makariosSelim

Share to Social Media

في مياه البحر الأبيض الزرقاء، المكسوة بأشعة الشمس الذهبية المتوهجة، يذهب سعيد كالعادة، ومعه شبكة الصيد في قاربه الخشبي الصغير ذو الستة أمتار، ليصطاد أسماك السردين والبوري، ثم يعرضها علي التجار في المسمكة. سعيد هو رجل أربعيني، وحيد، أعزب، وُلد وتربي بالإسكندرية، وتعلم الصيد من والده، في كل صباح يلقي بشبكته في المياه، ثم يجلس منتظراً الرزق، يفكر في حكاية قصتها عليه جدته عندما كان صغيرا؛ حكاية عروس البحر الأبيض "فيكتوريا"، حورية البحر فائقة الجمال، والتي بقبلة واحدة منها ستري عيناك الفردوس الخاص بها، وستشعر روحك بالعذوبة الأبدية، وسيختلط الواقع بالخيال، ولن تستطيع التفريق بينهما بعد ذلك. تقول الأسطورة أن فيكتوريا كانت فتاة شابة في العشرينات من عمرها، يُضرب بها المثل في الجمال والروعة، ابنة والي من ولاة الرومان في مصر يدعي الامبراطور كلوديوس، وقعت في حب صياد قبطي فقير يدعي ارمانيوس، وعندما علم والدها بالأمر أمر حراسه بقتل ابنته والقاء جثمانها في البحر عند الفنار، فإمتزجت دمائها بمياه البحر وتحولت روحها الي حورية بحر، نصفها العلوي امرأة ونصفها السفلي سمكة، تعيش في الاعماق المظلمة، الغامضة، وتخرج الي السطح في اليوم الاول من شهر يناير كل عام بعد منتصف الليل، وهو التوقيت الذي أُلقيت فيه جثتها في الماء، وإذ ذهبت هناك، وناديت اسمها ثلاث مرات ستأتي إليك. يُقال أن الكثير من صيادي الإسكندرية قد ذهبوا هناك ولم يرهم احد مجددًا، البعض يقول بأنهم وجدوا فيكتوريا وذهبوا الي جنتها، والبعض الاخر يقول بأنهم قد غرقوا في المياه هناك.
منذ أن كان صغيرا، وهو يفكر في تلك القصة التي لم تفارق ذهنه لوهلة، رغم أن جدته أخبرته أنها مجرد أسطورة تُحكي للأطفال، إلا أن بداخله قد زُرع إيمان لم يرتخي بمرور السنوات بأنه يوما ما سيعثر علي فيكتوريا، وسيعيش في جنتها بعد أن يُقبلها، ورغم ذلك لم يخطر علي بال سعيد قط طوال حياته فكرة الذهاب في هذا التوقيت إلي الفنار، والبحث عن تلك الحورية، واكتشاف ما إذا كانت حقيقة أم لا، إلي أن جاء ذلك اليوم في العام "الف وتسعمائة وثلاثون"، ذلك العام الذي قرر فيه بأن يذهب اخيرًا ليبحث عن فيكتوريا.
انتظر في منزله الصغير المطل علي البحر حتي جاءت الساعة الثانية عشر صباحًا، ثم خرج واتجه نحو الشاطئ، حاملًا بيده مصباح الكيروسين، ثم شرع في فك الحبل الذي يربط به قاربه في عمود حديدي، وبينما كان يفك تلك العقدة، قابله عباس صدفة، أحد زملائه الصيادين، وسأله: "ماذا تفعل في وقت كهذا يا سعيد؟، أنها الثانية عشر صباحًا". رد سعيد بعد أن صمت لوهلة: "أنا ذاهب إلي فيكتوريا، لن اضيع عامًا اخر من المماطلة". ضحك عباس بشكل هستيري، ثم قال: "أ تقصد بفيكتوريا...حورية البحر التي كانوا يقصونها علينا ونحن صغار؟". نظر إليه سعيد ولم يقل شيئًا، فواصل عباس قائلاً: "يبدو أن الوحدة قد جعلتك مخبولاً، هل أنت مجنون يا سعيد؟! فيكتوريا ليست حقيقية...أنها مجرد أسطورة أيها المغفل". رد سعيد بنبرة حازمة: "لا دخل لك في هذا، فقط دعني وشأني يا عباس". أطلق عباس ضحكة أخيرة يُصاحبها نظرات سخرية قبل أن يرحل، ثم غمغم بشكل مسموع: "ارحمنا يا الله". صعد سعيد علي قاربه، ووضع بجانبه مصباحه، وبدأ يحرك مجدافي القارب في الماء. يحوم حوله ظلام حالك، كالظلام الذي تراه عندما تغلق أجفانك قبل النوم، وبصيص النور الاصفر القادم من مصباحه يبدو كبقعة ضئيلة مقارنة بهذه العتمة السوداء. النجوم تتلألأ في السماء كحبات من الماس المُبعثر، المياه باردة جدا، والرياح قاسية، والأمواج غاضبة، إذ تجعل القارب يتأرجح والماء يتغلغل داخله، وكلما اقترب سعيد من الوصول إلي الفنار، كلما ازدادت الأمواج حنقًا وغيظًا.
بعد عناء، وإصرار، وصل سعيد الي الفنار المهجور. ترك مجدافيه جانباً، ثم رفع مصباحه في حذي عينيه، واخرج ساعته من جيبه، ونظر إليها، كانت الساعة الثانية عشر واربعون دقيقة. أخذ نفسًا عميقًا، وبدأ ينادي بصوتٍ عالٍ: "فيكتوريا...فيكتوريا...فيكتوريا". ظل واقفًا في القارب، ممسكًا بالمصباح، يرتجف من البرد، يطالع ساعته، يري الدقائق تمر دون جدوي، تقتل الأمل الذي بداخله، وسط الصمت والصقيع والأمواج التي تهز مركبه، حتي بدأ يشعر بالخزي من نفسه، فكيف لرجل في مثل عمره أن يصدق شيئًا صبيانيًا كهذا، وبدأ يتخيل كيف سيسخر منه كل صيادين الإسكندرية في الصباح التالي عندما يحكي لهم عباس ما حدث اليوم. وضع مصباحه جانبا، وأمسك بمجدافيه ثانية ليجدف عائدًا إلي البر، ولكن إذ بصوت ناعم، قادم من العدم، يكسر ذلك الصمت المهيمن، قائلًا: "إلي أين أنت ذاهب؟، ألن تأتي هنا لرؤية فيكتوريا؟"، ارتعش سعيد خوفا، ونهض مذعورًا، وقال: "بسم الله الرحمن الرحيم، من هذا؟"، رفع مصباحه بجانب عيناه، ونظر خلفه، وإذ بامرأة شابة، فاتنة، عارية الصدر، ذات وجه دائري ناصع البياض، وعينين زرقاوين كزرقة السماء في الصباح الباكر، وشعر اشقر طويل، وشفاه وردية رفيعة، تطالع فيه، متكئة علي القارب. بدأت دقات قلبه تزداد، وبدأ جسمه يرتجف، أخذ يحك عينيه، إذ كان يظن أنه يهلوس، قالت له: "أنا فيكتوريا، يا سعيد"، قال متمتمًا: "أنتِ حقيقة إذن!"، قالت: "هل كنت تعتقد عكس ذلك؟"، قال: "لا، لا...لطالما أمنتُ بكي، وأمنتُ بأني سأراكي يوما ما"، قالت: "وها قد جاء ذلك اليوم، أ تسمح لي بالصعود إلي قاربك؟ المياه باردة جدا"، قال: "بالتأكيد"، خرجت من الماء، وصعدت إلي القارب، وأخذ سعيد يحدق في نصفها السفلي، الذي كان عبارة عن ذيل سمكة ضخم، لونه فيروزي، له زعنفة متشعبة، وتغطيه الحراشف. اقتربت من سعيد، ثم نظرت في عينيه، وقالت: "هل أنت مستعد للذهاب إلي جنة فيكتوريا؟"، فجأة ازداد صوت صفير الريح، يُصاحبه صوت طنين يدوي في أذني سعيد. نظر سعيد في عينيها الساحرة، البريئة، التي تبعث حلاوة في الروح، ثم قال: "إنها أمنية حياتي"، قالت: "إذن انظر في عيناي ولا ترمش"، اقتربت أكثر حتي أصبح سعيد يشعر بأنفاسها علي وجهه، ثم وضعت يديها الناعمتين علي خديه، وبينما سعيد مسحور بعينيها، والسلام يملأ أخيرًا قلبه وعقله، تحولت أظافرها إلي مخالب، وسقط ذلك الشعر الاشقر من علي رأسها، وذاك الوجه الدائري اصبح نحيلاً، إذ يمكنك أن تري عظام وجهها، والعينين الزرقاوين أصبحا سوداوين كسماء ليلة غائمة، وذلك الفم الصغير أصبح واسعًا ذو أسنان حادة كفم قرش، وقبل أن يطلق سعيد أولي صرخاته، اقتلعت تلك المخالب عينيه من وجهه كما تُقتلع النبتة من جذورها، وبدأت الدماء تفيض من جوف عينيه كنافورتين، وقبل أن يطلق سعيد صرخته الثانية، شعر بأسنانها تُغرس في عنقه، إذ قد وضعت عنقه في فمها، ثم قفزت به في الماء عائدة إلى الأعماق الغامضة، وتُرك القارب وحيدًا في الماء، تُأرجحه الأمواج، وبذلك قد كتب سعيد نهايته المأساوية بإيمانه، فلو كان تشكك للحظة كباقي الصيادين، لظل حيًا يُرزق، إذ لم ينتبه سعيد ابدًا لحقيقة أن رغم جمالها الفاتن، إلا أنها لا تزال وحشًا من وحوش البحار.
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Story Chapters

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.