GilbertKeith

Share to Social Media

يمتدُّ بعضٌ من الطرق الكبرى القادمة من لندن والمتجهة شمالًا متوغِّلة بعيدًا في الريف
كشَبَحٍ إلى شارع يضيق وتقطعه طرق أخرى، وتتخلَّله فجوات كُبرى في المباني، لكن مع
الاحتفاظ بخط المباني؛ فهنا تجد مجموعةً من المتاجر، يَليها حقل أومستراد مسيجان، وفي
إثره حانة معروفة، وبعدها ربما مزرعة أو مشتل يبيع منتجاته، ثم منزل خاص كبير،
ثم حقل آخر وحانة أخرى، وهكذا دواليك. إنْ سار أي شخصٍ قاطعًا أحد هذه الطرق
سيمرُّ بمنزلٍ غالبًا ما سيلفتُ انتباهه، رغم أنه قد لا يستطيع تفسير جاذبيته. إنه منزل
عريض منخفض يوازي الطريق، يغلب على طلائه اللَّونان الأبيض والأخضر الفاتح، وله
شُرفة وستائر تحجُب الشمس، ومداخل مسقوفة مُغطاة بقِبابٍ غريبة شبيهة بالمظلَّات
الخشبية التي نراها في بعض المنازل العتيقة الطراز. وهو في الواقع منزل عتيق الطراز،
إنجليزي جدٍّا، ويحمل سَمت الضواحي، بالمعنى الثَّري القديم الحسَن لمنطقة كلابام. إلا
أن المنزل يبدو كأنه قد بُني في الأساس من أجل الطقس الحار؛ فعندما يُجيل المرء بصرَه
في طلائه الأبيضوستائره الحاجِبة للشمس، يخطر له على نحوٍ مُبهم أوشحة الرأس التي
تُربط حول القبعات، بل وحتى أشجار النخيل. ولا أعرف سبب هذا الشعور؛ لكن ربما
يكون مَن شيَّد هذا المكان شخصًا إنجليزيٍّا من أصلٍ هندي.
أرى أن أيَّ شخصٍ يمرُّ بهذا المنزل سينبهر به بشكلٍ لا يُوصف؛ فسيُخالِجه شعور
أنه من المنازل التي تُسرد عنها إحدى الحكايات؛ وسيكون مُحقٍّا كما ستعرفون بعد قليل.
فهذه هي الحكاية؛ حكاية الأمور الغريبة التي حدثَت بالفعل فيه في أسبوع عيد العنصرة
في إحدى سنوات القرن التاسع عشر:
كلٌّ من كان يمرُّ بالمنزل يوم الخميسالسابق لعيد العنصرة في حوالي الرابعة والنصف
مساءً، كان سيُلاحظ الباب الأمامي مفتوحًا، والأب براون، من كنيسة سانت منجو الصغيرة،
خارجًا منه يُدخِّن غليونًا كبيرًا في صُحبة صديقٍ فرنسي طويل جدٍّا يُدعى فلامبو، والذي
كان يُدخِّن سيجارة صغيرة جدٍّا. ربما يُهِمُّ هذان الشخصان القارئ وربما لا يُهمَّانه، لكن
الواقع أنهما لم يكونا وحدهما، وهو ما يُثير الاهتمام في الأشياء التي ظهرت حين فُتح الباب
الأمامي للمنزل ذي اللونَين الأبيضوالأخضر. ثمَّة المزيد من الغرائب التي كانت تكتنِف هذا
المنزل، والتي يجب وصفُها من البداية، ليس فقط ليفهم القارئ هذه الحكاية المأساوية،
لكن حتى يُدرك أيضًا ما كشف عنه انفراج الباب.
ذو طرف أفُقي طويل T لكنه حرف ،T بُني المنزل بالكامل بتخطيطٍ على هيئة حرف
جدٍّا وذيل قصير جدٍّا. الطرف الأفقي كان المقدِّمة التي امتدت في مواجهة الشارع، والباب
الأمامي في منتصفها؛ وكان ارتفاعه طابقَين، وضم كَّل الحجرات المُهمة تقريبًا. أما الذيل
القصير، الذي امتدَّ وراء الباب الأمامي في الجهة المقابلة له مباشرةً، فقد كان من طابقٍ
واحد، واقتصرعلى حُجرتَين مُمتدَّتَين، كل منهما تؤدي إلى الأخرى. أولى هاتَين الحجرتَين
كانت حجرة المكتب التي كتب فيها السيد كوينتون الشهير قصائده ورواياته الغرامية
الشرقية الجامِحة. الحجرة الأبعد كانت مستنبتًا زجاجيٍّا مليئًا بالزهور الاستوائية الفريدة
تمامًا في بهائها الذي يكاد يكون طاغيًا، والتي كانت تتألَّق في أشعَّة الشمسالبديعة في مثل
هذه الفترات من عصر اليوم؛ لذا حين انفتح باب البهو، توقَّف أكثر من واحدٍ من المارَّة
ليُحدِّق ثم يطلق شهقة؛ إذ كانت عيونهم تقع على مشهدٍ لمسكنٍ موسرٍ؛ شيء يُشبه حقٍّا
مشهد تحوُّلٍ في مسرحية خيالية: سُحب أرجوانية وشموس ذهبية ونجوم قرمزية، كانت
تسطع في الحال أمام الناظر بضوء يخطف الأبصار، لكنها شفَّافة وبعيدة.
كان الشاعر ليونارد كوينتون قد أعدَّ بنفسه بعناية شديدة هذا التأثير؛ ومن المُستبعد
أن يكون قد عبَّر عن شخصيته بهذه الدِّقة في أيٍّ من قصائده؛ فقد كان رجلًا عاشقًا
للألوان، وبلغَتْ به شهوته للألوان وإشباعها حدَّ تجاهل الشكل، بل حتى حُسن الشكل.
وكان هذا ما حوَّل عبقريته بالكامل للفنون الشرقية والخيال؛ لتلك الأبسطة المذهلة أو
الأعمال المُوشَّاة المبهرة التي يبدو كأن الألوان كلها قد امتزجَتْ فيها في فوضىموفَّقة، غير
مُمثِّلة في ذلك لشيءٍ ولا داعية لشيء. كان قد حاول، ربما دون توفيقٍ فني كامل، ولكن
بخيال وإبداع مشهودَين، أن يؤلِّف ملاحم وقصصًا عاطفيةً تعكس صخَب ألوانٍ عنيفة
بل وقاسية؛ حكايات عن جنَّات نعيم استوائية حيث الذهب اللامع والنحاس الأحمر حُمرة
الدم؛ عن أبطالٍ شرقيين مُعتمرين أغطيةَ رأسٍ ملتفَّة اثنتَي عشرة طبقة يركبون أفيالًا
مطلية باللون الأرجواني أو الأخضرالطاووسي؛ وعن جواهر عملاقة يعجز مائة زنجي عن
حملها، لكنها مُشتعلة بألسنة لهب عتيقة وغريبة في ألوانها.
بإيجاز (لعرضالمسألة من وجهة نظر عامة أكثر)، كان مهتمٍّا كثيرًا بجنَّات الشرق،
الأسوأ كثيرًا من أغلب هاويات جحيم الغرب؛ وبالملوك الشرقيين، الذين ربما يجوز لنا
أن ندعوهم مهووسين؛ وبالجواهر الشرقية التي قد لا يراها أصلية أحد صائغي شارع
بوند (إنْ حملها المائة زنجي مُتثاقلين إلى متجره). كان كوينتون عبقريٍّا، وإن كان عبقريٍّا
سوداوي النزعة؛ وقد تبدَّت سَوداوِيَّته في حياته أكثر ممَّا تبدَّت من أعماله. أما مزاجه فقد
كان مُعتلٍّا ونزقًا، وعانت صحته بشدَّة من تجاربه الشرقية مع الأفيون. اعترضَتْ زوجته،
وهي سيدة مليحة ومجتهدة، وبلا شك مكدودة، على الأفيون، لكنها اعترضَتْ أكثر كثيرًا
على ناسكٍ هندي حي مُتَّشِح برداءٍ أبيضوأصفر، أصرَّزوجها على استضافته لعدَّة شهور،
ليكون بمثابة فيرجيل الذي سيرشد روحه في طريقها عبر جنَّات الشرق وجحيمه.
من هذا المنزل الحافل بمظاهر الفن خطا الأبُ براون وصديقه خارجَين إلى عتبة
الباب؛ وكان يبدو من وجهَيهِما أنهما خرَجا منه مُستشعرَين راحةً كُبرى. كانت معرفة
فلامبو بكوينتون قد امتدَّت للأيام الجامحة للدراسة في باريس، وكانا قد جدَّدا أواصر
المعرفة في عطلة نهاية أحد الأسابيع؛ لكن بعيدًا عما جرى لفلامبو من تطوُّرات جعلَتْ منه
شخصًا أكثر مسئولية مؤخرًا، لم يجد نفسه متوافقًا مع الشاعر الآن؛ فخنْق المرء لنفسه
بالأفيون وكتابة أبياتٍ شهوانية قليلة على رقوق، لم تكن فكرته عن الطريقة التي يُسلِّم بها
سيد نبيل نفسه للشيطان. حين توقف الاثنان على عتبة الباب، قبل أن ينعطفا إلى الحديقة،
انفتحت بوابة الحديقة الأمامية في عنف، وصعد الدرجات متعثرًا من لهفته رجلٌ شابٌّ
مُعتمرًا قبعة مستديرة من اللباد في مُؤخر رأسه. كان شابٍّا يبدو عليه الاستهتار، يرتدي
ربْطة عنق حمراء جميلة لكنها منحرفة عن موضعها تمامًا، كأنه كان قد نام مُرتديًا إيَّاها،
وظلَّ يتململ ويطوح هنا وهناك بواحدة من تلك العِصيالصغيرة ذات العُقَد.
من فضلك، أريد أن أرى كوينتون العجوز. لا بدَّ أن أراه. هل » : ثم قال بأنفاسٍ لاهثة
«؟ رحل
أعتقد أن السيد كوينتون بالداخل، لكنني لا » : فقال الأب براون وهو يُنظِّف غليونه
«. أعلم إن كنتَ تستطيع رؤيته؛ فالطبيب معه الآن
دخل الشاب، الذي لم يكن يبدو في تمام وعيِه، البهوَ مُترنحًا؛ وفي نفس اللحظة خرج
الطبيب من مكتب كوينتون، مُغلِقًا الباب، وشرع يرتدي قُفازَيه.
تريد رؤية السيد كوينتون؟ لا، يؤسفني القول إنه لا يمكنك » : قال الطبيب بهدوء
رؤيته. في الواقع، يُحظَر أن تراه مهما كان السبب. لا يمكن لأحد أن يراه؛ فقد أعطيته للتوِّ
«. دواءه المُنوِّم
فقال الشابُّ ذو ربْطة العنق الحمراء، محاولًا التشبُّث بتلابيب معطف الطبيب في
«… لا، فلتسمعْني يا عزيزي. اسمعْني. إنني مُنهَك تمامًا، فلتُصغِ إليَّ. إنني » : استعطاف
لا جدوى من هذا يا سيد أتكينسون. حين » : أجابه الطبيب، مُجبِرًا إيَّاه على التراجع
ثم عدَّل وضْع قبعته، وخرج إلى ضوء «. تستطيع تبديل آثار العقار، سأبدِّل أنا قراري
الشمس مع الاثنين الآخرَين. كان رجلًا قصيرًا غليظ العنق، دمِث الخلق ذا شاربٍ صغير،
ويوحي بالجدارة وإن كان عاديٍّا لدرجةٍ تفُوق الوصف.
وقف الشابُّ ذو القبعة، الذي لم يبدُ أنه قد حظِي بأي مهارة في التعامُل مع الناس
سوى فكرة عامة عن التشبُّث بمعاطفهم، خارجًا أمام الباب، وظلَّ مذهولًا كأنه قُذِف به
إلى الخارج حرفيٍّا، وأخذ يُراقِب في صمتٍ الثلاثة الآخرين وهم يسيرون معًا مُبتعدِين عبر
الحديقة.
يا لها من كذبة سديدة وممتازة التي نطقتُ بها للتوِّ. في » : أشار الطبيب ضاحكًا
الواقع لن يأخذ كوينتون المسكين عقاره المُنوِّم قبل نصف ساعة تقريبًا. لكنني لن أدَعَ ذلك
الحقير التافِه، الذي لا يريد سوى اقتراضمالٍ لن يُسدده، إن استطاع، يُضايقه. إنه وغْد
«. وضيع، رغم أنه شقيق السيدة كوينتون، وهي من أفضل النساء قاطبةً
«. أجل، إنها سيدة طيبة » : قال الأب براون
لذا أقترِح أن نتجول في أنحاء الحديقة حتى يرحل هذا » : ثم استطرد الطبيب قائلًا
المخلوق؛ وبعدها سأدخل إلى كوينتون بالدواء. لن يستطيع أتكينسون الدخول، لأنني
«. أوصدتُ الباب
في تلك الحالة يا دكتور هاريس، ربما يكون من الأفضل أن نتجول في » : فقال فلامبو
الخلْف عند نهاية المُستنبَت. لا يُوجد مدخل إليه من تلك الناحية، لكنه جدير أن نراه، حتى
«. وإن كان من الخارج
نعم، وسيُمكنني إلقاء نظرة على مريضي؛ فهو يُفضل » : فقال الطبيب ضاحكًا
الاستلقاء على أريكةٍ في آخر المُستنبَت بين كل زهور بنت القنصل الحمراء حُمرة الدم
«؟ تلك؛ هذا سيُثير فيَّ القشعريرة. لكن ماذا عساك أن تفعل

توقَّفَ الأب براون للحظة، والتَقَط سكِّينًا معقوفًا غريبًا، مطعَّمًا بشكلٍ بديع بالأحجار
والمعادن الملونة، كاد يختفي تمامًا في الحشائش الطويلة.
«؟ ما هذا » : تساءل الأب براون رامقًا إياه بشيءٍ من استنكار
أوه، إنه سكين كوينتون على ما أعتقد؛ فلدَيه » : فقال الدكتور هاريس في غير اكتراث
أنواع كثيرة من التُّحَف الصينية الزهيدة القيمة مُبعثرة في كل مكان. أو ربما يخصُّ ذلك
«. الهندي الوديع الذي يحتفظ به طَوْع بنانه
«؟ أي هندي » : سأله الأب براون، وهو ما زال يُحدق في الخنجر الذي في يده
«. أوه، مُشعوِذٌ هنديٌّ ما، مُحتال بالطبع » : قال الطبيب باستخفاف
«؟ ألا تؤمن بالسحر » : هنا سأله الأب براون، دون أن يرفع بصره
«! عجبًا! السحر » : فقال الطبيب
إنه جميل جدٍّا، الألوان جميلة جدٍّا. لكنه يتَّخِذ » : قال القسُّ بصوتٍ خفيض حالم
«. الشكل الخطأ
«؟ لأجل ماذا » : فسأله فلامبو مُحدقًا
لأجل أيِّشيء. إنه يتخذ الشكل الخطأ بوجهٍ عام. ألا يُخالجك هذا الشعور أبدًا تجاه »
الفن الشرقي؟ الألوان جميلة جمالًا خلَّابًا؛ لكن الأشكال رديئة وسيئة، رديئة وسيئة عمدًا.
«. لقد رأيتُ أشياءَشِريرة في بُساطٍ تركي
«! يا إلهي » : هنا صاح فلامبو باللغة الفرنسية ضاحكًا
إنها حروف ورموز » : استأنف الكاهن كلامه، وقد انخفض صوته أكثر فأكثر، وقال
بلُغة لا أعرفها؛ لكني أعلم أنها تُمثل كلماتٍشريرة. والخطوط تنحرف عن قصد، مثل أفاعٍ
«. تتلوَّى من أجل الفرار
«؟ ما الذي تتحدَّث عنه بحقِّ الشيطان » : فقال الطبيب وقد ارتفع صوته بالضحك
تغشى الأب أحيانًا هذه الغمامة من الرُّوحانيات، لكن » : أجابه فلامبو بهدوء، قائلًا
«. أنبِّهك مُسبقًا أنَّني لم أره قطُّ وقد غَشِيَته تلك الغمامة، إلا وكانشرٌّما قريبًا جدٍّا
«! أوه، سحقًا » : قال الطبيب
مهلًا، » : صاح الأب براون باسطًا ذراعه بالسكين المعقوف، كأنه ثعبان لامع، وقال
انظر إليه. ألا ترى أنه يتَّخِذ الشكل الخطأ؟ ألا ترى أن ليس لديه غرَضصريح وواضح.
إنه ليس مُدببًا مثل الرمح، ولا يكسح مثل المنجل. إنه لا يبدو كسلاح. إنه يبدو كأداة
«. تعذيب
حسنًا، حيث إنه لا يروق لك كما يبدو، فالأفضل أن يُعاد إلى » : فقال هاريس بمرح
صاحبه. ألم نصل لنهاية هذا المُستنبَت اللعين بعد؟ إن هذا المنزل يتخذ الشكل الخطأ، إن
«. جاز القول
أنت لا تفهم. إن شكل هذا المنزل عجيب، بل مُثير » : فقال الأب براون، وهو يهزُّ رأسه
«. للضحك. لكن ليس ثمة خطأ به
وبينما كانوا يتحدثون داروا مع مُنحنى الزجاج الذي أحاط بالمُستنبَت عند نهايته،
وهو منحنًى مُتصل؛ فليس به باب ولا نافذة للدخول عند تلك النهاية. إلا أن الزجاج كان
شافٍّا والشمسكانت لا تزال ساطعة، رغم اقترابها من وقت الغروب؛ ولم يتمكنوا من رؤية
الزهور الزاهية بالداخل فحسب، لكن شاهدوا أيضًا جسد الشاعر الهزيل في معطف بُنِّيٍّ
من القطيفة وهو مُستلقٍ في وَهَنٍ على الأريكة، وبدا أن النعاسكاد يغلبه وهو يُطالع كتابًا.
كان رجلًا شاحبًا نحيفًا ذا شعر كستنائي مُسترسِل ولِحية عند طرف ذقنه كانت بمثابة
المُفارقة في وجهه؛ إذ جعلَتْه اللحية يبدو أقلَّ رجولة. كانت هذه السِّمات معروفة لثلاثتهم
جميعًا؛ لكن حتى لو لم تكن كذلك، قد يكون ثمَّة شك في أنهم كانوا سينظُرون إلى كوينتون
في تلك اللحظة تحديدًا؛ فقد كانت عيونهم مثبَّتة علىشيءٍ آخر.
كان يقِف في طريقهم تمامًا، خارج الطرف الدائري للبناء الزجاجي مباشرة، رجلٌ
طويلٌ، تدلَّت بُردته البيضاء دون شائبة إلى قدَميه، والْتَمع رأسه ووجهه وعنقه الحاسرة
البُنِّية تحت الشمس الغاربة مثل برونزٍ وضَّاح. كان ينظر إلى النائم من خلال الزجاج،
وكان جامدًا بلا حراك كالجبل.
«؟ مَن هذا » : صاحَ الأبُ براون، مُتراجعًا وهو يشهَقُ شهقةً كالهسيس
أوه، ليس سوى ذلك الدجَّال الهندي، لكن لا أعلم، بحقِّ » : فأجابه هاريس مُزمجرًا
«. الشيطان، ما الذي يفعله هنا
«. يبدو وكأنه يُمارستنويمًا مغناطيسيٍّا » : فقال فلامبو وهو يَعضُّعلى شاربه الأسود
لماذا، أيُّها الرفاق غير المُشتغِلين بالطب، تقولون دائمًا » : هنا صاح الطبيب وقال
«. التُّرَّهات عن التنويم المغناطيسي؟ هذا يبدو أشبَهَ كثيرًا بسرقة المنازل
حسنًا، سنُناقِش هذا الأمر، على أي » : فقال فلامبو، الذي كان دائمًا يُفضِّل الحركة
وفي خطوةٍ واحدة واسعة وصَل إلى المَوضع الذي كان يقِف فيه الهندي. وقال في «. حال
وقاحةٍ اتَّسمت بالهدوء، وهو ينحني بقامتِه الهائلة، التي فاقت حتى طول الرجل الشرقي:
«؟ مساء الخير يا سيدي. هل تُريد أيشيء »
على مهَلٍ شديد، مثل سفينةضخمة تتَّجِه إلى المرفأ، التفتَ الوجه الأصفر الكبير، ونظر
في النهاية من فوق مَنكِبه الأبيض. فأجفلوا حين رأوا أنَّ جفنَيه الصفراوَين كانا مُطبَقين
ثُم كرر، وقد «. شكرًا، لا أريد شيئًا » : تمامًا، كأنه نائم. أجابهم الوجه بإنجليزيةٍ مُمتازة
ثم «. لا أريد شيئًا » : انفرج جَفناه نصفَ انفراجة، ليكشف بعضًا من مُقلتَين برَّاقتَين، قائلًا
ثم مضىمُحدثًا حفيفًا «. لا أريد شيئًا » : فتح عينَيه على اتِّساعهما في تحديق مُفزع، وقال
في الحديقة التي أخذ الظلام يداهمها على جناح السرعة.
«. المسيحي أكثر تواضعًا. إنه يريد شيئًا » : تمتم الأب براون قائلًا
«؟ ماذا عساه كان يفعل » : وتساءل فلامبو، عاقدًا حاجبَيه السوداوَين وخافضًا صوته
«. أودُّ أن أتحدَّث معك فيما بعد » : فقال الأب براون
كان ضوء الشمس لا يزال موجودًا، لكنه تحوَّل إلى شفقٍ أحمر، بينما أخذت أغلب
أشجار الحديقة وشُجيراتها تزداد سوادًا كلما ازداد انحساره. انعطفوا عند نهاية المُستنبَت،
وساروا في صمتٍ في الجانب الآخر ليصلوا للباب الأمامي. ويبدو أنهم أثناء سيرهم أفاقوا
شيئًا من غفلته، كمن يُفزع طائرًا، في الركن الأبعد بين المكتب والمبنى الرئيسي؛ ومرة
أخرى رأوا الفقير الهندي في ردائه الأبيض وهو يخرج من الظلِّ بخفَّة، ويتسلَّل في اتجاه
الباب الأمامي. إلا أنه مما أثار دهشتهم أنه لم يكن بمُفرده. ووجدوا أنفسهم وقد توقَّفوا
فجأة ومضطرين للتخلصمن ارتباكهم لظهور السيدة كوينتون، بشعرِها الذهبي الغزير
ووجهها المربع الشاحب، وهي تقترب منهم، خارجةً من الشفَق. بدَتْ مُتجهِّمة قليلًا، لكن
في غاية التهذيب.
«. مساء الخير يا دكتور هاريس » : لم تزد عن أن قالت
مساء الخير يا سيدة كوينتون. كنتُ ذاهبًا لتوِّي » : فأجابها الطبيب الضئيل في ود
«. لإعطاء زوجك عقاره المُنوِّم
وابتسمَتْ لهم، ودخلت «. أجل، أعتقد أن ميعاده قد حان » : فقالت بصوتٍ واضح
المنزل في خطواتسريعة.
تلك السيدة مُنهكة القوى. إنها من ذلك النوع من النساء » : عندئذٍ قال الأب براون
«. الذي يؤدي واجبه طَوال عشرين عامًا، ثم يرتكب شيئًا فظيعًا
هل درستَ الطبَّ من » : ولأول مرة نظر الطبيب الضئيل إليه بعَين الاهتمام، وسأله
«؟ قبل
مثلما يتعيَّنعليكم معرفةشيء عن العقل فضلًا عن معرفتكم بالجسد؛ » : فأجابه القس
«. كذلك علينا معرفةشيء عن الجسد فضلًا عن معرفتنا بالعقل
«. حسنًا، أعتقد أنني سأذهب وأعُطي كوينتون دواءه » : فقال الطبيب
كانوا قد داروا مع زاوية الواجهة الأمامية، واقتربوا من الباب الأمامي، وحينما كانوا
يقتربون منه رأوا الرجل ذا الرداء الأبيض للمرة الثالثة، كان آتيًا صوبَ الباب الأمامي
مباشرة حتى إنه بدا غير معقول على الإطلاق ألَّا يكون قد خرج للتوِّ من المكتب المُقابل له.
بيد أنهم كانوا يعرفون أن باب المكتب كان مُوصدًا.
رغم ذلك أسرَّ الأب براون وفلامبو هذه المُفارقة الغريبة في نفسيهما، أما الدكتور
هاريس فلم يكن الرجل الذي يُهدِر أفكاره على المستحيل، فسمح للرجل الآسيوي القادر
على التواجُد في كل الأماكن بالانسحاب، ثم دلف بخفَّة إلى البَهْو، وهناك وجد شخصًا كان
قد نسيه بالفعل؛ إذ كان أتكينسون الأحمق ما زال هناك، يُهَمهِم ويعبَث بالأشياء بعصاه
لا بدَّ أنْ » : ذات المقبض. تشنَّج وجه الطبيب في اشمئزازٍ وحزم، وهمس في الحال إلى رفيقه
«. أوُصِدَ الباب مرة أخرى، وإلا دخل هذا الفأر. لكن سأخرج مُجدَّدًا خلال دقيقتَين
وبسرعةٍ فتح الباب وأوْصدَه مرة أخرى خلفه، كابحًا اندفاعًا أهوجَ من الشاب ذي
القُبعة المُستديرة. ارتمى الشاب بجسده في نفادِ صبرٍ على أحد مقاعد البهو. أخذ فلامبو
يتطلع إلى مخطوطة فارسية مُذَهَّبة على الحائط؛ أما الأبُ براون، الذي بدا في حالةٍ من
الذهول، فراقَبَ الباب بفتور. وخلال أربع دقائق تقريبًا، فُتِح الباب ثانيةً. لكن أتكينسون
كان أسرع هذه المرة؛ فقد اندفع إلى الأمام، وأمسك بالباب مفتوحًا لبُرهة، وصرخ قائلًا:
«… أوه، يا كوينتون، أريد »
من الجانب الآخر لغرفة المكتب جاءصوت كوينتون واضحًا، يكسُوهشيءٌ بين التثاؤب
وصدح ضحك كليل:
«. أوه، أعلم ما تريد. فلتأخذْه، واتركْني في سلام. فإنني أؤلِّف أغنية عن الطواويس »
قبل أن يُغلق الباب، جاءه نصف جنيه ذهبي طائرًا عبر فُرْجَته؛ فالتقطه أتكينسون،
الذي تعثَّر إلى الأمام، في براعةٍ منقطعة النظير.
وأوصَدَ الباب بعُنف، وقاده للخروج إلى الحديقة. «. انتهى الأمر إذن » : قال الطبيب
الآن يستطيع ليونارد المسكين أن ينعم ببعض السلام. » : أضاف قائلًا للأب براون
«. سيظلُّ محبوسًا بالداخل وحدَه تمامًا لساعةٍ أو ساعتَين
ثم أجال «. أجل، وصوتُه كان يبدو مرحًا إلى حدٍّ كافٍ حين تركناه » : فأجابه القس
بصرَه بجدِّية في أنحاء الحديقة، ورأى أتكينسون بهيئته المُسترخية واقفًا يُجلجل بنصف
الجنيه الذهبي في جيبه، وخلفه، في الشفَق الأرجواني، كان الرجل الهندي بهيئته جالسًا
مُنتصبًا على أكَمةِ حشائش، مُوَلِّيًا وجهه صوب الشمس الغاربة. ثم قال على حين غِرة:
«!؟ أين السيدة كوينتون »
«. لقد صعدت إلى حُجرتها، ها هو ظلُّها على الستار » : قال الطبيب
أرسل الأب براون نظرَه إلى أعلى، وأمعن النظر مُقطبًا في الظل المُعتم المُلقى على النافذة
المُضاءة بمصباح غازي.
ومشىياردة أو ياردتَين، وألقى بنفسه على أحد مقاعد «. نعم، هذا هو ظلُّها » : ثم قال
الحديقة.
جلس فلامبو بجانبه؛ إلَّا أن الطبيب كان واحدًا من أولئك الأنُاس النَّشِطين الذين
تدفعهم طبيعتهم للحركة؛ لذا سار مُبتعدًا، وهو يُدخن، في الشفَق، تاركًا الصديقَين معًا.
«؟ أبتاه، ماذا بكَ » : قال فلامبو بالفرنسية
الخُرافة تنافي الدين، لكن » : ظلَّ الأب براون صامتًا وبلا حراك لنصف دقيقة، ثم قال
«. ثمَّة شيئًا في أجواء هذا المكان. أظنُّه ذلك الهندي؛ على الأقل، جُزئيٍّا
ثُم استغرق في الصمت، وراح يُراقِب ظلَّ الهندي البعيد الذي كان ما زال جالسًا في
جمودٍ كما لو كان يُصلِّي. كان يبدو من الوهلة الأولى ساكنًا، لكن حين راقبَه الأب براون
لاحظ أنَّ الرجل كان يتمايَل قليلًا جدٍّا في حركة إيقاعية، مثلما كانت قِمم الأشجار المظلمة
تتمايل تمايُلًا طفيفًا جدٍّا في الرياح التي أخذَتْ تتسلل في ممرَّات الحديقة المُعتمة وتقلب
الأوراق المتساقطة قليلًا.
أخذ الظلام يغمُر المشهد سريعًا، كما لو كانت ستهبُّ عاصفة، لكن كان ما زال
باستطاعتهم رؤية كل الأشخاصفي أماكنهم المُختلفة؛ فكان أتكينسون مُستندًا إلى شجرةٍ
بوجهٍ خامل؛ وكانت زوجة كوينتون لا تزال عند نافذتها؛ أما الطبيب فكان قد ذهب يتمشَّى
حول نهاية المُستنبَت؛ فكان باستطاعتهم رؤية سيجاره مثل سراب، وظلَّ الفقير الهندي
جالسًا في جمودٍ لكنه يهتز، بينما بدأت الأشجار فوقه تهتزُّ وكادت أن تَهْدُر. كانت العاصفة
آتيةً لا ريب.
حين تحدَّثَ الرجل الهندي إلينا، جاءني » : استرسل براون في نبرةٍ تحاورية خافتة قائلًا
شيء شبيه بالرُّؤيا؛ رؤيا له ولعالمه كله، مع أنه لم يقُل سوى الشيء نفسه ثلاث مرَّات. حين
أول مرة، كان المقصود أنه مُحصَّن؛ أن آسيا لا تكشِف عن أسرارها. «. لا أريد شيئًا » : قال
فأدركتُ أنه كان يقصد أنه مُكتفٍ بذاته، مثل كَون أنه «. لا أريد شيئًا » : ثم قال مرة أخرى
قالها بعينَين «. لا أريد شيئًا » : لا يحتاج إلى إله، ولا يُقرُّ بأيِّ آثام. وحين قال للمرة الثالثة
لامعتَين. فأدركتُ أنه قصد ما قال حرفيٍّا؛ وهو أنه لم يكن لدَيه رغبة فيشيء ولا هدف؛ أنه
«… لا يتُوق إلى أيِّشيء كالنبيذ مثلًا؛ تلك هي الإبادة، ومجرد تدمير كلِّشيءٍ أو أيِّشيء
سقطتْ قطرتان من المطر؛ ولسببٍ ما جفل فلامبو ونظر لأعلى، كما لو أن هاتَين
النقطتين قد لدَغَتاه. في نفس اللحظة، عند نهاية المُستنبَت بدأ الطبيب يجري نحوَهما،
صائحًا بشيءٍ وهو يركُض.
حين وصل بينهما مِثل القنبلة تصادَف أن أتكينسون المُضطرِب كان يتَّخذ مُنعطفًا
تصرُّفٌحقير! ما الذي » : أقرب لمُقدِّمة المنزل؛ فتشبَّث الطبيب بياقته بقبضة مُباغتة، وصاح
«؟ كنتَ تفعله له أيها الكلب
هبَّ القسُّ واقفًا، وتحدَّث بصوتٍ فولاذي مثل جندي لدَيه سلطة القيادة.
دون شِجار، إننا كافون لنُمسك بأي شخصٍ نريد الإمساك به. » : صاح القسُّ بهدوء
«؟ ما الأمر أيها الطبيب
كوينتون ليس على ما يُرام. لا يسَعُني » : قال الطبيب وقد صار وجهه شاحبًا تمامًا
سوى رؤيته من خلال الزُّجاج ولا يروق لي الطريقة التي هو مُستلقٍ بها. لم يكن هكذا
«. حين تركته، على أية حال
هيا نذهب إليه. يمكنك أن تترك السيد أتكينسون وحده، » : قال الأب براون في الحال
«. لقد كان تحت ناظري منذ سمِعنا صوت كوينتون
«. سوف أنتظر هنا وأراقبه. ادخُلا أنتما لرؤيته » : قال فلامبوسريعًا
أسرع الطبيب والقس إلى حجرة المكتب، وفتحا القُفل ووَلَجا إلى الداخل. حين دخلا
كادا يسقُطان على منضدة كبيرة من خشب الماهوجني في المُنتصف اعتاد الشاعر الكتابة
عليها؛ فلم يكن ثمة ضوء بالمكان سوى ضوء مِدفأة صغيرة تُرِكَت من أجل العليل. في
منتصف هذه المنضدة كان يُوجد ورقة واحدة، يبدو أنها تُركت هناك عن قصد. التَقَط
يا إلهي، » : الطبيب الورقة، وألقى عليها نظرة، ثم ناولها إلى الأب براون، وصاح قائلًا
واندفع إلى الحجرة الزجاجية التي كانت في الجانب الآخر من الحجرة، حيث بدَتِ «! انظر
الزهور المدارية المُخيفة ما زالت مُحتفظة بذكرى أرجوانية من الغروب.
سأموت بيديَّ؛ » : قرأ الأب براون الكلمات ثلاثَ مرَّات قبل أن يضع الورقة. كان مكتوبًا
كانت الكلمات بخط ليونارد كوينتون الذي يصعُب للغاية تقليده، «! إلا أنني سأموت مقتولًا
كما تصعُب قراءته.
ثُم تقدَّم الأب براون صوبَ المُستنبَت، وهو لا يزال مُمسكًا بالورقة، ليجد صديقَه
«. لقد فعلَها » : الطبيب راجعًا بوجهٍ عَلاه اليقين والانهيار. قال هاريس
مَضَيا معًا وسط الجمال الخلَّاب غير العادي لنباتات الصبَّار وزهور الأزاليا ووَجَدا
ليونارد كوينتون، الشاعر وكاتب القصصالرومانسية، وقد تدلَّى رأسُه من أريكته وخُصلات
شعره الأحمر المُموَّج مُنسدلة على الأرض. كان الخنجر العجيب الذي كانوا قد التقطوه في
الحديقة نافذًا في جنبه الأيسر، ويدُه المُرتخية ما زالت مُستقرة على الِمقبض.
بالخارج كانت العاصفة قد أتتْ دونما سابق إنذار، كالليل في أشعار كولريدج، وغشِيَت
الأمطار الغزيرة الحديقة والسقف الزجاجي. بدا أنَّ الأب براون يدرس الورقة أكثر من
الجثة؛ إذ أمسك بها قريبًا من عينَيه؛ وبدا أنه يُحاول قراءتها في ضوء الغسَق. ثم رفعها
قُبالة الضوء الخافت، وبينما هو يفعل ذلك، أطلَّ عليهم البرْق للحظة بضوءٍ أبيضَناصعٍ
حتى إنَّ الورقة بدَت سوداء في مُقابِله.
تبِع ذلك ظلام عَجَّ بهزيم الرعد، وبعد الرعد صاح الأبُ براون في الظلام، قائلًا:
«. أيها الطبيب، هذه الورَقة تتَّخذ الشكل الخطأ »
«؟ ماذا تقصد » : سأل الدكتور هاريس، مُحدقًا في عبوس
إنها ليست مربعة. لقد اقتُطِع حرفُها من الزاوية بعضالشيء. » : فأجابَه الأب براون
«؟ ماذا يعني هذا
كيف لي أن أعرف، بحقِّ الشيطان؟ هل تعتقد أننا يجب أن ننقل » : قال الطبيب مُتبرِّمًا
«. هذا الرجل المسكين؟ إنه جثة هامدة
لكنه كان لا يزال «. لا، يجب أن نتركه راقدًا كما هو ونستدعي الشرطة » : أجابه القس
آخِذًا في تفحُّصالورقة.
أثناء عودتهما عبر حُجرة المكتب توقَّف الأب براون والتَقط مِقصَّ أظافر صغيرًا. ثم
قال ذلك وعقد «… آه، هذا ما استخدَمه في الأمر. لكن رغم ذلك » : قال بشيءٍ من الارتياح
حاجبَيه.
ثم قال مُشيرًا إلى «. أوه، توقَّف عن العبَث بقصاصة الورق تلك » : قال الطبيب بحزم
كَومةٍ من الأوراق كبيرة القطع التي لم تُستخدَم بعدُ على منضدةٍ أخرى أصغر حجمًا:
«. كانت هذه إحدى هواياته. كان لدَيه المئات منها. كان يقصُّ كلَّ أوراقه بتلك الطريقة »
مضىالأب براون إليها والتقط ورقة. كانت بنفس الشكل غير المُنتظم.
ثم بدأ عدَّها، مما «. صحيح، وأرى هنا الحواف التي قُطعت منها » : قال الأب براون
أثار سُخط زميله.
حسنًا. ثلاثٌ وعشرون ورقة مقصوصة واثنتان » : قال الأب براون بابتسامة اعتذار
«. وعشرون حافةً مقصوصة منها. وحيث إنَّ صبرك نفدَ كما أرى فسوف نَلحق بالآخرين
من الذي سيُخبر زوجته؟ هلَّا ذهبتَ وأخبرتها الآن، بينما » : تساءل الدكتور هاريس
«؟ أرُسِل أحد الخدَم للشرطة
وخرج إلى باب البَهْو. «. كما تريد » : قال الأب براون في عدم اكتراث
وهنا أيضًا وجد أحداثًا مُثيرة، لكن من نَوع أكثر غرابة؛ كانت أحداثًا كشفت عن
صديقه الضخم الجثة، فلامبو، وهو يتصرَّف تصرُّفًا لم يَألفْه منذ زمنٍ طويل، بينما كان
أتكينسون الوديع لدى العتبة في نهاية الدرجات مُمدَّدًا أرضًا وحذاؤه في الهواء، وقد طارت
قُبعته المُستديرة وعصا المشي الخاصة به في اتِّجاهَين مُتقابلَين في الطرقة. كان أتكينسون
في آخر المطاف قد ضاق ذرْعًا بحبس فلامبو له كأنَّهُ أبوه، وحاول أن يطرحه أرضًا، وهو
الأمر الذي لم يكن يسهُل بتاتًا أن يصنعه مع ملِك عالم الجريمة في باريس، حتى بعد
تنازل ذلك الملِك عن عرشِه.
كان فلامبو على وشك الوثوب على عدوُّه والتحفُّظ عليه مرةً أخرى، حين ربَّت القس
برفقٍ على كتفه.
فلتتصالَح مع السيد أتكينسون يا صديقي. التمسا العفو أحدكما » : قال الأب براون
بعد «.« طابت ليلتك، لسنا بحاجةٍ لاحتجازه أكثر من ذلك » : من الآخر وقولا لبعضكما
ذلك، حين نهض أتكينسون في شيء من الارتِياب ولمْلَم قُبعته وعصاه ومضىصوبَ بوابة
«؟ أين ذلك الهندي » : الحديقة، قال الأب براون بلهجةٍ أكثرَ جدية
استدار الثلاثة جميعهم — إذ كان الطبيب قد انضمَّ إليهما — تلقائيٍّا ناحية أكَمَة
الحشائش المُظلمة بين الأشجار المُهتزَّة التي أضفى عليها الغسَق لونًا أرجوانيٍّا، حيث رأوا
الرجل ذا البشرة البُنِّية آخر مرةٍ وهو يتمايَل فيصلواته الغريبة. لكن الهندي كان قد اختفى.
عليه اللعنة. الآن أيقنتُ أن ذلك الزنجي » : صاح الطبيب وهو يضرب الأرض بقدمِه
«. هو من فعلَها
«. كنتُ أظنُّك لا تؤمِن بالسحر » : فقال الأب براون في هدوء
وما زلتُ غير مؤمن به. كلُّ ما هنالك أنني كرهتُ ذلك » : فأجابه الطبيب باستياء
الشيطان الأصفر حين ظننتُ أنه ساحر مُزوِّر. وسوف أكرهه أكثر إن أدركتُ أنه ساحر
«. حقيقي
حسنًا، لاشيء في هروبه؛ فلم نكن سنستطيع إثباتشيءٍ ضدَّه أو فِعل » : قال فلامبو
شيءٍ معه؛ فلا يُمكن للمرء أن يذهب إلى شرطي الدائرة بحكايةٍ عن حالة انتحار تحت
«. تأثير السحر أو بالإيحاء الذاتي
في أثناء ذلك كان الأبُ براون قد مضىإلى المنزل، وكان حينئذٍ في طريقه لنقل الخبر
لزوجة الرجل الذي قضىنحْبَه.
حين خرج ثانيةً كان باديًا عليه مسحة من الشحوب والأسى، لكن لم يعرف أحدٌ قطُّ
ما جرى بينهما في ذلك الحوار، حتى حينما انكشف كلُّشيء.
فوجئ فلامبو، الذي كان يتحدَّث بهدوءٍ مع الطبيب، حين رأىصديقه يُعاود الظهور
أمامه بهذه السرعة؛ لكن براون لم يُلْقِ بالًا، ولم يزِد على أن انتحى بالطبيب جانبًا، وسأله:
«؟ لقد استدعيْتَ الشرطة، أليس كذلك »
«. بلى، ينبغي أن يكونوا هنا في غضون عشر دقائق » : فأجاب هاريس
هلَّا أسدَيْتَني معروفًا؟ في الحقيقة، أنا أجمع هذه القصصالمُثيرة » : قال القسُّ برفق
للفضول، التي كثيرًا ما تحتوي، كما في حالةصديقنا الهندي، على عناصريَستعصيوضعُها
في تقريرٍ للشرطة. والآن، أريدك أن تكتُب تقريرًا عن هذه القضية من أجل استخدامي
إن مهنتك مهنة بارعة. وأحيانًا » : وقال وهو يتطلَّع في وجه الطبيب بجدِّيةٍ وثبات «. الخاص
أعتقد أنك على علمٍ ببعض تفاصيل هذه المسألة التي ارتأيت أنه من غير المناسب ذكرها.
ولأن مهنتي بها خصوصية مثل مهنتك، فسأتعامل مع أيشيءٍ تكتبُه لي بسريَّة تامَّة. لكن
«. اكتُب كلَّشيء
نظر الطبيب، الذي كان قد ظلَّ مُصغيًا بتمعُّنٍ وقد أمال رأسَه قليلًا جانبًا، في وجه
ثم ذهب إلى غرفة المكتب، وأغلق الباب خلفَه. «. حسنًا » : القس للحظة، وقال
فلامبو، يُوجد مقعد طويل هناك أسفل الشرفة، حيث يُمكننا أن » : قال الأب براون
نُدخِّن بمنأًى عن المطر. أنت الصديق الوحيد لي في العالم، وأريد التحدُّث معك. أو ربما،
«. أجلسُ صامتًا معك
اتَّخَذا مجلسًا مريحًا على مقعد الشرفة؛ وقَبِل الأب براون، خلافًا لعادته، سيجارًا
فاخرًا وأخذ يُدخنه دون توقف في صمت، بينما أخذ المطر يرتطِم بسطح الشرفة مُحدِثًا
دوِيٍّا وطقطقة.
«. هذه القضية غريبة جدٍّا يا صديقي. قضية غريبة جدٍّا » : أخيرًا قال الأب براون
«. أعتقد أنها كانت كذلك » : قال فلامبو، وقدسرى في جسدهشيءٌ كالقشعريرة
أنت تدعوها غريبة، وأنا أدعوها غريبة، ورغم ذلك كلٌّ مِنَّا يقصد أشياء » : فقال الآخر
متناقضة كليةً. دائمًا ما يخلِط العقل الحديث بين فِكرتَين مُختلفتَين؛ الغموض بمعنَى
ما هو مُدهِش، والغموض بمعنى ما هو مُعقَّد، وهذا ما يشكِّل نصف الصعوبة التي
تكتنِف المعجزات؛ فالمعجزة مدهشة، لكنها بسيطة، إنها بسيطة لأنها معجزة، إنها قوة
آتية مباشرةً من الرب (أو من الشيطان) بدلًا من أن تأتي بطريقٍ غير مباشر عن طريق
الطبيعة أو مشيئة بشر. الآن، أنت تقصد أن هذا الأمر مدهش لأنه مُعْجِز، لأنه سِحر أتى
به هندي شرير. ولتفهَم أنني لا أقصد أنه لم يكن رُوحانيٍّا أو شيطانيٍّا. الرب والشيطان
وحدَهما يعلمان ما العوامل المؤثرة المحيطة التي عن طريقها تدخل الخطايا الغريبة في
حياة البشر. لكن فيما يخصُّالوقت الراهن، ما أرمي إليه هو: إن كان هذا سحرًا خالصًا،
كما تعتقد، فهو مدهش، لكنه ليس غامضًا، أي؛ ليس مُعقدًا. تتَّسِم المعجزة بأنها غامضة،
«. لكن طريقتها بسيطة. والأسلوب الذي حدث به هذا الأمر لم يكن بسيطًا
بدا أن العاصفة التي كانت قد هدأتْ بعض الوقت قد اشتدَّتْ مرة أخرى، وعندها
حدث نشاط كثيف بدا وكأنه رعد يفتقر إلى القوة. ترك الأب براون رماد سيجاره يسقط
واستأنف حديثه:
اتَّسمت هذه الحادثة بانحرافٍ وقُبحٍ وتعقيدٍ لا يَمُتُّ بِصِلةٍ لصواعق السماء ولا »
الجحيم التي تُصيب هدفَها مباشرةً؛ فكما أعرف المسار المُلتوي للحلزون، أدُرِك السُّبل
«. المُعْوَجَّة للإنسان
وفي غمضةِ عينٍ أبرقتِ السماء بلونٍ أبيضَ ساطع، ثم أظلمَت ثانيةً، وواصل القس
كلامه:
بين كل هذه الأشياء المُعْوَجَّة، كان الأكثر اعوجاجًا شكل قصاصة الورق تلك، كانت »
«. أكثر اعوِجاجًا من الخنجر الذي قتلَه
«؟ هل تقصد الورقة التي اعترف فيها كوينتون بانتحاره » : قال فلامبو
كانت «. سأموت بيديَّ » : أقصد الورقة التي كتَبَ فيها كوينتون » : فأجابه الأب براون
«. تلك الورقة على الشكل الخطأ ياصديقي؛ شكل خطأ، لم أره من قبل في هذا العالم الشرير
كل ما في الأمر أنَّ حافةً من حَوافها كانت مقطوعة، وأعلم أن كل أوراق » : قال فلامبو
«. كوينتون كانت مقطوعة بتلك الطريقة
كانت طريقةً غريبة جدٍّا، وسيئة جدٍّا، على ذوقي وحِسِّي. اسمع » : فقال الأب براون
يا فلامبو، ربما كان كوينتون هذا، تغمَّده الربُّ برحمته، شخصًا كريهًا بعض الشيء في
بعضالنواحي، لكنه كان فنانًا بحق، في استخدامه للقلم الرصاصوكذلك القلم الحِبر. كان
خطه، رغم صعوبة قراءته، جريئًا وجميلًا. لا أستطيع إثبات ما أقوله؛ ولا أستطيع إثبات
أيِّشيء. لكنني أقول لك باقتناع تامٍّ إنه لا يمكن أبدًا أن يكون هو من قطع تلك القصاصة
الصغيرة الحقيرة من الورقة. لو كان أراد قصَّ الورق بغرَضتنسيقه، أو تجميعه، لكان
قصَّه بالِمقصعلى نحوٍ مختلف تمامًا. هل تذكر الشكل؟ كان شكلًا رديئًا، كان شكلًا خطأً،
«؟ مثل هذا. أتذْكُر
ولوَّحَ بسيجاره المُشتعل أمامه في الظلام، راسمًا مربعات غير منتظمة بسرعة شديدة،
حتى بدا لفلامبو أنه يراها فعلًا على هيئة حروف مُبهَمة مشتعلة في الظلام؛ مُبهمة على
مِثال ما تحدَّث عنهصديقه، يَستعصيفكُّ رموزها، لكن لا يمكن أن يكون لها معنًى طيب.
بينما كان القس يضع السيجار في فمه مرة أخرى، ويرجع بظهره للخلف، مُحدقًا
لكن لنفترض أن شخصًا آخر استخدم الِمقص بالفعل؛ فلماذا » : في السقف، قال فلامبو
سيجعل شخصٌ آخر، بقصه القصاصات من الورق الكبير القطع، كوينتون يُقْدِم على
«؟ الانتحار
كان الأب براون ما زال مُسنِدًا ظهره للوراء ومُحدقًا في السقف، لكنه أخرج سيجارَه
«. لم يُقدِم كوينتون على الانتحار مُطلقًا » : من فمه وقال
«؟ أفٍّ، سُحقًا للأمر كله، فلماذا إذن أقرَّ بالانتحار » : حدَّق فيه فلامبو وصاح
مال القسُّ للأمام مرة أخرى، واستند بمِرفقيه إلى رُكبتَيه، ونظر إلى الأرض، وقال
«. لم يُقر بالانتحار قط » : بصوتٍ منخفضمميز
«؟ هل تقصد أنَّ الرسالة زُوِّرَت » : ألقى فلامبو سيجاره، وقال
«. لا، من المؤكد أن كوينتون كتبَها » : قال الأب براون
سأموت » : حسنًا، ها قد قلت؛ كتب كوينتون » : فقال فلامبو، الذي استبدَّ به الغضب
«. بيدِه على ورقةٍ خالية «. بيديَّ
«. ذات شكلٍ خطأ » : فقال الأب براون بهدوء
«؟ آه، اللعنة على الشكل! ما علاقة الشكل بالأمر » : صاح فلامبو
كان يُوجَد ثلاثٌ وعشرون ورقة مقصوصة، » : قال براون مُستطرِدًا دون أن يتحرك
واثنتان وعشرون قصاصة فقط. ومن ثَمَّ، فلا بدَّ أنَّ إحدى القصاصات قد أتُْلِفَت، وقد
«؟ تكون القصاصة المأخوذة من الورقة المكتوبة. هل يُوحي لك هذا بأيِّشيء
سيقولون » : ثمَّة شيء آخر كتبه كوينتون، كلمات أخرى » : أشرق وجه فلامبو، وقال
««… لا تصدقوا أني » أو «. لكم إنَّني سأموت بيديَّ
لقد اقتربتَ من الحل، لكنَّ عرْض القصاصة يصل بالكاد إلى نصف » : قال صديقه
بوصة؛ فلم يكن بها مساحة لكلمة واحدة، ناهيك عن خمس. هل يمكنك أن تُفكر في أيِّ
شيءٍ لا يكاد حجمه يزيد عن فاصلة استلزم على الرجل الذي تتأجَّج النار في قلبه أن
«؟ يقتطِعه ويكون دليلًا ضدَّه
«. لا يمكنني أن أفُكر فيشيء » : قال فلامبو أخيرًا
ثم رمى بسيجاره بعيدًا في الظلام فبدا كأنه «؟ ماذا عن علامات اقتباس » : قال القس
نيزك.
حارَ الرجل الآخر جوابًا، فقال الأب براون وكأنه يعود إلى ذِكر النقاط الأساسية:
كان ليونارد كوينتون مُؤلِّف روايات رومانسية، وكان يكتُب رواية رومانسيةشرقية »
«… عن السحر والتنويم المغناطيسي. إنه
في هذه اللحظة، انفتح الباب خلفهماسريعًا، وخرج الطبيب مُرتديًا قُبَّعته، ثم وضع
مظروفًا كبيرًا في يدَي القس.
«. هذا هو المُستنَد الذي أردتَه، أما أنا فلا بدَّ أن أعود للبيت. طاب مساؤك » : وقال
كان قد ترك «. طاب مساؤك » : قال الأب براون والطبيب يسير بسرعةٍ صَوْبَ البوابة
الباب الأمامي مفتوحًا، فألقى المصباح الغازي ببصيصٍمن ضوئه عليهما. في هذا الضوء
فتح براون المظروف وقرأ الكلمات التالية:
عزيزي الأب براون، لقد انتصرتَ عليَّ. ومن ناحية أخرى، اللعنة على عينَيك
الثاقبتَين جدٍّا. هل من الممكن أن يكون، رغم كلشيء، ثمة بعضالصحة في كل
تلك الأمور التي تؤمِن بها؟
إنني رجل أومن منذ صباي بالطبيعة وبكلِّ الوظائف والغرائز الطبيعية،
سواء سمَّاها البشر أخلاقية أو لا أخلاقية. قبل أن أصُبح طبيبًا بزمن طويل،
حين كنتُ طالبًا في المدرسة أحتفظ بالفئران والعناكب، كنتُ أعتقد أن أفضل
شيءٍ في العالم أن تكون حيوانًا مُطيعًا. لكنني الآن مصدوم؛ فقد آمنتُ بالطبيعة؛
لكن يبدو وكأن باستطاعة الطبيعة خداع الإنسان. هل من المُمكن أن يكون ثمَّة
أي صحة في هرائك؟ إن الكآبة تتسلَّل إليَّ حقٍّا.
لقد أحببتُ زوجة كوينتون. ماذا كان الخطأ في ذلك؟ أمرتْني الطبيعة بذلك،
والحب هو أساسالحياة، كما أنَّني اعتقدتُ بصدقٍ تام أنها ستكون أكثر سعادة
مع حيوان صالح مثلي عن ذلك المجنون الوضيع الذي جعل حياتها عذابًا. ماذا
كان الخطأ في ذلك؟ لم أفعل شيئًا سوى مواجهة الحقائق، مثل أي رجل علم.
كانت ستُصبح أكثر سعادةً معي.
وفقًا لعقيدتي كان لديَّ مُطلق الحرية لأن أقتُل كوينتون، وهذا أفضل للكُل،
حتى له نفسه. لكن بصفتي حيوانًا ذا غرائز سليمة لم تُساورني فكرة أن ألُحِق
بنفسيالأذى؛ لذا قررتُ ألا أقدِمَ على الأمر، إلى أن واتتْني فرصة ستجعلني أنجو
من العقاب. سنحَتْ لي تلك الفرصة هذا الصباح.
دخلتُ مكتب كوينتون ثلاث مرات، بالتمام، اليوم. حين دخلتُ أول مرة،
،« شفاء قديس » لم يتحدَّث عن شيءٍ سوى الحكاية الغريبة، التي تحمل اسم
التي كان يكتبها، والتي تدور أحداثها كلها حول ناسكٍ هندي ما جعل كولونيل
إنجليزي يقتُل نفسه بالتفكير فيه. وقد أراني الأوراق الأخيرة، بل وقرأ عليَّ الفقرة
استطاع غازي ولاية البنجاب، الذي صار » : الأخيرة، التي جاء فيها شيء كهذا
مجرد هيكلٍ شاحب، لكنه كان لا يزال ضخمًا، أن يستند إلى كُوعه ويهمس
وفي صدفةٍ نادرة ««! سأموت بيديَّ، لكنني سأموت مقتولًا » : في أذن ابن أخيه
الحدوث كانت تلك الكلمات الأخيرة مكتوبة في مقدمة صفحةٍ جديدة. تركتُ
الحجرة، وخرجتُ إلى الحديقة مُنتشيًا بفرصةٍ مفزعة.
سِرنا حول المنزل؛ وجرى أمران آخران لصالحي. لقد ساورك الشكُّ بشأن
الرجل الهندي، ووجدت خنجرًا يمكن أن يكون الهندي يستخدمه على الأرجح.
تحيَّنتُ الفرصة لدَسِّه في جيبي ثم عُدْتُ إلى حجرة مكتب كوينتون، وأوصدتُ
الباب، وناولته دواءه المُنوم. كان مُعترضًا تمامًا على الرد على أتكينسون، لكنني
حثثتُه على الرد بصوتٍ عالٍ على الرجل وإسكاته؛ لأنني أردتُ دليلًا واضحًا على
أن كوينتون كان حيٍّا حينغادرتُ الحجرة للمرة الثانية. كان كوينتون مضطجعًا
في المُستنبَت، وجئتُ أنا عن طريق حجرة المكتب. ولأنني رجلسريع اليدَين، فقد
فعلتُ ما أردتُ فعله في دقيقةٍ ونصف. أفرغتُ الجزء الأول من رواية كوينتون
كلَّه في المدفأة، حيث احترق وصار رمادًا. ثم رأيتُ أن علامات التنصيص لن
تكون مناسبة، لذا قصصتُها، ولأجعل الأمر يبدو أكثر ترجيحًا، قصصتُ جانب
رزمة الأوراق كلها لتشابُهها. ثم خرجتُ بخبر أن اعتراف كوينتون بالانتحار
مُلقًى على المنضدة الأمامية، بينما كان كوينتون مُستلقيًا على قيد الحياة، لكنه
نائم في المُستنبَت في الخلف.
كان التصرُّف الأخير تصرُّفًا يائسًا؛ تستطيع تخمينه: تظاهرتُ بأنني قد
رأيتُ كوينتون ميتًا وهُرعتُ إلى غرفته. عطلتُك بالورقة، ولأننيسريع في استخدام
يديَّ، أجهزتُ على كوينتون بينما كنتَ تُطالع اعترافه بالانتحار. كان شِبهَ نائم،
لأنه كان مُخدرًا، فوضعتُ يده على السكين وأدخلتُه في جسده. كان السكين ذا
شكلٍ غريب جدٍّا حتى إنه لم يكن باستطاعة أحد سوى جرَّاح أن يحسب الزاوية
التي يصل بها لقلبه. لا أعرف إن كنتَ لاحظتَ هذا أم لا.
حينما كنتُ قد نفَّذتُ الأمر، وقع أمر استثنائي. تخلَّتْ عني الطبيعة. شعرتُ
بالسوء. أحسستُ كأنني قد ارتكبتُ شيئًا خطأً. أعتقد أن عقلي ينهار؛ أشعر
ببعض السعادة اليائسة لتفكيري في أنني قد أخبرتُ أحدًا بالأمر؛ وأنني لن أضطر
لمواجهة الأمر وحدي إن تزوجتُ وأنجبتُ أطفالًا. ما الذي دهاني؟ … جنون …
أم إنه من الممكن أن يشعُر المرء بالذنب، كأنه إحدى شخصيات قصائد بايرون!
لا يمكنني كتابة المزيد.
جيمس إرسكين هاريس
طبَّق الأب براون الخطاب بعناية، ووضعه في جيب سترته بينما أتى رنين عالٍ من
جرس البوابة، ولمعت المعاطف المُضادَّة للماء المُبتلَّة للعديد من رجال الشرطة على الطريق
بالخارج
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Story Chapters

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.