صعد الأب براون بهدوءٍ شديد إلى الطابق العلوي مرَّة أخرى واستدعى صديقه
المفتش، ووقف الاثنان بجوار الجثة، في الفندق الذي لم يكن أيُّ أحدٍ آخر قد استيقظ
يجب ألَّا نفترضما هو واضحٌ أو » : فيه حتى الآن على ما يبدو. قال جرينوود بعد صمت
نتغاضىعنه، لكنِّي أظنُّ أننا من الأفضل أن نتذكر ما كنت أقوله لك عصرالبارحة. ومن
«. الغريب، بالمناسبة، أنني قُلتُه عصرالبارحة تحديدًا
«. صحيح » : قال الأب براون مومِئًا بالموافقة ومُحدِّقًا بنظرةٍ أشبه بنظرة البومة
كنتُ أقولُ إنَّ النوع الوحيد من جرائم القتل الذي لا يُمكننا منعه هو » : قال جرينوود
جرائم القتل التي يرتكبها أشخاصٌ كالمتعصبين لدينهم. وربما يظنُّ هذا الرجل الأسمر
«. أنَّه إذا شُنِق، فسيدخل الجنة مباشرةً لدفاعه عنشرف النبي
هذا واردٌ بالطبع. من المنطقي جدٍّا، إن جاز التعبير، أن يكون هذا » : قال الأب براون
الرجل المسلم قد طعنه. وربما ستقولُ إننا لا نعرف حتى الآن أيَّ شخصٍآخر من الممكن
وفجأة صار وجهه المستدير «… أن يكون قد طَعَنه لأي سببٍ منطقي، لكن … لكنِّي أظن
خاليًا من أيِّ تعبير مرَّة أخرى واندثر كلُّ الكلام على شفتَيه فجأةً.
«؟ ماذا دهاك » : سأله الآخر
حسنًا، أعرف أنَّ ذلك يبدو مُضحكًا. لكنِّي أظن … » : قال الأب براون بصوتٍ بائس
«. أظن، بطريقةٍ ما، أنَّ هُوية طاعنه ليست شديدة الأهمية
هل هذا هو المذهب الأخلاقي الجديد يا تُرى؟ أم أنَّه ربما يكون » : تساءل صديقه
«؟ التحايل الشرعي القديم؟ هل صار اليسوعيون يستمتعون بالقتل حقٍّا
لم أقل إنَّ هوية قاتله ليست مهمة. صحيحٌ أنَّ الرجل الذي طعنه » : قال الأب براون
قد يكون هو نفسه الرجل الذي قتله، لكنَّه قد يكون رجلًا مختلفًا تمامًا. على أيِّ حال،
لقد طُعِن القتيل في وقتٍ مختلف تمامًا عن وقت مقتله. أظنُّ أنَّك ستريد فحص مقبض
الخنجر لمعرفة البصمات، ولكن لا تكترث بها كثيرًا؛ إذ يُمكنني تخيُّل أسبابٍ أخرى قد تدفع
أشخاصًا آخرين إلى غرس هذا الخنجر في جسد هذا المُسِن المسكين. صحيحٌ أنَّها ليست
أسبابًا تنويرية جدٍّا، لكنَّها مختلفة تمامًا عن دوافع القتل؛ لذا ستضطرُّ إلى أن تغرس فيه
«. مزيدًا من الخناجر لتعرف ذلك
«… أتقصدُ » : قال الآخر وهو ينظر إليه باهتمامٍ حاد
«. أقصدُ تشريح الجثة لمعرفة سبب الوفاة الحقيقي » : قال القس
أعتقد أنَّك محقٌّ تمامًا بشأن الطعن على أيِّ حال. يجب أن ننتظر ما » : قال المفتش
سيقوله الطبيب، لكنِّي متيقنٌ من أنَّه سيؤكِّد افتراضك؛ إذ لا يوجد دمٌ كافٍ؛ أي أنَّ هذا
«؟ الخنجر غُرِس في الجثة حين كانت باردة بعد ساعاتٍ من مقتل صاحبها. ولكن لماذا
ربما لإلصاق التهمة بالرجل المسلم. وصحيحٌ أنَّ هذا فِعلٌ وضيع، » : أجاب الأب براون
لكنَّه ليس قتلًا بالضرورة. أظنُّ أنَّ ثمة أشخاصًا في هذا المكان يحاولون كتمان أسرار،
«. لكنَّهم ليسوا قتلةً بالضرورة
«؟ لم أنسج تكهُّناتٍ بهذا الخيط حتى الآن. ما الذي يجعلك تظنُّ ذلك » : قال جرينوود
ما قُلتُه البارحة، حين دخلنا هذه القاعة الرهيبة أول مرة. قُلتُ » : أجاب الأب براون
إنَّ ارتكاب جريمة قتلٍ هنا سيكون سهلًا. لكنَّي لم أكن أفكِّر آنذاك في كل هذه الأسلحة
«. اللعينة، مع أنَّك ظننتَ ذلك. بل فيشيءٍ مختلف تمامًا
وعلى مرِّ الساعات القليلة التالية، أجرى المفتش وصديقه تحقيقًا دقيقًا شاملًا في
تحرُّكات الجميع طوال الساعات الأربع والعشرين الماضية، وطريقة تقديم المشروبات،
والكئوسالتي غُسِلَت والتي لم تُغسَل، وكلِّ تفصيلة عن كلِّ فردٍ قد يكون متورِّطًا أو يبدو
حتى أنَّه غير متورِّط، لدرجة أنَّ المرء قد يتصوَّر أنَّهما كانا يظنَّان أنَّ ثلاثين شخصًا قد
تعرَّضوا للتسمُّم، بالإضافة إلى القتيل.
بدا من المؤكَّد أنَّ المبنى لم يدخله أحدٌ إلَّا عبر المدخل الكبير المجاور للحانة؛ إذ كانت
جميع المداخل الأخرى مسدودةً بطريقةٍ أو بأخرى بسبب الإصلاحات. وكان يوجد فتًى
يُنظِّف العَتبات الواقعة خارج هذا المدخل، لكنَّه لم يلاحظ أيَّ شيءٍ واضح جدٍّا ليُبلِّغ
عنه. وإلى أن ظَهَر المشهد المُذهِل الذي دخل فيه الرجل التركي ذو العمامة، مع صديقه
الخطيب الناهي عن المُسكِرات، الفندقَ، لا يبدو أنَّ أيَّ زبونٍ آخر قد دخله، باستثناء
وبدا ،« مشروباتٍ سريعة » المندوبين التجاريين المتجولين الذين جاءوا ليشربوا ما يُسمُّونه
وقد ظهر اختلافٌ طفيف في الأقوال ،« سحابة وُردزوُرث » أنَّهم ظلُّوا يتحرَّكون معًا مثل
بين الفتى الذي كان يُنظِّف العتبات بالخارج والعاملين بالداخل بشأن ما إذا كان أحدهم
قدشَرِب مشروبه السريع بسرعةٍ غير طبيعية، وخرج وحده إلى عتبة الباب الخارجية، لكنَّ
المدير والساقي قالا إنَّهما لا يتذكران أنَّ أيَّ فَردٍ من المندوبين قد فعل هذا. وكان المدير
والساقي يعرفان جميع المندوبين المتجولين جيِّدًا، ولم يكن يوجد أيُّ شكٍّ في تحركاتهم
كجماعةٍ واحدة. لقد وقفوا عند نَضدِ الحانة يمزحون ويشربون، وتورَّطوا، بسبب زعيمهم
المتعجرف السيد جوكس، في مشادَّةٍ غير خطرة مع السيد برايس-جونز، وشهدوا المشاحنة
المفاجئة الخطرة للغاية بين السيد أكبر والسيد راجلي. ثم قيل لهم إنَّ بإمكانهم الانتقال
إلى الغرفة التجارية، التي ذهبوا إليها بالفعل، وتبعهم الساقي بمشروباتهم كأنَّها جائزةٌ
قيِّمة على صينية.
يوجد قَدرٌضئيل جدٍّا من الأدلَّة التي يُمكن أن نبني افتراضاتنا » : قال المفتشجرينوود
عليها. لا شكَّ أنَّ الكثير من العاملين النشيطين قد أدَّوا واجباتهم كالمعتاد، وغسلوا كلَّ
الكئوس، ومن بينها كأس السيد راجلي. لولا كفاءة الآخرين كلِّهم، لربما أصبحنا نحن
«. — المُحقِّقين — أكْفاء للغاية
هذا صحيح. أحيانًا » : قال الأب براون بينما اكتسىفمه بالابتسامة الملتوية مرَّة أخرى
أظنُّ أنَّ المجرمين هُم الذين اخترعوا النظافة. أو ربما دعاة الالتزام بالنظافة هم الذين
اخترعوا الجريمة؛ إذ يَبدون هكذا، أو بالأحرى بعضهم. فالجميع يتحدث عن الأوكار
القذرة والأحياء الفقيرة الوسخة التي يُمكن للجريمة أن تنتشر فيها كالنار في الهشيم،
لكنَّ العكس هو الصحيح؛ إذ توصف بأنَّها قذرة، ليس لأنَّ الجرائم تُرتكب فيها، بل لأنَّ
الجرائم تُكتَشف فيها؛ لذا فالأماكن النظيفة الأنيقة المُطهَّرة المُرتَّبة هي التي يُمكن للجريمة
أن تنتشر فيها كالنار في الهشيم؛ لأنَّها لا تحتوي على ترابٍ ينسخ آثار الأقدام، ولا ثُمالةٍ
متبقية في الكئوس تحتفظ بآثار السُّم، بينما يُنظِّف العاملون الطيِّبون كل آثار الجريمة،
ويُمكن للقاتل أن يقتل ست نساء ويحرق جثثهن، وكلُّ ذلك بسبب عدم وجودِ قَدرٍ ولو
ضئيلًا من التراب المسيحي. أظنني أعبِّر عمَّا يجول بخاطري بحماسةٍ أشد من اللازم،
ولكن أصغِ إليَّ. في الواقع، أتذكَّر كأسًا واحدةً، لا شكَّ في أنَّها غُسِلت منذ ذلك الحين، لكنِّي
«. أود معرفة المزيد عنها
«؟ أتقصدُ كأس راجلي » : سأله جرينوود
لا، بل أقصدُ الكأسغير المعروف صاحبها. لقد كانت موجودة بالقرب » : أجاب القس
من كأس اللبن، وتبقَّى فيها بوصةٌ أو اثنتان من الويسكي. حسنًا، لم يشرب أيٌّ منَّا
الويسكي، لا أنت ولا أنا. وأتذكرُ أنَّ المدير، حين تكرَّم عليه السيد جوكس المَرِح بمشروبٍ
وآمل ألَّا تفترض أنَّ الرجل المسلم كان « بعضًا من نبيذ الجِن » على نفقته الخاصة، شرب
سِكِّيرًا مُدمِنًا للويسكي متنكرًا في عمامة خضراء، أو أنَّ القس ديفيد برايس-جونز شرب
«. الويسكي واللبن معًا، دون أن يلاحظ ذلك
«. معظم المندوبين التجاريين المتجولينشَرِبوا الويسكي. هذا من دأبهم » : قال المفتش
نعم، ومن دأبهم أيضًا أن يروا أنَّهم يشربونه. وفي هذه الحالة، نُقِلَت » : قال الأب براون
«. كلُّ المشروبات وراءهم بعناية إلى غرفتهم الخاصة، لكنَّ هذه الكأس تُرِكت على النَّضد
أظنُّها محض مصادفة؛ فصاحب هذه الكأس كان بإمكانه » : قال جرينوود بارتياب
«. الحصول على مشروبٍ آخر في الغرفة التجارية بعد ذلك بسهولة
عليك أن ترى الناس على حقيقتهم؛ فالبعض يصف » : هزَّ الأب براون رأسه وقال
مثل هؤلاء الرجال بأنَّهم سوقيون والبعض يصفهم بأنَّهم مبتذلون، لكنَّ كل هذه محض
تفضيلاتٍ شخصية. أمَّا أنا، فيُسعدني القولُ إنَّ معظمهم رجال بسطاء، والكثيرين منهم
رجال طيِّبون جدٍّا، يبتهجون للغاية بالعودة إلى زوجاتهم وأطفالهم، وصحيحٌ أنَّ بعضهم
ربما يكون خبيثًا، وربما تكون لديه عدة زوجات، أو يكون حتى قد قَتَل عدة زوجات،
لكنَّ معظمهم رجال بُسطاء، ولا يَثملُ منهم، ولتضع تحت ذلك خطٍّا، سوى قلة قليلة جدٍّا.
نعم قلة قليلة، في حين أنَّ الكثيرين من النبلاء، ممَّن يحملون ألقابًا مثل الدوق والدون
في أكسفورد يثملون، ولكن حين يكون أحد هؤلاء الرجال في هذه الحالة من الابتهاج
الصاخب، فلا يستطيع تجنُّب ملاحظة الأشياء من حوله، بل ملاحظتها بصخبٍ شديد
أيضًا. ألم تلاحظ أنَّ أبسط حادثة تدفعهم إلى الكلام عنها؟ فحين تُستثار الجعة مُكوِّنة
أوه! انظروا إلى هذه المرأة » الزَّبَد على سطحها، يُستثارون معها، ويقولون عباراتٍ على غرار
لذا أقول إنَّه من المستحيل تمامًا أن يقعد «؟ هذا يُسعدني، ألا يُسعدكم أيضًا » أو «. الفاتنة
خمسةٌ من هؤلاء الرجال المبتهجين الصاخبين حول طاولةٍ في الغرفة التجارية، ويُوضَع
أمامهم أربع كئوسفقط؛ أي يُترَك الرجل الخامسبلا مشروب، دون أن يجعجعوا بصخبٍ
بشأن ذلك، بل الأرجح أنَّهم كانوا سيجعجعون بشأن ذلك، ومن المؤكَّد أنَّه كان سيجعجع
بشأن ذلك. ولم يكن لينتظر، كأيِّ رجل إنجليزي من طبقة أخرى، حتى يحصل بهدوءٍ على
وماذا عن مشروبي أنا » مشروبٍ آخر لاحقًا. وكنت ستسمعُ أصداء عباراتٍ رنَّانة من نوعية
هل » أو «؟« باند أوف هوب » يا جورج، هل تراني انضممت إلى جمعية » أو «؟ المغضوب عليَّ
لكنَّ الساقي لم يسمع أيَّ تذمُّراتٍ كهذه؛ لذا فأنا «؟ تراني أرتدي عمامة خضراء يا جورج
على يقينٍ من أنَّ كأس الويسكي التي تُرِكَت على النَّضد قدشربها شخصٌآخر، شخصٌلم
«. نفكِّر فيه بعد
«؟ ولكن هل لديك أيُّ تصورٍ بشأن هذا الشخصالمقصود » : سأله المفتش
لأنَّ المدير والساقي لم يسمعا أيَّشيءٍ عن هذا الشخصالمقصود، » : أجاب الأب براون
فأنت تتجاهل الدليل الوحيد المستقل بالفعل؛ الدليل الذي ذكره ذاك الفتى الذي كان يمسح
العَتبات خارج الفندق. لقد قال إنَّه رأى رجلًا، كان مندوبًا تجاريٍّا متجوِّلًا على الأرجح لكنَّه
في الحقيقة لم يكن مُلازمًا للمندوبين التجاريين المتجولين الآخرين، والذي دخل الفندق
وخرج منه على الفور تقريبًا. ولم يره المدير ولا الساقي قَط، أو هكذا يقولان. لكنَّه حصل
والآن، تعلمُ أنني .« السريع » على كأس ويسكي من الحانة بطريقةٍ ما. دعنا نُسمِّه جدلًا
نادرًا ما أتدخَّل في عملك، الذي أعرفُ أنَّك تؤدِّيه أفضل ممَّا كُنتُ سأؤديه، أو ممَّا أريدُ
أن أؤديه. إذ لم أتدخل قط في إصدار أوامر عمل جهاز الشُّرطة، أو ملاحقة المجرمين، أو
أيِّ شيء من هذا القبيل، لكنِّي، لأول مرة في حياتي، أريد أن أفعل ذلك الآن. أريد أن أعثر
حتى أقاصيالأرض، وأن أصُدر الأوامر إلى جهاز « السريع » وأن ألاحق ،« السريع » على ذلك
بحقِّ « السريع » الشرطة الرسمي الجهنمي كلِّه بنصب شبكةٍ عبر الدول، والإمساك بهذا
«. السماء؛ لأنَّه هو الرجل الذي نريده
هل لديه ملامح أو هيئةٌ معيَّنة أو أيُّ صفة » : أومأ جرينوود إيماءةً بائسة، ثم سأله
«؟ واضحة أخرى باستثناء السرعة
كان يرتدي معطفًا فضفاضًا بلا أكمام، وقال للفتى الذي كان » : قال الأب براون
يمسح العتبات في الخارج إنَّه يجب أن يصل إلى إدنبرة بحلول صباح اليوم التالي. هذا كلُّ
ما يتذكَّره ذاك الفتى، لكنِّي أعرف أنَّ مؤسستك الشُّرطية تتوصَّل إلى بعض الأشخاص
«. بأدلةٍ أقل من ذلك
«. تبدو مهتمٍّا جدٍّا بذلك » : فقال المفتش وهو يبدو متحيِّرًا قليلًا
بدا القسُّ متحيِّرًا أيضًا، كأنَّه متحيرٌ إزاء الأفكار التي تجول بخاطره؛ إذ قعد عاقدًا
افهمني جيدًا، فهذا الكلام قد يُساء فهمه بسهولةٍ شديدة. البشر » : جبينه ثم قال فجأة
«. كُلُّهم مُهمُّون. أنت مُهِم، وأنا مُهِم، وهذا أعصىشيءٍ على التصديق في اللاهوت
حدَّق إليه المفتش دون أن يفهم قصده، لكنَّ الأب براون واصل حديثه على أيِّ حال.
نحن مُهِمُّون للرب، والربُّ وحده يعلم سبب ذلك، لكنَّ هذا هو » : إذ أضاف قائلًا
وهنا بدا أنَّ الشُّرطي لم يكن على درايةٍ بالتبرير الكوني «. التبرير الوحيد لوجود الشُّرطة
ألا تفهم، القانون مُحِقٌّ بالفعل من منظورٍ » : لوجود مهنته. بينما واصل الأب براون قائلًا
ما، رغم كلِّشيء. فإذا كان البشر كُلُّهم مهمِّين، تُصبح جرائم القتل كلها مهمة. وما خلقه
«… الربُّ بغموضٍشديد، يجب ألَّا نتركه يُدمَّر بغموضٍشديد. لكن
قال القسُّ هذه الكلمة الأخيرة بنبرةٍ حادة، كأنَّه يعتزم الانتقال إلى نقطة جديدة.
لكن حالما أنُحِّي هذا المستوى الصوفي من المساواة جانبًا، أرى أنَّ معظم جرائم القتل »
التي تراها مهمة ليست شديدة الأهمية؛ فدائمًا ما تقول لي إنَّ هذه القضية أو تلك مهمة،
وبصفتي رجلًا بسيطًا عمليٍّا ذا خبرةٍ في أحوال الدنيا، سيتبادرُ إلى ذهني بلا شكٍّ أنَّ القضية
التي تقصدها شهدت مقتل رئيس الوزراء، ولكن بصفتي رجلًا بسيطًا عَمَليٍّا ذا خبرةٍ في
أحوال الدنيا، فأنا لا أظنُّ أنَّ رئيس الوزراء مهمٌّ على الإطلاق. وعلى صعيد محضالأهمية
البشرية، عليَّ القول إنَّه يكاد يكون غير موجودٍ إطلاقًا. هل تظنُّ أنَّه إذا أرُدِيَ هو أو غيره
من الشخصيات العامة بالرصاص غدًا، فلن يُطِلَّ علينا أشخاصٌ آخرون ويقولوا إنَّ كل
الطُّرُق والأزقة تُمشَّط، أو إنَّ الحكومة تتعامل مع القضية بأقصى قدر من الجديَّة؟ إنَّ
سادة العالم الحديث غير مُهمِّين. وحتى السادة الحقيقيون ليسوا شديدي الأهمية. وأيُّ
«. شخصٍقرأتَ عنه يومًا ما في أيِّ صحيفة يكاد يكون غير مهم إطلاقًا
ثم نهض وقَرَع الطاولة قَرعةً خفيفة، في إحدى إيماءاته النادرة، وتغيَّرت نبرته مرَّة
لكنَّ راجلي كان مُهمٍّا؛ إذ كان واحدًا من سلسلةٍ عظيمة من حوالي ستة » : أخرى. وأضاف
رجالٍ ربما كانوا سيُنقذون إنجلترا. إنهم يقفون مُجرَّدين قاتمين كلافتاتٍ مُهمَلة على طول
هذا الطريق الهابط الأملسالذي ينتهي بذلك المستنقع الذي يُمثِّل محضالانهيار التجاري؛
فكُلٌّ من كبير الكهنة سويفت والدكتور جونسون والعجوز وليام كوبيت بلا استثناء وُصِف
بأنَّه فظٌّ أو هَمجيٌّ، وكانوا جميعًا محبوبين لدى أصدقائهم، واستحقوا كُلُّهم هذه المحبة.
ألم ترَ كيف وقف هذا الرجل المُسِن، بقلب أسد، وعفا عن عدوِّه عفوًا لا يُضاهيه سوى عفو
المُقاتلين؟ لقد فَعَلَ ما تحدَّث عنه ذلك الخطيب الناهي عن المُسكِرات؛ إذ ضَرَب مثلًا لنا
نحن — المسيحيين — وكان نموذجًا للمسيحية. وحين يُقتَل رجلٌ كهذا في جريمةٍ سرية
شنيعة، فإني أعتقد حينئذٍ أنَّها مُهِمَّة، بل شديدة الأهمية لدرجة أنَّ حتى جهاز الشُّرطة
الحديث سيكون أداةً في يد أيِّ شخصٍمحترم يمكنه استغلالها … أوه، أرجو منك المعذرة.
«. وهكذا، أريد حقٍّا استغلالك، لمرَّة واحدة إن جاز التعبير
وهكذا، يُمكننا القول إنَّ قامة الأب براون القصيرة ظلَّت، على مدى بعض الوقت
من تلك الأيام والليالي الغريبة، تُقود أمامها جيوش قوات شرطة الإمبراطورية البريطانية
وسيَّاراتها مُسخِّرةً إيَّاها للعمل على هذه القضية، كما كانت قامة نابليون القصيرة تُقود
أمامها مدافع وخطوط المعارك الاستراتيجية الهائلة التي سادت أرجاء أوروبا؛ إذ ظَلَّت
أقسام الشرطة ومكاتب البريد تعمل طوال الليل، وأوُقِفَت الحركة المرورية، واعتُرِضَت
المراسلات، وأجُريت التحرِّيات في مئات الأماكن، من أجل اقتفاء الأثر المراوغ لهذا الشخص
الغامضكالشبح، الذي لا يعرفون اسمه ولا ملامح وجهه ولا أيَّشيء آخر سوى أنَّه يرتدي
معطفًا فضفاضًا بلا أكمام ويحمل تذكرةً إلى إدنبرة.
وفي الوقت نفسه، لم تتجاهل الشرطة مسارات التحقيق الأخرى بالطبع. صحيحٌ أنَّ
التقرير الكامل لتشريح الجثة لم يكن قد صَدَر بعدُ، لكنَّ الجميع بدا واثقًا من أنَّها كانت
حالة تسمُّم. وهذا بطبيعة الحال ألقى بظلال الشكِّ الرئيسيعلى براندي الكَرز، وهذا بدوره
ألقى بظلال الشكِّ الرئيسي على الفندق بطبيعة الحال.
تشير أصابع الشكِّ على الأرجح إلى مدير الفندق؛ إذ يبدو لي » : قال جرينوود بفظاظة
كأفعى صغيرة حقيرة. صحيحٌ أنَّ بعض العاملين قد يكون متورطًا، مثل ساقي الحانة،
الذي يبدو لي نموذجًا بَشَريٍّا نكِد المزاج؛ إذ ربما وجَّه إليه راجلي بعض السِّباب، نظرًا إلى
أنَّه كان سريع الغضب، مع أنَّه صار بعد ذلك لطيفًا جدٍّا في العموم، ولكن رغم كل ذلك،
«. يقع اللوم الرئيسي، والشكُّ الرئيسي بالتبعية، على مدير الفندق كما قُلت
أوه، كنت أعلمُ أنَّ الشكَّ الرئيسي سيقع على مدير الفندق؛ لذا لم » : قال الأب براون
أشك فيه. افهمني جيدًا، أظنُّ أنَّ شخصًا آخر كان متيقنًا من أنَّ الشك الرئيسي سيقع على
مدير الفندق أو العاملين به؛ لذا قُلتُ إنَّ قتل أيِّ شخصٍفي الفندق سيكون سهلًا … لكنِّي
«. أظن أنَّه من الأفضل أن تذهب إليه وتناقشه بشأن ذلك
وبالفعل ذهب المفتش إلى المدير، لكنَّه عاد مُجددًا بعد مُقابلةٍ قصيرة إلى حدٍّ مُدهِش،
ووجد صديقه القس يُقلِّب بعض الأوراق التي بدا أنَّها ملفٌّ يحوي تفاصيل حياة جون
راجلي العاصفة.
لقد كانت مُقابلةً غريبةً. ظننتُ أنِّي سأضطر إلى قضاء ساعاتٍ في » : قال المفتش
استجواب ذلك التافه القصير المُراوِغ؛ لأننا لا نملك أي دليلٍ قانوني ضده، لكنَّه انهار دفعةً
«. واحدةً، وأعتقدُ أنَّه قال لي كل ما يعرفه بجُبنٍ شديد
كنت أعرف ذلك. لقد انهار هكذا أيضًا حين وجد جُثَّة راجلي تبدو » : قال الأب براون
مسمومةً في فندقه؛ ولذا فقد صوابه لدرجة أنَّه أقدَم على فعلٍ أخرق كتزيين الجثة بخنجرٍ
تُركي؛ لإلصاق التهمة بالرجل الأسمر، كما قال لك على حدِّ ظنِّي. لقد كان خطؤه الوحيد
هو جُبنه، لكنَّه آخر رجلٍ قد يغرس خنجرًا في جسد شخصٍحي. بل أراهنُ أيضًا على أنَّه
اضطرَّ إلى تقوية أعصابه قدر المستطاع ليجرؤ على غرسه في جثة هامدة، لكنَّه أول شخصٍ
«. يرتعدُ من اتهامه بفعلةٍ لم يرتكبها، ويفعلُ شيئًا يجعله يبدو أحمق، كما فعل
«. أظنُّ أنني يجب أن أقابل ساقي الحانة أيضًا » : قال جرينوود
أظنُّ ذلك، وإن كنت أعتقد أنَّ الفاعل ليس أيٍّا من أفراد الفندق؛ لأنَّ » : ردَّ الآخر
الجريمة هُيِّئت لتبدو من تنفيذ أحدهم بكلِّ تأكيد … ولكن انظر هنا، أرأيتَ أيٍّا من هذه
الأشياء التي جمعوها عن راجلي؟ لقد كان يعيش حياةً سعيدة شائقة، وأتساءل عمَّا إذا
«. كان أيُّ أحدٍ سيكتب سيرة حياته
لقد دوَّنتُ كل شيءٍ ربما يؤثِّر في مجرى قضية كهذه. كان أرمل، لكنَّه » : قال المفتش
تشاجر ذات مرَّة مع رجلٍ بسبب زوجته، وكان ذلك الرجل آنذاك سمسار أراضٍاسكتلنديٍّا
في هذه المنطقة، ويبدو أنَّ راجلي كان عنيفًا جدٍّا في تلك المشاجرة. ويُقال إنَّه كان يكره
الاسكتلنديين، وربما هذا هو السبب … أوه، أعرف سبب هذه الابتسامة الكئيبة التي ترتسم
«. على شفتيك. رجلٌ اسكتلندي … يعني أنَّه ربما يكون رجلًا من إدنبرة
ربما. لكنَّ الأرجح أنَّه كان يكره الاسكتلنديين لأسبابٍ أخرى غير » : قال الأب براون
الأسباب الشخصية. هذا غريب، لكنَّ كلَّ المنتمين إلى مَعشر المحافظين الراديكاليين، أو
أيٍّا كان ما تُسمُّونهم به، الذين كانوا يقاومون التوجُّه التجاري الذي تبنَّاه حزب الأحرار؛
كُلهم كانوا يكرهون الاسكتلنديين؛ إذ كان كوبيت يكرههم، والدكتور جونسون أيضًا، بينما
تحدَّث سويفت عن لكنتهم في أحد أعماله اللاذعة، وحتى شكسبير اتُّهِم بالتحامُل عليهم،
لكنَّ تحامُل العظماء عادةً ما يكون مرتبطًا بالمبادئ، وأظنُّ أنَّ ثمة سببًا وراء ذلك؛ لقد
جاء هذا الاسكتلندي من منطقة زراعية فقيرة والتي صارت منطقة صناعية غنية. كان
قديرًا ونشيطًا، وظنَّ أنَّه كان يجلب معه الحضارة الصناعية من الشمال، لكنَّه ببساطة لم
يكن يعلم أنَّ الجنوب فيه حضارةٌ زراعية راسخة منذ قرون. إنَّ منطقة جده كانت ريفيةً
جدٍّا، لكنَّها لم تكن متحضرةً … حسنًا، حسنًا، أعتقد أنَّنا ليس في وسعنا سوى انتظار
«. مزيدٍ من المستجدَّات
لا أظنُّ أنَّك ستعرف آخر المستجدات من شكسبير والدكتور » : قال المُفتِّش مبتسمًا
«. جونسون؛ فرأيُ شكسبير في الاسكتلنديين ليس دليلًا دقيقًا
يا إلهي! » : وهنا رفع الأب براون أحد حاجبَيه كأنَّ فكرةً جديدةً خَطَرت بباله، وقال
لقد خَطَر ذلك ببالي الآن، ربما يوجد دليلٌ أقوى، حتى إن كان مأخوذًا من شكسبير أيضًا؛
«. إذ لم يكن شكسبير يذكر الاسكتلنديين كثيرًا، بل كان مولعًا بالسخرية من الويلزيين
كان المُفتِّش يُدقِّق في وجه صديقه؛ لأنَّه ظنَّ أنَّه لاحظ تأهُّبًا مستترًا خلف تعبيرات
عَجَبًا! لم يُفكِّر أحدٌ في تحويل مجرى الشكوك هكذا بأيِّ حال من » : وجهه الرزينة. وقال
«. الأحوال
حسنًا، لقد بدأتَ تخميناتك بشأن هوية » : قال الأب براون بهدوءٍ ينُمُّ عن رحابةِ أفُقِه
القاتل بالحديث عن المتعصِّبين، وكيف يُمكن للمتعصِّب أن يفعل أيَّ شيء. حسنًا، أظنُّ
أننا حظينا في هذه القاعة يوم أمس بشرف استضافة رجلٍ يكاد يكون أشدَّ المتعصبين في
العالم الحديث وأصخبهم وأحمقهم. ولو كان الإقدامُ على القتل مقترنًا بأن يكون القاتل
أحمقَ عنيدًا مهووسًا بفكرةٍ واحدة، لفضَّلتُ اتهامَ أخي القس برايس-جونز، الداعي إلى
حظر المُسكِرات، على اتِّهام كلِّ النُّسَّاك الدراويش في آسيا، ومن الصحيح تمامًا، كما قُلتُ
لك، أنَّ كأساللبن العجيبة التي طَلَبها كانت موجودة بجوار كأسالويسكي الغامضة على
«. النضد
التي تظنُّها مرتبطة بالجريمة. أصغِ إليَّ، لا أعرف ما إذا كُنتَ » : قال جرينوود مُحدِّقًا
«. جادٍّا حقٍّا أم لا
وفي اللحظة التي كان يُحدِّق فيها إلى وجه صديقه، مُلاحظًا شيئًا ما يزال مُبهمًا
في تعبيراته، رنَّ جرس الهاتف مُدوِّيًا خلف النضد. رفع المُفتِّش مصراع النَّضَد القلَّاب،
وسرعان ما أصبح في الجانب الداخلي من النَّضد، ثم رفع السمَّاعة، وظلَّ يُنصِت بُرهةً إلى
مُحاوِره، وبعدها أطلق صيحةً، ليست موجَّهة إلى محاوره، بل في الهواء عمومًا. ثم أنصت
نعم، نعم … تعالَ حالًا، وأحضره معك إن » : باهتمام أشد، وقال على لحظاتٍ متقطعة
«. أمكن … أحسنت صُنعًا … أهُنئك
ثم عاد المفتش جرينوود إلى القاعة الخارجية، كرجلٍ جدَّد شبابه، وقعد على كرسيه
مباشرةً، واضعًا يديه على ركبتَيه ومُحدِّقًا إلى صديقه، وقال:
أيها الأب براون، لا أعرف كيف تفعل ذلك. يبدو أنَّك عرفت أنَّه قاتلٌ قبل أن يعلم أيُّ »
شخصٍ آخر أنَّه رجلٌ. لقد كان مجهولًا، كان محض عدمٍ، لم يكن سوى التباسٍ طفيف
في أقوال الشهود؛ إذ لم يره أحدٌ في الفندق، ولم يكن الفتى الذي كان واقفًا على العتبات
متيقنًا تمامًا منه؛ لقد كان مجرد شكٍّ ضئيل قائم على كأسٍ إضافية متَّسخة، لكنَّا قبضنا
«. عليه، وهو الرجل الذي نريده
كان الأب براون قد نهضمن كرسيه مُستشعرًا الأزمة التي وقعت، ومُمسكًا بتلقائية
بالأوراق المُقدَّر لها أن تصبح قيِّمة جدٍّا لكاتب سيرة حياة السيد راجلي، ووقف مُحدِّقًا إلى
صديقه. وربما دفعت هذه الإيماءة صديقه إلى إضافة تأكيداتٍ جديدة، ظنٍّا منه أنَّها رغبةٌ
في التيقن.
وقد كان سريعًا جدٍّا، كالزئبق، في هروبه؛ إذ .« السريع » نعم، قبضنا على » : إذ قال
أمسكناه للتوِّ بعيدًا عن هنا أثناء ذهابه في رحلة صيدٍ إلى جُزر أوركني، بحسب قوله. لكنَّه
الرجلُ المراد بكلِّ تأكيد، إنَّه سمسار الأراضيالاسكتلندي الذي كان يحاول التودد إلى زوجة
راجلي؛ إنَّه الرجل الذي شرب الويسكي الاسكتلندي في هذه الحانة ثم استقلَّ قطارًا إلى
«. إدنبرة. ولم يكن أيُّ أحدٍ ليعرفه لولاك
ولكن في «… حسنًا، ما قصدته كان » : قال الأب براون بنبرةٍ مذهولة بعض الشيء
اللحظة نفسها، قوطِع كلامه بأصوات خشخشة وقعقعة ناجمة عن المركبات الثقيلة التي
وصلت خارج الفندق، وسَدَّ فَردان أو ثلاثة من الشُّرطيين الآخرين الأقل رُتبة الحانة
بوجودهم فيها. وقَعَد أحدهم، بدعوةٍ من رئيسه المفتش إلى القعود، متمددًا كرجلٍ سعيد
ومُتعَب في آن واحد، ونظر إلى الأب براون بإعجاب.
قبضنا على القاتل. أوه بالمناسبة يا سيدي، أعرفُ أنَّه قاتل؛ لأنَّه كاد يقتلني. » : ثم قال
لقد قبضتُ على أشخاصٍأشداء من قبل، ولكن لا أحدَ منهم كان كهذا الرجل؛ لقد لكَمني
في بطني لكمةً كركلةِ حصان، وكاد يهرب من خمسة رجال. أوه، لقد صار في قبضتك قاتلٌ
«. حقيقي هذه المرة سيدي المفتش
«؟ أين هو » : تساءل الأب براون مُحدِّقًا
بالخارج في الشاحنة مُكبَّلًا بالأصفاد، ومن الحكمة أن تتركه هناك، » : أجاب الشرطي
«. الآن على الأقل
ارتمى الأب براون على أحد الكراسيارتماءة أشبه بانهيارٍ ليِّن، وتناثرت حوله الأوراق
التي كان يُحكم قبضته عليها بعصبيةٍ، وسقطت وانزلقت على الأرض كأنَّها ألواح ثلجٍ
مكسورة. وأوحى وجهه، بل جسده كله، بانطباع بالونٍ مثقوب.
أوه … أوه … أوه! لقد » : وظلَّ يُكرِّر تأوهاته كأنَّ أيَّ قَسَمٍ سيكون غير كافٍ، قائلًا
«! فعلتُ ذلك مرَّة أخرى
لكنَّ الأب براون «… إذا كُنتَ تقصدُ أنَّك قبضتَ على المجرم مرَّة أخرى » : قال جرينوود
قاطعه بهياجٍ واهن، كأنَّه عبوة مياه غازية تلفظ فورانها الأخير.
أقصدُ أنَّ ذلك يحدث دائمًا، وبكلِّ أمانة، لا أعرف السبب. دائمًا ما أحاول قولَ » : وقال
«. ما أقصده، لكنَّ الجميع يُؤَوِّل كلامي تأويلاتٍ كثيرة مختلفة
«؟ ما الخطبُ الآن بحقِّ السماء » : صاح جرينوود بسَخَطٍ مفاجئ
حسنًا، أقولُ كلمات » : قال الأب براون بنبرةٍ واهنة استطاعت وحدها نقل وَهَن الكلمات
… أقول كلماتٍ، ولكن يبدو أنَّ الجميع يعتقد أنَّها تعني أكثر من مقصدها الحرفي. ذات
نعم صحيح، » : فأجاب جميع السامعين «. حَدَث شيءٌ ما » : مرة رأيت مرآة مكسورة، وقلت
وهلُم جرٍّا. لا أفهم «. كما تقولُ بالفعل، لقد تشاجر رجلان وركض أحدهما إلى الحديقة
لا يبدوان لي أنَّهما سيَّان على الإطلاق، ،« تصارَع رجلان » و « حَدَث شيءٌ ما » ذلك! فجُملتا
ولكن يُمكنني القولُ إنِّي قرأتُ كتب المنطق القديمة. حسنًا، ما حدث الآن شبيهٌ بذلك؛ إذ
يبدو أنَّك على يقينٍ من أنَّ هذا الرجل قاتِل، لكنِّي لم أقُل قَط إنَّه قاتل، بل قُلتُ إنَّه الرجل
الذي نريده. وهو كذلك بالفعل؛ فأنا أريده بشدة. أريده إلى حدٍّ فظيع. أريده بصفته الشيء
«! الوحيد الذي نفتقر إليه في هذه القضية المروعة برمتها؛ شاهدًا
حدَّقوا إليه جميعًا، ولكن بقسماتٍ عابسة، كرجالٍ يحاولون اتِّباع منعطفٍ جديد حاد
في مجرى النِّقاش، غير أنَّه هو الذي استأنف النقاش.
منذ الوهلة الأولى التي دخلتُ فيها هذه الحانة أو القاعة الكبيرة الفارغة، » : إذ أضاف
عرفتُ أنَّ مشكلة هذا الوضع هي الفراغ، أي الخلوة، وتوافر كمٍّ هائل من الفرص أمام
أيِّ شخصٍ ليكون وحيدًا. باختصار، عدم وجود شهودٍ عليه. كُلُّ ما نعرفه أنَّ المدير
وساقي الحانة لم يكونا في الحانة حين دخلنا. ولكن متى كانا في الحانة؟ وما فرصةُ
معرفة تحرُّكات أيِّ شخص بالزمان والمكان المُحدَّدين؟ كان كلُّ ذلك مجهولًا تمامًا لعدم
وجود شهود. وأظنُّ أنَّ ساقي الحانة أو شخصًا ما كان في الحانة قُبيل مجيئنا مباشرةً،
وهكذا حصل الرجل الاسكتلندي على كأسالويسكي الاسكتلندي؛ لأنَّه لم يحصل عليها بعد
مجيئنا بالتأكيد. لكنَّنا لا نستطيع بدء تحرِّياتٍ عمَّا إذا كان أيُّ شخصٍفي الفندق قد سَمَّم
براندي الكَرز الذيشربه راجلي المسكين، إلَّا حين نعرف بالفعل مَن كان في الحانة ومتى.
والآن، أريدكم أن تسدوا إليَّ صنيعًا آخر، بالرغم من هذا الالتباس الغبي، الذي ربما يكون
خطئي أنا بالكامل. أريدكم أنَّ تجمعوا كلَّ الأشخاص المعنيِّين في هذه القاعة، أظنُّ أنَّهم
جميعًا ما زالوا موجودين، إلَّا إذا عاد الرجل الآسيوي إلى آسيا، ثم حُلُّوا أصفاد الاسكتلندي
المسكين، وأحضروه إلى هنا، ودَعوه يُقول لنا مَن قدَّم له الويسكي، ومَن كان في الحانة،
ومَن سواه كان في القاعة، وما إلى ذلك. فهو الرجل الوحيد الذي يُمكن أن تكشف أقواله ما
حدث في ذلك الوقت الذي وقعت فيه الجريمة بالضبط. ولا أجد أيَّ سببٍ يجعلنا نشكُّ في
«. كلامه
ولكن هذا يعيد توجيه كلِّ أصابع الشك إلى أفراد الفندق، وأظنُّك » : قال جرينوود
«؟ توصَّلت إلى أنَّ المدير ليس القاتل. فهل هو ساقي الحانة أم ماذا
لا أعرف. ولستُ متيقنًا حتى » : قال القس بقسماتٍ مشدوهة خالية من أيِّ تعبيرات
من عدم تورُّط المدير. ولا أعرف أيَّشيءٍ عن ساقي الحانة. أظنُّ أنَّ المدير قد يكون متآمرًا
بعضالشيء، حتى إذا لم يكن قاتلًا، لكنِّي أعرف أنَّ شاهدًا وحيدًا أوحد على وجه الأرض
«. ربما يكون قد رأى شيئًا؛ لذا جعلت كلَّ كلابك البوليسية تتقفى أثره إلى أقاصيالأرض
كان الرجل الاسكتلندي الغامض، حين ظهر أخيرًا أمام الجَمع الذي كان قد اجتمع
في الغرفة آنذاك، مَهيب الهيئة؛ إذ كان طويل القامة ذا خطواتٍ ثقيلة واسعة، ووجهٍ
رفيع وحاد وطويل وتهكُّمي، وخصلات من الشعر الأحمر المتلبِّد، ولم يكن يرتدي معطفًا
فضفاضًا بلا أكمامٍ فحسب، بل كان يعتمر قُبَّعة اسكتلندية مستطيلة بلا حواف، وربما
كان معذورًا على التصرُّف الحاد بعض الشيء الذي أبداه عند القبض عليه، لكنَّ الجميع
رأى فيه أنَّه من نوعية الرجال الذين يقاومون الاعتقال، حتى ولو بالعنف. ولم يكن من
المستغرب أنَّه تشاجر مع رجلٍ صِدامي مثل راجلي، بل لم يكن من المستغرب أيضًا أنَّ
الشُّرطيين اقتنعوا، من مجرَّد تفاصيل واقعة القبض عليه، بأنَّه قاتل عتيد متمرس، لكنَّه
أكَّد أنَّه مُزارعٌ محترم جدٍّا في مقاطعة أبردينشير، واسمه جيمس جرانت. وبطريقةٍ ما، لم
يكن الأب براون هو الوحيد المتيقن من براءته، بلسرعان ما اقتنع المفتشجرينوود—وهو
رجلٌ بصيرٌ ذو خبرة كبيرة — أيضًا بأنَّ الضراوة التي أبداها الاسكتلندي عند القبضعليه
كانتضراوةً نابعةً من براءةٍ وليس من ذنب.
قال المفتش بجدية، مُرقِّقًا صوته إلى نبرةٍ مُلاطِفة دون مزيدٍ من الكلام التفاوضي:
ما نريده منك الآن يا سيد جرانت هو شهادتك على حقيقةٍ واحدة شديدة الأهمية. أنا في »
غاية الأسف على سوء الفهم الذي جعلك تعاني، لكنِّي متيقنٌ من رغبتك في أن تخدم غايات
العدالة. أعتقدُ أنَّك أتيت إلى هذه الحانة بعد فتحها مباشرةً، في الساعة الخامسة والنصف،
وقُدِّمت إليك كأسٌ من الويسكي، لكنَّنا لسنا متيقنين من هوية موظَّف الفندق الذي كان
موجودًا في الحانة آنذاك، وممَّا إذا كان ساقي الحانة أم المدير أم أيَّ مرءوسٍ آخر. فهلَّا
تنظر حولك في هذه القاعة، وتُخبرني بما إذا كان ساقي الحانة الذي قدَّم إليك الكأس
«. موجودًا هنا
قال السيد جرانت بابتسامةٍ متجهمة بعدما فحص كل الموجودين بنظرةٍ سريعة
نعم، إنَّه موجود. أستطيعُ معرفته في أي مكان، وستوافقُني الرأي في أنَّه ضخمٌ » : متبصرة
«؟ بما يكفي لرؤيته. هل كُلُّ موظفي فندقك ضخامٌ مثلك هكذا
ظلَّت نظرات المفتش جامدةً وثابتة، وبقي صوته متواصلًا خاليًا من أي تعبير، بينما
كان وجه الأب براون مشدوهًا، لكنَّ وجوه الآخرين اكتست بتجهُّم؛ إذ لم يكن ساقي الحانة
ضخمًا جدٍّا ولا عملاقًا على الإطلاق، بينما كان المدير ذا بنيانٍ ضئيل تمامًا.
لا نريد سوى تحديد هوية ساقي الحانة الذي رأيته. نحن نعرفه » : قال المفتشبهدوء
وسَكَتَ فجأةً. «؟… بالطبع، لكننا نريد منك تأكيد صحة ذلك بمفردك. أتقصدُ
حسنًا، ها هو ذا واضحٌ » : قال الاسكتلندي بضجر، ملوِّحًا بإشارة إلى أحد الموجودين
وعند هذه الإشارة، هَبَّ جوكس الضخم، زعيم المندوبين التجاريين المتجولين، من «. جدٍّا
كرسيه مثل فيلٍ يَنهِمُ رافعًا خرطومه، فانقضَّعليه ثلاثةشرطيين وأحكموا قبضتهم عليه
في لمح البصرككلابِ صيدٍ تهجم على حيوانٍ مفترس برِّي.
حسنًا، الأمر برمته كان بسيطًا جدٍّا. كما قُلتُ لك، » : قال الأب براون لصديقه بعد ذلك
منذ الوهلة الأولى التي دخلتُ فيها الحانة، تبادر إلى ذهني أنَّه إذا كان ساقي الحانة قد تركها
هكذا دون رقابة، فلن يوجدشيءٌ في الدُّنيا يمنعك أو يمنعني أو يمنع أيَّ شخصٍآخر من
رَفْع المصراع القلَّاب ودخول الجانب الداخلي من الحانة، ودسِّ السُّمِّ في أيٍّ من الزجاجات
التي تنتظر الزبائن. وبالطبع كان من المُرجَّح أن يفعل ذلك أيُّ شخصٍعازم على دسِّالسم
بالفعل، كما فعله جوكس، بإحلال الزجاجة المسمومة محل الزجاجة العادية، وقد كان من
الممكن فعلُ ذلك في لمح البصر. وكان سهلًا جدٍّا عليه؛ لأنَّه يسافر حاملًا زجاجات الخمر
لبيعها، أن يحمل زجاجةَ براندي كرز مُجهَّزة سلفًا ومماثلةً لنوعية الزجاجات الموجودة في
الحانة. وصحيحٌ أنَّ إتمام جريمته يتطلَّبشرطًا واحدًا، لكنَّهشرطٌ سهل المنال جدٍّا؛ إذ كان
من المستحيل الشروع في تسميم الجعة أو الويسكي اللذين يشربهما عشرات الأشخاص؛
لأنَّ ذلك كان سيُسبِّب مجزرة، ولكن حين يشتهر رجلٌ بأنَّه لا يشرب إلَّا مشروبًا واحدًا
خاصٍّا، مثل براندي الكرز، الذي لا يشربه الكثيرون، فسيصبح الأمر أشبه بتسميمه في عقر
داره تمامًا، باستثناء أنَّ تسميمه في الحانة سيكون أسلَم بكثير؛ لأنَّ كل أصابع الشكِّ تقريبًا
ستتجه في الواقع إلى مدير الفندق، أو إلى شخصٍيعمل في الفندق، ولا يوجد أيُّ حُجَّةٍ يُمكن
تخيُّلها في الدُّنيا ستُثبِت أنَّها ارتُكِبَت بأيدي أيِّ شخصٍ من مئات الزبائن الذين ربما أتوا
إلى الحانة، حتى لو أدرَك الناس أنَّ أحد الزبائن من الممكن أن يكون قد فعل ذلك. لقد
«. كانت بكل تأكيد جريمة غريبة وصعب تحديد الجاني فيها
«؟ ولماذا ارتكبها القاتل بالضبط » : سأله صديقه
نهضالأب براون من كرسيه، ولملم بجدية الأوراق التي نثرها سلفًا في لحظة ذهول.
سيرة الراحل جون » هل لي أن ألفت انتباهك إلى مواد إعداد كتاب » : وقال مبتسمًا
الذي سيُنشَر قريبًا؟ أو بالأحرى إلى كلماته التي نطقها بلسانه؟ لقد قال « راجلي ورسائله
في هذه الحانة إنَّه سيكشف فضيحةً بشأن إدارة الفنادق، وقد كانت هذه هي الفضيحة
الشائعة جدٍّا التي تكشف اتفاقًا فاسدًا بين أصحاب الفنادق ومندوبٍ تجاري كان يأخذ
عمولاتٍ سرية لنفسه ويوزِّع عمولاتٍ سرية على الآخرين، فاحتكرت شركته كلَّ المشروبات
التي تُباع في هذه الأماكن، لكنَّ ذلك لم يكن علاقةً استعبادية عَلَنية، كالحانات المُلزَمة قانونًا
ببيع مشروباتٍ منصُنعشركة معينة، بل كان غشٍّا على حساب كلِّ زبون كان من المفترض
أن يخدمه المدير. لقد كان مخالفةً قانونية؛ لذا بادَر جوكس الحاذق قبل أيِّ شخصٍآخر
إلى الحانة حين كانت فارغة، كما هي حالها في أغلب الأحيان، وتسلَّل إلى وراء النَّضَد وبدَّل
الزجاجتين، ولكن لسوء حظِّه، دخل في اللحظة نفسها رجلٌ اسكتلنديٌّ مرتديًا معطفًا
فضفاضًا بلا أكمام بفظاظةٍ، وطلب كأس ويسكي. ورأى جوكس أنَّ فرصته الوحيدة
هي التظاهر بأنَّه ساقي الحانة وتلبية طلب الزبون. وشعر بارتياحٍ بالغ لأنَّ الزبون كان
«.« سريعًا »
لأنَّك تقول إنَّك شممت شيئًا مُريبًا من البداية ؛« السريع » أظنُّ أنَّك أنت » : قال جرينوود
«؟ في مُجرَّد هواء غرفةٍ فارغة. هل راودك أيُّ شكٍّ حيال جوكس في البداية
حسنًا، لقد بدا ثريٍّا بعضالشيء؛ فالمرءُ يستطيعُ تمييزَ » : أجاب الأب براون بغموض
النبرة الثرية في المتكلم. وقد سألتُ نفسي لماذا يتحدث بهذه النبرة الثرية المثيرة للاشمئزاز
في حين أنَّ كلَّ زملائه الشرفاء كانوا فقراء جدٍّا، لكنِّي أظنني عرفتُ أنَّ ثراءه كان مصطنعًا
«. زائفًا حين رأيت ذلك الدبوس الكبير اللامع في ربطة عنقه
«؟ أتقصدُ لأنَّ الدبوس كان زائفًا » : سأله جرينوود بارتياب
«. أوه، لا، بل لأنَّه كان أصليٍّا » : قال الأب براون