كان الوقت هو فترة بعد الظهيرة في أحد الأيام الباردة والخاوية في بواكير الشتاء، حين
يكون لون ضوء النهار فضيٍّا بدلًا من كونه ذهبيٍّا، ورماديٍّا بدلًا من كونه فضيٍّا، وإذا كان
الجو كئيبًا في مائة من المكاتب القاتمة وغُرف الرسم التي تبعث على التثاؤب، فقد كان
أكثر كآبة على طول حافة ساحل إسيكس المنبسط؛ حيث كانت الرتابة غير إنسانية أكثر
لكونها نادرًا ما كانت تنكسر بفعل عمود إضاءة يبدو أقل تمدنًا من أن يكون شجرة، أو
شجرة تبدو أكثر قبحًا من عمود إضاءة. كان الثلج الذي يتساقط خفيفًا قد أصبح نصف
مذاب فتحوَّل إلى شرائط طويلة رفيعة كانت تبدو هي الأخرى ذات لون داكن كئيب بدلًا
من أن تكون فضية؛ ولم يكن ثلج جديد قد سقط، ولكنشريطًا من الثلج القديم كان يمتد
على طول حافة الساحل، بحيث أصبح موازيًا لشريط زَبد البحر ذي اللون الباهت.
بدا خط البحر مجمدًا في حيوية لونه الأزرق البنفسجي، وكأنه وريد في إصبع متجمد.
لم يكن ثمة وجود لأي أحد على امتداد أميال فيما تقدَّم من الطريق أو ما تأخَّر منه، إلا من
شخصين يمشيان بخطواتسريعة، وإن كانت ساقا أحدهما أطول وكان يقطع في خطوته
مسافة أكبر من الآخر.
لم يكن المكان ولا الزمان يبدوان مناسبَين للغاية لقضاء إجازة، ولكن الإجازات لم
تكن تسنح كثيرًا للأب براون، وكان يتعيَّن عليه أن يستغل الإجازة حينما يستطيع ذلك،
وكان يفضِّل دومًا أن يقضي إجازته، إذا أمكن، في صحبة صديقه القديم فلامبو، المجرم
السابق والمحقق السابق أيضًا. كان القَسُّ يهوى زيارة أبرشيته القديمة في كابهول، وكان
يتجه نحو الشمال الشرقي على طول الساحل.
بعد أن سارا لميل إضافي أو اثنين، وجدا أن الشاطئ بدأ يُحاط بحاجز، بحيث يتحول
إلى ما يشبه كورنيشًا؛ حيث قل عدد أعمدة الإضاءة القبيحة الشكل وتباعدت المسافات
بينها، وأصبحت مزخرفة أكثر، رغم أن قبح مظهرها لم يتغير. وبعد السير لنصف ميل
آخر، كان الأب براون متحيرًا في البداية بفعل المتاهات الصغيرة التي شكلتها أواني الزهور
الفارغة، المغطَّاة بنباتات صغيرة مسطحة ملونة بعض الشيء، تبدو كرصيف مرصَّع
أكثر منها حديقة مزينة، بين مسارات متعرجة واهنة تكتنفها مقاعد ذات أظهر متعرجة.
استنشق قليلًا من رائحة أجواء مدينة ساحلية لم يكن يعبأ لها بصورة خاصة، ورأى حين
نظر أمامه على طول الكورنيشالموازي للبحر شيئًا أوضح الأمر له بما لا يدع مجالًا للشك.
ففي الأفق الرمادي كانت منصة منتجعٍ بحري كبيرة تقف مثل فطر عيش غراب عملاق
له ست أرجل.
أعتقد » : قال الأب براون، وهو يرفع ياقة معطفه ويشد وشاحًا صوفيٍّا حول رقبته
«. أننا نقترب من منتجعٍ ترفيهي
أخشى أن يكون منتجعًا ترفيهيٍّا لا يُتاح إلا لقلة من الناس أن ينزلوا » : أجابه فلامبو
به حاليٍّا. إنهم يحاولون إعادة إحياء هذه الأماكن في فصل الشتاء، غير أن الأمر لا ينجح
أبدًا، إلا في حالة منتجع برايتون والمنتجعات الأخرى القديمة. لا بدَّ أن هذا المنتجع هو
منتجع سيوود، على ما أعتقد؛ إحدى تجارب اللورد بولي؛ لقد جلب المغنِّين الصقليين فيه
أثناء احتفالات رأسالسنة، وثمة أحاديث متداولة عن إقامة إحدى مباريات الملاكمة الكبرى
هنا. لكن سيتعيَّن عليهم أن يغيروا من هيئة المكان كليةً؛ فهو كئيب وموحش كما لو كان
«. عربة قطار مهملة
كانا قد وصلا إلى المنصة الكبيرة، وكان القسينظر إليها في فضول انطوى على بعض
الغرابة؛ فقد كان ينظر إليها ورأسه مائل قليلًا إلى أحد الجوانب، مثل رأس طائر. كانت
المنصة تقليدية، وكان تشييدها يتميز بالبهرجة بالنظر إلى الغرض منها؛ كانت كقبَّة أو
مِظلَّة مسطحة، مطلية باللون الذهبي هنا وهناك، وترتفع على ستة أعمدة خشبية رفيعة
مطلية، وكان البناء كله مرتفعًا عن الكورنيش بمقدار خمس أقدام على رصيف خشبي
دائري مثل طبلة. ولكن كان ثمة شيء رائع حِيال امتزاج الثلج مع شيء اصطناعي فيما
يتعلق باللون الذهبي سلب لُبَّ فلامبو وكذلك صديقه، بارتباط لم يتمكن من استيعابه،
ولكنه كان يعلم أنه فني وغريب في نفس الوقت.
لقد فهمت. إنه ياباني. إنه أشبه بتلك اللوحات اليابانية » : قال فلامبو في النهاية
الخيالية، التي يبدو فيها شكل الثلج على الجبل أشبه بالسكر، واللون الذهبي في المعابد
البوذية أشبه باللون الذهبي على كعك الزنجبيل. إن المنصة تبدو تمامًا مثل معبد وثني
«. صغير
وفي حركةسريعة يصعب توقعها منه، «. أجل، لنلقِ نظرة على الإله » : قال الأب براون
قفز إلى الرصيف المرتفع.
وفي لحظة كان يقف منتصبًا بقامته «. أوه، رائع جدٍّا » : قال فلامبو وهو يضحك
الطويلة على ذلك الرصيف الغريب.
وعلى الرغم من أن فارق الارتفاع لم يكن كبيرًا، فإنه جعل مجال الرؤية بعيدًا على
مستوى البحر والبر؛ فعلى مستوى البر، تلاشت الحدائق المكسوة بالثلج لتتحول إلى أيكة
رمادية مبهمة، وفيما يتجاوز ذلك، على امتداد الأفق، كان ثمة حظائرصغيرة وممتدة تعود
لبيت ريفي منعزل، وخلف ذلك لا يوجد شيء سوى سهول شرق أنجليا المنبسطة؛ وعلى
مستوى البحر، فإنه لم يكن فيه أية سفينة أو أية علامة على وجود حياة، سوى بضعة
طيور من النورس؛ وحتى تلك بدت وكأنها رقاقات ثلجية معلقة في الهواء؛ فكانت تبدو
من بعيد وكأنها تطفو ولا تطير.
استدار فلامبو فجأة على صيحة أتت من خلفه. بدا أن مصدر الصيحة يأتي من
موضع أدنى مما كان يتوقع، وبدت وكأنها موجهة إلى قدميه وليس إلى أذنيه. مدَّ يديه في
الحال وأمسك بيد الأب براون، لكنه لم يستطع أن يتمالك نفسه من الضحك مما رأى. كانت
الأرضية قد تهاوت تحت قدم الأب براون لسبب أو لآخر، فسقط الرجل القصير السيئ
الحظ عبرها إلى مستوى الكورنيش. كان طويلًا بما يكفي، أو قصيرًا بما يكفي، لأن يظهر
رأسه وحده من الفجوة في الخشب المكسور، فبدا مثل رأس القديس يوحنا المعمدان على
طبق مسطَّح. وكان وجهه يحمل تعابير الحيرة والارتباك، ربما أيضًا كالتي كان يحملها
وجه القديس يوحنا المعمدان.
لا بدَّ وأن هذا الخشب قد بلي، رغم » : بعد لحظة بدأ يضحك هو الآخر. ثم قال فلامبو
أنه يبدو من الغريب أن يتمكن من حمل وزني، بينما تسير أنت على الجزء البالي منه.
«. دعني أساعدك
لكن الأب براون الضئيل الحجم كان ينظر في فضول إلى أركان وحواف الأرضية
الخشبية التي زُعِم أنها بالية، وارتسمت على وجهه أمارات الكدر والانزعاج.
«؟ هيَّا، ألا تود الخروج » : صاح فلامبو بنفاد صبر
كان القس يمسك بين سبابته وإبهامه شظيةً من الخشب المكسور، ولم يُجِب في
أريد الخروج؟ عجبًا، لا. بل أعتقد أنني » : الحال. وفي النهاية قال وقد بدا غارقًا في التفكير
وغاصفجأة في الظلام تحت الأرضية الخشبية بحيث لم يتبقَّ سوى «. أرغب في أن أدخل
قبعته الكهنوتية على الألواح الخشبية بالأعلى، دون أن تحتوي على أي رأس كهنوتية.
نظر فلامبو مرة أخرى باتجاه البر والبحر، ومجددًا لم يستطع أن يرى سوى البحر
المكسو بالثلج، والثلج الذي كان يغطي كلشيء من حوله.
انطلق من خلفهصوت جلبة، والقسالضئيل الحجم يتسلق خارجًا من الحفرة بسرعة
أكبر مما دخل إليها. لم تعد ملامح الحيرة والارتباك تبدو على وجهه، فقد تحولت إلى ملامح
اطمئنان، وربما فقط كان وجهه أكثر شحوبًا من المعتاد بفعل انعكاسات الثلج.
«؟ حسنًا، هل وجدت إله المعبد » : سأله صديقه
«. لا، ولكنني وجدت ما كان أكثر أهمية في بعضالأوقات؛ القربان » : أجاب الأب براون
«؟ ماذا تقصد بحق الجحيم » : صاح فلامبو منزعجًا للغاية
لم يجِبه الأب براون، بل كان يحملق في المشهد أمامه وقد قطَّب جبينه؛ وأشار فجأة
«؟ ما ذلك المنزل هناك » : إليه بإصبعه، وتساءل
مُتَّبِعًا إشارة إصبعه، رأى فلامبو للمرة الأولى جوانب بناية أقرب إلى المنزل الريفي،
لكن الجزء الأكبر من تلك البناية كان مختفيًا عن الأنظار وراء مجموعة من الأشجار. لم
يكن المبنى كبيرًا، وكانت تفصله عن الشاطئ مسافة معقولة؛ لكن تلألؤ زخارفه أوحى
بأنه كان جزءًا من خطة زخرفة المنتجع كما هو الحال مع المنصة، حيث الحدائق الصغيرة
والمقاعد الحديدية المتعرجة الظهر.
قفز الأب براون عن المنصة وتبعه صديقه، وبينما سارا في الاتجاه المشار إليه، كانت
المسافة بين الأشجار تتباعد يمينًا ويسارًا فتكشَّف لهما فندق صغير، كان مضيئًا نوعًا
ما، كما هو معهود في المنتجعات، وكان اسمه فندق صالون بار، وليس بار بارلور. كانت
الواجهة كلها تقريبًا تتألَّف من الجصِّ المذهَّب والزجاج المزيَّن بالرسوم، وبين ذلك اللون
الرمادي الذي يصبغ المشهد البحري وتلك الأشجار المخيفة التي تبدو كالساحرات، كان
مظهر الفندق المبهرج يحمل لمحة من عالم الأشباح بفعل سوداويته. انتابهما شعور مبهم
بأنه لو كان ثمة طعامٌ أو شرابٌ يُقدَّم في ذلك الفندق، لكان الطعام عبارة عن لحم رديء
النوعية ولكان الشراب كوبًا لا وجود له.
لكنهما، على أية حال، لم يكونا متيقِّنَيْن تمامًا من ذلك. وبينما كانا يقتربان أكثر وأكثر
من المكان الذي رأياه أمام البوفيه، الذي كان مغلقًا كما يبدو، بدا أحد المقاعد الحديدية
ذات الظهر المتعرج، التي كانت تُزيِّن الحديقة، لكنه كان أطول كثيرًا، يمتد مغطيًا طول
الواجهة كلها تقريبًا. وُضِع هذا المقعد، على الأرجح، لجلوس الزوَّار عليه والنظر إلى البحر،
ولكن من الصعب توقع أن تجد أحدًا يفعل ذلك في ظل ظروف جوية كتلك.
ومع ذلك، أمام نهاية المقعد الحديدي مباشرة كانت توجد طاولة مستديرة صغيرة
عليها زجاجة نبيذ شابلي صغيرة، وطبق به لوز وزبيب. وخلف الطاولة على المقعد، جلس
شاب أسود الشعر حاسرالرأس يحدِّق في البحر في حالة من الجمود الناتج عن الذهول.
ورغم أنه كان يبدو كتمثال شمع حين صارا على مسافة أربع ياردات منه، فقد هبَّ
أتودَّان » : واقفًا كعفريت العلبة حين اقتربا منه خطوة أخرى، وقال في لهجة محترمة ومهذبة
الدخول أيها السيدان؟ ليس لديَّ أحد من العاملين في الوقت الحالي، ولكن يمكنني أن أقدِّم
«. لكما بنفسي أيشيء بسيط
«؟ شكرًا جزيلًا، أأنت المالك إذن » : قال فلامبو
أجل، فالنُّدُل لديَّ جميعهم » : قال الرجل الأسمر، وقد عاد قليلًا إلى حالة الجمود
إيطاليون وارتأيت أنه من المنصف أن يشاهدوا مواطنهم وهو يهزم منافسه الأسود، إذا
كان يستطيع فعل ذلك حقٍّا. أتعلم أن القتال الكبير بين مالفولي ونيجر نيد سيُقام على أية
«؟ حال
لا نريد أن نُثقل عليك كثيرًا، ولكن صديقي سيُسرُّ لو أعددت له » : قال الأب براون
«. كأسًا من نبيذ شيري؛ ليذهب عنه البرد وليشربه نخب البطل اللاتيني
لم يفهم فلامبو أمر نبيذ شيري، ولكنه لم يعترضعلى ذلك على الإطلاق. ولم يسعه
«. أوه، أشكرك كثيرًا » : سوى أن يقول في كياسة
نبيذ شيري، يا سيدي، بالتأكيد. أستميحكم » : قال مضيفهم، مستديرًا نحو فندقه
وذهب «… عذرًا إن تأخرت عليكما بضع دقائق، فكما قلت لكما، ليس لديَّ أحد من العمال
نحو النوافذ السوداء لحانته المغلقة غير المضاءة.
إلا أن الرجل استدار ليطمئنه. «. أوه، لا يهم حقٍّا » : قال فلامبو
«. لديَّ المفاتيح. ويمكنني أن أتبين طريقي في العتمة » : قال
«… لم أقصد » : قال الأب براون
قاطعهصوت خوار آدمي أتى من داخل الفندق غير المأهول. هدر الصوت باسم أجنبي
ولكن كانت اللهجة غريبة، فتوجَّه صاحب الفندق نحو مصدر الصوت بقوة وبسرعة أكثر
مما فعل مع فلامبو ليحضر له نبيذ شيري. كان صاحب الفندق يقول الحقيقة ولا شيء
غيرها، كما ذكر قبل قليل، وكما أثبت الدليل. ولكن كثيرًا ما اعترف فلامبو والأب براون أن
لاشيء كان أكثر إخافة لهما في مغامراتهما (الجريئة غالبًا) من صوت غول يأتي فجأة من
داخل حانة صامتة لا أحد فيها.
طباخي! لقد نسيت أمره. سيبدأ عمله الآن. أتريد » : صاح صاحب الفندق في عجالة
«؟ نبيذ شيري سيدي
وكما هو متوقع، ظهر عند مدخل الباب كتلة بيضاء ضخمة ترتدي قبعة بيضاء
ومئزرًا أبيض، كما يليق بهيئة الطباخ، ولا حاجة للقول بأنه كان أسود الوجه. كان فلامبو
قد سمع كثيرًا أن الزنوج طباخون مهرة، ولكن وبطريقة ما كان ثمةشيء آخر غير العِرق
البشري الذي ينتمي إليه الطباخ وطبقته الاجتماعية هو ما زاد دهشته من أن مالك الفندق
هو من يجيب نداء الطباخ، وليس الطباخ هو من يجيب نداء مالك الفندق، ولكنه فكَّر في
أن رؤساء الطباخين يُضرب بهم المثل في الغطرسة والغرور؛ إضافة إلى أن مضيفهم قد
عاد ومعه نبيذ الشيري، وكان هذا هو الرائع في الأمر.
إنني أتعجب من ندرة وجود الناسعند الشاطئ، حتى في ظل إقامة » : قال الأب براون
«. مثل هذه المباراة الكبرى؛ فلم نقابل سوى رجل واحد على امتداد أميال من السير
إن الناس يأتون من الطرف الآخر من المدينة؛ من » : هزَّ مالك الفندق كتفيه وقال
المحطة، التي تبعد ثلاثة أميال عن هنا. إنهم لا يهتمون إلا بهذه المنافسة، ولن يمكثوا
في الفنادق سوى هذه الليلة فحسب. وفي نهاية الأمر، الطقس غير ملائم للتشمس على
«. الشاطئ
ثم أشار إلى الطاولة الصغيرة. «. أو على المقعد » : قال فلامبو
كان الرجل هادئًا حسن «. ينبغي أن أكون حذرًا » : قال الرجل ذو الملامح الجامدة
المظهر وكان شاحب الوجه نوعًا ما، ولم يكن ثمة شيء مميز في ملابسه الداكنة سوى
أن ربطة عنقه السوداء كانت مرتفعة بعض الشيء وكأنها دعامة لرأسه، وكانت مربوطة
بدبوس ذهبي له رأس مزخرف غريب. ولم يكن ثمة شيء مميز في وجهه، عدا شيء ربما
كان مجرد حركة عصبية؛ وهو أنه عادة ما يفتح إحدى عينيه بشكل أضيق من الأخرى،
مما يعطي انطباعًا بأن العين الأخرى كانت أكبر من الأولى، أو ربما كانت اصطناعية.
«؟ أين قابلتما ذلك الرجل أثناء سيركما » : ساد صمتٌ كسَرَه مضيفهم قائلًا في هدوء
«. من المثير للفضول أننا قابلناه بالقرب من هنا، عند تلك المنصة تمامًا » : أجابه القَسُّ
كان فلامبو قد جلس إلى المقعد الحديدي الطويل ليتناول مشروبه، فوضعه عنه وهبَّ
على قدميه، محدقًا في صديقه باندهاش. وفتح فمه من أجل أن يتكلم، لكنه عاد وأغلقه
مرة أخرى.
هذا مثير للفضول، كيف كان » : قال الرجل ذو الشعر الداكن وقد بدا أنه يفكر كثيرًا
«؟ شكله
«… كان الجو مظلمًا نوعًا ما حين رأيته، لكنه كان » : قال الأب براون
كما قيل، يمكن إثبات أن مالك الفندق كان يقول الحقيقة بحذافيرها؛ فقد تحققت
جملته أن الطباخ على وشك أن يبدأ عمله بحذافيرها؛ إذ خرج الطباخ، مرتديًا قفازيه، بينما
كان الحديث دائرًا بين الرجال.
ولكنه كان بهيئة مختلفة جدٍّا عن الشكل المبهم من اللونين الأبيضوالأسود الذي بدا
به للحظة عند الباب. كان مهندمًا، ويرتدي الأحزمة ويزرر كافة الأزرار وصولًا إلى عينيه
الجاحظتين. وكان يضع قبعة طويلة سوداء مائلة على رأسه العريض؛ قبعة من النوع الذي
سخر منه الفرنسيون بأن قالوا إنها ثُمانية الأوجه. ولكن وبطريقة ما كان الرجل الأسود
يشبه قبعته السوداء؛ فقد كان هو أيضًا أسود البشرة، ولكن بشرته اللامعة عكست الضوء
بثماني زوايا أو أكثر. غني عن القول أنه كان يرتدي غطاءً لكاحل القدم أبيضاللون وكذا
كان لون القميصالتحتي الذي كان يرتديه تحت صدريته. وبرزت وردة حمراء من عروة
السترة بصورة صارخة، وكأنها نمت في مكانها هذا فجأة. وكان ثمة هيئة معينة تبدو من
طريقة إمساكه لعصاه في إحدى يديه ولسيجاره في اليد الأخرى، هيئة ينبغي أن نتذكرها
دومًا حين نتحدث عن النعرات العنصرية: شيء بريء ومتغطرس؛ كالمشية التي يمشونها
.« الكيك ووك » في رقصة
أحيانًا لا يفاجئني أنهم يُقتلون من دون محاكمة » : قال فلامبو وهو ينظر إلى الطباخ
«. عادلة
وتابع «… لا يفاجئني أبدًا أي عمل شيطاني. ولكن وكما كنت أقول » : قال الأب براون
حديثه، بينما كان الزنجي يعدِّل قفازه الأصفر، ويسير بحيوية نحو المنتجع البحري، فكان
أشبه بشخصية غريبة من المؤدِّين في قاعات الموسيقى أمام ذلك المنظر الكئيب المكسو
كما كنت أقول، لا أستطيع أن أصف الرجل بدقة كبيرة، لكن ذقنه وشاربه » : بالصقيع
كانا كبيرين وقديمي الطراز، وكانا إما داكنَين وإما مصبوغَين، كما في صور رجال المال
الأجانب، وكان ملفوفًا حول عنقه وشاحٌ أرجواني طويل يتطاير في الهواء حين يسير.
وكان الوشاح مثبتًا على عنقه بنفس الطريقة التي تُثبِّت بها الممرضات الغطاء على الأطفال
إلا أن هذا لم يكن دبوس » : ثم أضاف القس وهو يحدِّق بهدوء نحو البحر «. بدبوس أمان
«. أمان
كان الرجل الجالس على المقعد الحديدي يحدِّق بهدوء نحو البحر هو الآخر. كان
حينئذٍ قد عاد مرة أخرى إلى حالة السكون. شعر فلامبو بأنه متأكد إلى حدٍّ بعيد أن إحدى
عينيه كانت أوسع من الأخرى بطبيعتها. كانت كلتا عينيه مفتوحتين، وكاد يُخيَّل له أن
العين اليسرى كانت تتسع أكثر حين كان يحدق.
كان دبوسًا ذهبيٍّا طويلًا جدٍّا، وكان منحوتًا عليه رأس » : استطرد رجل الدين قائلًا
قرد أو شيء من هذا القبيل، وكان مثبتًا بطريقة غريبة للغاية، وكان يضع نظارةً مثبتةً
«… على الأنف، وشيئًا أسودَ عريضًا
استمر الرجل الساكن في تحديقه نحو البحر، وكانت عيناه كما لو كانتا تنتميان إلى
رجلين مختلفين. ثم قام الرجل بسرعة مذهلة.
كان الأب براون يوليه ظهره، وفي تلك اللحظة كان من الممكن أن يسقط على وجهه
صريعًا. لم يكن فلامبو يحمل سلاحًا، ولكن ذراعيه البنيتين الكبيرتين كانتا ترتكزان على
حافة المقعد الحديدي الطويل. تغير وضع كتفيه فجأة، ورفع المقعد الضخم بكامله فوق
رأسه، كما لو كان بلطة جلَّاد على وشك السقوط. كان ارتفاع المقعد، بينما كان يرفعه
عموديٍّا في الهواء، يجعله يبدو وكأنه سلم حديدي طويل يمكن للمرء أن يصَّعَّد به إلى
النجوم. ولكن ظِل فلامبو الطويل، في إضاءة المساء المستوية، بدا وكأنه عملاق يلوِّح ببرج
إيفل. كانت صدمة رؤية ذلك الظل، قبل صدمة سماع صوت ارتطام الحديد، هي التي
جعلت الرجل الغريب يجبن وينحني، ثم انطلق كالسهم داخلًا إلى الحانة، تاركًا خنجره
المنبسط اللامع الذي كان قد سقط منه في مكانه تمامًا.
قاذفًا بالمقعد الحديدي الضخم «. يجب أن نهرب من هنا في الحال » : صاح فلامبو قائلًا
بعيدًا نحو الشاطئ وكأنه لاشيء يُذكر من جام غضبه. أمسك بالقس الضئيل الحجم من
مرفقه وهرع به نحو حديقة خلفية جرداء رمادية اللون، والتي عند نهايتها، كان يوجد
«. الباب موصد » : باب خلفي مغلق. انحنى فلامبو نحوه للحظة في صمت عنيف ثم قال
وبينما كان يتحدث، سقطت ريشة سوداء من إحدى أشجار الزينة، فاحتكت بحافة
قبعته. أجفله ذلك أكثر من صوت الانفجار الصغير والبعيد الذي كان قد أتى قبل ذلك
بلحظة. ثم جاء صوت انفجار آخر من بعيد، واهتز الباب الذي كان يحاول فتحه بفعل
الرصاصة التي استقرت فيه. اهتزت كتفا فلامبو مرة أخرى وتغير وضعهما فجأة. طارت
المفصلات الثلاث مع القُفل في نفس اللحظة، فخرج إلى الممر الخالي أمامه وهو يحمل باب
الحديقة الضخم، كما لو كان شمشون وهو يحمل أبواب غزة.
ثم قذف بباب الحديقة من أعلى سورها، في نفس اللحظة التي ارتفع فيها بعضٌ
من التراب والجليد وراء كعب قدمه بفعل رصاصة أخرى. ومن دون مقدمات، أمسك
فلامبو القسالضئيل الحجم رافعًا إياه، ووضعه منفرج الرجلين على كتفيه، وأطلق ساقيه
الطويلتين باتجاه سيوود بقدر ما تمكنتا من حمله. ولم يتوقف فلامبو عن عدْوه ولم يُنزل
رفيقه من أعلى كتفيه إلا بعد أن قطع قرابة ميلين. كان هروب الرجلين عظيمًا، رغم أنه
كان على شاكلة هروب أنخيس، لكن وجه الأب براون لم يكن يحمل سوى ابتسامة عريضة.
وبعد صمت قصير، وبينما كانا يستأنفان نزهتهما الأكثر تقليدية في الشوارع على
حسنًا، أنا لا أعلم » : حافة المدينة، حيث لم يكن هناك ما يمكن أن يخيفهما، قال فلامبو
ماذا يعني كل هذا، ولكن أعتقد أنه بوسعي أن أثق بعيني وأقول بأنك لم يسبق لك أن
«. قابلت الرجل الذي كنت تصفه وصفًا دقيقًا
لقد قابلته حقٍّا. وقد كان الجو مظلمًا » : قال براون وهو يعض على إصبعه بعصبية
فلم أتمكن من رؤيته بصورة تامة؛ لأنه كان تحت تلك المنصة. ولكني أخشىأنني في نهاية
الأمر لم أصفه بذلك القدر من الدقة حقٍّا؛ لأن نظارته، التي كانت من النوع الذي يُثبَّت على
الأنف، كانت مكسورة تحته، ولم يكن الدبوس الذهبي الطويل مغروسًا في وشاحه، وإنما
«. في قلبه
وأفترض أن الرجل ذا العين الزجاجية كان له » : قال الآخر بصوت منخفض أكثر
«. علاقة بذلك
كنت آمل ألَّا يكون له صلة كبيرة بالأمر، وربما كنت » : أجابه براون بصوت مضطرب
«. مخطئًا فيما فعلت. لقد تصرفت باندفاع، لكني أخشىأن لهذا الأمر جذورًا عميقة ومبهمة
تابعا سيرهما في الشوارع صامتَين. كانت المصابيح الصفراء قد بدأت تبثُّ ضوءها
خلال الغسق الأزرق البارد، وكان من الواضح أنهما يقتربان من وسط المدينة. كان ثمة
أوراق ملونة بألوان زاهية ملصقة هنا وهناك على الجدران معلنةً عن مباراة الملاكمة بين
نيجر نيد ومالفولي.
حسنًا، أنا لم أقتل أحدًا من قبل، حتى حين كنت مجرمًا، ولكني أكاد » : قال فلامبو
أتعاطف مع أي أحد يفعل هذه الفِعْلة في مثل هذا المكان الكئيب. فمن بين كل الأماكن
المهمَلة والملعونة على الأرض، أعتقد أن أكثر الأماكن التي تفطر القلب هي أماكن مثل تلك
المنصة، التي كان من المفترضأن تكون بهيجة واحتفالية. أظن أن رجلًا سقيمًا سيشعر
بأنه لا بدَّ وأن يقتل غريمه في ظل وحشة وغرابة هذا المكان. أتذكر أني كنت أمشي ذات
مرة في تلال ساري المتألقة، ولم أكن أفكر فيشيء سوى الطيور والأشجار هناك، حين أتيت
على أرض شاسعة دائرية، وكان فوقي بناء أبكم شاسع، يتكون من صفوف من المقاعد
بعضها فوق بعض، وكان كبيرًا بحجم مسرح روماني مدرَّج. وكان طائر يحلِّق في السماء
فوقه. كانت هذه هي منصة جراند ستاند في إيبسوم، وشعرت أنه ليسبوسع أحد أن يكون
«. سعيدًا هناك مرة أخرى
من الغريب أن تأتي على ذكر إيبسوم. هل تذكر ما كان يُسمى بلغز » : قال القس
ساتون؟ لأن رجلين مشتبهًا فيهما — أعتقد أنهما كانا من بائعي المثلجات — تصادف
أنهما يعيشان في ساتون، لقد أطُْلِق سراحهما في نهاية المطاف. قيل إنه عُثِر على رجلٍ
مخنوقٍ عند تلال داونز في تلك المنطقة. وفي الواقع، أعرف (من رجلشرطة أيرلندي وهو
صديق لي) أنه عُثِر عليه في الواقع قرب جراند ستاند في إيبسوم، مُخبَّأً عند أحد الأبواب
«. السفلية التي تفتح للداخل
هذا غريب، إلا أنه يؤكد أكثر على وجهة نظري أن » : صدَّق فلامبو على كلامه قائلًا
مثل هذه الأماكن الترفيهية تبدو موحشة على نحو فظيع حين تكون خارج موسمها، وإلا
«. فإن الرجل لم يكن ليُقتل هناك
ثم توقف. «… لست متأكدًا تمامًا أنه » : بدأ الأب براون يتحدث قائلًا
«؟ لستَ واثقًا أنه قُتل » : تساءل رفيقه قائلًا
لستُ واثقًا أنه قُتل خارج الموسم. ألَا تعتقد » : أجابه القس الضئيل الحجم ببساطة
أن ثمة خدعة ما بشأن هذه العزلة يا فلامبو؟ هل أنت واثق تمامًا أن القاتل الذكي يريد
دومًا أن يكون مكان جريمته منعزلًا؟ إنه لمن النادر للغاية أن يكون أحدهم وحيدًا، فضلًا
عن القول بأن القاتل كلما كان وحده، كان متأكدًا أكثر من أن ثمة من يراه. لا، أعتقد أن
ثمة أمرًا آخر. عجبًا، نحن هنا الآن عند الجناح أو القصر، أو أيٍّا ما كان يطلقون عليه من
«. أسماء
كانا قد وصلا إلى ميدانصغير مضاء بإضاءة ساطعة، وكان المبنى الرئيسيفيه يبدو
رماديٍّا متألقًا، وكان مبهرجًا بالملصقات، ويحيط به صورتان عملاقتان لمالفولي ونيجر
نيد.
بينما كان صديقه القس يصعد السلالم «! مهلًا » : صاح فلامبو في دهشة بالغة
لم أكن أعلم أن الملاكمة هي أحدث هواياتك. هل ستشهد » : الواسعة. واستطرد قائلًا
«؟ المباراة
«. لا أعتقد أنه ستقام أية مباراة » : أجابه الأب براون
مرقا خلال الردهات والغرف الداخلية للمكان؛ وعبراصالة المباراة نفسها والتي كانت
منصوبة وقد شُدَّت الحبال فيها وفُرشت بعدد لا يُحصى من الكراسي والصناديق، ومع
ذلك لم يلتفت القس أو يتوقف حتى وصل إلى موظف عند مكتب خارج باب مكتوب عليه
هناك توقف وطلب رؤية اللورد بولي. .« اللجنة »
قال الموظف إن سيادة اللورد مشغول للغاية؛ إذ كانت المباراة على وشك أن تبدأ، ولكن
الأب براون كان صبورًا بما يكفي ليكرر طلبه إلى الموظف، الذي لم يكن مستعدٍّا بعقليته
الرسمية لذلك. وفي غضون لحظات وجد فلامبو المرتبك نفسه في حضرة رجل كان لا يزال
كن حذرًا بشأن الحبال بعد » : يصيح بالتوجيهات لرجل آخر على وشك الخروج من الغرفة
«!؟ الحبل الرابع. حسنًا، أتساءل ماذا تريدان
كان اللورد بولي رجلًا مهذبًا، ومثل معظم ما تبقَّى منا وهم قلة، كان قلقًا؛ خصوصًا
بشأن المال. كان شعره متموجًا كخيوط الكتان وقد كسا البياض معظمه، وكانت عيناه
حمراوين، وقصبة أنفه مرتفعة وقد بدا أثر الصقيع عليها.
«. مجرد كلمة. لقد أتيت لكي أمنع وقوع جريمة قتل بحق رجل » : قال الأب براون
لن أحتمل منك » : قفز اللورد بولي من مقعده وكأن زنبركًا قد قذفه عنه، ثم صاح
أي شيء بعد هذا! أنت ولجانك وقساوستك وعرائضك! ألم يكن ثمة قساوسة في الماضي،
حين كان الرجال يلاكمون من دون قفازات؟ إنهم الآن يلاكمون بالقفازات طبقًا للقواعد
«. والنظام، ولا يوجد أدنى احتمال أن يموت أحد هذين الملاكمَين
«. لم أكن أقصد أيٍّا من الملاكمَين » : قال القس الضئيل الحجم
حسنًا، حسنًا، حسنًا! من الذي » : قال الرجل النبيل في شيء من السخرية الباردة
«؟ سيُقتل إذن؟ الحَكَم
لا أعلم من الذي سيُقتل. لو كنت أعرف، لما أفسدت » : رد الأب براون بنظرة متأملة
عليك متعتك. كان بإمكاني ببساطة أن أجعله يهرب. وأنا لا أرى أي ضير في مباريات
الملاكمة على الجوائز. في الظروف الراهنة، يتعين عليَّ أن أطلب منك أن تعلن أن المباراة
«. ستؤجل في الوقت الحالي
أي شيء آخر؟ وماذا ستقول للألفي » : قال النبيل ذو العينين الحمراوين مستهزئًا
«؟ رجل الذين أتوا لمشاهدة المباراة
سأقول لهم إن ألفًا وتسعمائة وتسعة وتسعين رجلًا منهم سيبقون » : قال الأب براون
«. على قيد الحياة بعد انتهائهم من مشاهدة المباراة
«؟ هل صديقك مجنون » : نظر اللورد بولي إلى فلامبو وسأله
«. هو أبعد ما يكون عن ذلك » : أتاه الجواب
انظر، الأمر أسوأ من ذلك. لقد أتى جمعٌ من الإيطاليين » : تابع بولي حديثه في اهتياج
ليشجعوا مالفولي؛ إنهم رجال متوحشون داكنو البشرة من بلد ما على أية حال. وأنت تعرف
طبيعة من ينتمون لأعراق البحر المتوسط. إذا ما أعلنتُ أن المباراة ستؤجل، فسيقتحم
«. مالفولي المكان على رأس حشد من الإيطاليين
سيدي، إنها مسألة حياة أو موت. دُقَّ جرسك، وابعث برسالتك. وانظر » : قال القس
«. ما إن كان سيأتيك رد من مالفولي أم لا
دق الرجل النبيل الجرس الموضوع على الطاولة، وقد بدت عليه أمارات فضول جديد
سأعلن عن أمر مهم أمام » : غريبة. وقال للموظف الذي ظهر عند الباب على الفور تقريبًا
«. الجمهور بعد قليل. في تلك الأثناء، من فضلك، أخبر البطلَين أن المباراة لا بد وأن تؤجل
حدَّق الموظف للحظة، كما لو كان يحدق في وجه شيطان، ثم انصرف.
ما السلطة التي تعطيك الحق في قول ما تقول؟ مع » : طرح اللورد بولي سؤالًا مفاجئًا
«؟ من تشاورت في ذلك
استشرت منصة. ولكن، لا، أنا مخطئ؛ لقد استشرتُ » : قال الأب براون وهو يحك رأسه
«. كتابًا أيضًا. لقد أخذته من أحد أكشاك بيع الكتب في لندن؛ وهو رخيصجدٍّا أيضًا
كان قد أخرج من جيبه كتابًا صغيرًا سميكًا مغطٍّى بالجلد، وكان باستطاعة فلامبو،
الذي كان ينظر من فوق كتفي القس، أن يرى أنه كتاب أسفار قديمة، وكان بالكتاب ورقة
مثنية لتُستخدم كمرجع.
«… الشكل الوحيد الذي يُنَظَّم فيه الفودو » : بدأ الأب براون يقرأ بصوت مرتفع
«؟ الذي يُنَظَّم فيه ماذا » : تساءل اللورد قائلًا
الذي يُنَظَّم فيه الفودو على نطاق واسع خارج » : كرَّر القارئ كلامه وكأنه مستمتع به
جامايكا نفسها هو الشكل المعروف بالقرد، أو إله الصنوج، وهو ذو سطوة في الكثير
من أجزاء القارتين الأمريكيتين، خاصة بين السلالات الهجينة، الذين يشبه الكثيرون منهم
البيض إلى حد بعيد. وهذا الشكل يختلف عن الكثير من أشكال عبادة الشيطان وتقديم
القرابين الأخرى في أن الدم لا يُسفك على المذبح، وإنما عن طريق نوع من الاغتيال بين
الحشود. تدق الصنوج فتحدث ضجة تصمُّ الآذان بينما تُفتح أبواب الضريح ويتجلَّى الإله
«… القرد؛ فتتجه نحوه أنظار كل من في المحفل بعيون تملؤها النشوة، ولكن بعد
فُتِح باب الحجرة بقوة، وظهر عنده الزنجي الأنيق واقفًا، وعيناه تجولان في المكان،
وقبعته الحريرية مستقرة مائلة على رأسه بوقاحة.صاح وقد بدت أسنانه الشبيهة بأسنان
هاه! ما هذا؟ هاه! هاه! أتسرق جائزة رجل أسود؟ جائزة هي له بالفعل؟ أتعتقد » : القرود
«؟ أنك بذلك أنقذت ذلك الإيطالي الأبيضالحقير
لقد أرُْجِئت المباراة فحسب، سأكون معك في غضون » : قال الرجل النبيل في هدوء
«. دقيقة أو اثنتين لأشرح لك الأمر
«… من أنت لكي » : صاح نيجر نيد، وقد بدأ يثور
اسمي بولي، وأنا السكرتير المُنَظِّم، وأنصحك » : رد الآخر في رباطة جأشجديرة بالإكبار
«. الآن بمغادرة الغرفة
«؟ ومن هذا الرجل » : فأشار الملاكم الأسود إلى القس بازدراء وتساءل
«. اسمي براون، وأنصحك الآن بمغادرة البلاد » : جاءه الرد
وقف الملاكم يُحدِّق لبضع ثوانٍ، ثم سار إلى خارج الغرفة، وأغلق الباب خلفه بقوة،
مما أدهش فلامبو والآخرين.
حسنًا، ما رأيك في ليوناردو دافنشي؟ » : سأل الأب براون وهو يمشط شعره المغبر بيده
«. إنه عقلية إيطالية رائعة
اسمع، لقد تحملت مسئولية كبيرة اعتمادًا على مجرد كلمة منك. » : قال اللورد بولي
«. أعتقد أنه يتعين عليك أن تُطلعني على المزيد في هذا الشأن
ثم دسَّالكتيب «. أنت محقٌّ تمامًا سيدي اللورد، ولن يطولشرح الأمر » : أجابه براون
أعتقد أننا نعرف كل ما يمكن أن تخبرنا به الأحداث » : الجلدي في جيب معطفه، وقال
التي وقعت، ولكن يمكنك أن تتفحص الأمر لترى إذا ما كنتُ مصيبًا. ذلك الزنجي الذي
خرج لتوه هو أحد أكثر الرجال خطورة على وجه الأرض؛ لأنه يمتلك عقلية الأوروبيين،
وغرائز آكلي لحوم البشر. لقد حوَّل ما كان عبارة عن سفك متقن ومعتاد للدماء بين رفاقه
الهمجيين إلى مجتمع سري علمي وعصري جدٍّا من القتلة. إنه لا يعلم أنني أعلم ذلك، ولا
«. يعلم كذلك أيضًا أنني لا أستطيع إثبات ذلك
ولكن إذا كنت أريدُ » : حينئذٍ ساد الصمت لحظة، ثم استطرد الرجل الضئيل الحجم
«؟ أن أقتل شخصًا ما، فهل أفضل خطة حقٍّا أن أحرصعلى أن أكون بمفردي معه
استعادت عينا اللورد بولي وميضهما الفاتر بينما كان ينظر إلى القسالصغير الحجم،
«. إذا كنت تريد أن تقتل أحدًا، فسأنصحك بذلك » : ولم يزد على أن قال
هز الأب براون رأسه، كقاتل محترف ذي باعٍ طويلٍ وخبرةٍ كبيرة، وقال وهو يتنهَّد:
هذا ما قاله فلامبو، ولكن فكر في الأمر. كلما شعر المرء بأنه بمفرده، ارتاب أكثر في أمر »
أنه بمفرده؛ فلا بد أن يعني ذلك أن الأماكن من حوله خالية، وخلاء الأماكن من حوله
هو ما يجعله مكشوفًا. ألم ترَ قط أحد الفلاحين وهو يسير على المرتفعات، أو أحد رعاة
الحيوانات وهو يسير في الوديان؟ ألم يحدث قط أن سرتَ على منحدر، ورأيت رجلًا يسير
وحده على الشاطئ؟ ألم تكن ستعلم لو أنه قتل سلطعونًا؟ ألن تكون متأكدًا من ذلك؟ لا!
«. لا! لا! يستحيل على القاتل الذكي، مثلي ومثلك، أن يُخطِّط لأن يحرصعلى ألَّا يراه أحد
«؟ ولكن ما الخطة البديلة »
لا يوجد سوى خطة بديلة واحدة؛ وهي أن يحرص على أن الجميع » : قال القس
ينظرون تجاه شيء آخر. قُتِل رجلٌ خنقًا بالقرب من المنصة الكبيرة في إيبسوم. كان من
الممكن أن يكون أي شخصقد شهد الواقعة إذا كانت المنصة خالية؛ أي متشرد يعيش في
المكان أو أي سائق يسير بسيارته بين التلال، ولكن لم يكن أحد ليرى الواقعة لو كانت
المنصة تعجُّ بالحشود وتضج الحلبة بأصواتهم، لو كان عرضهم المفضل هو ما سيُعرض
أولًا أو لو لم يكن ذلك. إن خَنْق أحدهم بوشاح، وإلقاء جثته خلف باب مغلق هو أمر
يمكن القيام به في لحظة؛ ما دامت هي تلك اللحظة التي تكون الحشود فيها منشغلة. وقد
في حالة ذلك المسكين تحت » : ثم تابع حديثه ملتفتًا نحو فلامبو «. كان الأمر كذلك بالطبع
المنصة. لقد ألُقي عبر الحفرة في الأرضية الخشبية (فتلك الحفرة لم تحدث مصادفة) في
نفس اللحظة الدراماتيكية من العرض الترفيهي، حين عزف أحد عازفي الكمان البارزين
نغمة عالية، أو حين استهل أحد المغنِّين المشهورين الغناء أو حين وصل إلى ذروة أدائه. وفي
حالة مباراة الملاكمة، بالطبع حين تأتي الضربة القاضية؛ ولن تكون هي الضربة الوحيدة
في المكان. تلك هي الخدعة البسيطة التي أخذها نيجر نيد من إله الصنوج القديم الذي
«. يتبعه
«… إن مالفولي بالمناسبة » : بدأ بولي يتحدث قائلًا
ليس لمالفولي أي صلة بهذا. أستطيع القول إنه يتبعه بعضالإيطاليين، » : قال القس
إلا أن أصدقاءنا الودودين ليسوا إيطاليين، إنهم أفارقة وهجينون مختلطو الأعراق، ولكن
يؤسفني القول إننا نحن الإنجليز ننظر للأجانب جميعهم بنفس الطريقة ما داموا بذيئين
أيضًا، يؤسفني أن أقول إن » : ثم أضاف وقد علت وجهه ابتسامة «. ومن ذوي اللون الأسود
الإنجليز يرفضون أن يميزوا بدقة بين الشخصية الأخلاقية التي تُنشئها عقيدتي الدينية
«. وتلك التي تنبثق عن عقيدة الفودو
كان وهج موسم الربيع قد حلَّ على سيوود، فتناثرت على الشاطئ أجساد الجوعى
والمُصيِّفين، إلى جانب الواعظين الرحَّالة والزنوج المغنِّين، قبل أن يزورها الصديقان مرة
أخرى، وقبل أن تهدأ عاصفة البحث عن المجتمع السري الغريب بوقت طويل. وقد انهار
هدف ذلك المجتمع السري مع هلاك كل فرد منه. أما الرجل مالك الفندق فقد وُجد قتيلًا
على صفحة ماء البحر منجرفًا مع التيار كالأعشاب البحرية؛ وكانت عينه اليُمنى مغلقة
في سلام، لكن عينه اليُسرى كانت مفتوحة على اتساعها، وتلمع كالزجاج تحت ضوء
القمر. أما نيجر نيد فقد لحقت به الشرطة على بُعد ميل أو اثنين، فقتل ثلاثة من رجال
الشرطة بقبضته اليُسرى، وهرب الزنجي بعد أن ترك الشرطي الرابع في حالة ذهول؛ لا،
بل كان يتألَّم، لكن كل هذا كان كافيًا لأن تسري الأخبار في الصحف الإنجليزية كالنار في
الهشيم، فكان الهدف الأساسيللإمبراطورية الإنجليزية لمدة شهر أو اثنين هو منع الزنجي
المسئول عن المجتمع السري والذي كان يسعى خلف الجائزة (وقد كان كذلك بالفعل) من
الهرب عن طريق أي ميناء إنجليزي. وقد تعرضللتوقيف أشخاصيُشبهونه من بعيد في
الشكل والحجم وخضعوا لتفتيشمن نوع غريب، فقد طُلب منهم أن يفركوا وجوههم قبل
الصعود على متن السفينة، كما لو أن بالإمكان اصطناع البشرة البيضاء كقناع أو طلاء
للوجه. وخضع كل زنجي في إنجلترا للوائح وقوانين خاصة، وحُملوا على الإبلاغ عن أنفسهم؛
فالسفن المسافرة كانت تنظر إلى الزنجي على متنها وكأنه ثعبان باسيليسك فتَّاك. ولأن
الناس قد عرفوا القوة المخيفة التي يتمتع بها ذلك المجتمع السري الهمجي ومدى اتساع
رقعتها وخطورتها، وبحلول الوقت الذي كان فيه كل من فلامبو والأب براون يتكئان على
حاجز الكورنيش في شهر أبريل، أصبح الرجل الأسود معروفًا في إنجلترا بما كان معروفًا
به في اسكتلندا.
لا بد وأنه لا يزال في إنجلترا، ولا بد وأنه مختبئ جيدًا بطريقة شنيعة » : قال فلامبو
«. أيضًا. لا بد وأنهم كانوا سيعثرون عليه في الموانئ لو أنه طلى وجهه باللون الأبيضفحسب
إنه رجل ذكي حقٍّا، وأنا واثق أنه ما كان سيطلي وجهه » : قال الأب براون في أسًى
«. باللون الأبيض
«؟ إذن، ماذا كان سيفعل »
«. أعتقد أنه سيطلي وجهه باللون الأسود » : قال الأب براون
«! أنتصديقي العزيز » : ضحك فلامبو الذي كان متكئًا بلا حراك على الحاجز، ثم قال
أما الأب براون الذي كان هو الآخر يتكئ على الحاجز بلا حراك، فقد حرَّك إصبعًا
من أصابعه للحظة نحو الزنوج، المطلية وجوههم باللون الأسود، الذين كانوا يغنون على
الشاطئ.