GilbertKeith

Share to Social Media

انطلقتُ أركض، وخُيِّل لي كأن الخطوات الخيالية قد انطلقت تركض أيضًا، لكن
ليس بتلك الوتيرة الدقيقة التي تُميز الرجع المادي الحقيقي لصوت ما. توقفتُ مرة أخرى،
فتوقفتِ الخطوات كذلك، لكني أكاد أجزِم بأنها توقفتْ متأخرة لحظات؛ صحتُ بسؤال،
فجاءتني الإجابة؛ لكن بصوت ليس صوتي.
جاءني الصوتُ بالقرب منصخرة ماثلة أمامي مباشرة؛ وخلال تلك المطاردة الخارقة
للطبيعة، لاحظتُ أنه دائمًا ما يتوقف ويتكلم من زاوية مماثلة من الطريق المتعرِّج. كنت
طوال الوقت أرى المساحة الصغيرة التي يُضيئها كشافي الكهربائيُّ الصغير فارغةً تمامًا
كغرفةٍ خاوية. في تلك الظروف، خضتُ نقاشًا مع ذلك الذي لا أعرف مَن يكون، استمر
حتى تراءى لي أول بصيص لضوء النهار، وحتى حينها، لم أستطع أن أرى كيف اختفى
في وضَح النهار، لكن مدخل المتاهة كان مليئًا بفتحات وشقوق وفلقات عديدة، ولم يكن
من الصعب عليه أن يمرقَ بطريقة أو بأخرى إلى الداخل ويختفيَ مجددًا في غياهب ذلك
العالم السفلي من المغارات. لا أعرف سوى أني خرجتُ إلى الدَّرَج المهجور لجبل عظيم بدا
أشبهَ بمصطبة رخامية، لا يُميزه عنها سوى رقعة من العشب الأخضر، بدت على نحوٍ ما
أروع من نقاء الحجارة، كالغزو الشرقي الذي انتشر في بقاع متفرقة من الدولة اليونانية
القديمة إبَّان سقوطها. وجدتُ نفسي مشرفًا على بحر ذي زرقة صافية لا تشوبها شائبة،
وكان ضوء الشمس يسطع بثبات على ذلك الخواء والصمت المطبقَين، ولم يحرِّك ورقةَ
عشب واحدة همسُ أقدام هاربة ولا حتى ظلُّ خيال إنسان.
كان حوارًا مريعًا؛ كان حميميٍّا للغاية وشخصيٍّا للغاية، وغيرَ متكلف بطريقة ما. لم
أعرف لذلك الكيان جسدًا ولا وجهًا ولا اسمًا، ولكنه كان يخاطبني باسمي، وكان يتحدث
إليَّ داخل تلك السراديب والصدوع التي كنا مدفونَين تحتها أحياء، بصوت لا يحمل قدرًا
من انفعال أو ميلودرامية يفوق ما قد يحمله ونحن جالسان في مقعدين مريحين داخل
نادٍ ترفيهي، لكنه أخبرني أيضًا أنه سيقتلني دون تردُّدٍ، أنا أو أي شخص آخر، يحوز
الصليب الذي يحمل رمز السمكة. وأخبرنيصراحة أنه ليس غبيٍّا كي يهاجمني هناك في
المتاهة؛ لأنه يعلم أن بحوزتي مسدسًا محشوٍّا، وأنه إن فعل كان سيُعرِّض نفسه لخطر
شأن الخطر الذي كان يتهدَّدُني. لكنه أخبرني بالنبرة الهادئة نفسها أنه سيخطط لقتلي
بطريقة تضمن حتميةَ نجاحه، وأنه سيخطط لكل تفصيلة وسيزيح عن طريقه كلَّ خطر
محتمل، وسيقوم بذلك بإتقان حِرَفي كالذي يبذله حِرَفيٌّ صيني أو عامل تطريز هندي في
أفضل أعماله الفنية، لكنه لم يكن شرقيٍّا؛ فأنا واثق أنه كان رجلًا أبيض. بل إني أحسب
أنه من أبناء وطني.
منذ ذلك الحين، يصلني من وقت لآخر علاماتٌ ورموز ورسائل غريبة من مجهول
أكَّدت لي، على الأقل، أن الرجل إن كان مهووسًا، فهوسُه منصبٌّ على أمر واحد. فدائمًا ما
يخبرني في تلك الرسائل، بأسلوبه الوديع اللامبالي، أن تجهيزاتِ موتي ودفني تسير على
نحوٍ مُرضٍ؛ وأن الطريقة الوحيدة التي يمكنني بها أن أحول دون أن تُكلَّل هذه التجهيزات
بالنجاح بسهولة هي أن أتخلَّى عن الأثر الذي في حوزتي؛ الصليب الفريد الذي وجدتُه في
الكهف. لا يبدو أن تعلُّقَه بالأمر تعلُّقٌ دينيٌّ أو متطرفٌ؛ فلا يبدو أنه يُحرِّكه أيُّ شغف
غير شغف جمع التُّحف. وهذا أحد الأسباب التي تجعلني واثقًا من أنه رجل من الغرب لا
من الشرق، لكن تلك التحفة بالتحديد يبدو أنها دفعته للجنون التام.
ثم جاءت تلك الأنباء، التي لم تتأكد صحتُها بعد، حول العثور على أثر مشابه على
جثة محنطة بمقبرة في ساسكس. لو كان يعتبر مهووسًا قبل ذلك، فقد حوَّله ذلك الخبرُ إلى
مجنون ممسوس بسبعة شياطين. أن يكون هناك صليبٌ واحد ويكون بحوزة رجل غيره
لهو أمر سيِّئ بما يكفي بالنسبة له، لكن أن يكونَا اثنين لا يملك أيٍّا منهما، فذاكضرب
من العذاب لا يطيقه. بدأت رسائله المجنونة تنهال عليَّ كسيلٍ من السهام المسمومة، وكلٌّ
منها كانت تؤكد بثقةٍ أكبر من سابقتها أن الموت سيدركني في اللحظة التي أمدُّ فيها يدي
غير المستحِقة نحو الصليب الذي في المقبرة.
لن تعرف أبدًا من أكون، لن يردَ اسمي على لسانك، ولن ترى وجهي؛ » : كتب يقول
ستموت دون أن تعرف مَن قتلك. قد أكون واحدًا من المحيطين بك متخذًا أيَّ هيئة، لكنها
«. ستكون الهيئة الوحيدة التي ستسهو عن النظر إليها
استنتجتُ من تلك التهديدات أنه على الأرجح سيتبعني كظلِّي في تلك الرحلة وسيحاول
سرقةَ الأثر أو يُلحق بي أذًى نظرًا لحيازتي له، لكن لأني لم أرَه قط في حياتي، فقد يكون
أيَّ رجل أقابله. منطقيٍّا، قد يكون أيٍّا من النُّدُل القائمين على خدمة طاولتي. وقد يكون أيٍّا
«. من الركاب الجالسين معي على الطاولة
«. وقد يكون أنا » : قال الأب براون بابتهاج مستخفٍّا بقواعد اللغة
قد يكون أي شخص آخر. هذا مقصدي مما قلته للتو. أنت » : أجابه سميل بجدية
«. الرجل الوحيد الذي أثق بأنه ليس غريمي
حسنًا، من الغريب أنني لستُ » : بدا الحرج على الأب براون مرة أخرى؛ ثم قال مبتسمًا
غريمك. ما يجب أن نفكر فيه هو هل لدينا فرصة لمعرفة إن كان حقٍّا هنا قبل … قبل أن
«. يأتيَ بتصرف بغيض
أظن أن ثمة فرصةً واحدة كي نكتشف » : رد البروفيسور بشيء من العبوس والتجهم
ذلك. عندما نصل إلى ساوثامبتون، سأستقلُّ على الفور سيارة ستسير بمحاذاة الساحل؛
سيسرني إن رافقتني، لكن بطبيعة الحال، سيتفرق شملُ جمعنا الصغير ذاك. فإن ظهر
أيٌّ منهم مرة أخرى في ساحة تلك الكنيسة الصغيرة على ساحل ساسكس، فسنعلم من
«. يكون حقٍّا
نُفِّذ برنامج البروفيسور بحذافيره، على الأقل فيما يخص السيارة التي استقلَّها معه
الأب براون. سارت السيارة بسلاسة في الطريق الذي يحدُّه البحر من جانب ومن الجانب
الآخر تلال هامبشير وساسكس، ولم يُرَ أيُّ أثر يشير إلى أن هناك من يلاحقهم. عندما
اقتربَا من قرية دولهام، لم يصادفَا أيَّ شخص له صلة بالأمر الذي جاءَا من أجله سوى
رجل واحد؛صحفيٍّا كان قد انتهى للتو من زيارته للكنيسة الصغيرة التي نُقبَ عنها حديثًا،
صحِبه خلالها راعي الكنيسة بكل وُدٍّ ولياقة، لكن تعليقاته وملاحظاته بدَتْ من النوع
الصحفي العادي، لكن البروفيسور سميل ربما كان متوهمًا بعضَ الشيء؛ إذ لم يستطع
أن يصرف عنه ذلك الشعور الذي راوده بأن ثمة أمرًا غريبًا ومنفِّرًا في أسلوب ذلك الرجل،
الذي كان طويلًا وغير مهندم، وذا أنف معقوف وعينَين غائرتَين، وشاربَين متهدلَين لأسفل
في كآبة. لم يبدُ أن تجربته الأخيرة كسائح قد أسعدته كثيرًا؛ بل بدا أنه يسير مبتعدًا عن
الأنظار بأسرع ما يمكنه عندما استوقفاه ليطرحَا عليه سؤالًا.
الأمر كلُّه يتعلق بلعنة؛ لعنة حلَّت على المكان، حسبما يقول دليلُ السياح، أو » : قال
القَسُّ، أو أقدم السكان، أو أيٍّا كان مرجع تلك القصة؛ وفي الواقع، يبدو لي الأمر كذلك.
«. وسواء كان هناك لعنة أم لا، أنا سعيد أني خرجت من ذلك المكان
«؟ هل تؤمن باللعنات » : سأله سميل بفضول
أنا لا أومن بأي شيء؛ فأنا صحفي — اسمي بون وأعمل » : أجاب المخلوق البائس
لكنَّ ثمة أمرًا مخيفًا بشأن ذلك السرداب؛ ولن أنُكر أنه جعل بدني .« ديلي واير » بصحيفة
ثم تابع طريقه إلى محطة القطار بخطًا أكثر تسارعًا. «. يقشعر
ذلك الرجل يبدو لي كالغراب النواح. » : علَّق سميل وهما يلتفتان ناحية ساحة الكنيسة
«؟ ماذا كان ذلك المثل الذي يقال عن الطائر نذير الشؤم
دخلَا ببطء إلى ساحة الكنيسة وقد تعلَّقت عينَا عالم الآثار الأمريكي بإعجاب بالسقف
المعزول الفريد للبوابة المسقوفة للساحة، وشجرة الطقسوس الضخمة المثمرة التي بدت
كالليل الحالك في وضح النهار. كان المسار يصعد لأعلى وسط مرج متدرج استقرت فيه
شواهدُ القبور مائلة بزوايا مختلفة كأنها قواربُ حجرية مبعثرة على صفحة بحر أخضر،
حتى وصل بهم إلى حافة التل الذي امتدَّ وراءَه البحرُ الواسع كقضيب حديدي، تُزيِّنُه
أضواء باهتة لونها كالفولاذ. بدأ العشب الكثيف الخشن تحت أقدامهما يتحول إلى كومة
من نبات القرصعنة البحرية وانتهى برمال ذات لون أصفر مختلط بالرمادي؛ وعلى بُعد
قدم أو اثنتين من القرصعنة، وقف جسدٌ بلا حَراك، وقد بدت هيئتُه معتمة قُبالةَ البحر ذي
اللون الفولاذي. لولا ملابسُه الرمادية الداكنة، لربما بدا كتمثال يقف على نُصب تذكاري
كئيب، لكنَّ شيئًا ما بكتفيه الأنيقتَين المنحنيتَين ولحيته القصيرة البارزة للأمام في عبوس
بدا مألوفًا للأب براون في الحال.
يا للعجب! إنه ذلك الرجل الذي يُدعى تارانت، إن صح » : قال عالم الآثار باندهاش
أن نسمِّيَه رجلًا. هل كنتَ تظنُّ عندما تحدثت إليك على متن السفينة أنني سأحصل على
«؟ إجابة لسؤالي بتلك السرعة
«. بل ظننتُ أنك ربما تحصل على إجابات عدَّة » : أجابه الأب براون
«؟ ماذا تعني » : تساءل البروفيسور وهو يرمقه بنظرة من فوق كتفه
أعني أنني ربما سمعتُ أصواتًا قادمة من خلف شجرة » : أجاب الآخر بهدوء
الطقسوس. ولا أظن أن السيد تارانت وحيدٌ كما يبدو؛ بل قد أزعم أنه وحيد تمامًا
«. كما يحب أن يبدو
بينما كان تارانت يلتفت ببطء بطريقته الكئيبة، جاءهم التأكيد؛ فقد قال صوتٌ آخر
وكيف كان لي أن أعرف » : عالٍ به شيء من الغلظة، لكنه مع ذلك أنثوي، بسخرية محنكة
شعر البروفيسور سميل أن تلك الملاحظة المرِحة لم تكن موجَّهةً إليه؛ «؟ أنه سيكون هنا
لذا كان عليه أن يستنتج بشيء من الارتباك والحيرة أن ثمة شخصًا ثالثًا موجودًا. عندما
خرجت السيدة ديانا ويلز من خلف ظلال شجرة الطقسوسفي تألُّق وعزم كعهدها دائمًا،
لاحظَ في تجهُّمٍ أن ثمة ظلٍّا حيٍّا يرافقها. وفي الحال ظهر من وراء قوامها المتوهج، السيد
ليونارد سمايث الكاتب المتملق، بجسده النحيل المتأنق، مبتسمًا وقد أمال رأسه قليلًا إلى
أحد الجانبين كما يفعل الكلب.
خبثاء! إنهم جميعًا هنا! جميعهم عدا ذلك الرجل الهزلي الضئيل ذي » : تمتم سميل
«. الشاربين اللذَين يُشبهان شوارب حصان البحر
سمع الأب براون يضحك بصوت منخفض بجواره؛ وقد بدأ الوضع حقٍّا يتحول إلى
شيء يتجاوز حدودَ الهزل المضحك. لقد بدا المشهد وقد انقلب رأسًا على عقب وراح يقع على
آذانهم كوقع خدعة سحرية صامتة؛ فحتى بينما كان البروفيسور يتحدث، كانت كلماته
تُلاقَى بنقيض شديد الهزلية. فجأةً، خرج الرأس المستدير ذو الشارب الأسود الهلالي
المضحك من حفرة في الأرضعلى ما يبدو. وأدركَا بعد لحظات أن هذه الحفرة ما هي إلا
حفرة كبيرة للغاية، تؤدي إلى سلَّم ينحدر إلى باطن الأرض؛ وأن تلك الحفرة في الواقع هي
مدخل الموقع الذي أتيَا لزيارته تحت الأرض. كان الرجل الضئيل هو أول من وجد المدخل،
ولم يكد يهبط درجة أو اثنتين من السلَّم حتى أخرج رأسه مرة أخرى لمخاطبة رفقاء
كان كل .« هاملت » سفره. كان يبدو كحفار قبور شديد الحُمق في محاكاة ساخرة لمسرحية
أدرك باقي أفراد الجمع «. إنها هنا بالأسفل » : ما قاله من وراء شاربه الكثِّ وبصوت أجشَّ
فجأةً أنهم بالكاد سمعوه يتحدث من قبل، مع أنهم شاركوه الطاولة نفسها أثناء الوجبات
لمدة أسبوع، وأنه كان يتحدث بلكنة أجنبية مستترة نوعًا ما مع أنه يُفترض أنه محاضر
إنجليزي.
كما ترى أيها البروفيسور العزيز، لقد أثارت » : صاحت السيدة ديانا بابتهاج شديد
مومياؤك البيزنطية حماسَنا للغاية فلم نشأْ تفويت رؤيتها. لقد اضطُررتُ ببساطة أن آتيَ
لأراها؛ وأنا واثقةٌ أن السادة الأفاضل شعروا بالشيء نفسه. والآن يجب أن تُخبرَنا بكلشيء
«. عنها
لا أعرف كلَّشيء عنها. بل إنني بشكل » : قال البروفيسور بنبرةٍ جادةٍ بل، قُل بعبوس
ما لا أعرف حتى ماهية الموضوع كله. بالطبع يبدو من الغريب أن نلتقيَ جميعًا مجددًا
بتلك السرعة، لكني أعتقد أن التعطُّش للمعلومات في عصرنا الحالي لا حدود له، لكن إنْ
كنا جميعًا سنزور الموقع، يجب أن نفعل ذلك بأسلوب مسئول، واسمحوا لي أن أقول، تحت
قيادة مسئولة. يجب أن نُخطِر الشخص المسئول عن عمليات التنقيب تلك؛ وربما يكون
«. علينا أن ندوِّن أسماءنا في سجلٍّ على الأقل
تبِع ذلك التصادمَ بين استعجال السيدة وشكوك عالم الآثار شيءٌ أقرب إلى الجدال؛
لكن في النهاية انتصر إصرارُ الأخير على حفظ الحقوق الرسمية لراعي الكنيسة وجهات
التنقيب المحلية؛ وخرج الرجل الضئيل الحجم ذو الشارب على مضض من قبره مجددًا،
وصعِد السلم مذعنًا في صمتٍ وقد خبا حماسه. لحسن الحظ، ظهر القَسُّ بنفسه في تلك
اللحظة؛ كان رجلًا أشيب الشعر حسن الطلعة، له ظهرٌ منحنٍ، عزَّز من تأثيره نظارتُه
ذات العدسات الثنائية؛ وبينما كان يتعرف بطريقة وديةسريعة على البروفيسور باعتباره
أثريٍّا زميلًا، لم يبدُ أن نظرته إلى المجموعة غير المؤتلفة التي ترافقه تحمل عداءً بقدر ما
حملت تندُّرًا.
أتمنى ألَّا يكون فيكم مَن يتَطَيَّر. عليَّ أن أخُبرَكم بادئَ بدءٍ » : قال القَسُّ بأسلوب وود
أن جميعَ نُذُر الشؤم واللعنات تحلِّق فوق رءوسنا نحن المهتمين بهذا الشأن كما يُعتقَد.
كنت للتوِّ أفكُّ شفرة نقش لاتيني وُجد على مدخل الكنيسة، ويبدو لي أن ثمة ما لا يقلُّ
عن ثلاث لعنات مرتبطة بذلك الأمر؛ لعنة تُصيب من يدخل إلى الحجرة المغلقة، ولعنة
مزدوجة تُصيب من يفتح التابوت، ولعنة ثلاثية، وهي أبشعُها جميعًا، تُصيب من يمسُّ
وقد جلبتُ على نفسي اللعنتَين الأوليَين، لكني » : ثم أضاف مبتسمًا «. الأثر الذهبي بداخله
أخشى أنكم إن أردتم رؤيةَ أيِّ شيء، فستضطرون إلى الوقوع في اللعنة الأولى وهي أقلُّها
ضررًا. وفقًا للقصة، تحلُّ تلك اللعنات، على نحوٍ بطيءٍ نوعًا ما، على فترات متباعدة وفي
ثم ابتسم السيد «. أوقات لاحقة. لا أعلم ما إذا كان ذلك مطمئنًا بأي حال بالنسبة لكم
والترز الموقَّر مجدَّدًا بأسلوبه الواهن السمح.
«؟ قصة! أي قصة تلك » : كرَّر البروفيسور سميل
هي قصة طويلة للغاية تنوعت رواياتُها، كباقي الأساطير » : أجابه راعي الكنيسة
المحلية، لكنها بلا شك مزامنة لعصرتلك المقبرة؛ وفحواها مُضمن في ذلك النقش وسأرويه
لكم بصورةٍ تقريبيةٍ: أعُجب جاي دي جيسور، أحدُ لوردات الضيعة الإقطاعية هنا في
القرن الثالث عشر، بحصان أسود جميل يمتلكه مبعوثٌ من جنوة، وأبى ذلك الأمير الذي
كان تاجرًا عمليٍّا أن يبيعه إلا بثمن باهظ. دفع الجشع جاي لنهب الضريح، وحسب
إحدى الروايات، قتل الأسقف، الذي كان يقيم هناك حينها. على كل حال، تلا الأسقف
لعنة تحلُّ بأي شخص يستمر في إبعاد الصليب الذهبي عن مستقرِّه بمقبرته، أو يتخذ
أيَّ خطوات لتحريكه بعد إعادته لها. جمع اللورد الإقطاعي المال اللازم لشراء الحصان
ببيع الأثر الذهبي إلى صائغ ذهب بالبلدة، لكن في أول يوم يمتطي فيه الحصان، شبَّ
الحصان وطرحه أمام شرفة الكنيسة، فانكسر عنقُه. في تلك الأثناء، وقعت عدةُ حوادث لا
تفسير لها أدَّت لإفلاس الصائغ الذي كان رجلًا ثريٍّا مترفًا قبل ذلك، فوقع في براثن مُرابٍ
يهودي يعيش في الإقطاعية. في النهاية، قام الصائغُ البائس الذي لم يتبقَّ له شيءٌ سوى
الجوع، بشنق نفسه على شجرة تفاح. كان الصليب الذهبي بالإضافة إلى جميع بضائعه
الأخرى، ومنزله، ومتجره، ومعداته، آلت جميعًا منذ وقت طويل إلى المرابي. في تلك الأثناء،
دفعت صدمة ابن اللورد الإقطاعي ووريثه من القصاصالإلهي الذي حلَّ بوالده المهرطق،
لأن يصير مؤمنًا متدينًا بالمعنى المظلم المتشدِّد الذي ساد في ذلك العصر، وأخذ على عاتقه
القضاءَ على كل أشكال الهرطقة والكفر بين التابعين لمقاطعته. وهكذا وبأمر من الابن حُرِق
اليهودي، الذي كان الأب يَقبلُ بوجوده على مضض، ليُعاقَب بدوره على حيازته للصليب
الأثري. بعد تلك العقوبات الثلاث، أعُيد الصليب إلى مقبرة الأسقف، ومنذ ذلك الحين، لم
«. تره عينٌ أو تلمسه يد
من المخيف حقٍّا » : كان الانبهار الذي بدا على السيدة ديانا ويلز يفوق المتوقع. قالت
«. أن نفكر أننا سنكون أولَ من يدخل، باستثناء راعي الكنيسة
لم يدخل المبادر ذو الشارب الكث واللكنة الإنجليزية الركيكة عن طريق سُلَّمِه المفضل،
والذي لم يكن يستخدمه فعليٍّا سوى بعضالعمال القائمين على أعمال التنقيب؛ فقد قادهم
القَسُّ إلى مدخل أكبر وأكثر سهولة وملاءمة يبعد حوالي مائة ياردة، والذي كان قد خرج
عبره إبَّان بحثِه تحت الأرض. كان النزول هنا عن طريق انحدار تدريجي بعضَالشيء لم
يكتنفْه أيُّ صعوبات عدا العتمة المتزايدة؛ إذسرعان ما وجدوا أنفسهم يسيرون في طابور
واحد عبر نفق حالك الظلام، ولم يمرَّ وقتٌ طويل قبل أن يرَوا بصيصضوء أمامهم. خلال
تلك المسيرة الصامتة، سُمع مرة صوتٌ أشبه بلهاث تعذَّر تحديدُ صاحبِه؛ ومرة سُمِع قَسَمٌ
كان وقْعُه كانفجار مكتوم، نُطِق بلغة مجهولة.
خرجوا من النفق إلى حجرة دائرية كالكاتدرائية، تقع داخل حلقة من الأقواس
الدائرية؛ فقد شُيِّدت تلك الكنيسة قبل أن يخترق أول قوس مدبَّب، والذي يميز العمارة
القوطية، حضارتنا كالرمح. حدَّد بصيصٌ من ضوء مائل للخضرة بين بعض الأعمدة
موضعَ الفُتحة الأخرى التي تؤدي إلى العالم العلوي، وأضفى شعورًا غامضًا بأنهم في
أعماق البحر، وهو الشعور الذي تعزَّز ببضعة تشابهات أخرى عرضية أو ربما كانت
تخيلية. فقد أمكن بصعوبة رؤيةُ نقش أسنان الكلب الذي يميز العمارة النورمانية يحيط
بجميع الأقواس مما جعلها، بوجودها فوق عتمتها المجوفة، تُشبه فكوكَ أسماك القرش
المتوحشة. وبدا جوفُ المقبرة المعتمة نفسها في المنتصف، بغطائها الحجري المرفوع عنها،
أشبه بفكَّي وحش بحري عظيم.
كان القَسُّ الهاوي للآثار قد رتب لإضاءة الكنيسة بواسطة أربعِ شمعاتٍ طوالٍ
استقرت في شمعدانات خشبية مثبتة في الأرض فقط، ربما لشعوره بأنها ملائمة أو ربما
لعدم امتلاكه وسائلَ إنارة أحدث. لم يكن يضيء منها سوى شمعة واحدة فقط عندما
دخلوا، وكانت تُلقي ببصيص ضوء خافت على الأشكال المعمارية المهيبة. عندما تجمعوا
كلهم، بدأ القَسُّ في إشعال الشمعات الثلاث الأخرى، فاستبان لهم أكثرُ شكل التابوت
الحجري العظيم ومحتوياته.
اتجهت جميعُ الأنظار أولًاصوب وجه الرجل الميت، الذي ظل جثمانه محفوظًا على مرِّ
كل تلك العصور التي خُطَّت في دفتر الحياة بواسطة عمليةشرقيةسرية، يقال إنها متوارثة
من العهد الوثني القديم وغير معروفة في مقابر جزيرتنا. بالكاد استطاع البروفيسور أن
يكتم صيحة اندهاش؛ فقد كان الوجه شاحبًا كقناع من الشمع، إلا أنه بدا كوجه رجل
نائم، أغمضعينَيه للتو. كان للوجه سماتُ الزهد، أو ربما حتى التشدد؛ إذ كانت عظامه
بارزة، بينما كان الجسد مكسوٍّا برداء كاهن ذهبي وثياب كهنوتية فخمة، وفي أعلى صدره
عند قاعدة عنقه تألق الصليب الذهبي الذي كان متدلِّيًا من سلسلة ذهبية قصيرة أو
بالأحرى عِقد. كان التابوت الحجري قد فُتح برفع غطائه لأعلى وإسناده إلى قائمَين أو
عمودَين خشبيَّين متينَين، مثبَّتَين لأعلى تحت حافة اللوح العلوي وحُشِرطرفاهما السفليان
في زاويتَي التابوت خلف رأس الجثة؛ لذا لم يُرَ الكثير من قدمَي الرجل أو الجزء السفلي
منه، لكن ضوء الشموع كان مُسلطًا بالكامل على وجهه، وعلى نقيضبشرته الشاحبة، بدا
الصليب الذهبي يلمع ويتوهج كشعلة لهب.
حمل جبينُ البروفيسور سميل العريض تقطيبةً تنمُّ عن تأملٍ شديدة، أو ربما قلق،
منذ روى القَسُّ قصةَ اللعنة. لكنَّ الغريزة الأنثوية متأثرة بالانفعال الأنثوي، فسَّرت معنى
وجومه ذاك أفضل من جميع الرجال حوله. ووسط سكون ذلك الكهف الذي ينيره ضوءُ
«! حذار، لا تلمسْه » : الشموع، صاحت السيدة ديانا فجأة
لكن الرجل كان قد أتى بالفعل بإحدى حركاته السريعة التي تُشبه حركات الأسد،
مائلًا بجسده فوق الجثة. وفي الحال هرعوا جميعًا، بعضهم للأمام وبعضهم للخلف، لكنهم
جميعًا خفضوا رءوسهم مرتاعين وكأنما ستسقط عليهم السماءُ.
بمجرد أن لمس البروفيسور الصليب الذهبي بإصبعه، انتفضت الدعامتان الخشبيتان
اللتان انحنيتا انحناءةً بسيطة للغاية لدعْم الغطاء الحجري المرفوع، واستقامتا فجأةً.
وانزلق طرفُ اللوح الحجري من مسنده الخشبي؛ وشعروا جميعًا في أرواحهم وأجسادهم
بالهلاك ينقضُّعليهم وكأنهم سقطوا جميعًا من فوق حافة جرف. كان سميل قد سحب
رأسهسريعًا لكن ليس في الوقت المناسب؛ ليرقد فاقدَ الوعي بجوار التابوت وسط بركة من
الدماء سالت من فروة رأسه أو جمجمته. وأغُلِق التابوت الحجري القديم مرة أخرى كما
لو كان لقرون عديدة، لا يفصل بينه وبين غطائه سوى بضع شظيات أو أعواد خشبية
انحشرت في الفجوة بينهما، تُوحي بشاعتُها وكأنها بقايا عظام سحقها غول، وأطبق
الوحش البحري فكَّيه الحجريَّين.
كانت السيدة ديانا تُحدق في الحطام بعينَين اشتعلتا ببريق كمن صعقه الجنونُ؛ وبدا
شعرُها الأحمر قرمزيٍّا إزاء شحوب وجهها في الضوء الخافت المخضر. كان سمايث ينظر
إليها برأسه المائل الذي يشبه الكلب، لكن التعبير الذي ارتسم على وجهه كان ككلب ينظر
إلى سيده الذي لحقت به كارثةٌ لا يستطيع فهْمَ جميع جوانبها. تصلَّب تارانت والرجل
الأجنبي في وضعهما المتجهم المعتاد، لكنَّ وجهَيهما تحوَّلا إلى لون الِملاط. وبدا أن راعي
الكنيسة قد أغُشيَعليه. وكان الأب بروان جاثيًا بجوار الرجل الطريح الأرض، محاولًا تبيُّنَ
حالته.
واندهش الحاضرون بعضَ الشيء عندما تقدَّم المتبطل الكئيب بول تارانت كي
يساعدَه.
من الأفضل أن نحملَه إلى الخارج في الهواء الطلق. أعتقد أنه قد يكون أمامه » : قال
«. فرصةٌ ضئيلة للنجاة
إنه لا يزال على قيد الحياة، لكني أعتقد أن إصابته » : قال الأب براون بصوت خافت
«؟ خطيرة؛ أنت لستَ طبيبًا بأي حال، أليس كذلك
بلى؛ ولكن الظروف أرغمتني على تعلُّم الكثير من المهارات خلال حياتي. » : قال الآخر
«. لكن دعْك مني الآن. فمهنتي الحقيقية ربما ستكون مفاجأةً بالنسبة لك
لا أعتقد ذلك. لقد خمَّنتُها في منتصف الرحلة. أنت » : ردَّ الأب براون بابتسامة بسيطة
محقق تراقب شخصًا ما. حسنًا، على أي حال، لقد صار الصليب في مأمن من اللصوص
«. الآن
أثناء حديثهما، رفع تارانت جسدَ الرجل الصريع الهزيل بقوة ومهارة وبلا أدنى
صعوبة، وكان يحمله بعناية باتجاه المخرج. وأجاب وهو ينظر من فوق كتفه:
«. أجل، الصليب آمنٌ تمامًا »
«؟ تقصد أن لا أحدَ عداه آمن؟ هل تفكر أنت أيضًا في اللعنة » : ردَّ براون
أمضىالأب براون الساعاتِ القليلة التالية مثقلًا بارتباك واجم يفوق صدمةَ الحادث
المأساوي. كان قد ساعد في حمْل الضحية إلى النُّزُل الصغير المقابل للكنيسة، وقابل الطبيب،
الذي ذكر أن الإصابة خطيرة، ولكنها ليست مميتة حتمًا، وحمل تلك الأنباء إلى جمع
المسافرين الذين تجمَّعوا حول طاولة مستديرة في رَدْهة الاستقبال بالنُّزُل، لكن أينما كان
يذهب، كانت تُصاحبه سحابةُ الغموض التي كانت تحوم حوله وبدتْ تزداد قتامةً كلما
أمعن التفكير؛ فقد كان اللغز الرئيس يزداد غموضًا أكثر وأكثر، بقدر ما كانت العديد من
الألغاز الجانبية قد بدأت تتضح في ذهنه. وبقدر ما بدأ يتضح له سببُ وجود كل شخصية
في ذلك اللفيف المتنافر من المسافرين، كان تفسير ما حدث يزداد صعوبةً أكثر وأكثر.
لقد جاء ليونارد سمايث لمجرد أن السيدة ديانا أتت لا أكثر؛ والسيدة ديانا أتت لا لشيء
سوى أنها رغبت بذلك. كانا منغمسَين في واحدة من تلك النزوات العابرة التي ينغمس
فيها الصفوة، والتي يزيدها توشُّحُها برداء الثقافة سخافةً، لكن النزعة الرومانسية الحالمة
لدى السيدة كان يشوبها إيمانٌ بالخرافات؛ وكانت النهاية المريعة التي آلت إليها مغامرتُها
قد أنهكتها للغاية. أما بول تارانت، فكان محقِّقًا خاصٍّا، ربما يراقب تلك النزوة العابرة
بتكليف من زوج أو زوجة؛ أو ربما يتبع المحاضرالأجنبي ذا الشارب، الذي كانت سيماؤه
توحي إلى حدٍّ كبير بانطباع الغريب غير المرغوب بوجوده، لكن إن كان ينوي هو أو غيره
سرقةَ الصليب الأثري، فقد أحُبطت تلك النية في النهاية. وكما بدا لهم جميعًا، كان ما
أحبطها إما صدفة غريبة وإما تدخُّل اللعنة القديمة.
بينما كان يقف في حيرته غير المعهودة وسط الشارع القروي الكائن بين الكنيسة
والنُّزُل، شعر بشيء من الدهشة عند رؤية شخص قابله مؤخرًا لكنه لم يتوقع رؤيتَه
يسير في الشارع متقدمًا صوبَه. كان السيد بون الصحفي يبدو مرهقًا للغاية في ضوء
الشمس الذي أبرز ثيابَه الرثَّة التي تُشبه ثياب الفزَّاعة، وكانت عيناه الداكنتان الغائرتان
(المتقاربتان نوعًا ما على جانبَي أنفه الطويل المعقوف) مثبَّتتَين على القَسِّ. راح الأخير يُنعِم
النظرَ قبل أن يُدرك أن الشارب الكثَّ الداكن يُخفي وراءه ابتسامةً عريضة أو على الأقل
ابتسامة جادة.
ظننتُك سترحل. كنت أعتقد أنك غادرتَ بالقطار » : قال الأب براون بشيء من الحدة
«. منذ ساعتين
«. حسنًا، كما ترى، أنا لم أغادر » : قال بون
«؟ لمَ عدتَ » : سأله القَسُّ بصرامة واضحة
مثل هذا النوع من القرى الصغيرة الخلَّابة لا يغادره الصحفي على » : أجابه الآخر
عجَل. الأمور تتصاعد بوتيرة سريعة للغاية هنا، مما يجعل العودة إلى مدينةٍ كئيبةٍ مثل
لندن أمرًا لا يستحق العناء. علاوة على ذلك، لا يمكنهم إبعادي عن الأمر — أعني ذلك الأمر
الثاني. أنا من عثرتُ على الجثة، أو بأي حال، على الملابس. كان ذلك سلوكًا مثيرًا للريبة
للغاية من جانبي، أليسكذلك؟ لعلك تعتقد أني أردتُ أن أتنكَّر في ثيابه. ألن يبدوَ مظهري
«؟ لطيفًا كقَسٍّ
ثم قام المحتالُ النحيل ذو الأنف الطويل فجأةً بحركة استعراضية وسط السوق،
مادٍّا ذراعَيه وباسطًا يدَيه المكسوَّتَين بقفازَين داكنين في محاكاة ساخرة للتبريك، وقال:
«… إخواني وأخواتي الأعزاء، بإمكاني أن أحتضنَكم جميعًا »
صاح الأب براون وهو يضرب الحصى قليلًا بمظلته الغليظة؛ فقد كان صبرُه أقلَّ
«؟ عمَّ تتحدث » : بعضالشيء من المعتاد
إن سألتَ جماعةَ المسافرين اللطيفة في النُّزُل فسيخبرونك بكل » : أجاب بون بازدراء
شيء. يبدو أن ذلك المدعو تارانت يشتبه بي لا لسبب سوى أني مَن وجدتُ الثياب أولًا؛ مع
أنه كان سيجدها لو كان قد أبكر إليها بضع لحظات، لكن ثمة العديد من الألغاز تحيط
بذلك الأمر. ذلك الرجل القصير ذو الشارب الكبير ربما يُبطن أكثر مما يُظهر. بالمناسبة،
«. لا أرى ما يمنع أن تكون أنت من قتَل ذلك الرجل المسكين
لم يبدُ أن ذلك الاقتراح قد أثار انزعاجَ الأب براون بأي حال، لكن يبدو أن الملاحظة
هل تعني أني أنا من » : قد حيَّرته وضايقته إلى حدٍّ بالغ. قال ببساطة أقرب إلى السذاجة
«؟ حاولتُ قتل البروفيسور سميل
على الإطلاق، هناك ما يكفي من » : قال الآخر مشيحًا بيده كمن يقدِّم تنازلًا كبيرًا
الموتى لتختار بينهم. الأمر لا يقتصرعلى البروفيسور سميل. عجبًا، ألا تعلم أن رجلًا آخر
وُجِد ميتًا، ميتًا أكثر من البروفيسور سميل؟ ولا أرى ما يمنع أن تكون أنت مَن قتله،
بطريقه هادئة. بسبب الخلافات الدينية كما تعلم … أو التحسُّرعلى شتات العالم المسيحي
«. … أحسب أنك طالما أردت استعادة الأبراشيات الإنجليزية القديمة
سأعود إلى النُّزُل؛ أنت تقول إن الناس هناك يعرفون ما تقصده، » : قال القَسُّ بهدوء
«. وربما يستطيعون إخباري به
في الحقيقة، واجهت قلاقله ومشاغله الخفية تلاشيًا لحظيٍّا عقب سماعه أنباءَ تلك
الفاجعة الجديدة. وفي اللحظة التي دخل فيها إلى الردهة الصغيرة حيث تجمعتْ باقي
المجموعة، استشفَّ من وجوههم الشاحبة أنهم مصدومون من شيء أحدث من الحادث
إلى ماذا سينتهي » : الأخير الذي وقع بالمقبرة. وفي لحظة دخوله، كان ليونارد سمايث يقول
«؟ كلُّ ذلك
لن ينتهيَ، أؤكد لك، لن » : كررت السيدة ديانا وهي تحملق في الفراغ بعينين ذاهلتين
ينتهيَ حتى نهلكَ جميعًا. ستُجهز علينا اللعنة واحدًا تلو الآخر، ربما ببطء كما قال راعي
«. الكنيسة المسكين، لكنها ستُجهز علينا كما أجهزت عليه
«؟ ماذا حدث أيضًا » : سأل الأب براون
لقد انتحر السيد والترز » : ساد الصمت، ثم قال تارانت بصوت بدَا واهنًا بعضالشيء
راعي الكنيسة. أعتقد أن الصدمة أخلت بسلامته العقلية، لكني أخشىأن الأمر أكيد لا شك
فيه. فلم نعثر سوى على قبعته السوداء وثيابه على صخرة بارزة من الشاطئ. لقد قفز في
البحر على ما يبدو. أظن أنه كان يبدو كأن الصدمة قد أصابته بلوثة عقلية، وربما كان
«. علينا أن نعتنيَ به؛ لكن كان علينا الاعتناء بالعديد من الأمور هناك
لم يكن بإمكانك أن تفعل أيَّشيء. ألا ترى أن اللعنة تُنزِل بنا الهلاك » : قالت السيدة
بترتيب مريع؟ البروفيسور لمس الصليب، وقد جاء دوره أولًا؛ وراعي الكنيسة فتح المقبرة،
«… وجاء دوره ثانيًا؛ ونحن دخلنا الكنيسة فحسب، و
«. على رِسلك، يجب أن يتوقف هذا » : قال الأب براون بنبرة حادة نادرًا ما يستعملها
كان لا يزال قاطبًا جبينه بحدَّة دون أن يشعر، لكن غشاوة الغموض التي كانت في
يا لي من أحمق! كان » : عينيه لم يعُد لها وجود، وحلَّ مكانَها بريقُ الفهم المريع. تمتم قائلًا
«. عليَّ أن أرى ذلك منذ مدة طويلة. كان يجب أن أستشفَّه من قصة اللعنة
هل تعني أن شيئًا حدث في القرن الثالث عشريمكن أن يتسبب في قتلنا » : سأل تارانت
«؟ حقٍّا
لن أجادل بشأن ما إذا كان » : هزَّ الأب براون رأسه نفيًا وأجاب بنبرة تأكيدية هادئة
من الممكن أن نُقتل بفعل شيء حدث في القرن الثالث عشر؛ لكني متأكدٌ تمامًا من أننا لا
«. يمكن أن نُقتل بسببشيء لم يحدث قط في القرن الثالث عشر؛ بل لم يحدث على الإطلاق
«. حسنًا، يسرُّني أن أرى قَسٍّا يُشكك لتلك الدرجة في الغيبيَّات » : قال تارانت
على الإطلاق، أنا لا أشكك في جانب الغيبيَّات. بل في جانب الطبيعيات. » : ردَّ القَسُّبهدوء
بإمكاني أن أصدق ما هو مستحيل، » : فأنا أجد نفسي تمامًا في موضع الرجل الذي قال
«.« لكن لا يمكنني أن أصدق ما هو غير محتمل
«؟ هذا ما تسميه تناقضًا، أليس كذلك » : سأله الآخر
هذا ما أسميه المنطق البدهيَّ، حسب مفهومه الصحيح. أن » : أجاب الأب براون
نصدق قصة خارقة للطبيعة تتناول أمورًا لا نفهمها لهو أكثر بداهة من أن نصدق قصة
عادية تتعارض مع الأمور التي نفهمها. إن أخبرتني أن شبح بارنيل كان يطارد السيد
جلادستون العظيم في ساعاته الأخيرة، فسأقف موقفَ الحياد من ذلك، لكن إن أخبرتني
أن السيد جلادستون عندما مثل أمام الملكة فيكتوريا لأول مرة لم يخلع قبعته عندما دخل
غرفة استقبالها وصفعها على ظهرها وقدَّم لها سيجارًا، فلن أقف موقف الحياد من ذلك
إطلاقًا. فذلك ليس مستحيلًا؛ لكنه مستبعدُ الحدوث، لكنَّ ثقتي في أنه لم يحدث أكبرُ من
ثقتي بأن شبح بارنيل لم يظهر؛ لأن ذلك يتعارضمع قوانين العالم الذي أعرفه. وكذلك
«. الحال بالنسبة لقصة اللعنة. أنا لا أكُذِّب الأسطورة — بل التاريخ
كانت السيدة ديانا قد تعافت قليلًا من غشية نبوءاتها الكارثية، وبدأ فضولها الأزلي
تجاه كل ما هو جديد يطلُّ من عينَيها اللامعتَين الواسعتين مرة أخرى.
«؟ يا لك من رجل مثير للفضول! ما الذي يدفعك إلى تكذيب التاريخ » : قالت
أنا أكذِّب التاريخ لأنه ليس تاريخًا. في نظر أي شخصيتصادف » : أجاب الأب براون
أن يكون لديه معرفة ولو محدودة بالعصور الوسطى، ستبدو أرجحية القصة بأكملها
كأرجحية تقديم جلادستون سيجارًا للملكة فيكتوريا، لكن هل يعرف أيٌّ منا أيَّشيء عن
سالفو » العصور الوسطى؟ أتعرفين ماذا كانت الطائفة الحرفية؟ هل سمعت عن الشعار
«؟« سيرفي ريجيس » هل تعرفين مَن هم خدم البلاط الملكي المدعوون ؟« ماناجيو سو
«! لا، بالطبع لا أعرف. ما كل هذه الكلمات اللاتينية » : قالت السيدة بشيء من الغضب
بالطبع لا تعرفين. لو كان الأمر يخصُّ توت عنخ آمون ومجموعة » : قال الأب براون
من الأفريقيين ممن حُفظَت جثامينُهم لسبب لا يعلمه إلا لله في الجانب الآخر من العالم؛ أو
كان يخصُّبابل أو الصين؛ أو يخصُّسباقًا لتفسير أمرٍ غامضوتافه كالرجل الذي يُرى
في القمر، لأخبرتْكم صحفُكم بكلِّ شيء عنه، حتى أحدث اكتشاف لفرشاة أسنان أو زر
قميص، لكن الرجال الذين شيَّدوا كنائس أبراشياتكم، ومنحوا بلداتِكم ومهنَكم والطرقَ
التي تسيرون عليها أسماءَها، أولئك لم يخطر لكم قط أن تعرفوا أيَّشيء عنهم. أنا لا أدَّعي
أني أعرف الكثير عنهم، لكني أعرف ما يكفي لأرى أن القصة من بدايتها وحتى نهايتها
مجردُ سخافات ومحض هُراء. فالقانون حينها لم يكن يسمح للمرابين بالاستيلاء على
متجر شخص ومُعدَّاته. ومن غير المحتمل على الإطلاق ألا تتدخل الطائفةُ الحِرَفية لإنقاذ
رجل من براثن هذا الإفلاس التام، خاصة إذا كان على يد يهودي. لقد كان لأولئك القوم
مساويهم ومآسيهم؛ إذ كانوا يعذِّبون الناسَ ويحرقونهم في بعض الأحيان، لكن فكرة أن
يُترك رجلٌ يزحف إلى موته، دون ربٍّ أو أملٍ في الحياة، لأن لا أحدَ يهتمُّ بحياته، فتلك فكرة
لا تتسق مع العصور الوسطى، بل هي نتاجُ تقدُّمِنا العلمي والاقتصادي. لم يكن اليهودي
ليصبحَ تابعًا للُّورد الإقطاعي؛ فقد كان لليهود مكانةٌ خاصة باعتبارهم خدمَ الملك. وفوق
«. ذلك كلِّه، لا يمكن أن يكون اليهودي قد حُرِق بسبب ديانته
ها هي المتناقضات تتزايد، لكنك بالطبع لن تُنكر أن اليهود كانوا » : قال تارانت
«؟ مضطهدين في العصور الوسطى، أليس كذلك
سيكون الأقرب إلى الحقيقة القول إنهم كانوا الوحيدين الذين لم » : قال الأب براون
يتعرضوا للاضطهاد في العصور الوسطى. إن أردت أن تنتقد العصور الوسطى، يمكنك
أخطأ بشأن ألوهية » أن تُقيمَ حجة جيدة بالقول إن مسيحيٍّا فقيرًا قد يحرق حيٍّا إن
بينما يمكن ليهودي غني أن يسير في الطرقات مستهزئًا جهرًا بالمسيح وأمه. ،« المسيح
هكذا هي القصة. هي لم تكن قط قصة من العصور الوسطى، ولم تكن حتى أسطورة
ذاتصلة بالعصور الوسطى، بل هي قصة اختلقها شخصٌتشكَّلت مفاهيمه من الروايات
«. والصحف، وعلى الأرجح أنه قد ارتجلها دون سابق تفكير
بدا الآخرون مشدوهين قليلًا بذلك الاستطراد التاريخي، وبدَوا يتساءلون على نحوٍ
غامضلمَ يُصِرُّالقَسُّعلى التأكيد عليه ويعتبره جزءًا مهمٍّا من ذلك اللغز، لكن تارانت، الذي
كانت مهنته تقوم على التقاط التفاصيل المهمة من بين الاستطرادات العديدة المتشابكة،
انتبه فجأةً. كان ذقنه الملتحي بارزًا للأمام أكثر من ذي قبل، لكنَّ عينَيه الواجمتَين كانتا
«! آه، ارتجلها » : منتبهتَين تمامًا. قال
ربما كانت تلك مبالغة. كان أحرى بي أن أقول إنه اختلقها » : أقرَّ الأب براون بهدوء
على نحوٍ عابر ودون اهتمام أكثر من باقي تفاصيل الخطة المحبوكة بعناية غير عادية.
لكنَّ واضع الخطة لم يظنَّ أن أحدًا سيهتمُّ كثيرًا بتفاصيل تاريخ العصور الوسطى. وكانت
«. حسبته شبهَ صحيحة في العموم، كباقي حساباته
حسابات من؟ من الذي صحَّتْ » : سألت السيدة فجأة بانفعال من نفاد صبرها
حساباتُه؟ من ذلك الشخص الذي تتحدث عنه؟ ألا يكفينا ما خُضناه كي تجعل أبداننا
«؟ تقشعر بالحديث عن شخصمجهول
«. أنا أتحدث عن القاتل » : قال الأب براون
«؟ أيُّ قاتل؟ هل تعني أن البروفيسور المسكين قُتِل » : سألتْ بحدَّة
حسنًا، لا يمكننا أن نقول إنه قُتِل؛ » : قال تارانت المشدوه بفظاظة من وراء لحيته
«. فلسنا متأكدين أن أحدًا تعمَّد قتله
«. لقد قتَل القاتلُ شخصًا آخر غير البروفيسور سميل » : قال القَسُّ بجدية
قتَل » : ردَّ الأب براون بدقة «؟ مَن عساه أن يكون ذلك الآخر الذي قتله » : سأله الآخر
الموقر جون والترز، راعي كنيسة دولهام. لقد أراد قتْل هذين الرجلين فقط؛ لأن كليهما
«. وضع يده على أثرٍ عليه نقشٌ نادر. كان القاتل مهووسًا نوعًا ما بذلك الأمر
الأمر كلُّه يبدو شديد الغرابة. بالطبع لا يمكننا أن نجزمَ بموت راعي » : تمتم تارانت
«. كنيسة كذلك. فنحن لم نرَ جثته
«. بل رأيتموها » : قال الأب براون
ساد صمتٌ مفاجئ كضربة ناقوس؛ صمْت خمَّنت خلاله السيدة في عقلها الباطن
الذي كان في غاية النشاط والحدة ما كاد يدفعها للصراخ.
هذا بالضبط ما رأيتموه، لقد رأيتم جثته. لم ترَوا القَسَّ » : تابع القَسُّ كلامه قائلًا
الحقيقي حيٍّا؛ لكنكم رأيتم جثته بالفعل. وحدَّقتم إليها في ضوء أربع شمعات ضخمة؛
لم تكن تسبح في البحر بعد أن ألقى بنفسه فيه منتحرًا، بل كانت ترقد كجثة أحد أمراء
«. الكنيسة الكاثوليكية فيضريح شُيِّد قبل الحملة الصليبية
ببساطة، أنت تطلب منا أن نصدق أن تلك الجثة المحنطة هي في الحقيقة » : قال تارانت
«. جثة رجل مقتول
كان أول ما لاحظته بشأنها هو الصليب؛ » : صمت الأب براون برهة؛ ثم قال في لامبالاة
أو بالأحرى السلسلة التي كان يتدلَّى منها. لقد كان بالنسبة لأغلبكم، بطبيعة الحال، مجردَ
عقد من الخرز لا يميِّزه شيءٌ؛ لكن بطبيعة الحال أيضًا، كان ذلك الأمر يقع في مجال
اختصاصي أكثر منكم. تذكرون أنه كان يستقرُّ بالقرب من ذقنه، ولا يظهر منه سوى
بضع خرزات، ما أظهر العِقد وكأنه عِقدٌ قصير للغاية، لكن الخرزات الظاهرة كانت
منظومة بترتيب خاص: خرزة واحدة تليها ثلاثٌ ثم خرزة واحدة وهكذا؛ في الواقع، أدركت
بمجرد أن لمحتُها أنها مِسْبَحةٌ عادية في طرفها صليبٌ، لكن الِمسْبَحَة يكون بها على الأقل
خمسمجموعات من عشرخرزات، إلى جانب خرزات إضافية؛ وبطبيعة الحال تساءلتُ أين
ذهب باقي الخرز. كان طولها كافيًا لتلتفَّ حول عنق الرجل العجوز أكثر من مرة. لم أفهم
ذلك حينها، ولم أدُرك أين يمكن أن يكون قد ذهب باقي طولها إلا فيما بعد. كانت ملفوفةً
عدة لفات حول قاعدة الدعامة الخشبية المثبتة في جانب التابوت لإبقاء غطائه مرفوعًا؛ لذا
بمجرد أن جذب سميل المسكين الصليب، تحركت الدعامة من مكانها وسقط الغطاء على
«. جمجمته كهِراوة حجرية
يا للهول! لقد بدأتُ أظنُّ أنك محقٌّ فيما تقول. يا لها من قصة غريبة » : قال تارانت
«! إن كانت حقيقية فعلًا
حين أدركتُ ذلك، استطعت تخمين ما تبقَّى نوعًا ما. تذكروا، » : تابع الأب براون قائلًا
قبل كل شيء، أنه لم يكن ثمة أيُّ خبير آثار مسئول مصرَّح له بالقيام بأكثر من مجرد
الاستكشاف. كان والترز العجوز المسكين أثريٍّا نزيهًا، عمَد إلى فتح المقبرة كي يكتشفَ
ما إذا كانت أسطورة الجثث المحنطة بها أي شيء من الحقيقة. أما الباقي فكان محض
شائعات، كالتي تستبق عادةً تلك الاكتشافات أو تُضخِّمها. في الواقع، لقد وجد أن الجثة لم
تُحنَّط، بل تحوَّلت إلى ترابٍ منذ زمنٍ بعيد. فقط بينما كان يعمل هناك على ضوء شمعته
«. الوحيدة في أعماق تلك الكنيسة الغارقة، رأى في ضوئها ظلٍّا آخر ليس بظلِّه
أوه! أفهم الآن ما تعنيه. أنت تقصد أن » : صاحت السيدة ديانا وهي تلتقط أنفاسها
تُخبرنا أننا قابلنا القاتل وتحدَّثنا معه ومازحْناه، وسمعنا منه قصة خيالية، ثم تركناه
«. يغادر في سلام دون أن يمسَّه سوءٌ
بعد أن ترك زيَّه التنكُّريَّ على صخرة. الأمر كله بسيط » : قال الأب براون موافقًا إياها
للغاية. لقد سبق هذا الرجل البروفيسور سميل في السباق إلى ساحة الكنيسة وإلى داخلها،
ربما أثناء حديث البروفيسور مع ذلك الصحفي الكئيب. وتسلَّل خلف رجل الدين العجوز
الواقف بجوار التابوت الخاوي ثم قتله. ثم تنكَّر في رداء القَسِّ الأسود بعد أن نزعه عنه،
وألبسجثتَه عباءةً قديمة كانتضمن الآثار الحقيقية التي اكتُشفت أثناء البحث، ووضعها
داخل التابوت، ثم وضع المسبحة حول عنقه ولفَّها حول الدعامة الخشبية على النحو الذي
وصفته. وهكذا، وبعد أن انتهى من نصْب الفخِّ لغريمه الثاني على هذا النحو، صَعِد لأعلى
«. حيث ضوءُ الشمس، وحيَّانا جميعًا بكل أدبٍ ووُدٍّ كعادة رجال الدين بالريف
لكنه خاطر كثيرًا بأن يتمكن أحدٌ من التعرف على والترز » : عارضه تارانت قائلًا
«. بالنظر
أقُرُّ بأن به قدرًا من الجنون، وأعتقد أنك ستقرُّ بأن المخاطرة » : وافقه الأب براون قائلًا
«. كانت تستحق أن يخوضها؛ فقد أفلت بفعلته في النهاية
«؟ أقُرُّ بأنه محظوظ للغاية. ومن هو بحق الشيطان » : همهم تارانت متبرمًا
كما قلت، لقد كان محظوظًا للغاية، خاصة فيما يتعلق بذلك الأمر. » : أجابه الأب براون
نظر إلى الجالسين على الطاولة «. فربما يكون هذا هو الشيء الوحيد الذي لن نعرفه أبدًا
لقد ظل ذلك الرجل يحوم حول البروفيسور ويهدِّده » : مقطِّبًا جبينَه لوهلة ثم تابع قائلًا
لسنوات، لكن أكثر ما كان حريصًا عليه هو أن تظلَّ هُويَّته سرٍّا؛ وقد نجح في ذلك حتى
الآن، لكن إن تعافى سميل المسكين، وأظن أنه سيتعافى، يمكنني أن أجزم أنكم ستعرفون
«. أكثر عن الأمر
«؟ ماذا سيفعل البروفيسور سميل في ظنِّك » : سألت السيدة ديانا
أظن أن أول شيء سيفعله هو أن يُطلق المحقِّقين كالكلاب خلف ذلك » : قال تارانت
«. الشيطان القاتل. وسيسرني أن أجرِّب حظِّي في القبضعليه بنفسي
أظنني أعرف » : قال الأب براون مبتسمًا فجأة بعد فترة طويلة من الحيرة الواجمة
«. أولشيء يجب أن يفعله
«؟ وما هو » : سألت السيدة ديانا بلهفةٍ رقيقة
«. يجب أن يعتذر إليكم جميعًا » : قال الأب براون
لكن الأب براون لم يأتِ على ذكْر تلك النقطة إلى البروفيسور سميل وهو يجلس
إلى جوار سرير عالم الآثار البارز أثناء تماثله البطيء للشفاء. والواقع أن الأب براون لم
يكن هو المستأثر بالحديث؛ فمع أن البروفيسور كان مسموحًا له بجرعات محدودة من
الحديث لتنشيط حواسِّه؛ فقد ركز معظمه في لقاءاته مع صديقه القَسِّ. وكان الأب براون
يملك موهبةَ الصمت على نحوٍ يستحثُّ الآخر على الحديث، وقد كان صمته يستحثُّ سميل
على الحديث عن العديد من الأمور الغريبة التي لا يسهل دائمًا الحديث عنها؛ مثل أطوار
النقاهة الوبيلة والكوابيس المرعبة التي غالبًا ما تُصاحب الهذيان. عادة ما يكون التعافي
ببطء منضربة عنيفة على الرأس مصحوبًا بتشوش وخلل في الاتزان، وعندما يكون ذلك
الرأسمثيرًا للاهتمام كرأسالبروفيسور سميل، فحتى خيالاته المشوهة واضطراباته تميل
لأن تكون إبداعيةً ومثيرة للفضول. كانت أحلامه مثل تصاميم جريئة وضخمة لا تخضع
لقواعد الرسم نوعًا ما؛ إذ يمكن رؤيتُها في الفنون القوية والجامدة القديمة التي درسها؛
فكانت تعجُّ بقديسين غريبي الأشكال تحيط برءوسهم هالاتٌ مثلثة ومربعة، وتيجان
ذهبية وهالات مجد ضوئية مبهرة تحيط بوجوه مستديرة داكنة مفلطحة، ونسور قادمة
من الشرق وعمامات عالية يرتديها رجالٌ ملتحون يعقدون شعورَهم كالنساء. ثمة حلمٌ
واحد، حسبما أخبر صديقه، كان أبسطَ وأقلَّ تعقيدًا بكثير، وكان يتكرر باستمرار في
ذاكرته الواسعة الخيال؛ فكثيرًا ما كان يرى كلَّ تلك النقوش البيزنطية تختفي كالذهب
الباهت الذي رُسِمت عليه وكأنها مرسومة على النار، ولا يتبقى سوى الحائط الحجري
العاري المعتم الذي رُسِمَ عليه شكل السمكة اللامعة وكأنما رُسم بإصبع غُمِس في المادة
الفسفورية الموجودة بالأسماك. كان ذلك هو الرمزَ الذي رآه عندما نظر لأعلى في اللحظة
التي سمع فيها لأول مرة صوت غريمه يحدِّثه بالقرب من الممرِّ المعتم.
وأخيرًا، أعتقد أنني أدركتُ معنًى في ذلك الرسم وذلك الصوت؛ معنًى لم أستوعبْه » : قال
قط من قبل. لمَ يجبُ أن أقلقَ لأن رجلًا مختلٍّا من بين ملايين الأسوياء في مجتمع عظيم
تآمرضدَّه رجلٌ اختار أن يتباهى باضطهادي أو بتوعُّدي بالقتل؟ إن الرجل الذي رسم ذلك
الرمز السري للمسيح داخل السرداب المظلم وقع عليه شكلٌ مختلف تمامًا من الاضطهاد.
كان رجلًا مجنونًا وحيدًا؛ وقد تحالف المجتمعُ العاقل بأكمله لا على إنقاذه بل على قتله.
كنتُ أحيانًا أقلق وأتململ متسائلًا إن كان هذا الرجل أو ذاك هو من يضطهدني؛ إن كان
هو تارانت أو ليونارد سمايث أو أي واحد منهم، لكن كيف لو كانوا جميعًا يضطهدونني؟
كيف لو كان كلُّ من في السفينة وكلُّ من في القطار وكلُّ من في القرية يضطهدني؟ كيف
لو كانوا جميعًا بالنسبة لي قتَلة؟ كنت أحسب أنه يحقُّ لي أن أنزعج؛ لأني كنتُ أزحف
في أحشاء الأرض وسط الظلام وهناك رجل سيدمرني. كيف سيكون الحال لو كان ذلك
المتوعِّد يقف في وضَح النهار وكان يملك الأرضكلها ويقود الجيوشوالحشود كلها؟ كيف
سيكون الحال لو كان بيده أن يوقف الأرضَ كلَّها أو يُجبرني على الخروج من جحري،
أو يقتلني في اللحظة التي أخُرج فيها أنفي في ضوء النهار؟ كيف يكون التعامل مع قاتل
«. بذلك الحجم؟ لقد نسيَ العالم هذه البشاعات، مثلما نسيَ الحرب منذ وقت قريب
أجلْ، لكن الحرب جاءت. ربما تُرغم السمكةَ على الاختباء تحت » : قال الأب براون
الأرض مجدَّدًا، لكنها ستخرج إلى ضوء النهار مرة أخرى. كما يقول القديس أنطوني
«.« وحدَها الأسماك تنجو من الطوفان » : البادوفاني ساخرًا
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.