كان الغرض من مون كريسينت أنْ تعكس الطابع الخيالي بشكلٍ ما كما يُوحي اسمُها،
وكانت الأحداث التي وقعت بها خيالية بطريقتها الخاصة. كانت البناية على الأقل يبدو
فيها عنصرالإحساس الصادق — التاريخي الذي يكاد يكون بطوليٍّا — الذي استطاع أن
يظل مُرافقًا للعنصرالتجاري في المدن الأقدم على الساحل الشرقي لأمريكا. وكانت البناية
في الأصل على شكل هلال من العمارة الكلاسيكية التي تُعيد إلى الأذهان حقٍّا أجواء القرن
الثامن عشر الذي كان فيه رجالٌ مثل واشنطن وجيفرسون يتبنَّون التوجُّه الجمهوري
أكثر لأنهم ينتمون إلى الطبقة الأرستقراطية. كان مفهومًا أن المسافرين الذين كثيرًا ما
يُسألون عن رأيهم في مدينتنا إنما عليهم التعبير عن رأيهم في بناية مون كريسينت على
وجه الخصوص. إنَّ أوجه التناقضالتي تُشوِّش على أوجه التناغم المُبتكَر في البناية كانت
من السمات المميِّزة لبقائها؛ فعند أحد طرفيَ الهلال كانت النوافذ الأخيرة تُطلُّ على حيز
مُسيَّج يبدو كقطاع من حديقة لأحد النبلاء، بها أشجار وأسيجة مماثلة في درجة الرسمية
لحديقة الملكة آن، ولكن عند منحنى الهلال مباشرةً كانت النوافذ الأخرى حتى للغُرف
نفسها تُطلُّ على الجدار الخالي القبيح المظهر لمستودع ضخم — « الشُّقق » — أو بالأحرى
ملحق بمصنع قبيح. كانت شُقق مون كريسينت السكنية نفسها في هذا الجانب قد أعُيد
تشكيلها على غِرار النمط الرتيب للفنادق الأمريكية، وبلغت ارتفاعًا يمكن أن يُقال عنها
به إنها قد أصبحت ناطحة سحاب في لندن، رغم أنها كانت لا تزال أقل ارتفاعًا من
المستودع الضخم، لكن صف الأعمدة الذي كان يطوِّق واجهة البناية كلها على الشارع كان
رماديٍّا ويتمتع بشيءٍ من الفخامة التي لوَّثتها العوامل الجوية، مما يوحي أن أشباح الآباء
المؤسِّسين للجمهورية ربما كانوا لا يزالون يتجوَّلون خلاله. أما الغُرف من الداخل فكانت
أنيقة وجديدة على أحدث طراز في نيويورك، خاصةً عند الجانب الشمالي من البناية بين
الحديقة الأنيقة والجدار الخالي للمستودع. كانت البناية عبارة عن مجموعة من الشقق
السكنية الصغيرة جدٍّا، التي تتكوَّن كلُّ شقة منها من غرفة جلوس، وغرفة نوم وحمام،
والتي تتطابق جميعها كما لو كانت عيون خليةِ نحلٍ. وفي شقة من تلك الشقق، كان وارين
ويند الشهير يجلس إلى مكتبه يفرز الخطابات وينطق بالأوامر بسرعة ودقة مُذهلتَين،
فكان أشبه بعاصفة تتَّبع نهجًا منظمًا.
كان وارين ويند رجلًا ضئيل الحجم جدٍّا، له شعرٌ رمادي مسترسل، وذقنٌ مُستدقٌّ،
وكان يبدو ضعيفًا، ولكنه كان يتمتع بدرجة كبيرة من النشاط. كانت عيناه في غاية
الروعة، وكانتا تلمعان أكثر من النجوم وتتمتعان بقوة جذبٍ أكبر من المغناطيس؛ بحيث
لا يستطيع المرء نسيانهما بسهولة عند رؤيتهما. وفي الواقع، فإنَّه في عمله كمُصلحٍ ومُنظِّم
للكثير من الأعمال الجيدة، قد أثبتَ أنه يمتلك عينين أخريين في رأسه؛ فقد قيل عنه الكثير
من القصص وحتى الأساطير التي تحكي عن سرعته المذهلة في إصدار أحكام سليمة،
خاصةً على شخصيات البشر. ويُقال إنه اختار زوجته — التي عملت معه لمدة طويلة
أظهرت خلالها قدرًا كبيرًا من التسامُح وحُبِّ الخير — عن طريق انتقائها من بين مجموعة
من النساء كُن يرتدين زيٍّا مُوحَّدًا ويَسرن في احتفالٍ رسمي؛ قال البعضُإنهن كُنَّ يتبعْنَ
فتيات الكشَّافة، وقال البعض الآخر إنهن كنَّ من عناصرالشرطة النسائية. وذاعت قصةٌ
أخرى عن ثلاثة من المتشردين المتسولين، الذين لا يمكن التمييز بينهم؛ وذلك لتماثلهم
فيما يرتدون من خِرق بالية وما يبدون عليه من قذارة، والذين قدَّموا أنفسهم له طالبين
منه إحسانًا. ومن دون لحظة تردُّد منه، أرسل أحدهم لمستشفى مخصَّص لعلاج أحد
الاضطرابات العصبية، وأوصى بالآخر دارًا لعلاج مدمني الخمور، وجعل الثالث خادمه
الخاص وخصَّص له راتبًا سخيٍّا، وظلَّ الخادم في خدمته لسنواتٍ طويلة بعدها. وكانت
هناك بالطبع حكاياتٌ عن نوادره المتعلِّقة بانتقاده الحاد وسرعة بديهته الفظَّة حين كان
يتواصل مع شخصياتٍ مثل الرئيس روزفلت وهنري فورد والسيدة أسكويث وغيرها من
الشخصيات التي كان ينبغي على رجل أمريكي ذي شعبية أن يجري معهم لقاءات تاريخية
في تلك الآونة، حتى ولو كانت على صفحات الجرائد فقط. لم يكن بالتأكيد ليشعر بالرهبة
من لقاء مثل تلك الشخصيات، وفي اللحظة التي نتناولها الآن، استمر وارين ويند بهدوء
تام فيما كان يقوم به، وسط عاصفة من الأوراق، على الرغم من أن الرجل الذي كان يمثُل
أمامه لا يقل أهمية عن تلك الشخصيات التي ذكرناها.
كان سايلاس تي فاندام — المليونير وقُطب صناعة البترول — رجلًا نحيلًا ذا وجه
طويل أصفر اللون وشعر أسودضارب إلى الزُّرقة، وكانت تلك الألوان غير ظاهرة بوضوح،
لكنها كانت تنذر بالسوء بعض الشيء لأن وجهه وجسده بدَوَا قاتمَين في مقابل النافذة
ومن خلفها جدار المستودع الأبيض؛ كان يرتدي معطفًا طويلًا أنيقًا مزرَّرًا حتى آخره به
شرائط من الفرو. أما وجه ويند الذي تبدو عليه الحماسة وعيناه اللامعتان، على الجانب
الآخر، فكانا في مواجهة الضوء الساطع القادم من النافذة الأخرى التي تُطل على الحديقة
الصغيرة، حيث كان مكتبه وكرسيه يواجهان تلك النافذة، وعلى الرغم من أنه كان يبدو
مشغولًا، فإنه كان غير مهتم بالمليونير الماثل أمامه على نحوٍ غير مراعٍ للرسميات. وكان
وصيف ويند أو خادمه الخاص — وهو رجل ضخم الجثة قوي البنية له شعر أشقر
مسترسل — يقف خلف مكتبه ويُمسك بحزمة من الخطابات، وكان سكرتير ويند الخاص
— وهو شابٌّ أنيق ذو شعر أحمر وملامح حادة — يقف عند الباب ويمسك بمقبضه، كما
لو كان يُخمِّن غايةً ما لرب عمله أو يطيع إيماءةً له. لم تكن الغرفة مرتَّبةً فقط، وإنما
كانت أيضًا خالية من أيِّ زينة لدرجة أنها تبدو خالية؛ لأن ويند، بما يتَّسم به من دقةٍ
بالغة، استأجر الطابق الأعلى بأكمله وحوَّله إلى مخزن أو مستودع؛ حيث خزَّن فيه كل
أوراقه وممتلكاته الأخرى في صناديق ورُزم ضخمة مربوطة بحبال.
أعطِ هذه إلى موظف الطابق يا ويلسون، » : قال ويند لخادمه الذي يُمسك بالخطابات
.« و» ثم اجلب لي نشرة النوادي الليلية لمنيابوليس، ستجدها في الرزمة التي تحمل الحرف
سأحتاجها في غضون نصف ساعة، ولكن لا تُزعجني بشيءٍ قبل ذلك. حسنًا سيد فاندام،
أعتقد أن اقتراحك يبدو واعدًا للغاية، ولكن لا يمكنني أن أجُيبك إجابةً وافيةً حتى أرى
التقرير. ومن المقرَّر أن يصلني غدًا عصرًا، وسأهُاتفك على الفور حالما أطَّلع عليه. آسف،
«. لا يمكنني أن أقول شيئًا أكثر تحديدًا الآن
شعر السيد فاندام بأنَّ ما قاله ويند يبدو وكأنه دعوة مهذبة لأن يغادر؛ وأوحت
ملامح وجهه الشاحبة والساخرة بأنه استشعر بعضالسخرية فيما قيل.
«. حسنًا، أعتقد أنه ينبغي عليَّ أن أغادر » : قال السيد فاندام
أشكرك على الحضور يا سيد فاندام، واعذرني على عدم » : قال ويند بطريقةٍ مُهذَّبة
ثم «. مرافقتي لك في خروجك، فبيدي هنا شيءٌ ينبغي أن أعيره كامل تركيزي في الحال
يا فينير، رافق السيد فاندام إلى سيارته، ولا تعد » : أكمل موجِّهًا حديثه إلى السكرتير قائلًا
«. قبل مرور نصف ساعة. فبيديشيء ينبغي أن أنجزه بنفسي، وبعدها سأحتاجك
خرج الرجال الثلاثة إلى الممر الخارجي معًا، وأغلقوا الباب خلفهم. كان ويلسون
الخادم الضخم الجثة يسير في اتجاه الموظف الذي طلب منه الذهاب إليه، بينما كان
الرجلان الآخران يسلكان الاتجاه المعاكس نحو المصعد لأن شقة ويند كانت في الطابق
الرابع عشر. ولم يكد الرجلان يكونان على مسافة ياردة من الباب المغلق حتى أدركا وجود
شخص ضخم يمشي نحوهما ويكاد يسد عليهما الممر. كان الرجل فارع الطول وعريض
المنكبين، وكانت كتلة جسده واضحةً للغاية لأنه كان يرتدي ملابس بيضاء اللون، أو ربما
كان لونها رماديٍّا فاتحًا يبدو وكأنه أبيض، وكان يرتدي قبعةً بيضاء وعريضة للغاية من
طراز بنما، وكان له هالة أو حواف من شعرٍ أبيض اللون بنفس لون القبعة. كان وجه
الرجل في هذه الهالة يبدو عليه ملامح القوة والوسامة، كما لو كان أحد الأباطرة الرومان،
باستثناء أن بريق عينيه والغِبطة التي تبدو في ابتسامته كانا يوحيان بشيء صبياني أو
«؟ هل السيد وارين ويند بالداخل » : بشيءٍ يميل أكثر إلى الطفولية. سأل الرجل بنبرة ودية
السيد وارين ويند مشغول الآن، ولا يريد أن يُزعجه أحد مطلقًا. أنا » : قال فينير
«. السكرتير الخاصبه ويمكنك أن تبلِّغني بأي رسالة له
السيد وارين ويند ليس لديه » : قال فاندام، قُطب صناعة البترول، في سخرية مريرة
متسعٌ من الوقت لاستقبال زوَّار له، حتى ولو كان البابا نفسه أو أحد الملوك. السيد وارين
ويند شخصية استثنائية صارمة. لقد دخلتُ عليه لأسُلِّمه مبلغًا ضئيلًا من المال يبلغ
عشرين ألف دولار وفق شروط معينة، وطلب مني أن أعاود الاتصال به وكأنني صبي
«. المراسلة في أحد الفنادق
من الجيد أن تكون صبيٍّا، ومن الأفضل أن تكون لديك مهمة؛ » : قال الرجل الغريب
وأنا لديَّ مهمة له ينبغي أن ينظر فيها. إنها مهمة متعلقة بذلك البلد الرائع العظيم الذي في
الغرب، ذلك البلد الذي يُصنَع فيه الأمريكي الحقيقي بينما تغطُّون جميعًا في نومكم هنا.
فقط أخبره أنني آرت ألبوين من مدينة أوكلاهوما سيتي وقد أتيت إليه لأدخله في الدِّين
«. الجديد
لقد قلت لك إنه لا يستطيع أن يقابل » : قال السكرتير ذو الشعر الأحمر بنبرةٍ حادة
«. أحدًا. لقد أعطى أوامر بألَّا يزعجه أحد لمدة نصف ساعة
أنتم جميعًا هنا في الشرق لا تحبون أن يُزعجكم أحد، ولكني » : قال السيد ألبوين المرِح
أظن أن هناك شيئًا كبيرًا يتنامى في الغرب سيُسبب لكم الإزعاج. إنه يقرر مقدار المال الذي
ينبغي أن يُخصَّص لهذا الغرضولتلك العقيدة الدينية البائدة المضجرة؛ ولكني أخبركما
أن أي برنامج يستبعد حركة الروح العظيمة الجديدة في تكساس وأوكلاهوما فإنه بذلك
«. يستبعد العقيدة الدينية المستقبلية
أوه، لقد أخضعت تلك العقائد الدينية الجديدة للتقييم » : قال المليونير بازدراء
وتفحَّصتها بدقة بالغة، ووجدت أنها جرباء كالكلاب الصفراء. كانت هناك تلك المرأة
التي تقول بأن اسمها صوفيا، وأعتقد أنها كان حريٍّا بها أن تُطلقَ على نفسها لقب سفيرة.
إنها محتالة ومخادعة وتلعب على كل الحبال. ثم هناك مجموعة الحياة الخفية؛ لقد قالوا
إن باستطاعتهم أن يختفوا متى رغبوا في ذلك، وقد اختفوا بالفعل ولكن اختفى معهم
مائة ألف دولار من أموالي. وتعرفت إلى جوبيرتر جيسوسفي دينفر، وظللت أقابله لأسابيع
متواصلة، واكتشفت أنه محتال معروف. وكذلك كان العرَّاف الباتاجوني، وأراهن بأنه
هرب إلى منطقة باتاجونيا التي ينتمي إليها. لا، لقد اكتفيت من كل ذلك؛ ومن الآن فصاعدًا
«. لن أومن إلا بما أراه بعينيَّ. أعتقد أن هذا هو ما يُطلقون عليه الإلحاد
أعتقد أنك فهمت كلامي خطأً. » : قال الرجل القادم من أوكلاهوما بحماسةٍ وشغف
إنني ملحد بقدر ما أنت ملحد أيضًا. ليسهناك أيشيء خارق للطبيعة أو خرافي في حركتنا؛
وإنما العلم فقط. والعلم الحقيقي الصحيح الوحيد هو الصحة، والصحة الحقيقية الوحيدة
والصحيحة هي التنفس. املأْ رئتيك بهواء البراري الطلق ويمكنك أن تنفخ في كل مُدنك
الشرقية القديمة فتبعثرها في البحر. ويمكنك أن تنفخ في أكبر الرجال بها فيتطايرون
كزغب الشوك. هذا هو ما نفعله في الحركة الجديدة في موطننا، إننا نتنفس. إننا لا نُصلي،
«. وإنما نتنفس فقط
كان وجهه متوقدًا متألقًا «. حسنًا، أظن أنكم تفعلون ذلك » : قال السكرتير في ضجر
فكان من الصعب أن يُخفي شعوره بالضجر، ولكنه استمع إلى حديث الرجلين في صبر
وأدب مدهشَين (وهذا يتعارض كثيرًا مع روايات نفاد الصبر والوقاحة المزعومة) وهما
صفتان تُميِّزان عملية الاستماع لمثل هذه الأحاديث في أمريكا.
ليس هناك شيء خارق للطبيعة، إنما فقط الحقيقة الطبيعية » : استطرد ألبوين
العظيمة والتي تقف وراء كل الأوهام الخارقة للطبيعة. ماذا أراد اليهود من إلههم سوى
أن ينفث في الإنسان روح الحياة؟ إننا في أوكلاهوما نقوم بهذه العملية بأنفسنا. ما معنى
كلمة الروح؟ إنها الكلمة اليونانية التي تعني ممارسة التنفس. إن الحياة، والتقدم، والتنبؤ؛
«. كلها أمور مرتبطة بالتنفس
قد يقول البعض بأن كل هذا هراء، ولكني سعيد بأنكم تخلَّصتم من » : قال فاندام
«. مسألة الألوهية، على كل حال
كان وجه السكرتير المتوقِّد، الشاحب بعضالشيء مقارنةً بشَعْره الأحمر، قد ظهرت
عليه لمحة من شعور غريب يوحي بإحساسٍ خفي بالمرارة.
أنا لست سعيدًا بذلك، وأنا متأكد تمامًا من ذلك. يبدو أنكما تُفضِّلان أن تكونا » : وقال
ملحدَين حتى تستطيعا الإيمان بما ترغبان في الإيمان به، ولكني أتمنَّى من الرب أن يكون
«. هناك إله؛ ولكن ليس هناك إله. إنه حظي
دون صوت أو حركة، وفي شيء من خوف، أدركوا جميعًا في تلك اللحظة أن الجَمْع
الواقف خارج باب شقة السيد ويند قد زاد عدده فيصمتٍ من ثلاثة إلى أربعة. لم يكن أحد
هؤلاء المتجادلين الجديين يستطيع أن يُحدِّد مدة وقوف الشخص الرابع بجوارهم، ولكنه
بدا عليه وكأنه ينتظر في احترام بل في حياء أيضًا حتى تَحِينَ له فرصة أن يقول شيئًا
عاجلًا، ولكن بسبب عصبيتهم، بدا هذا الشخص وكأنه انبثق في مكانه فجأةً وفي سكون
مثل فُطر عيش الغراب. وبكل تأكيد، كان الرجل في مظهره يبدو وكأنه فطر عيش غراب
أسود كبير؛ لأنه كان قصيرًا نوعًا ما، وكانت قبعته السوداء الكبيرة الخاصة بالقساوسة
تبرز جسده المكتنز. وكان التشابه بينه وبين فطر عيش الغراب سيكتمل لو كان الفطر
لديه عادة الإمساك بمظلة، حتى ولو كانت رديئة النوع وقبيحة الشكل.
كان فينير السكرتير قد انتبه لمفاجأة إضافية غريبة حين أدركَ أن الرجل الواقف كان
قَسٍّا، ولكن عندما رفع القس وجهه المستدير الذي كان تحت قبعته المستديرة وسأله في
براءة عن السيد وارين ويند، أجابه الإجابة المعتادة ولكن باقتضاب أكبر من ذي قبل، ولكن
القس كان مصرٍّا.
إنني أريد أن أقُابل السيد ويند. قد يبدو الأمر غريبًا ولكن هذا هو ما » : قال القس
أريده بالتحديد. إني أرغب في التحدث إليه. أريد أن أقابله فقط. أريد أن أرى إن كان
«. موجودًا وأستطيع مقابلته
حسنًا، أنا أخبرك بأنه موجود ولكنك » : قال فينير وقد بدأ شعوره بالانزعاج يزداد
لا تستطيع مقابلته. ماذا تقصد بقولك إنك تريد أن ترى ما إن كان موجودًا وتستطيع
مقابلته؟ بالطبع هو موجود. لقد تركناه جميعًا قبل خمس دقائق، ونحن نقف أمام هذا
«. الباب منذ ذاك الحين
«. حسنًا، أريد أن أرى ما إن كان على ما يُرام » : قال القس
لأن لديَّ سببًا جادٍّا، » : أجابه القس بجِديَّة «؟ لماذا » : سأله السكرتير بحدة وغضب
«. وربما يمكنني القول بأنه مقدس، يدفعني للشك في أنه على ما يرام
«. أوه، يا إلهي! لا لمزيد من الخرافات » : صاح فاندام فيشيءٍ من الغضب
أرى أنه ينبغي عليَّ أن أخبركم بأسبابي، فأنا » : قال القس القصير القامة في قلقٍ
صمتَ «. أفترض أنكم لن تدعوني حتى أنظر من ثقب الباب حتى أخبركم بالقصة كلها
للحظة وكأنه كان يفكر، ثم أكمل حديثه من دون أن يلتفت إلى الأوجه التي تلتف حوله
كنت أسير في الخارج بطول صف الأعمدة التي في واجهة » : والتي ملأتها الحيرة. وقال
البناية حين رأيت رجلًا رثَّ الثياب وهو يركض بسرعة عند الزاوية في نهاية الهلال. كان
يجري بقوة بطول الرصيف وهو يتوجَّه نحوي، فرأيت أن جسده نحيل طويل وكان وجهه
مألوفًا لي. كان الرجل رفيقًا أيرلنديٍّا جامحًا قدمت له مساعدةً بسيطة ذات مرة، لن أخبركم
يا إلهي، إنه الأب براون؛ » : باسمه. حين رآني الرجل أصابتْه الدهشة وناداني باسمي وقال
«. أنت الرجل الوحيد الذي يمكن لوجهه أن يبثَّ فيَّ الرعب اليوم
كنت أعرف أنه كان يقوم بشيءٍ ما جامحٍ، ولا أعتقد بأن وجهي بثَّ فيه الرعب على
هذا النحو، لأنه سرعان ما أخبرني بما كان يقوم به. ويا له من شيءٍ غريب. سألني ما إن
كنت أعرف وارين ويند، وقلت له لا، رغم أني كنت أعرف أنه يقطن هنا في إحدى هذه
هذا الرجل يعتقد أنه قديس، ولكن إن عرف ما أقوله عنه، » : الشقق العلوية. قال الرجل
«. أجل، على استعداد لشنق نفسه » وظل يكرِّر عبارة «. فسيكون على استعداد لشنق نفسه
بطريقةٍ هيستيرية أكثر من مرة. فسألته إن كان قد تسبَّب بأي أذًى لويند، وكانت إجابته
لقد أخذت مسدسًا، ولكني لم ألقمه برصاصاتٍ أو أعيرةٍ نارية، وإنما » : غريبة. فقد قال
وبقدر ما استطعت أن أدرك من الأمر، فإنَّ كل ما فعله كان أنه قد سار «. لقمته بلعنة
في ذلك الزقاق الصغير بين هذه البناية وذلك المستودع، وهو يحمل مسدسًا قديمًا ملقمًا
برصاصة فارغة، ثم أطلق النار على الجدار، وكأن هذه الرصاصة ستُسقِط البناية كلَّها.
ولكن بينما كنت أطُلق النار، ألقيتُ عليه لعنةً كبيرة، وهي أن تمسكَ عدالةُ » : وقال الرجل
الربِّ به من شعر رأسه، وانتقامُ الجحيم من كعبي قدمَيه، ثم يُمزَّق كما تمزَّق يهوذا ثم
«. ينقطع ذكرُه عن هذا العالم
لا يهم الآن ما قلته لذلك الرفيق المجنون المسكين؛ فقد ذهب عني وقد هدأ قليلًا،
ثم ذهبتُ أنا تجاه الجزء الخلفي من البناية لكي أتحرَّى الأمر. وفي ذلك الزقاق الصغير
عند أسفل الجدار كان هناك مسدسٌ صدئٌ عتيق؛ ومعرفتي بالمسدسات كافية لتخبرني
بأنه كان ملقمًا بالقليل من البارود، وقد كانت هناك علاماتٌ سوداء للبارود والدخان على
الجدار، بل كان هناك علامة حتى لفوهة المسدس، ولكن لم يكن هناك أي ثقبٍ يدل على
وجود رصاصة أطُلقت. لم يكن هناك أيُّ أثر للدمار الذي تخلفه الرصاصة على الجدار؛ لم
يترك الرجلُ أيَّ أثر لأيشيء، سوى تلك العلامات السوداء وتلك اللعنة السوداء التي ألقى
«. بها؛ ولذا فقد عدت إلى هنا لأسأل عن وارين ويند هذا وأرى إن كان على ما يرام
يمكنني تسوية هذا الأمر بسرعة. أؤكد لك أنه بخير » : ضحك السكرتير فينير وقال
حال؛ لقد تركناه وكان يكتب شيئًا على مكتبه قبل دقائق قليلة فحسب. كان بمفرده في
شقته؛ وهي تقع على ارتفاع مائة قدم من الشارع، وبهذا فلا يمكن أن تصله أيُّ رصاصة،
حتى ولو لم تكن رصاصة صديقك فارغة. وليس هناك أي مدخل لهذا المكان سوى هذا
«. الباب، ونحن واقفون أمامه منذ أن تركناه
«. اعذرني، ولكني أرغب في أن أنظر بالداخل وأطمئن » : قال الأب براون في جدية
«. حسنًا، لا يمكنك ذلك. يا إلهي، لا تخبرني بأنك قلقٌ من أمر تلك اللعنة » : ردَّ الآخر
هل نسيت أنَّ عمل القسالمحترم يتمحور كليةً حول » : قال المليونير في سخرية طفيفة
اللعنات والبركات. اهدأ يا سيدي، إذا كان الرجل قد أصُيب بلعنة أرسلته إلى الجحيم، فلمَ
لا تعيده مرةً أخرى بأن تباركه؟ ما نفعُ بركتك إذا لم تتمكن من كسر لعنة ذلك الرجل
«؟ الأيرلندي الشرير
«؟ هل هناك من يُصدِّق في هذه الأشياء الآن » : احتجَّ الرجل الغربي قائلًا
قال فاندام، الذي كان في غاية الانفعال بسبب الازدراء الذي تعرَّض له في السابق
أعتقد أن الأب براون يؤمن بالكثير من هذه الأشياء. إنه » : والتشاحن الذي يحدث حاليٍّا
يعتقد أن ناسِكًا عبرَ نهرًا على ظهر تمساح استحضره من العَدم، ثم طلب من ذلك التمساح
أن يموت، وبالفعل مات التمساح؛ ويعتقد الأب براون أن أحد القديسين المباركين قد مات،
وتحوَّلت جثته إلى ثلاث جثث بحيث تُرسَل كلُّ واحدة إلى أبرشية من أصل ثلاث أبرشياتٍ
كانت تُعتقد أنها مسقط رأسه؛ ويعتقد الأب براون أن قديسًا علَّق عباءته على شعاع ضوء
الشمس، بينما استخدم قديسٌ آخر عباءته كقاربٍ ليعبر بها المحيط الأطلنطي؛ ويعتقد
الأب براون أنَّ الحمار المقدسله ستُّ أرجل، وأنَّ منزل لوريتو طار في الهواء حقٍّا؛ ويعتقد
أنَّ مئات التماثيل الحجرية للسيدة العذراء تبكي وتنوح طوال اليوم؛ فليس كثيرًا عليه أن
يعتقد بأنَّ رجلًا يستطيع أن يهرب من ثقب مفتاحٍ في الباب، أو أنه يستطيع أن يختفي
«. من غرفةٍ مغلقة بإحكام. أظن أنه لا يُلقي بالًا لقوانين الطبيعة
على أي حال، ينبغي أن ألُقي أنا بالًا لقوانين السيد وارين » : قال السكرتير في ضجر
«. ويند، وأوامره لنا أن يُترك وحده حين يطلب ذلك. وسيخبرك ويلسون بنفس الشيء أيضًا
ذلك أن الخادم الضخم الذي أرُسل ليحضر النشرة قد مرَّ أيضًا في هدوءٍ في الممر وهو
إنه سيذهب ويجلس » : يتحدث، حاملًا النشرة، ومرَّ من أمام الباب. وأضاف السكرتير
على المقعد بجوار الموظف، ويعبث بأصابعه ليضيِّع الوقت منتظرًا أن يُستدعى؛ ولكنه لن
يدخل عليه قبل ذلك؛ ولن أفعل ذلك أنا أيضًا. وأظن أننا ندرك تمامًا أين تكمن مصلحتنا،
«. وسيتطلَّب الأمر الكثير من قدِّيسي الأب براون وملائكته لكي ننسى هذا
«… بالنسبة إلى القديسين والملائكة » : ردَّ القس
كلُّ هذا هراء. أنا لا أريد أن أقول شيئًا مُسيئًا، ولكن هذه الأشياء » : كرَّر فينير كلامه
قد تكون مناسبة لسراديب الكنائس والأديرة وكل تلك الأماكن الغريبة، لكن الأشباح لا
«. تستطيع أن تعبر بابًا مُوصَدًا هنا في فندقٍ أمريكي
ولكن يمكن للبشر أن يفتحوا بابًا مُوصَدًا، حتى في » : ردَّ الأب براون بهدوءٍ وصبر
«. فندقٍ أمريكي. ويبدو لي أنَّ أبسطشيءٍ يمكن أن نقوم به هو أن نفتحه
سيكون بسيطًا بما يكفي لكي يجعلني أخسر وظيفتي، ولا يحب » : ردَّ السكرتير
وارين ويند أن تكون سكرتاريته سذجًا على هذا النحو. إنه لا يحبنا أن نكون سذجًا بحيث
«. نصدق القصصالخيالية التي يبدو أنك تؤمن بها
حسنًا، صحيحٌ أنني أومن بالكثير من الأشياء التي ربما لا » : قال الأب براون بجدية
تؤمنون بها، ولكن سيتطلب الأمرُ الكثير من الوقت لكي أشرح لكم كل الأشياء التي أومن
بها، وكل الأسباب التي تدفعني لأعتقد بأنني مُحق، ولكن سيتطلب الأمر ثانيتين فقط لكي
«. تفتحوا الباب وتُثبتوا خطئي
بدا أنه كان هناكشيءٌ في كلماته قد أسعد روح الرجل الغربي الجامحة التي لا تهدأ.
«. أعتقد بأني أودُّ كثيرًا أن أثُبت خطأك، وسأفعل » : قال ألبوين وقد تخطاهم فجأة
فتح باب الشقة ونظر بداخلها، وبدا من النظرة الأولى أنَّ كرسي وارين ويند كان
خاليًا. وبدت الغرفة خالية تمامًا مع النظرة الثانية.
هُرِع فينير بفعل طاقة خفية إلى داخل الحجرة متخطِّيًا الرجل الأول.
«. إنه في غرفة نومه. لا بدَّ وأنه هناك » : قال باقتضاب
وفيما اختفى في الغرفة الداخلية، وقف الرجال الآخرون في الغرفة الخارجية الفارغة
وهم يُحدِّقون في بعضهم. كانت بساطة الغرفة وفراغها، وهو ما كان ملاحظًا، تُمثل تحديًا
أمام الرجال؛ فلا يمكن لأحد أن يُخبِّئ فأرًا في هذه الغرفة، فما بالك برجل. لم يكن هناك
ستائر، ولا خزائن، وهذا شيء نادر فيما يتعلق بالتجهيزات المنزلية على الطراز الأمريكي.