن يكون ما يُظهِره هذا الرجل متطابقًا مع ما يُبطنه؛ إذ لا يمكنه أن يصوغ أفعاله إلَّا
من بعض عناصر روحه. أظنُّ أنَّه كان قادرًا على ادِّعاء أنَّه ميثوديٌّ وسلي، لكنَّه ما كان
ليستطيع قط أن يكون ميثوديٍّا بليغًا مثلما يستطيع أن يكون متصوِّفًا روحانيٍّا وقَدَريٍّا
بليغًا. أقصد نوعية المثالية التي يُفكِّر فيها مثلُ هذا الرجل حين يحاول حقٍّا أن يكون
مثاليٍّا. لقد كانت لعبته معي كُلُّها تعتمد على أن يكون مثاليٍّا قدر الإمكان، وكلَّما حاول
هذا النوعُ من الرجال فِعل ذلك، وجدتَ عمومًا أن هذه هي نوعية المثالية التي يسعون
إليها. فربما تجد الرجل منهم يقطُر دَمًا، لكنَّه سيستطيع دائمًا أن يقول لك بنبرةٍ صادقة
جدٍّا إنَّ البوذية أفضل من المسيحية. كلَّا، بل سيقول لك بنبرةٍ شديدة الصدق إنَّ الديانة
البوذية أكثرُ مسيحيةً من الديانة المسيحية نفسِها. وهذا كفيلٌ بإبراز بشاعة تصوُّراته عن
«. المسيحية وشناعة أفكاره عنها
«. عَجَبًا! لا أعرف ما إذا كُنتَ تنتقد الرجل أم تدافع عنه » : فقال الطبيب ضاحكًا
إنَّ وصف رجلٍ بأنَّه عبقريٌّ ليس دفاعًا عنه على الإطلاق. ومن » : فقال الأب براون
الحقائق النفسية البسيطة أنَّ الفنَّان قد يخون نفسه بشيءٍ من حسن النية؛ فليوناردو
دا فينشي لا يستطيع أن يرسم متظاهرًا بأنَّه لا يُجيد الرسم. وحتى لو حاول، فدائمًا ما
ستكون لوحاته محاكاةً ساخرة قوية لشيء تافه. وهذا الرجل كان سيبتدع شيئًا مخيفًا
«. وعجيبًا للغاية من شخصية الميثودي الوسلي
وحين خرَج القسُّ مرَّة أخرى قاصدًا منزله، كان البرد أشد، لكنَّه كان مُسكِرًا بعض
الشيء؛ كانت الأشجار منتصبةً كشمعداناتٍ فِضِّية تحمل شموعًا رائعة في عيد تطهير
السيدة العذراء. وكان البرد القارس واخزًا مثل ذلك السيف الفضي للألم الخالص الذي
وَخَز قلب الطهارة نفسه، لكنَّه لم يكُن بردًا قاتلًا، باستثناء أنَّه بَدا كأنَّه يقتل كل العوائق
الفانية لحيويَّتنا الخالدة التي ليس لها حدود. فيما بدا الأفُق الأخضر الشاحب للشفق،
الذي كان مُزيَّنًا بنجمٍ واحد كنَجم بيت لحم، كما لو كان كهفًا من الوضوح في مشهدٍ
يحمل بعضالتناقضالغريب. كان الجو أشبهَ بفُرن تبريد أخضريبثُّ الحياة في كلشيءٍ
كحرارةٍ دافئة، وكُلَّما ازداد طغيان الألوان البِلَّورية الناتجة عن البرد على هذه الأشياء،
صارت أخفَّ كمخلوقاتٍ مجنحة وأوضح كزجاجٍ ملوَّن! كان البرد يُثير شعورًا أشبه بوخز
سماع الحقيقة، ويَفصل بين الحقيقة والضلال بنصلٍ بارد كالثلج، لكنَّ كل ما كان يتبقى
لم يَبدُ حَيٍّا للغاية هكذا قَط. وبدا كأنَّ كل البهجة صارت أشبهَ بجوهرة في قلب جبل
جليدي. واستطاع القسُّ بالكاد أن يفهم حالته المزاجية بينما كان يغوصأعمق فأعمق في
الغسق الأخضر، ناهلًا تياراتٍ أعمقَ من ذلك الهواء ذي الحيوية العذرية. وبدا أنَّ بعض
الكَدَر والسوء المنسي كان يُترَك وراء ظهره، أو يُمحى كما يمحو الثلجُ آثارَ أقدام القاتل
ومع » : الدموي. وبينما كان يسير متثاقلًا نحو منزله عبر الثلج، تمتم بينه وبين نفسه قائلًا
ذلك، فهو مُحق جدٍّا بشأن وجود السحر الأبيض؛ كلُّ ما كان ينقصه أن يبحث عنه في
«. المكان المناسب
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.