حتى المكتب كان على شكل طاولة مسطحة ذات درج غير عميق وغطاء مائل. وكانت
الكراسيصلبة وذات ظهر مرتفع. وبعد لحظة عاد السكرتير وظهر عند الباب الداخلي بعد
أن فتَّش الحجرتين الداخليتين. كانت هناك نظرة حادة تعتلي ملامحه، وبدا أن فمه يتحرك
«؟ ألم يمر أمامكم من هنا » : بحركة أوتوماتيكية وكأنه ليس جزءًا من جسده فقال
لم يفكر الآخرون على أي نحو في أن يُجيبوا عن ذلك السؤال بالنفي؛ فقد تحوَّلت
عقولهم إلى جدار المستودع الخالي الذي يقف في مواجهة النافذة المقابلة، والذي بدأ لونه
يتحول تدريجيٍّا من الأبيض إلى الرمادي بفعل الظهور البطيء للظلام أثناء فترة ما بعد
الظهيرة. سار فاندام نحو عتبة النافذة التي كان قد اتكأ عليها قبل نصف ساعة ونظر
خارج النافذة المفتوحة. لم يكن هناك أي مواسير أو مخرج حريق، وكذلك لم يكن هناك
بروز حجري أو موطئ قدمٍ من أي نوع في الاتجاه نحو الشارع الصغير الذي يقع تحت
النافذة، ولم يكن هناك شيءٌ مشابه لذلك على الحائط المماثل والذي يرتفع لعدة طوابق
أعلى. ولم يختلف الحال كثيرًا عند الجهة المقابلة من الشارع؛ فلم يكن هناك شيءٌ على
الإطلاق عدا ذلك الجدار الأبيض المضجر. نظر فاندام إلى الأسفل نحو الشارع، كما لو
كان يتوقع أن يرى ذلك الشخصالمحب للخير المختفي وهو طريح أرضية الزقاق بعد أن
انتحر، ولكنه لم يتمكن من رؤية شيء سوى جسم داكن صغير، وهو الذي رغم تلاشي
ملامحه بفعل بُعد المسافة، قد يبدو أنه المسدس الذي وجده القس في ذلك المكان. في تلك
الأثناء، كان فينير قد سار نحو النافذة الأخرى، والتي كانت تُطل على جدار خالٍ أيضًا ولا
يمكن الوصول إليه، ولكنها كانت تطل على حديقة صغيرة بدلًا من أن تطل على شارع
جانبي. كانت هناك مجموعة من الأشجار تُغطي على المنظر الحقيقي للأرض؛ ولكن تلك
الأشجار لم تكن ذات ارتفاع كبير. استدار كلاهما إلى داخل الغرفة ونظر كلٌّ منهما إلى
الآخر في ضوء الغسق المتزايد حيث كانت تتحول بسرعة آخر الأشعة الفضية لضوء النهار
الساقطة على أسطح الطاولات والمكاتب اللامعة إلى اللون الرمادي. وكما لو كان ضوء
الغسق قد أزعجه، لمس فينير مفتاح الإضاءة فغرقت الغرفة في أضواءٍ كهربائية مذهلة.
كما قلتَ للتو، لا يمكن لرصاصة أطُلقت من الأسفل أن تصيبه » : قال فاندام متجهمًا
على هذا الارتفاع، حتى ولو كان المسدسملقمًا برصاصة فعلًا. ولكن حتى ولو كان أصيب
«. برصاصة، فإنه لن يختفي هكذا وكأنه فقاعة قد تلاشت
نظر السكرتير الذي ازداد شحوبُ لونه عن ذي قبل إلى المليونير المنزعج بانفعال كبير
ما الذي جعلك تنطق بهذه الأفكار المَرضية؟ مَن الذي يتحدث عن الرصاصات » : وقال
«؟ والفقاعات؟ لماذا لا يكون على قيد الحياة
لماذا لا يكون على قيد الحياة بالفعل؟ إذا ما أخبرتني أين » : ردَّ فاندام في سلاسة
«. مكانه، فسأخبرك كيف وصل إلى ذلك المكان
أعتقد أنك على صواب. إننا نقف في » : وبعد سكون، غمغم السكرتير في عبوس قائلًا
مواجهة الشيء الذي كنا نتحدث عنه. سيكون من الغريب إن فكرتَ أنت أو فكرتُ أنا في
أي شيء له علاقة بإلقاء اللعنات، ولكن من الذي بمقدوره أن يؤذي ويند في هذا المكان
«؟ الحصين
كان السيد ألبوين القادم من أوكلاهوما يقف في منتصف الغرفة منفرج الساقين
بعض الشيء، فكانت هالة الشعر البيضاء وكذلك عيناه المستديرتان يبدو أنهما تشعان
ذهولًا ودهشة. وفي هذه اللحظة، قال، على نحوٍ شارد، وفي وقاحة غير ملائمة تليق بصبيٍّ
«؟ أنتما لم تكونا على وفاقٍ كبير، أليس كذلك يا سيد فاندام » : مثير للمشاكل
بدا وجه السيد فاندام الأصفر الطويل وكأنه يزداد طولًا بينما كان يزداد شعوره
إذا كنا نتحدث عن مثل هذه المصادفات، فأعتقد » : بالغضب، لكنه ابتسم وأجابَ في هدوء
«. أنك أنت من قلت إن ريحًا من الغرب ستذرُ الرجال العظام هنا كما لو كانوا زغب الشوك
أعرف أني قلت ذلك، ولكن رغم هذا، كيف يمكن أن » : قال الرجل الغربي في صدق
«؟ يحدث ذلك حرفيٍّا
هناك شيءٌ » : كسر فينير حاجز الصمت الذي خيَّم بأن قال بحِدَّة ترتقي إلى العنف
واحد يمكن أن يُقال بشأن هذا الأمر، وهو أنه لم يحدث ببساطة. لا يمكن أن يكون قد
«. حدث
«. أوه، لا، لقد حدث دون شك » : قال الأب براون من الزاوية التي كان يقف فيها
تفاجأ الجميع، حيث كانوا قد نسوا تمامًا أمر الرجل الضئيل الحجم غير ذي الشأن
الذي استحثَّهم في الأساس على فتح الباب. وتذكُّرهم لهذا صَاحَبه تغيُّرٌ حادٌّ في حالتهم
المزاجية؛ لقد تذكَّروا على نحو مفاجئ أنهم قد نبذوه جميعًا معتبرين إياه حالمًا خَرِفًا لأنه
أشار إلى الشيء الذي حدث أمام أعينهم.
خونة! هذا » : صاح الرجل الغربي في اندفاع كما لو كان شخصًا لا يتحكَّم في كلامه
«! بافتراضأن ثمة خطبًا في الأمر، في النهاية
لا بدَّ أن أعترف أن ما توقَّعه » : قال فينير مقطبًا جبينه بينما كان ينظر إلى الطاولة
القس المبجَّل كان يستند إلى أساس قوي. لا أعلم إن كان هناك شيء آخر يريد أن يقوله
«. لنا
«. ربما يقول لنا بحق الجحيم ما ينبغي أن نفعله الآن » : قال فاندام في سخرية
بدا على القس الضئيل الحجم أنه يتقبَّل الموقف الذي وُضع فيه بطريقة متواضعة
الشيء الوحيد الذي يمكنني التفكير فيه هو أولًا أن نبلغ السلطات » : ولكن واثقة. وقال
المسئولة في هذا المكان، ثم نرى إن كان هناك أي دلائل أخرى تركها الرجل الذي تحدثت
عنه الذي استخدم المسدس. لقد اختفى الرجل عند زاوية البناية الأخرى حيث الحديقة
«. الصغيرة. توجد مقاعد هناك وهي بمنزلة مكان مُفضَّل للمتشردين
أدَّت المشاورات المباشرة مع إدارة الفندق إلى مشاوراتٍ غير مباشرة مع الشرطة، وهذا
جعلهم مشغولين لفترة طويلة من الوقت، وكان الليل قد حلَّ بالفعل حين خرجوا تحت
منحنى الأعمدة الكلاسيكي الطويل. بدت البناية باردة وجوفاء كالقمر الذي سُمِّيت باسْمِه،
وكان القمر نفسه نيِّرًا عجيب المنظر خلف قمم الأشجار السوداء حين انعطف الرجال عند
الزاوية المؤدية إلى الحديقة العامة الصغيرة. حجبَ الليل كثيرًا من مظاهر المَدنيَّة المصطنعة
في المكان، وفيما غاصوا في ظلال الأشجار راودهم شعورٌ غريب بأنهم فجأةً قد ابتعدوا
مئات الأميال عن منازلهم. وبعد أن ساروا في صمتٍ لفترة قصيرة من الوقت، صاح ألبوين
الذي يتصف في أسلوبه ببعضالبدائية، فجأة:
إني أستسلم، ولا أستطيع أن أكُمل. لم يخطر ببالي قطُّ أن أمرَّ بما أنا فيه الآن؛ ولكن »
ماذا يحدث حين تعترضهذه الأحداث طريقك؟ أستميحك عُذرًا أيُّها الأب براون؛ أظن أنني
التقيتُ بهذا كلِّه مصادفةً، سواءٌ فيما يتعلق بك أو بقصصك الخرافية؛ لأجِدَ نفسي بعدها
وجهًا لوجه مع تلك القصصالخيالية. عَجَبًا، لقد قلت بنفسك يا سيد فاندام إنَّك مُلحدٌ ولا
«؟ تُصدِّق إلا ما تراه بعينيك. حسنًا، ما الذي رأيته؟ أو بالأحرى، ما الذي لم ترَه
«. أعرف » : أومأ فاندام وهو مُكْفهرُّ الوجه وقال
أوه، إنَّ هذا القمر وهذه الأشجار هما ما ينالان من أعصابِ المرء؛ » : قال فينير في عنادٍ
فالأشجار تبدو ذات مظهر غريب تحت ضوء القمر، وأغصانها تبدو وكأنها تزحف في
«… الأرجاء. انظر إلى ذلك
قال الأبُ براون، وهو يقف ثابتًا وينظر إلى القمر من خلال مجموعةٍ من الأشجار
«. أجل. ذلك الغصن الذي يقبع هناك شكله غريبٌ للغاية » : المتشابكة
«. كنت أعتقد أنه غصنٌ مكسور » : وحين تحدَّث مرةً ثانية، قال فقط
لكن هذه المرة كان هناك نبرة انزعاج فيصوته أصابت من حوله بالقُشَعْريرة بصورة
لا يمكن تبريرها؛ فقد كان هناك شيءٌ يبدو كغصنٍ ميتٍ متدلٍّ من شجرة كانت تبدو
وداء في مواجهةضوء القمر؛ ولكن هذا لم يكن غصنًا ميتًا. وعندما اقتربوا ليتحقَّقوا منه،
توجَّس فينير خِيفةً وفَزِع من مكانه وقد تردَّد صوت لعناته في الأجواء. ثم هُرع مرةً أخرى
باتجاه الشجرة وحرَّر حبلًا من حول رقبة الجثة القصيرة العابسة المتدلية ذات الشعر
الرمادي. لقد عرف بطريقة ما أن الجثة كانت قد فارقت الحياة بالفعل قبل أن يتمكن
من أن ينزلها عن الشجرة. كان هناك لفة طويلة جدٍّا من الحبل ملفوفة حول الأغصان،
وكان هناك جزءٌ قصير نسبيٍّا منها موصولًا بين الغصن والجثة. وكان هناك حوضطويل
من أحواضالحدائق ملقًى بعيدًا عن قدم الجثة بياردة أو اثنتين، فكان مثل الكرسيالذي
يُركَل بعيدًا من تحت قدم المنتحِر.
بنبرةٍ توحي وكأنه يصلي للقتيل أكثر مما تبدو كأنه يتعجب لما يراه، قال ألبوين:
إن عرف، فسيكون على » : أوه، يا إلهي! ما الذي قاله المتشرد بشأن هذا الرجل؟ ألم يقل »
«؟ ألم يكن هذا هو ما قاله أيُّها الأب براون «؟ استعداد لشنق نفسه
«. بلى » : قال الأب براون
حسنًا، لم أعتقد قطُّ بأني قد أرى ما أراه أو أقول ما » : قال فاندام بنبرةٍ جوفاء
«. سأقول، ولكن لا يسع المرء سوى أن يقول إن اللعنة قد وقعت
كان فينير يقف ويداه تُغطيان وجهه، فوضع القسيده على ذراع فينير وقال في لطف
«؟ هل كنت تحبه كثيرًا » : ورقَّةٍ
أزاحَ السكرتير يديه عن وجهه وكان وجهه الشاحب يبدو مُروِّعًا تحت ضوء القمر.
لقد كرهته أكثر مما يكره المرءُ العَمى، ولكن إذا مات جرَّاء لعنة أصابته فربما » : وقال
«. أكون أنا السبب
زادَ ضغط يد القس على ذراع السكرتير، وقال بنبرة جديَّة لم يكن قد أظهرها قبل
«. لم تكن هذه اللعنة بسببك؛ ادعُ الرب أن يُريح قلبك » : هذه اللحظة
كانت شرطة المنطقة تواجه صعوبة كبيرة في التعامل مع الشهود الأربعة المعنيِّين
بالقضية. كانوا جميعًا يتمتعون بسُمعة طيبة، بل كانوا موثوقًا فيهم بالمعنى العام؛ وكان
أحدهم يتمتع بسلطة وأهمية كبيرتين، كان هذا الرجل هو سايلاس فاندام صاحب شركة
أويل تراست للبترول. وكان الشرطي الأول الذي حاول أن يُبدي شكوكًا له حول قصته قد
أثار غضب قُطب صناعة البترول بسرعة كبيرة حقٍّا.
لا تُحدثني عن الالتزام بالحقائق. لقد التزمت بالعديد منها » : قال المليونير في غلظة
قبل أن تُولد أنت وقد لازمني القليل منها. سأخبرك بالحقائق دون شك إذا كنت مستعدٍّا
«. لأن تعيها على النحو الصحيح
كان الشرطي ما يزال يافعًا وحديث العهد بالعمل، وكان يظن أن الرجل المليونير هو
أحد البارزين السياسيين والذي ينبغي عدم معاملته كمواطن عادي؛ ولذا فقد ترك شأنه
هو ورفاقه إلى أحد الزملاء القدامى الأشدَّاء وكان هو المفتش كولينز، وهو رجلٌ أشيب ذو
طريقة مريحة في الكلام يشوبها بعض التجهُّم؛ إنه شخصٌ لطيف ولكنه لا يتحمل أي
ترهات.
قال المفتش وهو ينظر بعينين متلألئتين إلى الرجال الثلاثة الذين يقفون خلفه:
«. حسنًا، حسنًا، تبدو هذه قصة طريفة نوعًا ما »
كان الأب براون قد ذهب لأداء ما عليه من أعمال في ذلك اليوم، لكن سايلاس فاندام
كان قد أوقف حركة الأسواق لساعة أو أكثر من أجل أن يُدلي بشاهدته في تلك الحادثة
الاستثنائية. أما عمل فينير سكرتيرًا فقد توقَّف بشكلٍ ما مع وفاة رب عمله؛ أما آرت ألبوين
الضخم فلم يكن هناك ما يشغله في تلك اللحظة عن علاقته المباشرة بتلك القضية؛ سوى
أو حركة الروح العظيمة؛ ولذا فقد وقفوا جميعًا في صف « نَفَس الحياة » نشرفكرة عقيدة
واحد في مكتب المفتش على استعداد لدعم بعضهم البعض.
من الأفضل أن نبدأ الحديث بأن أقول لكم إنه لا ينبغي لأي أحد » : قال المفتشمبتهجًا
منكم أن يأتيني ويُحدثني عن أي أمور إعجازية. أنا رجلٌ عمليٌّ وأعمل شرطيٍّا، والأمور
الإعجازية هذه لن يقتنع بها سوى القساوسة والكهنة. إنَّ هذا القس الذي كان معكم
يبدو كأنه أقنعكم بقصةٍ ما حِيال تلك الميتة المريعة والرأي بشأنها؛ ولكني سأخرجه هو
وعقيدته الدينية من هذا الأمر تمامًا. إذا كان ويند قد خرج من تلك الحجرة، فهناك شخصٌ
ما هو من سمح له بالخروج. وإذا وُجد ويند مشنوقًا يتدلى من تلك الشجرة، فهناك شخصٌ
«. فعلها
أوافقك الرأي تمامًا، ولكن بما أن أدلتنا تقول بأن أحدًا لم يُخرجه من » : قال فينير
«؟ الغرفة، فالسؤال هو: كيف يمكن لأي شخصأن يشنقه في ذلك المكان
كيف يمكن لأي إنسان أن يكون له أنفٌ في وجهه؟ هذا الرجل كان له » : قال المفتش
أنفٌ في وجهه، وكان هناك حبلٌ معقود حول رقبته. هاتان حقيقتان لا تحتملان الشكَّ،
وكما قلتُ فإنني رجلٌ عمليٌّ ولا أعترفُ إلا بالحقائق. لا يمكن أن يكون هذا الأمر قد حدث
«. بفعل معجزة؛ ولذا فلا بدَّ أن هذا من صنيع شخصٍما
كان ألبوين يقف متواريًا بعض الشيء؛ وكانت ضخامة جسمه في واقع الأمر تجعله
يبدو كخلفية طبيعية للرجال الأنحف والأكثر حيوية منه والذين كانوا يقفون أمامه. كان
رأسه الأبيض منحنيًا بصورة معينة، ولكن حين نطق المفتش جملته الأخيرة، رفع ألبوين
رأسه وهزَّ كومة شعره الأشيب وكأنه أسد، وبدا مذهولًا لكنه كان منتبهًا. تقدَّم للأمام
حتى توسَّط المجموعة الواقفة أمامه، فانتابهم إحساسٌ غامض بأن حجمه صار أضخم
من ذي قبل. كانوا ميَّالين بشدة لأن يظنوا أنه أحمق أو دجَّال، ولكنه لم يكن مخطئًا على
الإطلاق حين قال إنه يتمتع برئتين كبيرتين وحيوية كبيرة، يُشبهان ريحًا غربيَّةً عاتية،
ستُذري يومًا من شدَّتها كلَّ الأشياء الخفيفة الوزن بعيدًا.
أعتقد أنك رجلٌ عملي يا سيد كولينز. ربما تكون » : قال ألبوين في صوتٍ رقيق وعميق
هذه هي المرة الثانية أو الثالثة التي تذكر فيها هذا في هذه المحادثة القصيرة؛ ولذا لا يمكن
أن أكون مُخطئًا في ذلك. وهي بالتأكيد حقيقة مثيرة للاهتمام لأي أحد يهتم بالكتابة عن
حياتك وخطاباتك وما تقوله أثناء المآدب، مع وجود صورة لك في سن الخامسة، وصورة
قديمة للغاية لجدتك وآراء عن المدينة القديمة التي هي مسقط رأسك؛ وأنا على ثقة أنَّ
كاتب سيرتك الذاتية لن ينسى أن يذكرها مع حقيقة أن أنفك أفطس وبه بَثرة، وأنك بدين
للغاية حتى إنك لم تكن تستطيع التحرك كثيرًا. وبما أنك رجل عملي، فربما يمكنك أن
تستمر في الاتصاف بهذا حتى تعيد وارين ويند إلى الحياة مرة أخرى، وتعرف بالضبط
كيف يمكن لرجل عملي أن يعبر بابًا فولاذيٍّا، ولكني أظنُّ أنك لا تفهم الأمور على نحوٍ
صحيح. أنت لست برجل عملي. أنت أضحوكة عملية؛ هذا هو ما أنت عليه. كان الرب يهزأ
«. بنا حين ألقى بك في طريقنا
ثم سار بطريقة درامية نحو الباب قبل أن يتمكَّن المفتش المذهول من الرد؛ ولم يكن
هناك رد مناسب يمكن أن يسلب منه مظاهر النصرالتي بدت عليه.
أعتقد أنك كنت محقٍّا تمامًا. إذا كان هؤلاء الرجال يتصفون بالعملية، » : قال فينير
«. فإليَّ بقَس
كانت هناك محاولة أخرى للخروج بصيغة رسمية لما حدث حين أدركت السلطات
تمامًا أهمية من يقصُّون الوقائع وما لذلك من تداعيات. كان الأمر قد تسرَّب إلى الصحافة
بالفعل بأكثر الأشكال النفسية إثارة وصراحة. وسرعان ما أدت المقابلات مع فاندام عن
مغامرته المذهلة والمقالات عن الأب براون وحدسه الروحي الغامض إلى أن يأمل مَنْ
يشعرون بمسئولية إرشاد الرأي العام إلى إرشاده نحو مسار أكثر حكمة. وفي المرة التالية،
جرى التواصل مع الشهود بطريقة غير مباشرة وأكثر لباقة؛ فقد قيل لهم بطريقة لطيفة
تمامًا إن البروفيسور فير يُكنُّ اهتمامًا كبيرًا لمثل هذه الأحداث الغريبة غير الطبيعية؛ وإنه
كان مهتمٍّا بصورة خاصة بقضيتهم المُحيِّرة. كان البروفيسور فير عالِم نفسٍ يتمتع بقدر
كبير من التميُّز؛ وقد عُرف عنه أنه يهتم بصورة غير متحيِّزة بعلم الجريمة؛ ولم يكتشف
الشهود إلا بعد فترة قصيرة من الوقت أن البروفيسور كان له علاقة بالشرطة.
كان البروفيسور فير رجلًا مهذبًا كيِّسًا ويرتدي ملابسذات لون رمادي باهت، وربطة
عنق زاهية وكان له ذقن مستدق أشقر؛ كان يبدو لأي شخصٍ لم يكن على دراية بذلك
النوع من الأساتذة الجامعيين كأحد رسامي المناظر الطبيعية. كان مظهر البروفيسور
يوحي بأنه شخصلا يتَّسم باللطف فقط وإنما بالصراحة أيضًا.
أجل، أجل، أدُرك هذا. يُمكنني أن أخمِّن ما مررتم به. إن الشرطة » : قال وهو يبتسم
غير بارعة في الاستجوابات ذات الطابع النفسي، أليس كذلك؟ بالطبع قال العجوز العزيز
كولينز إنه لا يرغب بشيء سوى الحقائق. يا له من أحمق سخيف! إننا في قضية من هذا
النوع لا نحتاج قطعًا إلى الحقائق فقط، وإنما ما هو أكثر أهمية أن نعرف بأمر ما توهَّمتم
«. به أيضًا
«؟ أتقصد أنَّ ما نعتقد جميعًا بأنه واقعٌ ما هو إلا محضأوهام » : سأل فاندام في جِديَّة
على الإطلاق، إنَّما أقصد أن رجال الشرطة حمقى لاعتقادهم أن » : قال البروفيسور
في مقدورهم إغفال العامل النفسي في هذه الأمور. في الواقع، العامل النفسي هو الأهم على
الإطلاق، رغم أن إدراك ذلك لم يبدأ إلا مؤخَّرًا. بادئ ذي بدء، انظروا إلى العنصرالذي يُشار
إليه بالشخصية. لقد سمعتُ بأمر ذلك القس، الأب براون، من قبل؛ وهو أحد أكثر الرجال
البارزين في وقتنا الحالي. هذا النوع من الرجال يتمتع بوقعٍ وتأثير على من حوله؛ ولا أحد
يعرف كم تأثرت أعصابه بل وحتى حواسه بمثل هذا الأمر في الوقت الراهن. إن الناس
يُنوَّمون مغناطيسيٍّا — أجل، يُنوَّمون مغناطيسيٍّا — فالتنويم المغناطيسي له درجات مثله
مثل أيشيء آخر؛ فهو يتسلل ببطء إلى كل المحادثات اليومية، وهو ما لا يشترط بالضرورة
أن يحدث على يد رجل يرتدي ملابس سهرة ويعتلي منصةً في قاعة عامة. إنَّ عقيدة الأب
براون الدينية تدرك جيدًا سيكولوجية التأثير هذه، وهي تعرف كيف تؤثر في كل شيء
في آنٍ واحد، حتى في حاسة الشم على سبيل المثال. وهي تفهم الآثار الغريبة الناتجة عن
«… الموسيقى على الحيوانات والبشر؛ ويمكنها
تبٍّا، أنت لا تعتقد أنه كان يسير في ذلك الممر وهو يحمل آلة » : صاحَ فينير مُحتجٍّا
«؟ الأرغن الكَنَسية، أليس كذلك
إنِّه أكثر حِنكة من أن يفعل ذلك. إنَّه يعرف » : قال البروفيسور فير وهو يضحك
كيف يركِّز جوهر كل تلك الأصوات والأشكال وحتى الروائح الروحية، بعدة إيماءاتٍ قليلة
بسيطة؛ بطريقة معينة. إن بإمكانه فعل ذلك ليجعل عقولكم تركِّز على الجانب الخارق
للعادة بحضوره فقط، مع انسلاخ الأشياء الطبيعية من عقولكم وتسللها هنا وهناك من
أنتم تعلمون » : واستطرد في كلامه وقد عاد إلى أسلوبه المنطقي البهيج «. دون أن تلاحظوها
أننا كلما درسنا الأمر، زادت غرابة مسألة الدليل البشري. ليس هناك رجل واحد من بين
عشرين رجلًا يلاحظ الأشياء على الإطلاق. وليس هناك رجل واحد من بين مائة رجل
يلاحظها بدقة حقيقية؛ وبالتأكيد ليس هناك رجل من بين مائة رجل يمكن أن يلاحظ أولًا
ثم يتذكر، ثم يصف الأمر في النهاية. لقد أجُريت التجارب العلمية مرارًا وتكرارًا حول هذه
المسألة وهي توضح أن المرء يعتقد بأن الباب يكون مغلقًا في حين أنه مفتوح، أو أن الباب
مفتوح في حين أنه مغلق، حين يكون تحت وطأة الشعور بالضغط والتوتر. وإن الناس
اختلفوا حول عدد الأبواب أو الشبابيك الموجودة في جدار ما كانوا يقفون أمامه تمامًا. لقد
عانوا من أوهام بصرية في وضَح النهار. وقد فعلوا هذا من دون تأثير الشخصية التنويمي؛
ولكننا هنا لدينا شخصية قوية ومقنِعة للغاية وهي عازمة فقط على تثبيت صورة واحدة
في أذهانكم، وهي صورة الرجل الأيرلندي المتمرد الجامح وهو يلوِّح بمسدسه في الهواء
«. ويُطلق تلك الرصاصة الفارغة، والتي كانت أصداؤها تشبه صوت الرعد في السماء
«. أيُّها البروفيسور، أقسم لك بأغلظ الأيمان أن ذلك الباب لم يُفتح قطُّ » : صاحَ فينير
اقترحت بعضالتجارب الحديثة أن وعينا ليس » : استطرد البروفيسور في هدوء قائلًا
في حالة مستمرة من التدفق، إنما هو سلسلة من الانطباعات السريعة للغاية كالسينما؛
فمن المحتمل أن يقوم شخصٌأوشيءٌ ما — إن جاز التعبير — بالتسلل دخولًا أو خروجًا
بين المشاهد. وهذا يحدث فقط في تلك اللحظة التي تكون الستارة فيها مُسدَلة. ربما يعتمد
حديث المشعوذين وكل أشكال خفة اليد على ما يمكن أن نطلق نحن عليه ومضات العمى
السوداء التي توجد بين ومضات الرؤية. والآن ذلك القس والمُبشِّر بالمفاهيم الماورائية قد
ملأ عقولكم بصورة ماورائية؛ صورة ذلك الرجل السلتي الذي يشبه العمالقة وهو يهزُّ
البرج بلعنته. ربما جاءت تلك الفكرة مصاحبة لبادرةٍ أو إيماءةٍ بسيطة لكنها آسِرة، مما
أدى لتوجيه عيونكم وأذهانكم باتجاه ذلك المدمِّر غير المعروف بالأسفل. أو ربما أن هناك
«. شيئًا آخر هو ما حدث، أو شخصًا آخر قد مرَّ بكم
ويلسون الخادم مرَّ بنا في الممر لينتظر على المقعد، ولكني أعتقد » : قال ألبوين ناخرًا
«. أنه لم يصرف انتباهنا كثيرًا
لن تعلم أبدًا كم يمكن أن يكون قد ألهاكم، ربما يكون الأمر هكذا، أو » : أجاب فير
ربما أن أعينكم على الأرجح تتبَّعت بعض إيماءات القس بينما كان يقصُّ عليكم حكايته
السحرية. لقد كانت إحدى تلك الومضات السوداء هي التي تمكَّن السيد وارين ويند فيها
أن يتسلل من الباب ويخرج ليلقى حتفه. هذا هو أكثر التفسيرات أرجحية. إنه مثالٌ على
«. الاكتشاف الجديد. الوعي ليس بخط متصل؛ إنما هو خط متقطِّع
بل متقطِّع جدٍّا، بل يمكن أيضًا القول إنه عبارة عن نقاط » : قال فينير في وهن
«. منفصلة
أنت لا تعتقد حقٍّا أن ربَّ عملك كان محبوسًا في غرفة تبدو كصندوق، » : سأل فير
«؟ أليس كذلك
إنَّ هذا أفضل من الاعتقاد بأني ينبغي أن أكون محتجزًا في غرفة تبدو » : أجابه فينير
مثل زنزانة مبطنة للمجانين. هذا هو ما أحتجُّ عليه في اقتراحاتك، أيُّها البروفيسور. إنني
مستعدٌّ لأن أصُدِّق كلام قس يؤمن بالمعجزات بنفس القدْر الذي أنكر به كلام أي رجل
يؤمن بالحقائق. يخبرني القس أن المرء بإمكانه الاستغاثة بإله لا أعلم عنه شيئًا لينتقم
له بقوة قوانين عدالةٍ أسمى لا أعلم عنها شيئًا. وليس هناك ما يمكنني قوله سوى أنني
لا أعلم شيئًا عن ذلك. ولكن، على الأقل، إن كانت دعوات الرجل الأيرلندي البائس وكذلك
مسدسه يمكن أن تكون قد سُمِعَت في عالَم أسمى من عالَمنا، فقد يتصرَّف ذلك العالَم
السامي بطرقٍ قد تبدو غريبة بالنسبة إلينا، ولكنك تطلب مني أن أنُكر حقائق هذا العالَم
الذي نعيش فيه ووقائعه في حين أنها بارزة أمام حواسي الخمس. وطبقًا لما تقوله، فإنَّ
مجموعة من الرجال الأيرلنديين من الممكن أن يكونوا قد تسلَّلوا حاملين أسلحتهم إلى داخل
تلك الغرفة بينما كنا نتحدث في الخارج، ما دام أنهم استطاعوا استغلال الومضات العمياء
في أذهاننا. إن المعجزات ذات الطابع الديني، كاستحضار تمساح من العَدم أو تعليق عباءة
«. على شعاع شمس، تبدو مقبولة أكثر مقارنةً بما تقول
أوه، حسنًا، إذا كنتم قد عزمتم على تصديق القس » : قال البروفيسور فير باقتضاب
وذلك الرجل الأيرلندي الذي أتى بمعجزة، فليس هناك ما يمكنني قوله. أخشى أنكم لم
«. تسنح لكم فرصة لدراسة علم النفس
«. لا، لكني سنحت لي فرصة لدراسة علماء النفس » : قال فينير بنبرةٍ جافة
ثم قاد فينير رفاقه إلى خارج الغرفة بعد أن انحنى أمام البروفيسور بشكل مهذب
ولم يتحدث حتى وصلوا إلى الشارع؛ ثم خاطبهم بنبرةٍ غاضبة.
مختلون خَرِفون! ماذا يعتقدون بحق الجحيم أنه » : صاح فينير وهو يستشيط غضبًا
سيحدث في العالم إذا لم يكن هناك أحد متأكد تمامًا ممَّا إذا كان قد رأى شيئًا أم لا؟
أتمنى لو كنت قد أطلقت على رأسه الأحمق طلقة فارغة ثم شرحت له أنني فعلت ذلك في
ومضة عمياء له. قد تكون معجزة الأب براون معجزة حقيقية وقد لا تكون كذلك، ولكنه
قال بأن الأمر سيحدث وقد حدث بالفعل. وكلُّ ما يستطيع أولئك المهووسون البغيضون
فعله هو أن يقولوا بأن شيئًا لم يحدث رغم أنه قد حدث. أنصتوا لي جيدًا، أعتقد أننا ندين
لذلك القس بأن نشهد بما قال. إننا جميعًا رجالٌ نتسم بالرشد والرصانة ولم نؤمن بأي
شيء قبل ذلك قطُّ. ونحن لم نكن سُكارى، ولم نكن وَرعين، لكن الأمر حدث كما قال بأنه
«. سيحدث
أتفقُ معك تمامًا. قد يكون هذا بداية حدوث أشياء عظيمة فيما يتعلق » : قال المليونير
بالجانب الروحي، ولكن على أي حال، فإن الرجل الذي يتبع المسار الروحي وهو الأب
«. براون قد حصل بكل تأكيد على ما يريد من هذا الأمر
بعد ذلك بعدة أيام تلقَّى الأب براون رسالة غاية في التهذيب موقَّعة باسم سايلاس
تي فاندام، يطلب منه فيها أن يحضر في ساعة معينة إلى الشقة التي وقعت فيها حادثة
الاختفاء؛ وذلك من أجل اتخاذ خطواتٍ بشأن توثيق تلك الحادثة العجيبة. كانت تلك
الحادثة قد بدأت تنتشر في الجرائد بالفعل، وقد تناقلها المتحمسون لمسألة الإيمان بالقوى
انتحار الرجل » الخفية في كل مكان. ورأى الأب براون تلك الملصقات المتزايدة المكتوب عليها
بينما كان يقطع طريقه نحو « لعنة رجل تتسبَّب في مقتل رجل خَيِّر شنقًا » و « المختفي
بناية مون كريسينت ويصعد السلالم في طريقه إلى المصعد. وقد وجد المجموعة الصغيرة،
فاندام وألبوين والسكرتير، كما تركهم إلى حدٍّ بعيد؛ لكن كان هناك الآن نبرةٌ جديدة تنمُّ
عن الاحترام، بل والتبجيل أيضًا، في حديثهم له. كانوا يقفون بجانب مكتب ويند، وكان
عليه ورقة كبيرة وأدوات كتابة؛ والتفتوا لتحيته.
قال المتحدث عنهم وهو الرجل الغربي ذو الشعر الأبيض وفي نبرته إدراك بطريقة
أيُّها الأب براون، لقد طلبنا حضورك هنا أولًا لكي نُقدِّم لك اعتذارنا ونعبِّر » : ما لمسئوليته
لك عن شكرنا. نحن مدركون لحقيقة أنك أنت من انتبهت للتأويل الروحي لما حدث منذ
البداية. لقد كنا جميعنا متشككين عنيدين، ولكننا ندرك الآن أن المرء ينبغي أن يتخلَّى
عن عناده هذا ليصل إلى الأشياء العظيمة التي توجد فيما وراء هذا العالَم. أنت تمثل تلك
الأشياء؛ أنت تمثل التفسير الخارق للطبيعة للأمور، وينبغي أن نعترف لك بذلك. وثانيًا،
إننا نعرف أن هذه الوثيقة لن تكون مكتملة من دون توقيعك. إننا نُخطر جمعية البحوث
الروحية بالحقائق الدقيقة لما حدث؛ لأننا لا يمكن أن نصف ما يُذكر في الجرائد بأنه دقيق.
لقد بينَّا كيف أن اللعنة قد أطُلقت في الشارع؛ وكيف أن الرجل كان يوجد في غرفة علوية
محكمة الإغلاق كأنها صندوق؛ وكيف تسبَّبت اللعنة في اختفائه، وكيف أدت به بطريقة
غير متصوَّرة إلى انتحاره متأرجحًا على مشنقة. هذا هو كل ما يمكننا أن نقوله عن الأمر،
ولكن هذا هو كل ما نعرفه وما رأيناه بأعيننا. وبما أنك أنت أول من آمن بتلك المعجزة،
«. فإننا نرى جميعًا أنك ينبغي أن تكون أنت أول من يوقِّع على الوثيقة
«. لا، وفي الواقع، أنا لا أعتقد أنني ينبغي أن أفعل ذلك » : قال الأب براون في إحراج
«؟ أتقصد أنك لا ينبغي أن تكون أول من يوقِّع »
أقصد أنني أفضِّل ألا أوقِّع تمامًا. أنتم تعرفون أن رجلًا » : قال الأب براون في تواضع
«. في وضعي ومكانتي ينبغي ألا يمزح بشأن المعجزات
«. ولكنك أنت من قلت إنَّ ما حدث كان معجزة » : قال ألبوين وهو يُحدِّق في الأب براون
أنا آسف. أخشى أن هناك خطأً ما. لا أعتقد أبدًا أنني قلت إن ما » : قال الأب براون
حدث كان معجزة. كلُّ ما قلته إنَّ ما حدث كان من الممكن أن يحدث. وما قلتم أنتم هو أن
ما حدث ما كان من الممكن أن يحدث؛ لأنه إنْ حدث فتلك معجزة. ثم حدث ما حدث؛ ولذا
قلتم إن ذلك كان معجزة، ولكني لم أذكر قط منذ بداية الأمر وحتى النهاية كلمة معجزة
«. أو سحر، أو أيشيء من ذلك القبيل
«. ولكني أعتقد أنك تؤمن بالمعجزات » : اندفع السكرتير قائلًا
أجل، أنا أومن بالمعجزات. أنا أومن بوجود نمور تأكل » : أجابه الأب براون قائلًا
الرجال، ولكني لا أراهم يتجولون في الأرجاء. وإذا كنت أريد معجزات، فإنني أعرف أين
«. أجدها
لا أستطيع فهم أسباب اتخاذك هذا الموقف. تبدو » : قال فاندام بنبرة تملؤها الجدية
بكلامك هذا ضيِّق الأفق، وأنت لا تبدو في نظري شخصًا ضيق الأفق، على الرغم من أنك
قَس. ألا ترى أنَّ معجزة كهذه يمكن أن تدمر الفلسفة المادية تمامًا؟ إن هذه المعجزة تخبر
العالم أجمع وبما لا يدع مجالًا للشك أن القوى الروحية يمكن أن تكون ذات تأثير وهي
«. بالفعل لها تأثيرها. إنك بذلك ستخدم الدين كما لم يفعل أحدٌ من القساوسة من قبل
بدا القس متصلبًا قليلًا ويعلوه على نحو غريب وقارٌ غير مقصود وله طابعٌ رسمي،
حسنًا، أنت لا تقترح أن أخدم الدين بما أعلم أنه كذب، » : رغم جسمه القصير البدين، وقال
أليسكذلك؟ أنا لا أعلم على وجه الدقة ماذا تقصد بتلك العبارة، ولكي أكونصريحًا تمامًا،
فأنا متأكد أنك أنت أيضًا لا تعلم. ربما يؤدي الكذب إلى خدمة العقيدة الدينية، ولكني
متأكد أنه لا يخدم الرب. وبما أنك تهاجم باستمرار ما أومن به، أفلا يكون من الأفضل
«؟ أيضًا أن تكون لديك فكرة عن ماهيته
«. لا أعتقد أني أفهم ذلك تمامًا » : قال المليونير في نبرة تنمُّ عن الفضول
لا أعتقد أنك تفهم. أنت تقول إنَّ ما حدث قد وقع بفِعل » : قال الأب براون ببساطة
قوى روحية. ما هي تلك القوى الروحية؟ أنت لا تعتقد أن الملائكة أخذته وشنقته على
إحدى الأشجار في الحديقة، أليس كذلك؟ وبالنسبة إلى الشياطين، فلا يمكن أن يكونوا هم
مَن فعلَ هذا. إن الرجال الذين فعلوا ذلك قد أتوا على فعل خبيث، لكن خبثهم لم يتجاوز
ما فعلوه؛ فهم لم يكونوا خبثاء بما يكفي ليتعاملوا مع القوى الروحية. إنني أعرف شيئًا
عن اتِّباع الشيطان، وذلك بفعل آثامي؛ لقد كنت مجبرًا على معرفة هذه الأشياء. أعرف
ماذا يعني اتِّباع الشيطان، أعرف دائمًا ما يعنيه هذا عمليٍّا. إنه يعني أن تتمتع بالغطرسة
والخبث، وأن تشتهي أن تكون في مرتبة أعلى من الآخرين، وأن تحب أن تُرهِب الأبرياء
بأشياء لا يمكن فهمها فهمًا كليٍّا، وأن تشتهي أن تبعث الرعب في نفوسالأطفال؛ لهذا فإن
هذا مليءٌ بالغموض والطقوس والجماعات السرية، وما إلى ذلك. إنَّ عيون هؤلاء الأتباع
دومًا ما تنظر إلى الداخل، ومهما بدت مهيبة وجليلة، فإنها تُخفي دائمًا بسمة صغيرة
وارتجف الأبُ براون فجأةً كما لو أن تيارًا باردًا من الهواء قد مرَّ به واستطرد «. ومجنونة
لا تلقِ لهم بالًا أبدًا؛ إنهم ليس لهم أي علاقة بهذا الأمر، صدِّقني. أتظنون أن ذلك » : قائلًا
الرجل الأيرلندي البائس الجامح، الذي كان يجري في الشارع وهو يهذي، والذي بادر بأن
أخبرني بنصف ما حدث في وجهي حين رآني، وهرع مبتعدًا خشية أن يخبرني بالمزيد،
أتظنون أن الشيطان يأتمنه على أيسر؟ إنني موقنٌ بأنه مشترك في مكيدة، ربما مع اثنين
آخرين أسوأ منه، ولكن على أي حال، فإنه كان يشعر بغضب جمٍّ حين هرع إلى الزقاق
«. وأطلق رصاصته الفارغة ولعنته
ولكن ماذا يعني كلُّ هذا بحق السماء؟ إنَّ إطلاق رصاصة فارغة » : صاح فاندام
ولعنة رخيصة لم يكونا ليتسبَّبا في وقوع ما حدث، إلا بمعجزة. إنَّ ذلك لم يكن ليجعل
ويند يختفي كما لو كان جِنيٍّا. ولم يجعله يعاود الظهور مرةً أخرى على بُعد ربع ميل وقد
«. التفَّ حبلٌ حول رقبته
«؟ لا، ولكن فيمَ كان يمكن أن يتسبَّب ذلك » : قال الأب براون في حِدَّة
«. وأنا لا زلت لا أفهمك » : قال المليونير بجِديَّة
أقول، فيمَ كان يمكن » : كرَّر القس كلامه، وقد بدت عليه للمرة الأولى أمارات الانزعاج
أن يتسبَّب ذلك؟ أنت لا تلبث أن تكرِّر أن رصاصةً فارغة لم تكن لتتسبَّب في هذا أو ذاك؛
ولكن إذا كان الأمر يتوقَّف على ذلك، فإنه لم يكن ليتسبَّب في جريمة القتل ولا في حدوث
المعجزة. ولا يبدو أنك تسأل نفسك فيمَ كان يمكن أن يتسبَّب. ماذا كان سيحدث لك لو أن
مجنونًا أطلق رصاصة من مسدسٍ تحت نافذتك من دون وجود سببٍ أو داعٍ؟ ما هو أول
«؟ شيءٍ يمكن أن يحدث
«. أعتقدُ أني سأنظر من النافذة » : فكر فاندام قليلًا ثم قال
أجل، ستنظر من النافذة. هذه هي القصة كلُّها. إنَّها قصةٌ حزينة، » : قال الأب براون
«. ولكنها انتهت الآن؛ وكانت هناك ظروف مُخفِّفة
ولكن لماذا سيتسبَّب نظره من النافذة في إلحاق الأذى به؟ إنه لم يسقط، » : سأل ألبوين
«. وإلا كنا سنجده في الزقاق
«. لا. إنه لم يسقط، بل صعد » : قال الأب براون في صوتٍ خفيض
لقدصعد، لكن » : كان فيصوته نبرةٌ تنمُّ عن أنين أو حسرة، ولكنه استطرد بنبرةٍ ثابتة
ليس على أجنحة، ليس على أجنحة ملائكة أو شياطين، لقد ارتفع بحبل على الوضع الذي
رأيتموه عليه تمامًا في الحديقة؛ لقد سقط حول رقبته حبل معقود في نفس الوقت الذي
أطلَّ فيه برأسه من النافذة. ألا تتذكرون ويلسون، خادمه الضخم، إنه رجلٌ يمتلك قوةً
جسدية كبيرة، بينما كان ويند في خفة القريدس الصغير؟ ألم يذهب ويلسون إلى الطابق
العلوي لكي يحضر النشرة، إلى غرفة مليئة بالأمتعة الملفوفة بحبال كثيرة؟ هل رأى أحدٌ
«. ويلسون منذ ذلك اليوم؟ أتصوَّر أن هذا لم يحدث
أتقصد أنَّ ويلسون اصطاده من نافذته وكأنه سمكة سلمون » : سأل السكرتير قائلًا
«؟ مرقطة
أجل، وأسقطه من النافذة الأخرى في الحديقة، حيث علَّقه المتواطئ الثالث » : قال الآخر
على شجرة. تذكَّروا أنَّ الزقاق كان فارغًا دومًا؛ وتذكَّروا أيضًا أنَّ الجدار المواجه للبناية
كان فارغًا؛ وتذكَّروا كذلك أن الأمر برمته انتهى في غضون خمس دقائق بعد أن أعطى
الرجل الأيرلندي إشارته بإطلاقه الرصاص من مسدسه. بالطبع هناك ثلاثة من الرجال
«. المتواطئين في هذا الأمر؛ وأتساءل إن كان بإمكانكم أن تخمِّنوا شخصية هؤلاء
كان الرجال الثلاثة يُحدِّقون في النافذة المتواضعة المربعة الشكل وفي الجدار الأبيض
الخالي فيما وراءها، ولم يجبه أحد.
بالمناسبة، لا تعتقدوا أني ألومكم على القفز لاستنتاجاتٍ » : أكمل الأب براون حديثه
تستند إلى أشياء خارقة للطبيعة. إنَّ السبب بسيطٌ جدٍّا، حقٍّا. لقد أقسمتم جميعًا أنكم
تتَّبعون الفلسفة المادية بتزمت؛ وقد كنتم جميعًا في واقع الأمر تقفون على نحوٍ متوازن
على حافة الإيمان؛ الإيمان بأيشيءٍ تقريبًا. وهناك الآلاف ممن يقفون نفسموقفكم اليوم،
لكنها حافةٌ خطيرةٌ وحرجة. إنكم لن تشعروا بالراحة إلا حين تؤمنون بشيءٍ ما؛ هذا هو
السبب الذي جعل السيد فاندام يتفحصالعقائد الدينية الجديدة بكل حذر، وجعل السيد
ألبوين يقتبس من الكتاب المقدس كلمات عن تمارين التنفُّس الخاصة بعقيدته الدينية،
وجعل السيد فينير يتذمر بشأن الإله الذي يُنكر وجوده. هنا تصبحون جميعًا عُرضةً
للتأثير عليكم؛ إنه لمن الطبيعي أن تؤمنوا بالأمور الخارقة للطبيعة. إنَّ تقبُّل الأشياء التي
لها تفسيرٌ ماديٌّ فقط لا يُشعِركم بأنكم طبيعيون، ولكن على الرغم من أنَّ الأمر لم يتطلب
سوى لمسة بسيطة لكي تسقطوا جميعًا في هوة الإيمان بما هو خارقٌ للطبيعة فيما يتعلق
بهذه الأشياء، فإن هذه الأشياء لم تكن سوى أشياء طبيعية للغاية في واقع الأمر. ولم تكن
طبيعية وحسب، وإنَّما كانت أيضًا بسيطة بصورة غير طبيعية. أعتقد أنه لم تكن هناك
«. قط قصةٌ أبسط من هذه
إنني لا أفهم شيئًا واحدًا. إذا كان ويلسون » : ضحك فينير ثم بدت الحيرة عليه وقال
هو مَنْ فعل ذلك، فكيف اختار ويند رجلًا مثله ليشغل هذه الوظيفة القريبة للغاية منه؟
«. كيف قُتِلَ على يد رجلٍ كان يراه يوميٍّا لسنوات؟ لقد اشتهر بأنه يُتقن الحُكم على البشر
دقَّ الأب براون بمِظلَّته على الأرضوامتلأصوته بنبرة تأكيدٍ لم يكن يُظهرها إلا نادرًا.
أجل، هكذا قُتِل. لقد كان هذا هو السبب الذي » : وقال بنبرة تكاد توحي بالشراسة
«. تسبَّب في مقتله. لقد قُتِل لأنه كان بارعًا في الحُكم على البشر
حدَّقوا جميعًا إليه ولكنه أكملَ كلامَه وكأنهم لم يكونوا موجودين.
ما الذي يُخوِّل لأي إنسانٍ أن يُصدِر أحكامًا على غيره من البشر؟ لقد » : سألهم قائلًا
كان الثلاثة الذين قتلوه هم الثلاثة الصعاليك الذين وقفوا أمامه يومًا وصَرَفَهم عنه بسرعةٍ
هنا وهناك في أماكن متفرقة؛ وكأنه لا يَحقُّ لأمثالهم أن يُعامَلوا بأي شكلٍ من أشكال
اللطف أو المودة، أو كأنهم ليست لهم إرادة حُرَّة بحُكم الأخوة الإنسانية التي تربط بينهم
وبينه. ولم تكن فترة العشرين عامًا كافية لتخبو فيهم نارُ الغضب التي استعرت بفِعل
تلك الإهانة التي تعرَّضوا لها والتي لم يتمكَّنوا من فهمها في تلك اللحظة حين خَوَّل لنفسه
«. الحُكم عليهم من النظرة الأولى وتقرير مصائرهم
«. أجل، أفهم … وأفهم كيف أنك تفهم كلَّ تلك الأشياء » : قال السكرتير
في الواقع، أنا الملوم إذا كنت قد » : صاح الرجلُ الغربي المُهذَّب المَرِح بحماسةٍ كبيرة
فهمت. يبدو أن ويلسون والرجل الأيرلندي الذي تعرفه مجرد قاتلَين تآمرا لقتل رجلٍ
أحسن إليهما. وأنا لا حاجة لي بقاتل أسود لعين من ذلك النوع، انطلاقًا ممَّا تُمليه عليَّ
«. أخلاقي، سواءٌ كانت تتعلق بعقيدة دينية أم لا
لقد كان قاتلًا أسودَ لعينًا، لا شك في ذلك. وأنا لا أدافع عنه، » : قال فينير في هدوءٍ
«… ولكن أعتقد أنَّ مهمة الأب براون هي أن يصلي ويدعو للبشر كافة، حتى لرجلٍ مثل
أجل، مهمتي هي الصلاة والدعاء للبشر كافة، » : صدَّق الأب براون على كلامه قائلًا
«. حتى لرجل مثل وارين ويند