كان الأب براون في إحدى مراحل حياته يجد صعوبةً في تعليق قُبَّعته على الِمشجَب دون أن
يحاول كبح رجفة خفيفة تنتابه. وصحيحٌ أنَّ أصل هذه العادة الخاصة اللاإرادية كان
تفصيلةً بسيطة في أحداث أكثر تعقيدًا، لكنَّها ربما كانت التفصيلة الوحيدة التي ظلَّت معه
في حياته الحافلة بالمشاغل لتُذكِّره بكُلِّ تفاصيل تلك القضية؛ إذ يَكمُن أصلها البعيد في
الحقائق التي دفعَت بوين، الضابط الطبيب المُلحَق بقوات الشرطة، إلى استدعاء القسِّ في
صباح يوم قارس البرودة في شهر ديسمبر.
كان الطبيب بوين رجلًا أيرلنديٍّا ذا بُنيانٍ ضخم ووجهٍ عابس، وواحدًا من أولئك
الأيرلنديين المُحيِّرين الذين يمكن للمرء أن يجدهم في جميع أنحاء العالم، والذين يَستطيعون
التحدُّث بإسهابٍ واستفاضة عن الشكوكية العلمية والفلسفة المادية والسينيكية، لكنَّهم لم
يُفكِّروا قَط في إحالة أيِّ شيء ذي صلة بالطقوس الدينية إلى أيِّ شيء آخر سوى العقيدة
التقليدية لوطنهم الأصلي. ومن الصعب تحديد ما إذا كانت عقيدتهم مُجرَّد قشرةٍ سطحية
للغاية أم جوهرٍ أساسي عميق، لكنَّها قد تكون كلَيهما على الأرجح، مع وجود كتلةٍ من
الفلسفة المادية بينهما. على أي حال، حين اعتقد بوين أنَّ القضية التي تُحيِّره قد تتضمَّن
أمورًا دينية من هذا النوع، طلب من الأب براون زيارته، مع أنَّه لم يُبدِ أي تفضيلٍ للجانب
الديني منها.
أتعلمُ أنني لست متيقنًا ممَّا إذا كنت أريد مشورتك. بل لست » : حيَّا الأب براون قائلًا
متيقنًا من أيِّشيء حتى الآن. كما أني لا أستطيع أن أحدِّد ما إذا كانت هذه القضية تحتاج
«. إلى استشارة طبيبٍ أمشُرطيٍّ أم قَسٍّ
الخنجر المجنح
حسنًا، على ما أظن أنَّك شُرطيٌّ وطبيب؛ لذا يبدو أنني » : فقال الأب براون بابتسامة
«. أقلية في هذا المجلس الثنائي
أعترف بأنَّك ما يُسمِّيه الساسة أقليةً مُستنيرة. أقصدُ أنني » : فَرَّد عليه بوين قائلًا
على درايةٍ بأنَّك تعرف القليل عن اختصاصنا إلى جانب اختصاصك بالطبع، ولكن من
الصعب تحديد ما إذا كانت هذه القضية من اختصاصك أم اختصاصنا، أم اختصاص
أطباء الأمراض النفسية. لقد تلقينا للتو رسالةً من رجل يعيش بالقرب من هنا، في ذلك
البيت الأبيض الواقع على التل، يطلب فيها الحماية من تهديد قاتل ما. حسنًا، يبدو أننا
تعمَّقنا في الحقائق إلى حدٍّ بعيد، وربما من الأفضل أن أسرد لك القصة كما حدثت، من
البداية.
يبدو أنَّ رجُلًا اسمه أيلمر، كان من مُلَّاك الأراضيالأثرياء في الريفالغربي الإنجليزي،
تزوَّج في مرحلةٍ متأخرة من حياته نوعًا ما، وأنجَب ثلاثة أبناء: فيليب وستيفن وأرنولد،
ولكن في أيام عزوبيته، حين كان يعتقد أنَّه سيعيش ويموت بلا وريث، تبنَّى صبيٍّا كان
يحسبه شديد الذكاء ذا مستقبلٍ مُبهر، يُدعى جون ستريك. ويبدو أنَّ أصل ذلك الصبي
غامضٌ؛ إذ يُقال إنَّه لقيط، فيما يقول البعضإنَّه غجري. وأعتقد أنَّ ما يُعزِّز الرأي الثانيَ
هو أنَّ أيلمر انغمسفي جميع أنواع السحر الحقير، بما في ذلك قراءة الكف والتنجيم، وذلك
في أراذل عمره، ويقول أبناؤه الثلاثة إنَّ ستريك هو الذي شجَّعه على ذلك، لكنَّهم ذكروا
الكثير من الأشياء الأخرى إلى جانب ذلك؛ إذ قالوا إنَّ ستريك كان وغدًا مدهشًا، وبالأخصِّ
كاذبًا مُذهِلًا، مشيرين إلى أنَّه كان عبقريٍّا في اختلاق الأكاذيب بارتجالٍ بديهي، وسردها
بأسلوبٍ يجعلها تنطلي على المُحقِّقين أنفسِهم، ولكن قد يكون هذا تحيُّزًا طبيعيٍّا ضده في
ضوء ما حدث.
ربما يمكنك أن تُخمِّن ما حدث. لقد أوصىالرجل المُسِن بنقل كل تَرِكته تقريبًا إلى
الابن المُتبنَّى، وبعد موته اعترضأبناؤه الشرعيون الثلاثة على الوصية؛ إذ قالوا إنَّ والدهم
تنازل عن ثروته وارتكب هذه الحماقة التافهة، على حد قولهم بلا تجميل، تحت التهديد.
وذكروا أنَّ ستريك اتَّبع أغرب الطُّرُق وأكثرها دهاءً للوصول إلى أبيهم، بالرغم من وجود
الممرِّضات وبقية أفراد أسرته حوله، وترهيبه وهو على فراش الموت. على أي حال، يبدو
أنَّهم أثبتوا شيئًا عن عدم سلامة صحة أبيهم العقلية؛ لأنَّ المحاكم حكمت ببطلان الوصية،
ونالوا نصيبهم من الميراث. ويقال إنَّ ستريك استشاط غضبًا بشدة، وأقسَم لَيَقتلنَّهم الثلاثة،
واحدًا تلو الآخر، وأنَّ شيئًا لن يحول بينهم وبين انتقامه. والآن فإن أرنولد أيلمر، الشقيق
«. الثالث وآخر من تبقَّى منهم، هو الذي يطلب حماية الشرطة
«! الثالث والأخير » : فقال القسُّ مُحدِّقًا إليه بِجِديَّة
ثم حلَّ صمتٌ لَحْظيٌّ قبل أن يواصل «. نعم. لقد مات الشقيقان الآخران » : فقال بوين
وهذا هو منبع الشك؛ إذ لا يوجد دليلٌ على مقتلهما، لكنَّ الأرجح أنَّهما قُتِلا. » : كلامه قائلًا
حيث يُفترَضأنَّ الشقيق الأكبر، الذي صار مالك ضيعة ريفية، قد انتحر في حديقته. أمَّا
الثاني، الذي أصبح صاحب مصنعٍ ودخَلَ مجال التجارة، فقد تهشَّم رأسه أسفل مطرقةٍ
حديدية في إحدى آلات مصنعه، وربما يكون قد تعثَّر وسقط عليها قبل أن تُودِيَ بحياته،
ولكن إذا سَلَّمنا بأنَّ ستريك قتلهما، فلا شَكَّ أنَّه بارعٌ جدٍّا في ارتكاب جريمته والهَرَب.
وعلى الجانب الآخر، فمن المُحتمل بدرجةٍ كبيرة أنَّ الأمر برمته مُجرَّد هوسٍبنظرية المؤامرة
قائمٍ على مصادفة بحتة. والآن ركِّز معي؛ فأنا أريد شخصًا ذا بصيرة ثاقبة، لا يحمل صفةً
رسمية، يذهب إلى السيد أرنولد أيلمر ويتحدَّث إليه ويُكوِّن انطباعًا عنه. وأنت تستطيع
أن تُفرِّق بين رجلٍ مهووسٍ بوهمٍ ما ورجلٍ يقول الحقيقة؛ لذا أريد أن أرسلك في مهمةٍ
«. استطلاعية قبل أن نتولَّى هذه القضية
يبدو غريبًا بعضالشيء أنَّكم لم تُضطروا إلى تولِّيها من قبل. » : وهنا قال الأب براون
فإذا كان هناك أيُّ خَطبٍ مُريب في هذه القضية، فعلى ما يبدو أنَّه موجود منذ فترةٍ طويلة.
«؟ إذن هل يوجد سببٌ مُعيَّن يجعله يستنجد بكم الآن فقط أكثر من أي وقت مضى
لقد خَطَر ذلك على بالي، كما قد تتصوَّر. وصحيحٌ أنَّه ذَكَر السبب » : فأجاب بوين
الذي دفعه إلى ذلك، لكنني أعترف بأنَّ ما قاله هو أحد الأشياء التي تجعلني أشك أنَّ
الأمر برُمته مجرد وهمٍ يعيشه شخصٌ مهووس مخبول؛ إذ قال إنَّ جميع خُدَّامه رفضوا
الانصياع لأوامره وتركوه فجأةً؛ لذا اضطرَّ إلى الاستنجاد بالشرطة لتحرس منزله. وحين
أجريتُ تحرِّياتي، تيقَّنتُ من أنَّ الخُدَّام تركوا العمل في ذلك المنزل الواقع على التل بشكلٍ
جماعي، وبالطبع البلدة مليئة بالحكايات، لكنَّها حكاياتٌ شديدة الانحياز إلى طَرفٍ واحد
على حد اعتقادي؛ إذ يقول الخُدَّام إنَّ سيِّدهم أصبح لا يُطاق إطلاقًا في تململه ومخاوفه
وأوامره الصارمة، وإنَّه كان يريدهم أن يحرسوا المنزل كالخُفَراء، أو يسهروا طوال الليل
كمُمرِّضات المناوبات المسائية في المستشفيات، وألَّا يتركوه وحده إطلاقًا لأنَّه يجب ألَّا يُترَك
وحده أبدًا؛ لذا صاحوا فيه جميعًا بأنَّه مجنونٌ وتركوا المنزل. وصحيحٌ أنَّ هذا لا يُثبِت أنه
مجنون، ولكن يبدو غريبًا في هذه الأيام أن يطلب سيِّدٌ من خادمه أو خادمته أن يعملَ
«. خفيرًا لديه
وهكذا هو يريد شُرطيٍّا ليعمل لديه كخادمة؛ لأنَّ الخادمة » : فقال القَس بابتسامة
«. ترفضالعمل لديه كشرطي
وأنا أيضًا أراه طلبًا يصعُب تنفيذه، ولكن لا أستطيع تحمُّل » : اتفق معه بوين قائلًا
«. مسئولية رفضه رفضًا قاطعًا حتى أجُرِّب حَلٍّا وَسَطًا. وأنت الحل الوسط
«. حسنًا. سأذهب وأزوره الآن إذا شِئتَ » : فقال الأب براون ببساطة
كانت الأراضيالريفية المتموِّجة المحيطة بالبلدة الصغيرة تُشكِّل إطارًا مُغلقًا مُتجمِّدًا
من شدة الصقيع، وكانت السماء صافيةً وباردةً كالصُّلب، باستثناء جهة الشمال الشرقي
حيث بدأت تتلبَّد بغيومٍ ذات هالاتٍ لها بريق مخيف. وعلى عكس هذا الأفُق الداكن الباعث
على الكآبة، كان المنزل الواقع على التل يلمع مع صف من الأعمدة الباهتة التي تُشكِّل
رواقًا قصيرًا على الطراز الكلاسيكي، ويؤدي إليه طريقٌ متعرجٌ صاعدٌ عبر منحنى التل،
ومنغمسٌ وسط كَمٍّ هائل من الشجيرات الداكنة. وقُبيل انغماس الطريق في الشجيرات
مباشرة، بدأ الهواء يشتدُّ برودةً، كما لو كان القَسُّ يقترب من مستودع ثَلجٍ أو القطب
الشمالي، لكنه كان شخصًا عمليٍّا للغاية، ودائمًا ما كان يعتبر هذه الخيالات مجرَّد خيالات
فحسب. ولم ينظر إلَّا إلى الغيمة الرمادية الداكنة الكثيفة العظيمة التي تزحف فوق المنزل،
«. ستُثلِج السماء » : وقال مُبتهجًا
وعَبْر بوابةٍ حديدية منخفضة مزخرفة على الطراز الإيطالي، دخل حديقةً بها بعضٌ
من تلك الكآبة التي لا تنجم إلَّا عن وجود خللٍ ما في أشياء منتظمة؛ إذ كانت النباتات
الخضراء الداكنة تبدو رماديةً في ظل اتِّشاحها بحُبَيبات الصقيع الناعمة الباهتة، بينما
كانت بعضالحشائش الكبيرة تُحيط بأحواضالزهور ذات النمط الباهت تدريجيٍّا كما لو
كانت تبدو موضوعةً في إطارٍ متآكلٍ مشوَّه، فيما بدا المنزل بارزًا وسط غابةٍ من الشجيرات
كاد ارتفاعها أن يطالَ خصر إنسانٍ لولا توقفُها عن النمو. وكانت معظم النباتات دائمة
الخضرة أو شديدة التحمُّل في الظروف القاسية، وصحيحٌ أنَّها كانت سميكةً وثقيلة، لكنَّها
كانت شماليةً جدٍّا إلى حد عدم إمكانية وصفها بأنَّها وافرة النماء؛ بل يمكن وصفها بأنَّها
نباتات غابة قطبية شمالية. وهو ما كان ينطبق بعض الشيء على المنزل نفسه، الذي
له رواقٌ من الأعمدة وواجهة كلاسيكية ربما تشبه تلك التي تُطِل على البحر المتوسط،
لكنها تبدو الآن وكأنَّ رياح بحر الشمال تعصف بها. وكانت بعضالزخارف الكلاسيكية
المنتشرة على المبنى وما حوله تُبرز هذا التناقض؛ إذ كانت بعضتماثيل العذارى والوجوه
الضاحكة والحزينة المنحوتة تُطِل من أركان المبنى على اللون الرمادي المُحيِّر الطاغي على
أزِقَّة الحديقة، لكنَّ الواجهات بَدَت وكأنَّها مُصابةٌ بقضمة الصقيع. وربما كانت الزخارف
الحلزونية التي تُتوِّج الأعمدة قد التَوَت بفعل البرد القارس.
ثم صَعِد الأب براون على دَرَجٍ عُشبي إلى شُرفةٍ مُربَّعة مُحاطة بأعمدة كبيرة وطرَقَ
الباب. وبعد حوالي أربع دقائق، طرقَه مرَّةً أخرى. ثم وقف منتظرًا بصبرٍ، مُديرًا ظَهره
نحو الباب ومتأملًا المَشهَد الطبيعي الذي بدأ الظلام يُخيِّم عليه ببطء. كان الأفق يُظلِم
أسفل الكتلة الهائلة من الغيوم التي أتتْ مُحلِّقةً من جهة الشمال، وبينما كان الأب براون
يتأمَّل ما وراء أعمدة الشُّرفة، التي بدَت أمامه شاهقةً وسوداء في الشفق، رأى الحافةَ البَرَّاقة
للغيمة الضخمة وهي تُخيِّم على سطح المنزل وتنحني نحو الشرفة كمِظلةٍ كبيرة. وبَدَت
هذه المظلة الكبيرة بحوافها ذات البريق الخافت وكأنها تهبط لأسفل فأسفل على الحديقة
من خَلف الشُّرفة، حتى جعلت السماء، التي كانت شتويةً صافيةً شاحبةً منذ دقائق، مُلبَّدةً
ببضع شرائط وشظايا فضِّية مثلما تظهر وقت غروبٍ باهت. فظلَّ الأبُ براون مُنتظرًا،
لكنَّه لم يسمع أي صوتٍ داخل المنزل.
ثم نزل على الدرج بخفَّةٍ ونشاط، ودار حول المنزل بحثًا عن مدخل آخر، إلى أن وجد
بابًا جانبيٍّا في الجدار المسطح، فطرقه وانتظر أيضًا. ثم جَرَّب فتْحَه بالمقبض، ووجد أنَّه
يبدو مغلقًا بقفلٍ أو ألواح ومسامير من الداخل، فتحرَّك بطول هذا الجانب من المنزل،
مُستكشفًا المَدَاخل الممكنة الأخرى، ومتسائلًا عمَّا إذا كان السيد أيلمر غريب الأطوار
متحصِّنًا في عُقر داره لدرجة ألَّا يسمع أيَّ طارقٍ على بابه، أم أنَّه أشد تحصُّنًا خشية
أن يكون أيُّ طارقٍ هو ستريك الراغب في الانتقام. ربما يكون الخُدَّام الذين تركوا العمل
بالمنزل قد فتحوا بابًا واحدًا فقط حين غادروا في الصباح، وأغلقه سيِّدهم بعد رحيلهم،
ولكن بصرف النظر عن ذلك، فأغلب الظنِّ أنَّ حالتهم المزاجية آنذاك لم تجعلهم يحرصون
على إحكام غلق جميع المداخل الأخرى؛ لذا واصل الأب براون تجوُّله حول المنزل، ولم يكن
منزلًا كبيرًا في الواقع، مع أنَّه ربما كان مبهرجًا بعض الشيء، وفي لحظاتٍ قليلة، اكتشف
أنَّه أتَمَّ دورة كاملة حوله. ثم سرعان ما وجد ما حَسبه وسعى إليه؛ النافذة الفرنسية
لإحدى الغرف، التي كانت مُغطَّاة بستارةٍ من الداخل ونباتٍ زاحف من الخارج، كانت
مفتوحةً قليلًا، ويبدو أنَّ أحدهم قدَ سَها عن إحكام غلقها، فدخل الأب براون من خلالها
ووجد نفسه في صالةٍ بها أثاثٌ مُنجَّد مُريح ذو طرازٍ قديم نوعًا ما، وفي أحد جانبَيها دَرَجٌ
يؤدي إلى أعلاها، وفي الجانب الآخر بابٌ يؤدِّي إلى خارجها. وأمام القَسِّمباشرةً، كان يوجد
بابٌ آخر ذو زجاجٍ أحمر يؤدِّي إليها من الخارج، وقد كان هذا مُبهرجًا قليلًا بالنسبة
للأذواق الحديثة، وبدا من وراء الزجاج الملوَّن المُبهرَج طيفُ شخصٍيرتدي عباءةً حمراء.
وعلى طاولة مستديرة في يمين الصالة، كان يوجد وعاءٌ كبير مليء بالمياه المخضرة تَسبح
فيه أسماكٌ وكائناتٌ بحرية كأنَّها في حوضسمك، وفي الجانب المقابل مباشرةً، كان يوجد
أَصِيصٌيحمل نباتًا من الفصيلة النخلية ذا أوراق خضراء كبيرة جدٍّا. وكل هذا بدا مُغطٍّى
بترابٍ كثيف ومنتميًا إلى بدايات الحقبة الفيكتورية لدرجة أنَّ وجود الهاتف، الذي رآه الأب
براون في كوَّةٍ جانبية مُغطَّاةٍ بستارة في أحد جدران الصالة، كان شِبه مُفاجئٍ.
من » : ثم سمع صيحةً حادةً مرتابة نوعًا ما من خلف الباب الزجاجي الملون تقول
«؟ هناك
«؟ هل لي أن أرى السيد أيلمر » : فسأل القَسُّ بنبرةٍ اعتذارية
وحينئذٍ، فُتح الباب ودَخل منه رجلٌ نبيل يرتدي رداءً منزليٍّا ذا لونٍ أخضرطاووسي،
وتعلو وجهَه نظرةٌ متسائلةٌ عن هُوية ذلك الضيف. كان شعره خشنًا نوعًا ما وغير مُصفَّف،
كأنَّه كان نائمًا أو يستفيق من نومه ببطء، لكنَّ عينَيْه لم تكونا مستيقظتين فحسب، بل
متيقظتين، وربما مذعورتين. وقد أدرك الأب براون أنَّ هذا التناقضواردٌ جدٍّا في رجلٍ لم
يعُد يكترث بمظهره في ظلِّ هوسه بوهمٍ ما أو خوفه من خَطَرٍ معيَّن. وكان وجهه يبدو من
الجانب لطيفًا شبيهًا بوجه النسر، ولكن عند رؤيته كاملًا من الأمام، فإن الانطباع الأول
لمَن يراه ينتج عن المَظهر غير المُشذَّب الأشعث للحيته البنية المهلهلة.
«. أنا السيد أيلمر، لكنني لم أعُد أتوقَّع قدوم زوَّار » : وقال
ويبدو أنَّ شيئًا ما في عين السيد أيلمر المضطربة دفع القَسَّ إلى التطرُّق إلى صُلب
الموضوع مباشرة. وإذا كان إحساسالاضطهاد الذي يُسيطر على أيلمر مُجرَّد هوسٍبفكرةٍ
واحدة، فمن المستبعد أن يثير ذلك التصرُّف استياءه.
كنت أتساءل عَمَّا إذا كان صحيحًا أنَّك لا تتوقَّع قدوم زوَّارٍ » : فقال الأب براون بلُطفٍ
«. أبدًا
«. إنَّك مُحِق. أتوقع دائمًا مجيء زائرٍ واحد. وقد يكون الأخير » : فأجاب مُضيِّفه بثبات
آمل ألَّا أكون هذا الزائر، لكنني أشعر بالارتياح على الأقل كي أخمِّن » : قال الأب براون
«. أنني لا أشبهه على الإطلاق
«. أنت بالتأكيد لا تُشبهه » : فاهتز السيد أيلمر ضاحكًا ضحكةً مدوِّية. وقال
سيد أيلمر، أعتذر عن تطفُّلي، لكنَّ بعض أصدقائي » : فقال الأب براون بصراحة
حَدَّثوني عن مشكلتك، وطلبوا مني معرفة ما إذا كان بإمكاني تقديم أيِّ مساعدةٍ لك؛
«. فالحقيقة أنَّ لديَّ خبرةً صغيرة في مثل هذه الأمور
«. هذه القضية ليس لها مثيل » : فقال أيلمر
أتقصد أنَّ المآسيَ التي وقعت لعائلتك التعيسة لم تكن وَفَيَات » : فقال الأب براون
«؟ طبيعية
بل أقصدُ أنَّها لم تكُن حتى جرائم قتل عادية؛ فالرجل الذي يلاحقنا » : فأجاب أيلمر
«. جميعًا حتى الموت أشبه بكلبٍ جَهنَّمي يستمد قوته من الجحيم
كلُّ الشرور لها أصلٌ واحد، ولكن ما يُدريك أنَّها لم تكن » : فقال القَسُّ بنبرةٍ جادة
«؟ جرائم قتل عادية
فأجاب أيلمر بإيماءةٍ تُشير إلى ضيفه بالقعود، ثم قعد ببطءٍ على كرسيٍّ آخر عابسًا
وواضعًا يدَيه على ركبتَيه، ولكن حين اطمأنَّ قليلًا، صارت تعبيرات وجهه أكثر اعتدالًا
ورصانة، وكان صوته وُديٍّا وهادئًا.
أيُّها السيد، أتمنَّى ألَّا تظنَّني شخصًا فاقدَ المنطق على أقل تقدير، ولكنني » : وقال
توصَّلتُ إلى هذه الاستنتاجات بالمنطق؛ لأنَّ المنطق يقود إليها بالفعل مع الأسف. لقد قرأتُ
الكثيرَ عن هذه الموضوعات ذات الصلة بالسحر؛ لأنَّني كنت الوحيد الذي وَرِث معرفة أبي
بالمسائل الغامضة بعضالشيء، وورثتُ مكتبته بعد وفاته، لكنَّ ما أقوله لك لا يستند إلى
«. ما قرأته، بل ما رأيته
في قضية أخي » : فأومأ الأب براون، فيما واصل الآخر كلامه، وكأنَّه ينتقي كلماته
الأكبر، لم أكن متيقنًا في البداية؛ إذ لم يُعثَر على أيِّ علاماتٍ تدل على الجاني أو آثار أقدام
في المكان الذي وُجِد فيه مرميٍّا بالرصاصوكان المسدس مُلقًى بجواره، ولكن قُبيل موته
مباشرة، تلقَّى رسالة تهديدٍ لا شكَّ أنَّها وَرَدتْه من عَدوِّنا؛ لأنَّها كانت موسومةً بعلامةٍ تُشبه
الخنجر المُجنَّح، الذي كان إحدى حِيَله الجهنمية الغامضة. وقالت إحدى خادمات أخي إنَّها
شاهدتْ شيئًا يتحرَّك بطول جدار الحديقة في الشفق أكبر من أن يكون قطة. سأكتفي بهذا
القدر، كل ما أستطيع قوله أنَّه إذا كان القاتل قد جاء وارتكب جريمته، فإنَّه تمكَّن من عدم
ترك أي أثر لقدومه. ولكن حين مات أخي ستيفن، كان الوضع مختلفًا. ومنذ ذلك الحين،
أدركت وجود خَطبٍ ما. كانت إحدى الآلات تعمل في سقَّالة مكشوفة تحت مدخنة المصنع،
فصَعِدتُ إلى المنصة التي مات عليها بعد لحظةٍ من سقوطه أسفل المطرقة الحديدية التي
أصابتْه، ولم أرَ أيَّشيء آخر من الممكن أن يكون قد أصابه سواها، لكنَّي رأيتُ شيئًا غريبًا.
كانت ألسِنةُ دخان المصنع الكثيف تموج بيني وبين مدخنة المصنع، ولكن من خلال
فتحةٍ صافيةٍ فيها، رأيت طَيف شخصٍ مُتشحٍ بما يُشبه عباءةً سوداء فوق المدخنة. ثم
اندفع الدخان الكبريتي بيننا مرة أخرى، وحين صفا الجوُّ من كَدَر الدخان، نظرت إلى قمة
المدخنة الشاهقة، فلم أجد أحدًا. إنني رجلٌ عقلاني، وأودُّ أن أسأل جميع العقلاء كيف
«؟ وصل الشخصالذي رأيته إلى هذا البرج العالي الذي يُسبِّب ارتفاعه الدُّوار، وكيف غادره
كان أيلمر يُحدِّق إلى القَسِّبنظراتٍ استفهامية جعلته يبدو كأبي الهول، ثم قال فجأةً
لقد تهشَّم دماغ أخي، لكنَّ جسده لم يتضرر كثيرًا. وعثرنا في جيبه » : بعد صمتٍ لحظي
على إحدى تلك الرسائل التهديدية مؤرَّخةً بتاريخ اليوم السابق ومدموغةً بعلامة الخنجر
«. المُجنَّح
أنا متيقنٌ من أنَّ رمز الخنجر المجنح ليس مجرد شيءٍ اعتباطي أو صُدفة » : وتابَع
عابرة. فلا توجد صُدفٌ فيما يفعله هذا الرجل البغيض. بل كل أفعاله محسوبةٌ وَفق
تدبيرٍ مُتعمَّد، لكنَّه تدبيرٌ مُبهم ومعقَّد للغاية؛ فعقله ليس منسوجًا من مُخططاتٍ مُفصَّلة
فحسب، بل من جميع أنواع اللغات والعلامات السرية، والإشارات الصامتة، والصور الخالية
من الكلمات التي تُمثِّل أسماء الأشياء المجهولة الأسماء. إنَّه أسوأ رجلٍ عرَفه العالم، إنَّه
رجل غامضشرير. لا أدَّعي أنني أفهم الفحوى الكاملة لهذا الرمز، ولكن يبدو بلا شكٍّ أنَّ
له علاقةً بكل الأمور اللافتة للغاية، أو التي لا تُصدَّق، في تحرُّكاته بينما كان يحوم حول
عائلتي التعيسة. ألا توجد علاقةٌ بين فكرة السلاح المُجنَّح والغموضالذي أرُدِيَ به فيليب
قتيلًا في حديقة منزله دون وجود أدنى أثرٍ لقدمٍ على التُّراب أو العشب؟ وألا توجد علاقةٌ
بين الخنجر ذي الجناحَين الريشيَّين الذي يُحلِّق كسهمٍ مُذيَّل بالريش وهذا الطيف الذي
«؟ ظهر لبرهةٍ أعلى المدخنة المتداعية مُتشحًا بعباءةٍ تبدو مُصمَّمة لكائنٍ ذي جناحَين
«؟ أتقصد أنَّه في حالة تحليقٍ دائم » : فقال الأب براون بتمعُّن
كان سيمون المجوسي كذلك، وقد ذكرت إحدى أكثر النبوءات شيوعًا » : فأجاب أيلمر
في العصور المُظلمة أنَّ المسيخ الدجال سيستطيع التحليق. على أي حال، كان هناك رمز
خنجرٍ طائر في الرسالتَين اللتَين وُجِدتا معهما. وسواءٌ أكان ذلك الخنجر يستطيع التحليق
«. أم لا، فلا شَكَّ في أنَّه يستطيع الطعن