كان مساءٌ عاصفٌ يُوشك أن يحُلَّ كاسيًا السماء باللونين الزيتوني والفضي، عندما وصل
الأب براون، الذي كان مُلتحِفًا برداء اسكتلندي رمادي ذي نقْش مربَّع، إلى نهاية وادٍ
اسكتلندي رمادي ولاحت له قلعة جلينجايل الغريبة. كانت تقف عند أحد طرفيَ الوادي
الضيِّق المنعزِل لتجعله مثل زقاق مسدود، وكانت تبدو وكأنها آخر العالم. كانت بأسقفها
الشديدة الانحدار وأبراجها الأرْدُوازيَّة ذات اللون الأخضرالمشوب بالزُّرقة على غِرار القصور
الاسكتلندية القديمة ذات الطابع الفرنسي، تذكَّر الإنجليزي بقبعات الساحرات المسنَّمة
الشرِّيرة في القصص الخيالية، وبدت غابة أشجار الصنوبر التي كانت تهتزُّ بفعل الرياح
حول أبراج القلعة الخضراء، مقارنةً بها، شديدة السواد كأسراب غربانٍ لا حصرلها. لم
تكن مَسْحة الشر الحالمة الكامنة تلك مجرد وهم نابع من المنظر الطبيعي؛ فقد خيَّمت
بالفعل على ذلك المكان أجواء تَمزج بين الفخر والجنون والكآبة الغامِضة كالتي تُخيِّم على
منازل النبلاء في اسكتلندا بوطأة أشد من منازل غيرهم من بني آدم؛ إذ تجرَّعتِ اسكتلندا
جرعة مزدوجة من ذلك السم المسمَّى بالوراثة؛ والتي كانت تعني حسالانتماء للنَّسب لدى
الأرستقراطيِّين، والهلاك لدى أتباع المذهب الكالفيني.
كان القسقد انتهز يومًا وسط مشاغله التي جاء من أجلها إلى جلاسكو لملاقاةصديقِه
فلامبو، المحقِّق الهاوي الذي كان يَزور قلعة جلينجايل برفقة أحد الضباط الرسميين
للتحقيق في شأن حياة إيرل جلينجايل الراحل ووفاته. كان ذلك الرجل الغامض آخر
المنتمين إلى سلالة جعلتها جرأتها وجنونها ودهاؤها العنيف مُبغَضة حتى من نبلاء
شعبها الفاسدين في القرن السادس عشر. فلم يَخُضْ أيٌّ منهم في الغرف المتداخِلة لقصر
الأكاذيب الذي يُشبه متاهة بناها الطموح ذاك، والذي شُيِّد إبان عهد ماري ملكة اسكتلندا،
أكثر مما خاضأبناء تلك السلالة.
وشهدت القصائد المقفاة الريفيةصراحة على دوافع مكائدِهم ونتائجها:
الذهب الدامي لأبناء أوجلفي
النُّسْغ الأخضرللشجر الصيفي.
لقرون عدَّة، لم يَسكن لوردشريفقلعة جلينجايل قط؛ ومع حلول العصرالفيكتوري،
كان المرء يظنُّ أن عهد غرابة الأطوار قد ولَّى. إلا أن آخر أبناء جلينجايل حافَظَ على تقاليد
عشيرته بقيامِه بالأمر الوحيد الذي تبقَّى له، وهو أن يَختفي. لم يَختفِ بمعنى أنه سافَرَ
خارج البلاد؛ فبناءً على كل ما ورَد من أخبار، إن كان له وجود فهو لا يزال داخل القلعة.
لكن مع أن اسمه موجود في سِجل الكنيسة وفي سِجل أسماء الأشراف الأحمر الضخْم، لم
يرَهُ أحد قط تحت الشمس.
لو كان أحد قد رآه، فسيكون ذلك الشخصهو خادم وحيد، يقوم بأعمالٍ تتراوح بين
البستنة والعناية بالخيل. كان أصمَّ لدرجة أنَّ الأشخاصالعمليِّين كانوا يعتقدون أنه غبي،
بينما ظنه ذوو الفِكر الثاقب أبله. كان عاملًا هزيلًا ذا شعر أحمر، له فكٌّ وذقن يوحيان
بالعِناد، وعينان زرقاوان هادئتان خاويتان من التعبير، كان معروفًا باسم إزرائيل جاو،
وكان هو الخادم الوحيد والصامت في تلك القلعة المهجورة. لكن الهمَّة التي كان يَقلع بها
البطاطس من الأرض، ودخوله بانتظام إلى المطبخ أعطيا الناس انطباعًا بأنه كان يُجهِّز
ما يَلزم لتحضير وجبات لسيدِه، وأن الإيرل الغريب كان لا يزال مختبئًا داخل القلعة. لكن
إن احتاج المجتمع أي إثبات إضافي على وجوده هناك، كان الخادم يؤكِّد بإصرار أنه ليس
بالمنزل. في صباح أحد الأيام، استُدعيَ رئيس الكنيسة والقسيس (فقد كان آل جلينجايل
من أتباع المذهب المشيخي البروتستانتي) إلى القلعة، وهناك وجدا أن العامل القائم بمهام
البستنة ورعاية الخيل والطهو قد أضاف مهنة متعهِّد دفن الموتى إلى قائمة مِهَنِه الكثيرة؛
فقد وضع سيده النبيل في تابوت وأحكم غلقه. لم يتَّضح بعدُ إن كانت تلك الواقعة الغريبة
قد قُوبِلت بأي تحرِّيات إضافية، كَثُرت أم قلَّت؛ فلم يُفتَح تحقيق رسمي في الأمر قبل أن
يأتي فلامبو إلى تلك المنطقة الشمالية منذ يومَين أو ثلاثة. حينئذٍ، كانت جثة لورد جلينجايل
(إن كانت حقٍّا جثَّته) ترقُد منذ بعضالوقت في مقبرة الكنيسة الموجودة على التل.
عندما عبر الأب براون الحديقة المظلمة وأصبح في ظل القصر، كانت السُّحب قد
تكاثفت والجو قد صار رطبًا وثارت عاصفة رعدية. ولقاء شريط الغروب الذهبي المائل
للخضرة الذي كاد يختفي، رأى صورة ظلية سوداء لرجل يَرتدي قبعة عالية، ويحمل
على كتفه رَفْشًا كبيرًا. كان ذلك المزيج موحيًا على نحوٍ غريب بخادم كنيسة، لكن عندما
تذكَّر براون الخادم الأصم الذي يَحفر الأرضلقلع البطاطس، بدا له الشكل طبيعيٍّا. كان
يعرف القليل عن فلاحي اسكتلندا؛ كان يعرف لياقتهم التي قد تَحملُهم على ارتداء الملابس
السوداء أثناء تحقيق رسمي، وكان يعرفأيضًا توفيرهم للوقت الذي لن يَسمح لهم بإهدار
ساعة حفر واحدة بسبب ذلك. حتى إجفال الرجل ونظرته المتشكِّكة للقس — بينما كان
يمرُّ أمامه — كانا يتوافَقان مع الحذر والحَمِيَّة اللذَين تتَّسم بهما تلك الفئة.
فتح فلامبو بنفسه الباب الضخم، وكان برفقته رجل نحيل أشيب الشعر يَحمل
أوراقًا في يده؛ هو المفتِّش كرافِن من شرطة سكوتلانديارد. كانت ردهة المدخل تكاد
تخلو من الأثاث وخاوية؛ ولكن كان يَتطلَّع إليهم من بين الشَّعر المستعار الأسود ومن
داخل لوحة زيتية مسودة وجه باهت مستهزئ لواحد أو اثنين من أفراد عائلة أوجلفي
الخبثاء.
تبعهما الأب براون إلى الغرفة الداخلية، وهناك وجد أن الحليفَين قد اتَّخذا مجلسهما
إلى طاولة طويلة من خشب البلوط، تُغطي أوراقٌ، عليها كتابة بخطٍّ لا اعتناء فيه، طرفها
الذي جلسا عنده، ويَكتنفُها الويسكي والسيجار. أما بقية مساحتها فكان يشغلها أغراض
متفرِّقة، بين كل منها والآخر مسافة فاصلة؛ أغراضغامِضة لأبعد درجة. كان أحدها يبدو
مثل كومة صغيرة من الزجاج المكسور اللامع، وآخر يبدو مثل كومة عالية من تراب بُني،
وثالث بدا أنه عصًا خشبية عادية.
قال وهو يُشير برأسه قليلًا تجاه كومتَي التراب البُني والشظايا الكريستالية بينما
«. يبدو أنكما أعددتُما متحفًا جيولوجيٍّا هنا » : كان يجلس
«. ليس متحفًا جيولوجيٍّا، بل قُل متحفًا لعلم النفس » : رد فلامبو
بحق الرب، دعنا لا نبدأ باستخدام تلك الكلمات » : صاح محقِّق الشرطة ضاحكًا
«. الطويلة
ألا تعرف ماذا يعني علم النفس؟ إنه يعني أن يكون » : سأله فلامبو بدهشة ودية
«. المرء مخبولًا
«. ما زلت لا أفهم ما تَقصِد تمامًا » : رد الضابط
حسنًا، أعني أنَّنا لم نَكتشِف إلا أمرًا واحدًا فحسب عن اللورد » : قال فلامبو بحزم
«. جلينجايل؛ وهو أنه كان مجنونًا
مرَّ خيال جاو الأسود بقبَّعته العالية ورفشه من أمام النافذة، وكان يَصعُب تمييزُه
في ظلمة السماء. حدَّق فيه الأب براون دون أن يَظهر على وجهه أي تعبيرات وأجاب قائلًا:
أتفهَّم أنه لا بدَّ وأن الرجل كان به أمر غريب وإلا ما كان دفن نفسه حيٍّا، ولا تَعَجَّل »
«؟ في دفن نفسه ميتًا. لكن ما الذي يدعوك للاعتقاد أنه الجنون
«. فقط استمع إلى قائمة الأغراضالتي عثر عليها السيد كرافن في المنزل » : قال فلامبو
يجب أن نُحضرَشمعة. فثمَّة عاصفة تقترب، وقد أظلمت الغرفة » : قال كرافن فجأة
«. لدرجة لا تجعل القراءة مُمكِنة
هل وجدت أي شموع ضمن الأغراض الغريبة التي » : سأل الأب براون مبتسمًا
«؟ وجدتها
رفع فلامبو وجهه الذي حمل نظرة جدية وثبَّت عينيه الداكنتَين على صديقه وقال:
وهذا أمر غريب بدوره؛ فقد وجدتُ خمسًا وعشرين شمعة لكن دون أي أثر »
«. لشمعدان
في الغرفة التي كانت تزداد ظلمة بسرعة ووسط الرياح التي كانت تزداد قوة بسرعة،
اتجه براون إلى الطاولة حيث وُضِعت حزمة من الشموع بين معروضات أخرى متفرِّقة.
وبينما كان يفعل ذلك، انحنى دون قصد فوق كومة التراب البني المائل للحُمرة؛ فشقَّت
عطسةٌ حادةٌ السكون.
«! عجبًا! مسحوق تبغ » : قال
التقط إحدى الشموع، وأشعلها بحرص، ثم عاد وثبَّتها في عنق زجاجة الويسكي.
جعل هواء الليل المضطرب، الذي كان يهبُّ منسلٍّا عبر النافذة المتقلقِلة، شعلتها الطويلة
ترفرفمثل الراية. ومن كل ركنٍ من أركان القلعة كان يأتيهم حفيفأشجار غابة الصنوبر
المُظلمة الممتدة لأميال وأميال تجيش مثل بحر مظلم هائج يضرب صخرة.
سوف أقرأ قائمة الموجودات؛ قائمة » : قال كرافن بجدية وهو يَلتقِط إحدى الأوراق
الأغراضالتي وجدناها في أماكن متفرِّقة من القلعة ولا نعرف لها تفسيرًا. عليك أن تعي أن
المكان بوجه عام متداعٍ ومُهمَل، لكن من الواضح أن شخصًا ما كان يسكن غرفة أو غرفتين
بأسلوب حياة بسيط ولكنه لم يكن قذرًا؛ شخصًا غير الخادم جاو. القائمة كما يلي:
الغرضالأول: مجموعة كبيرة جدٍّا من الأحجار الكريمة، كلها تقريبًا من الألماس، وجميعها
سائبة لا تُرصِّع أيشيء. بالتأكيد، من الطبيعي أن يَمتلِك آل أوجلفي جواهر عائلية، لكن
تلك هي بالضبط الجواهر التي عادةً ما ترصع بخاصةٍ حُليٍّا للزينة. يبدو أن آل أوجلفي
كانوا يَحتفظون بجواهرهم سائبة في جيوبهم، مثل القطع النقدية المعدنية.
الغرضالثاني: أكوام عديدة من مسحوق التبغ السائب، غير موضوعة داخل قرن مجوف،
أو حتى جراب، وإنما موجودة في أكوام على رفوف المدفئات، وعلى الطاولات الجانبية،
وعلى سطح البيانو، وفي كل مكان. يبدو وكأن السيد العجوز لم يكن يُريد تكبُّد عناء
البحث داخل جراب أو رفع غطاء.
الغرضالثالث: في أماكن متفرقة في أنحاء المنزل، وُجِدت أكوام صغيرة غريبة من قِطع
معدنية دقيقة، بعضها يبدو كزنبركات فولاذية وبعضها يتخذ هيئة عجلات دقيقة. كما
لو أن أحدًا قد أخرج أحشاء لعبة ميكانيكية ما.
الغرضالرابع: الشموع، التي يجب حَشرُها في أعناق الزجاجات لأنه لا يوجد أي شيء
آخر يمكن تثبيتها به. الآن أريدك أن تلحظ كيف أن هذا كله أغرب بكثير من أي شيء
توقَّعناه. لقد كنا مُتهيِّئين للغز الرئيسي؛ فقد رأينا جميعًا بمجرَّد نظرة خاطفة أن ثمة
خطبًا ما بخصوص الإيرل الراحل. وقد أتينا إلى هنا لنَكتشِف ما إذا كان قد عاش هنا
بالفعل، ومات هنا بالفعل، وإذا ما كان لخيال المآتة ذي الشعر الأحمر الذي دفنه ذاك
يد في موته. لكن لنفترض أسوأ الاحتِمالات، وأفظع الحلول التي قد ترد على ذهنكما
وأكثرها ميلودرامية؛ لنفترضأن الخادم قتل سيده حقٍّا، أو لنفترضأن السيد لم يَمُت
بالفعل، أو أن السيد متنكِّر في هيئة الخادم، أو لنفترضأن الخادم مدفون مكان سيده؛
أيٍّا كانت الحبكة التي سترد على ذهنكما من حبكات روايات ويلكي كولن المأساوية،
فلن تُفسِّر وجود شموع دون شمعدان، أو السبب الذي يجعل سيدًا عجوزًا من عائلة
نبيلة يسكب بطريقة اعتيادية مسحوق التبغ على البيانو. يُمكن تخيل جوهر القصة؛
أما الحواشي فهي ما لا نجد لها تفسيرًا. لا يستطيع العقل البشري مهما اتسع خياله
«. الربط بين مسحوق التبغ والألماس والشمع والأجزاء الميكانيكية المفككة
أعتقد أنني أرى الرابط بينها. جلينجايل ذاك كان معارضًا بجنونٍ للثورة » : قال القس
الفرنسية، ومولعًا بنظام الحكم الفرنسيالقديم، ويُحاوِل إعادة تمثيل الحياة العائلية لآخر
أفراد آل بوربون بحذافيرها. كان يمتلك مسحوق التبغ لأنه كان يُعد مظهر ترفٍ في القرن
الثامن عشر، والشموع لأنها كانت وسيلة الإضاءة في القرن الثامن عشر، والأجزاء الميكانيكية
الحديدية تمثل هواية صناعة الأقفال لدى لويس السادس عشر، والألماس مثل عقد ماري
«. أنطوانيت الألماسي
يا له من تصور » : كان الرجلان يُحدِّقان فيه وقد اتسعت أعينهما، وصاح فلامبو قائلًا
«؟ بالغ الغرابة! أتظن حقٍّا أن تلك هي الحقيقة
أنا متأكد تمامًا من أنه ليس كذلك، لكنَّك من قلت أن لا أحد » : أجاب الأب براون
يستطيع الربط بين مسحوق التبغ والألماسوالأجزاء الميكانيكية والشموع. وأنا أمنحك ذلك
«. الرابط المُرتجَل، لكنِّي واثق أن الحقيقة الفعلية أعمق من ذلك
إيرل جلينجايل » : وسكت لبرهة وأصغى إلىصوت نواح الهواء في أبراج القلعة، ثم قال
الراحل كان لصٍّا. كان يعيش حياة ثانية مُظلمة كلصِّ منازل يائس. لم يكن يَمتلك أي
شمعدان لأنه لم يكن يستخدم تلك الشموع إلا مقطوعةً داخل الفانوس الصغير الذي كان
يحمله. كان يستخدم مسحوق التبغ لنفس الغرض الذي كان يستخدم أعتى المجرمين
الفرنسيين مسحوق الفلفل من أجله؛ وهو نثره فجأة بكميات كبيرة في وجه آسرِه أو
مُطارِده. لكن الدليل النهائي هو المصادفة الغريبة لوجود الألماس والعجلات الفولاذية
الصغيرة معًا. ألا يجعل ذلك كل شيء يتَّضح لكما؟ الألماس والعجلات الفولاذية الصغيرة
«. هما الأداتان الوحيدتان اللتان يُمكنك استخدامهما لقطع لوح من الزجاج
ارتطم بقوة غصنُ شجرة مكسور بزجاج النافذة خلفهم بفعل الرياح العاصفة، كما
لو كان يقلد لص منازل، إلا أن أحدًا منهما لم يَلتفِت؛ فقد كانت أعينهما مثبتة على الأب
براون.
الألماس والعجلات الصغيرة! أهذا كل ما تبني عليه » : كرر كرافن مُتمعنًا في التفكير
«؟ اعتقادك بأن ذلك هو التفسير الحقيقي
لا أعتقد أن ذلك هو التفسير الحقيقي، لكنك قلت إنه لا أحد يستطيع » : رد القسبهدوء
إيجاد رابط بين هذه الأشياء الأربعة. القصة الحقيقية أكثر رتابة بالتأكيد. لقد اكتشف
جلينجايل أحجارًا ثمينة في قلعته أو هكذا اعتقد. خدعه أحدهم بتلك الأحجار اللامعة، وقال
له إنه وجدها فيسراديب القلعة. والعجلات الصغيرة ما هي إلا أدوات متعلِّقة بقطع الألماس.
وكان مضطرٍّا لأن يقوم بذلك الأمر على نحوٍ غير مُتقَن وبتكتُّم، بمساعدة بعضرعاة الغنم
أو رجال بدائيين ممن يعيشون في تلك التلال. مسحوق التبغ يُعدُّ أعظم مظاهر الترف
لهؤلاء الرعاة الاسكتلنديين؛ لذا فهو الأمر الوحيد الذي يُمكن رشوتهم به. لم يكونوا يملكون
شمعدانات لأنهم لم يَحتاجوها؛ فقد كانوا يُمسكون الشموع في أيديهم وهم يستكشفون
«. السراديب
أهذا كلشيء؟ هل وصلنا إلى الحقيقة المملة » : قال فلامبو بعد فترة طويلة من الصمت
«؟ أخيرًا
«. لا» : قال الأب براون
حين هدأ الهواء الذي يعصف بأشجار الصنوبر البعيدة مُحدِثًا صوت نعيق طويل
وكأنما يتهكَّم، تابع الأب بروان بهدوء تام قائلًا:
لقد طرحت تلك الفكرة فقط؛ لأنك قلت إن المرء لا يُمكنه إيجاد رابط معقول بين »
مسحوق التبغ والأجزاء الميكانيكية، أو بين الشموع والأحجار البراقة. وكما يُمكن لعشر
فلسفات باطلة تفسير الكون؛ يُمكن لعشرنظريات خاطئة تفسير غموضقلعة جلينجايل.
«؟ ولكن ما نُريده هو التفسير الحقيقي للقلعة وللكون كذلك. لكن ألا يوجد أي أحراز أخرى
ضحك كرافن، ونهضفلامبو مبتسمًا وسار بمحاذاة الطاولة الطويلة.
ها هي الأغراض رقم خمسة وستة وسبعة … إلخ، وهي قطع متنوعة أكثر » : وقال
منها مفيدة. مجموعة غريبة لا من أقلام الرصاص، بل من رصاصتلك الأقلام. عصًا من
خشب البامبو لا معنى لها، وطرفها العلوي مشقوق إلى حدٍّ ما. قد تكون هي أداة الجريمة،
غير أنه لا تُوجد جريمة في الأساس. أما الأشياء الأخرى الباقية فهي بضعة كتب صلوات
قديمة، وصور كاثوليكية صغيرة، والتي أظن أن آل أوجلفي احتفظوا بها منذ العصور
الوسطى كون اعتزازهم بنَسبهم أقوى من انتمائهم لمذهب البيوريتانية. عرضناها فقط
«. لأن أجزاء منها قُطعت على نحو غريب وطُمست الوجوه بها
ألقت العاصفة الهوجاء بالخارج وبالًا مخيفًا من السُّحب فوق جلينجايل، فرمت
بالغرفة الطويلة في بحر من الظلام، بينما التقط الأب براون الصفحات المذهبة كي
يفحصها. قبل أن تنقشع موجة الظلام تحدث؛ لكنصوته بدا كصوت رجل مختلف تمامًا.
سيد كرافن، معك مذكرة » : قال، متحدثًا بصوت كأنه لرجل يصغره بعشر سنوات
قانونية لتفتيش القبر، أليس كذلك؟ كلما أسرعنا في ذلك ووصلنا إلى حل لتلك القضية
«. المريعة كان أفضل. لو كنت مكانك لشرعت في القيام بذلك الآن
«؟ الآن! ولمَ العجلة » : كرَّر المحقق المدهوش
لأنَّ هذا الأمر خطير، الأمر لا يتعلَّق بمسحوق التبغ المسكوب أو » : أجاب الأب براون
الأحجار السائبة، التي قد يكون هناك ألف مبرِّر لوجودها. أعرف سببًا واحدًا فقط يدعو
للقيام بذلك؛ وذلك السبب يرجع إلى جذور العالم. هذه الصور الدينية لم تُلطَّخ أو تُقطَّع
أو تُطمس فحسب، وهي أمور قد يقوم بها أي طفل أو شخص بروتستانتي بداعي الملل
أو التعصُّب الديني. لقد عُوملت بحرص شديد، وبطريقة غريبة جدٍّا؛ فكل مَوضِع يظهر
فيه اسم الرب العظيم مزخرفًا في تلك الصور المضاءة القديمة قد قُطع منها عن عمد.
الشيء الآخر الوحيد الذي قُطع هو الهالة التي تحيط برأسيسوع الطفل. لذا أرى أن نأخذ
«. المذكرة والرفش والفأس، ونذهب لفتح ذلك التابوت
«؟ ماذا تعني » : سأل المفتِّش اللندني
أجاب القس الضئيل الحجم، وقد بدا أن نبرة صوته علت قليلًا في هدير العاصفة:
أعني أن الشيطان الأعظم للكون قد يكون جالسًا فوق قمة أعلى برج في تلك القلعة في هذه »
اللحظة، حجمه أكبر من مائة فيل وصوت زئيره مثل زئير وحش سفر الرؤيا. هذا الأمر
«. يَنطوي في باطنه بطريقة ما على سحر أسود
ردَّد فلامبو — إذ كان رجلًا مستنيرًا لا علم له بمثل تلك الأمور — بصوت منخفض:
«؟ سحر أسود! لكن ماذا تعني تلك الأغراضالأخرى »
تعني شيئًا بغيضًا، على ما أظن. كيف لي أن أعرف؟ كيف » : رد براون بنفاد صبر
لي أن أخمِّن جميع خبايا أساليبهم المعقدة؟ ربما يُمكن استخدام مسحوق التبغ والبامبو
للتعذيب. ربما يشتهي المجانين اقتناء الشمع والأجزاء الفولاذية. ربما يوجد دواء يسبب
الجنون يُصنع من أقلام الرصاص! أقصرطريق لكشف هذا الغموضهو الذهاب إلى القبر
«. أعلى التل
لم ينتبه رفيقاه أنهما كانا بالفعل قد أطاعاه وتبعاه حتى كادت إحدى عصفات
الرياح الليلية أن تُلقيَ بهم أرضًا على وجوههم في الحديقة. مع ذلك أطاعاه مثل الآلات؛ إذ
وجد كرافن بيده فأسًا، ووجد في جيبه إذنَ التفتيش، وكان فلامبو يحمل رفش البستاني
الغريب الضخم، وكان الأب براون يحمل الكتاب المُذهَّب الصغير الذي اقتُطِع منه اسم الرب.
كان الطريق المؤدِّي إلى فِناء الكنيسة أعلى التل متعرِّجًا لكنه قصير؛ إلا أنه بدا مجهِدًا
وطويلًا بفعل مقاومة الرياح. على مرمى بصرهم، الذي كان يتَّسع كلما صعدوا المنحدَر،
كان يوجد خِضَم من أشجار الصنوبر، وكانت جميعها مُنحنية في اتجاه واحد بفعل الرياح.
وعلى قدر اتساعها، بدتْ تلك العلامة الموحدة عابسة؛ عابسة كما لو كانت تلك الرياح تَصفِر
في أرجاء كوكب بلا بشروبلا مغزًى. وعبر كل تلك المساحة اللانهائية من الغابات الرمادية
المائلة للزرقة، تَغَنَّى، بصوتٍ حادٍّ ومرتفع، ذلك الحزنُ القديم الواقر في قلب كل ما هو
وثني. قد يُخيَّل للمرء أن تلك الأصوات القادمة من ذلك العالم السُّفلي من أوراق الشجر التي
لا يستطيع أحد سبر أغوارها، كانتصرخات الآلهة الوثنية الهائمة التي ضلَّت طريقها:
آلهة خرجت تَهيم على وجهها في تلك الغابة اللامنطقية، ولن تجد أبدًا سبيلها للعودة إلى
الجنة.
قبل تأسيس اسكتلندا، كان الشعب الاسكتلندي » : قال الأب براون بنبرة خافتة سلسة
شعبًا غريبًا، بل إنه، في الواقع، ما زال كذلك. لكني أظن أنهم في عصور ما قبل التاريخ
«. لهذا السبب اعتنقوا المذهب البيوريتاني » : وأضاف بلطْف «. كانوا يعبدون الشياطين
يا صديقي، ماذا تعني كل تلك الكمية من » : قال فلامبو، وهو يَلتفِت بغضب نوعًا ما
«؟ مسحوق التبغ
يا صديقي، يوجد عامل مشترك واحد بين » : رد براون بالدرجة نفسها من الجدية
«. جميع الديانات الأصلية؛ ألا وهو النزعة المادية. وعبادة الشياطين هي ديانة أصلية تمامًا
كانوا قد وصلوا إلى قمة التل المُعشِبة، وهي إحدى المناطق المكشوفة القليلة التي كانت
بمنأًى عن غابة أشجار الصنوبر المتلاطمة الهادرة. صلصل سياج بالٍ مصنوع من ألواح
الخشب والأسلاك بفعل الرياح العاصفة مُعلِنًا لهم حدود المقبرة. لكن عندما وصل المفتش
كرافن إلى زاوية القبر، وغرسفلامبو طرف رفشه في الأرضواتَّكأ عليه، كان كلاهما يَرتعِد
مثل ذلك السياج المصنوع من الخشب والأسلاك. نمَت حول القبر نباتات شوكية ضخمة
طويلة، استحال لونها إلى الفضي الرمادي في طريقها إلى الذبول. ومرة أو مرتين، كلما
انفصلت كرة زغب من إحدى تلك النباتات الشوكية بفعل الهواء وطارت مارةً، كان كرافن
يَثِب مذعورًا كما لو كانت سهمًا.
غرس فلامبو سن رفشه في الحشائش الصافرة حتى وصَل إلى الطين الرطب تحتَها،
ثم ما لبث أن توقف واستند إليه كما لو كان يستند إلى عكاز.
«؟ استمر. نحن نُحاول فقط اكتشاف الحقيقة، فماذا تَخشى » : قال القس برفق شديد
«. أخشى اكتشافها » : قال فلامبو
تكلَّم المفتش اللندني فجأة بصوت مُرتفِع مرح كان يقصد أن يجعله يبدو حواريٍّا
أتساءل ما الذي كان حقٍّا يدفعه لأن يُخفيَ نفسَه بتلك الطريقة. أظنه » : ومبتهجًا قائلًا
«؟ شيئًا كريهًا؛ هل كان مَجذومًا
«. بل كان شيئًا أبشع من ذلك » : قال فلامبو
«؟ وما الذي تتخيَّل أن يكون أبشع من أن يكون مجذومًا » : سأله الآخر
«. لا يُمكنني أن أتخيَّله » : قال فلامبو
أخشى أن » : تابع الحفر في صمت لعدة دقائق مرت مريعة، ثم قال بصوتٍ مُختنِق
«. يكون مشوَّهًا
«. كذلك كانت تلك الورقة. وقد نجونا حتى منشرتلك الورقة » : قال الأب براون بهدوء
تابع فلامبو الحفر بهمَّة عمياء. لكن العاصفة كانت قد أزاحت السحب الرمادية
الخانقة التي كانت تُغطي التلال مثل الدخان، كاشفة عن حقول رمادية من أضواء النجوم
الشاحبة قبل أن تتكشَّفله هيئة تابوت خشبي بدائي، ويرفع طرفه بطريقةٍ ما إلى العشب.
تقدَّم كرافن ممسكًا بفأسه؛ ولمسته إحدى كرات الزغب فأجفل. ثم سار بخطوات أكثر
حزمًا، وظل يضرب غطاء التابوت بالفأسويُحاول انتزاعه بنفسهمة فلامبو حتى انخلع،
ولمعت محتوياته جميعها في ضوء النجوم الرمادي.
«. لكنها لرجل » : ثم أضافقائلًا وكأنما كان ذلك أمرًا غير متوقَّع «. عِظام » : قال كرافن
«؟ أهو، أهو سليم » : سأل فلامبو بنبرة كانت تعلو وتهبط على نحو غريب
قال الضابط بصوت أجش وهو ينحني فوق الهيكل العظمي المحجوب والمتآكل
«. يبدو لي كذلك. انتظر لحظة » : المُسجى داخل الصندوق
الآن وقد فكرت في » : سرت تنهيدة ارتياح عميقة في جسد فلامبو العملاق وصاح قائلًا
الأمر، ولمَ بحق اللعنة، لا يكون سليمًا؟ ما الذي يستحوذ على المرء في تلك الجبال الباردة
الملعونة؟ أعتقد أنه ذلك التكرار الأسود المأفون؛ كل تلك الغابات، وفوق كلشيء خوفٌقديمٌ
من انعدام الشعور. الأمر أشبه بحلم شخص وثني. الملايين والملايين من أشجار الصنوبر
«… ولاشيء سواها
«. يا إلهي! إن الجثة من دون رأس » : صاح الرجل الواقف بجوار التابوت قائلًا
بينما تسمَّر الرجلان، انتفض القس وظهر عليه، لأول مرة، تحوُّل في حاله إلى قلق
مفاجئ.
من دون رأس! من دون » : وكرَّر كما لو كان يتوقع في الغالب نقصًا من نوع آخر
«؟ رأس
مرَّت برأسهم مَشاهد متتابعة حمقاء لرضيع من دون رأسوُلِد في جلينجايل، وشاب
يافع من دون رأس يُخبئ نفسه داخل القلعة، ورجل من دون رأس يجوب تلك الأروقة
القديمة أو تلك الحديقة الغنَّاء. لكن حتى في تلك اللحظة المشحونة، لم تصدق عقولهم
تلك القصة وبدت لهم غير منطقية. وقفوا، ببلاهة مثل حيوانات منهكة، يستمعون لصوت
الغابات المرتفع، والسماء الهادرة. وبدا وكأن التفكير شيء ضخم انسلَّ من بين أيديهم
فجأة.
«. يوجد ثلاثة رجال بلا رأس يقفون حول ذلك القبر المفتوح » : قال الأب براون
فتح المحقق اللندني الشاحب الوجه فمه ليتكلَّم، وتركه مفتوحًا مثل جلف ساذج،
بينما شقَّت سكون السماء صيحة طويلة أطلقها الهواء؛ ثم نظر إلى الفأس التي كان
مُمسكًا بها كما لو كانت لا تخصه، وألقاها أرضًا.
ماذا نحن » : قال فلامبو بتلك النبرة الطفولية والمهمومة التي نادرًا ما كان يستخدمها
«؟ فاعلون يا أبتاه
جاءه ردُّ صاحبهسريعًا مثل طلقة مكتومة تنطلق من مسدس.
نَخلد إلى النوم! نخلد إلى النوم. لقد وصلنا إلى نهاية » : فقد صاح الأب براون قائلًا
الطرق. أتعرف ما هو النوم؟ أتعرف أن كل رجل يخلد إليه يؤمن بالرب؟ النوم شعيرة
مقدسة؛ فهو فعل نابع من الإيمان وهو قوت. ونحن بحاجة إلى شعيرة مقدسة، لا سيما
إذا كانت طبيعية. لقد ألمَّ بنا أمر نادرًا ما يلمُّ بأحد من البشر؛ ربما هو أسوأ ما يمكن أن
«. يُلِم ببشر على الإطلاق
«؟ ماذا تعني » : التقت شفتا كرافن المنفرجتان ليقول
لقد وجدنا الحقيقة؛ لكن » : كان القس قد ولَّى وجهه صوب القلعة وهو يجيب قائلًا
«. الحقيقة منافية للمنطق
وسار نازلًا في الطريق أمامهما بخطوات واسعة متهوِّرة غير معهودة منه، وعندما
وصلوا إلى القلعة مرة أخرى، استسلم للنوم بكل بساطة.
على الرغم من ثنائه الروحي على النوم، كان الأب براون أول المستيقظين باستثناء
البستاني الصامت؛ ووجداه جالسًا يُدخِّن غليونًا ويشاهد ذلك الخبير وهو يؤدِّي أعماله
بصمت في حديقة المطبخ. ومع اقتراب بزوغ الصبح، كانت العاصفة الهوجاء قد انقشعت
لتحل محلها أمطار راعدة، وحمل الصباح معه انتعاشًا غريبًا. حتى إن البستاني بدا وكأنه
يتحدَّث، لكن عندما رأى المحقِّقين، غرس رفشه بتجهم في مرقد زروع، قائلًا شيئًا بشأن
إفطاره، ثم سار بمحاذاة صفوف الكرنب المزروعة وأغلق عليه باب المطبخ. قال الأب
ثم أضاف قائلًا بترفُّق «. هذا رجل ذو قيمة كبيرة؛ فهو بارع في زراعة البطاطس » : براون
لكن لديه أخطاؤه. ومن منا منزَّه عن الخطأ؟ فهو لا يَحفر تلك الجهة بانتظام » : موضوعي
هنا على سبيل المثال، يُساورني شك كبير » : ثم داس بقدمه فجأة على رقعة، قائلًا «. كبير
«. حول حبة البطاطس تلك
«؟ ولمَ ذلك » : سأل كرافن وهو يضحك من هواية الرجل الضئيل
لأن جاو العجوز هو الآخر قلق بشأنها؛ فقد غرسرفشه بطريقة » : أجاب الآخر قائلًا
اعتيادية في كل مكان إلا تلك الرقعة. لا بد وأن ثمة حبة بطاطس ممتازة للغاية هنا
«. بالتحديد
سحب فلامبو الرفش وغرسه باندفاع في الموضع المقصود. وكشف، تحت مقدار كبير
من التربة، شيئًا لم يكن يُشبه حبة البطاطس، بل بالأحرى حبة فُطر هائلة لها قبة كبيرة.
لكن هذا الشيء اصطكَّ بالرفشمحدثًاصوتًا حادٍّا، وتقلب مثل الكرة ثم نظر لهما مبتسمًا.
«. إيرل جلينجايل » : قال الأب براون بنبرة حزينة وهو يَنظر إلى الجمجمة بأسًى
«. يجب أن نُخفيَها مجددًا » : ثم، بعد بُرهة من التفكير، انتزع الرفش من فلامبو قائلًا
ودفَن الجمجمة في الأرض، ثم استند بجسده الضئيل ورأسه الضخم إلى مقبض الرفش،
الذي وقَف مُنتصبًا في الأرض، وكانت عيناه خاويتَين من التعبير وجبينه مقطبًا، وتَمتمَ
واستند بجسده على «. أتمنَّى لو استطعت أن أفهم معنى هذا العمل الوحشيالأخير » : قائلًا
مقبضالرفش الضخم ودفن جبينَه في كفَّيه كما يفعل المُصلُّون في الكنيسة.
كانت كل أرجاء السماء تسطع باللونين الأزرق والفضي؛ والطيور تزقزق داخل أشجار
الحديقة الصغيرة بصوت عالٍ حتى بدا وكأن الأشجار نفسها تتكلَّم. لكن الصمت كان
مطبقًا على الرجال الثلاثة.
حسنًا، أنا أعُلن استسلامي التام؛ فعقلي لا يتماشى وذلك » : أخيرًا قال فلامبو بانفعال
العالم، وكفى. مسحوق تبغ وكتب صلوات متلَفة، وأجزاء داخلية من صناديق موسيقية،
«… ما
رفع براون حاجبَيه في انزعاج ودقَّ بيده على مقبض الرفش بنفاد صبر غير معتاد
لا، لا! فكل ذلك واضح كالشمس. لقد فهمتُ معنى مسحوق التبغ والأجزاء » : منه، وصاح
الميكانيكية، وكل هذا، منذ فتحت عيني ذلك الصباح. ومنذ ذلك الحين تحدثت بالأمر مع
جاو، البستاني العجوز، وهو ليس أصمَّ ولا غبيٍّا للغاية كما يَدَّعي. لا يوجد ما هو غريب
بشأن تلك الأغراض السائبة. وقد كنت مخطئًا فيما يتعلَّق بكتاب الصلوات الممزق أيضًا؛
فلاضرر في ذلك. لكن المشكلة في ذلك الأمر الأخير؛ فانتهاك حرمة القبور وسرقة رءوس
الأموات لا بدَّ وأن فيهضررًا، أليس كذلك؟ لا بدَّ وأنه أمر متعلِّق بالسحر الأسود. لكن ذلك
ثم عاد يجوب «. لا يَتماشى مع القصة البسيطة للغاية المتعلِّقة بمسحوق التبغ والشموع
المكان، وهو يدخن واجمًا.
يا صديقي، يجب أن تترفَّق بي ولا تنسَ أني كنت » : قال فلامبو بحس دعابة كئيب
يومًا ما مجرمًا. وأعظم ميزة لذلك الوضع هي أني كنت دائمًا أؤُلِّف القصة بنفسي، وأنفذها
بالوتيرة التي أختارها. إن خَصلة انعدام الصبر الفرنسية لدي تجعلني لا أطيق الانتظار
الذي يتطلَّبه عمل المحقِّق ذاك؛ فطوال حياتي، كنت أفعل كلشيء في لحظته، خيرًا كان أو
شرٍّا؛ فدائمًا كنت أخوض المبارزات في الصباح التالي، ودائمًا ما كنتُ أدفع الفواتير فورًا،
«… وحتى زيارات طبيب الأسنان لم أكن أؤجلها قط
سقط غليون الأب براون من بين شفتَيه وانكسر إلى ثلاث قطع على الطريق المفروش
يا إلهي، يا لي من » : بالحصى، ووقف يُحملق بعينين مدهوشتَين مثل الأبله، وظل يُردِّد
ثم بدأ يضحك ضحكة منهكة. «! غبي
طبيب الأسنان! ست ساعات في تلك الهوة الروحانية السحيقة، وجُلُّ ذلك لأني » : وكرَّر
لم أفُكِّر مطلقًا في طبيب الأسنان! يا لها من فكرة بسيطة! يا لها من فكرة جميلة وتَبعث
على السلام! يا صديقَيَّ، لقد قضَينا ليلة في الجحيم، لكن ها هي الشمس تسطع والطيور
«. تُغرِّد، وهيئة طبيب الأسنان المشرقة تُواسيالعالم
سوفأفهم ذلك الأمر حتى ولو اضطُررت لاستخدام » : صاح فلامبو وهو يخطو للأمام
«. أساليب تعذيب محاكم التفتيش
كتم الأب براون رغبة لحظيةً في الرقصعلى المرج الذي كانت الشمس حينئذٍ تَسطع
أوه، دعني أتصرَّف بسخافةٍ قليلًا؛ فأنت لا تعرف كم كنتُ » : عليه وصاح مُستجديًا كطفلٍ
حزينًا. والآن أعرف أن هذا الأمر لا يَنطوي على خطيئة كبيرة على الإطلاق، بل ربما مَسحة
«؟ من جنون فحسب … ومن يُمانع ذلك
دار حول نفسِه مرة أخرى، ثم واجههما والجدية تعلو ملامحه.
هذه ليست قصة عن الجريمة، بل هي بالأحرى قصة عن النزاهة الغريبة » : وقال
والشاذة. نحن بصدد رجل ربما يكون الوحيد على الأرض الذي لم يأخذ أكثر من حقه.
فهي بمثابة دراسة عن منطق الحياة الوحشي الذي اتَّخذه هذا الجنس دِينًا له.
تلك القصيدة المحلية القديمة المُقفاة عن آل جلينجايل:
الذهب الدامي لأبناء أوجلفي
كما النُّسْغ الأخضرللشجر الصيفي.
كانت حرفية مثلَما كانت مجازية؛ فهي لم تكن تَعني فحسب أن آل جلينجايل كانوا
يسعون لجمع الثروات؛ بل تَعني أيضًا أنهم كانوا يكنزون الذهب بالمعنى الحرفي للكلمة؛
فقد كانت لديهم مجموعة ضخمة من التُّحف وأدوات المائدة المصنوعة من ذلك المعدن.
وقد كانوا في الواقع أشحَّاء وقد أخذ جنونهم ذلك المنعطَف. في ضوء تلك الحقيقة، لنُراجع
جميع الأغراضالتي وجدناها في القلعة. الألماسدون الخواتم المرصَّعة بها، والشموع دون
شمعداناتها الذهبية، ومسحوق التبغ دون صناديق مسحوق التبغ الذهبية، ورصاص
الأقلام دون الأقلام الذهبية، وعكاز دون رأسه الذهبي، وأجزاء ميكانيكية لساعات دون
ساعات الحائط أو ساعات اليد الذهبية. وبقدر ما يبدو ذلك جنونيٍّا، فلأنَّ هالة المسيح
«. واسم الرب في كتب الصلوات القديمة كانا مطعَّمين بالذهب الحقيقي، فقد نُزِعا كذلك
بدا وكأن الحديقة كانت تتألَّق، والعشب يَزداد جذلًا تحت أشعة الشمس المباشرة،
بينما كانت الحقيقة المجنونة تظهر. أشعل فلامبو سيجارًا بينما تابع صديقه كلامه.
نُزِعت، نُزِعت لكنها لم تُسرَق؛ فاللصوص لم يكونوا » : تابع الأب براون كلامه قائلًا
ليتركوا وراءهم أبدًا ذلك اللغز، بل كانوا سيأخُذون صناديق مسحوق التبغ بمحتوياتها،
والأقلام الذهبية بسنونها الرصاصية. نحن نتعامل مع رجل ذي ضمير غريب، لكنه
بلا شكٍّ يَملك ضميرًا. لقد وجدت ذلك الرجل الفاضل المجنون هذا الصباح في حديقة
المطبخ، وسمعت منه القصة كاملة.
كان أرشيبولد أوجلفي الراحل أقرب ما يكون لرجلصالح لم يُولد مثله في جلينجايل،
لكن تلك الفضيلة المُرَّة اتخذت لديه منحى بُغضِ البشر؛ فقد أهمه فساد أجداده، الذي
جعله بطريقة ما يحكم على البشرجميعًا بالفساد. وكان على نحو خاصلا يثق بالإحسان
أو العطاء دون مقابل؛ وأقسم أنه إن وجد رجلًا واحدًا يأخذ ما يستحقه دون زيادة أو
نقصان، فسيعطيه ذهب جلينجايل كله. وبعد أن أعلن تحديه هذا للبشرية، انعزل بنفسه،
دون أن يتوقَّع على الإطلاق أن يستجيب لتحديه أحد. ومع ذلك، في أحد الأيام، أحضر له
صبي أصم، يَبدو أخرق من قرية بعيدة، برقيةً تأخَّر وصولها، وأعطاه جلينجايل، من
فرط سعادته، ربع بنس جديدًا، أو هكذا ظن؛ لكن عندما أخرج قطع نقودِه المعدنية،
وجد أن ربع البنس الجديد لا يزال موجودًا وأن جنيهًا إنجليزيٍّا ذهبيٍّا قد اختفى. فتحت
له هذه الواقعة مجالًا لأن يخمن تخمينات مستهزئة؛ ففي كلتا الحالتين، سيُظهر الصبي
الجَشَع المقزز للجنس البشري؛ فهو إما سيختفي، فيصبح لصٍّا سرق قطعة نقد معدنية؛
أو سيرجع به مدعيًا الفضيلة، فيكون انتهازيٍّا يسعى للحصول على مكافأة. وفي منتصَف
تلك الليلة، أيقظ اللوردَ جلينجايل قرعٌ على بابه؛ فقد كان يسكن وحده، واضطر لأن يفتح
الباب لذلك الأصم الأبله. لم يُحضرالأبله معه الجنيه الإنجليزي الذهبي، بل أحضربالضبط
تسعة شلنات وأحد عشر بنسًا وثلاثة أرباع البنس هي باقي الجنيه الإنجليزي الذهبي.
سيطرت الدقة الشاذة لهذا الفعل على تفكير اللورد المجنون كليٍّا، وأقسم أنه مثل
الفيلسوف ديوجانس، الذي كان فيما مضى قد أخذ يبحث طويلًا عن رجل شريف، وفي
النهاية وجده. وكتب وصية جديدة، رأيتها بنفسي. أخذ الولد العادي ليعيش معه في منزله
الضخم المُهمَل، ودرَّبه ليكون خادمه الوحيد ووريثه، بعد ما أتى به من مسلك غريب.
وأيٍّا كانت قدرة ذلك المخلوق الغريب على الفهم، فقد فهم تمامًا الفكرتين الأساسيتَين
لسيده؛ أولًا: أن الخطاب الذي يذكر حقه هو كل شيء. وثانيًا، أنه هو من سيحصل على
ذهب جلينجايل. حتى الآن، هذه هي القصة كلها، وهي قصة بسيطة؛ فقد جرد المنزل من
الذهب، ولم يأخذ ولا خردلة لم تكن من الذهب؛ ولا حتى ذرة من مسحوق التبغ. وانتزع
الصحائف الذهبية من الأوراق المذهبة القديمة، وهو مطمئن تمامًا إلى أنه ترك الباقي دون
أن يُتلفه. كل ذلك فهمته؛ لكني لم أستطعِ استيعاب أمر تلك الجمجمة. كنت قلقًا بشأن ذلك
الرأسالبشري المدفون وسط البطاطس. وظل الأمر يُزعجني، حتى نطق فلامبو تلك الكلمة.
سيكون كل شيء على ما يُرام؛ سيعيد الجمجمة إلى القبر، بعد أن ينتزع الحشوات
«. الذهبية من أسنانها
وبالفعل، عندما كان فلامبو يَعبُر التل ذلك الصباح، رأى ذلك الرجل الغريب، ذلك
البخيل المُنْصِف، يَحفر القبر الذي انْتُهِكَت حرمته، وشاله ذا النقش المربع الذي يلفه حول
عنقه يَتطاير في ريح الجبال؛ وعلى رأسه القبعة العالية الوقورة