Yahia10

Share to Social Media

" الحزن هو أعمق المشاعر فينا"
"في سن مراهقتي توجهت أنا وأمي والدكتورة ريمة التي هي ابنة خال الوالد، وقد وعيت على وجودها الدائم في بيتنا، خاصة وأنها كانت تولني اهتمامًا خاصًا، رغم كل انشغالها في عملها وأبحاثها. توجهنا إلى البرازيل، إلى مدينة ساو باولو وبالضبط منطقة موجيانا أين كنا نمتلك منزلًا خاصًا، قد اتخذه والدي مقرًا لإدارة أعماله في البن، وفي نفس الوقت كانت أمي "ريتا" تقضي وقتًا مع أخوالي الذين كانوا شركاء أبي في التجارة."
كان منير يغمض عينيه وهو يسترجع ذكرياته، وكأنه يحفر في بئر، كلما حفر زاد العمق وزادت الظلمة، وأنفاسه المتلاحقة تُشعرك كأنه في مضمار للسباق، يسابق نفسه وذكرياته. وقد قابلته رحيل تفصلهما طاولة الإفطار التي تفوح منها القهوة البرازيلية، والهلال الفرنسي الشهير، وقد توسطا حديقة الفيلا حيث تحفهما الأشجار العالية، يسمعان زقزقة العصافير الصباحية.
رحيل تراقب كلمات منير، وتدقق في ملامحه، وتحاول أن لا يفوتها شيء من قصة الدكتور منير الذي تزوجته منذ سنة.
يأخذ منير رشفة من الفنجان، ونفسًا عميقًا من سيجارته، ويكمل: "كانت أمي ريتا مثالية تقريبًا أو هكذا كنت أراها على الأقل، رقيقة، حنونة، هادئة ومسالمة إلى الحد الذي كنت أعتقد معه أنها ليست من الأرض، بل من الجنة. كنت متعلقًا بها إلى درجة أن أبي كان يلومني على ذلك، ويلومها على دلالها لي. بالمقابل كان أبي عصبيًا، سريع الغضب، وكثيرًا ما كنت أسمعه يصرخ على أمي من غير سبب ظاهر."
يسكت منير قليلًا... يستنشق بعض الهواء النقي ليردف: "كان يعاملها معاملة قاسية، ومهينة، رغم أنها مخلصة وتحبه كثيرًا. الوحيد الذي كان يحد من ثورة أبي هو الدكتورة ريمة، وتمنعه عن إيذاء أمي، لذلك أنا أعاملها معاملة طيبة، رغم أننا نعلم أنها أنانية وتستغل أبي."
قام منير ممسكًا بيد رحيل، يستحثها السير في الحديقة، رائحة ورد إكليل الجبل (الروزماري) تملأ المكان، تدخلهما في هالة من الرومانسية التي تقطعها خيوط الذاكرة السوداء المنبعثة من عقل منير. بخطوات متثاقلة وبكلمات أكثر ثقلًا أكمل منير سرد الحكاية: "كنت كلما بدأ أبي في الصراخ على أمي أهرع إلى غرفتي وأغلق بابها، وأضع سماعات الأذن وأزيد صوت الموسيقى، حتى لا أسمع..... وفي أحد الشجارات حيث أراد أبي ضرب أمي كما كان يفعل دائمًا، لم أستطع الهرب. أمرني أن لا أتحرك من مكاني وهو يقول: "لو تحركت من مكانك سأقتلك وأقتل أمك." كان أبي وقتها قد تعرض لخسارة مالية معتبرة جعلته أكثر غضبًا وحدة طبعًا. كان السبب تافهًا جدًا فقط لأني أمي طلبت منه السماح لها بزيارة أهلها. حمل سكينًا مهددًا إياها، في هذه اللحظة شعرت بأن الخطر اقترب من أمي كثيرًا، وأن أبي سيقتلها.... أسرعت لأدفع أمي بعيدًا عن أبي فسقطت من على الدرج.... ماتت أمي.... لم يقتلها أبي..... أنا من قتلها."
بصدر يعلو و ينخفض كانت الكلمات تخرج من فم منير كأنها سلسلة من سكاكين نارية تجرح وتحرق في دورة لا نهائية، وكانت دموعه تنساب على خديه بصمت ثقيل زاحف بشوكه.
رحيل لم تعرف كيف تصنف مشاعرها التي اختلطت، ولم تعد قادرة على فرزها. حكاية منير وسره جعلا من رحيل ريشة في مهب عاصف من الحيرة، هل تشفق على منير أم تلوم الأب أم تلوم ضعف الأم، أم تلوم القدر كله لأنه صنع هذه الحكاية من الأساس.... ضحية واحدة في كل هذا المشهد هو منير، الذي عاين قسوة أب وضعف أم ثم تحمل هو كل النتائج.
كانت رحيل تضغط على يد منير وهي تخفي دمعها المنهمر.... أرادت أن تقطع على منير سرد ألمه ولكنه أكمل كأنه يريد التخلص من كل شيء حتى من ذاته.
"بعد دفن أمي، توعد أخوالي أبي بالانتقام، فهرب بي من البرازيل إلى هنا، وأشاع في الناس أن "ريتا" ماتت في حادثة يخت. لقد أراد أبي حمايتي، وكل ذلك بمساعدة الدكتورة ريمة التي أشرفت على تربيتي وتعليمي." يصمت منير قليلًا ليعود مصرًا على تكملة الحكاية: "بدأت الكوابيس والأحلام تراودني وتنغص علي نومي، وحادثة أمي تفسد نهاري، لقد حملت عقدة لا يمكن حلها. كنت أفكر دائمًا كيف أتخلص من هذا كله، كنت أريد أن أرتاح.. أن أشعر بالسلام... في يوم سمعت الدكتورة ريمة تتحدث عن الذاكرة مع دكتور آخر جاء ليزورها في البيت، فسألتها هل يمكن أن نفقد الذاكرة؟" "نعم.... بكل تأكيد حالات فقدان الذاكرة معروفة." "ثم سألتها سؤالًا عجبت له كما عجبت أنا كيف قفز إلى ذهني: "هل أستطيع أن أغير ذاكرتي؟" ضحكت الدكتورة ريمة وقالت: "في الوقت الحالي لا يمكن... ولكن العلم يفتح كل يوم أفقًا جديدًا." هنا قررت أن أدرس هذا العلم وأن أسخر له كل طاقتي وإمكاناتي، وهذا ما شغلني قليلًا عن التذكر في الحادثة...... أما أبي فقد انغمس في عمله كأنه ثور ساقية، ربما كان يريد هو أيضًا أن ينسى ما حدث لدرجة أنه أهملني عاطفيا."
بعد أن أنهت رحيل سرد القصة على منير وشرحت له دافعه، سألها عن والده، فقادته إلى غرفته دون أن تنبس بكلمة. نظر منير إلى رجل جالس على كرسي متحرك قد شل نصف جسده، وقبل أن يسألها منير قالت رحيل: "قبل عام أصيب بجلطة... وهذه حاله."
***
بدأت حالة منير تسوء , و يدخل فيما يشبه الهستريا , فالصور تتوالد أكثر , الذكرايات تفرض نفسها بشكل أكثر حدة , لقد دخل في منطقة رمادية , ضبابية , تنقسم فيها نفسه إلى أجزاء مثل الأحجية , و لكن عقله لا يستطيع تكوين صورة واضحة أو كاملة , فكان يعيد اللعبة من الجديد , وجد ذاته , لا تقبل أيا من الشخصيات التي بداخله , لا يريد أن يكون عمر فهو ليس عمر , و لا يريد أن يكون منير قاتل أمه , حاولت رحيل أن تقنعه أنه لم يقتل أمه عامدا , فقد كانت حادثة مقدرة , حاولت أن تعيده إلى منير , الرجل الذي أحبيته و تزوجته , كانت لا تفارقه حتى في أشد حالاته ثورة .
في الأخير استشارت الدكتور مزيان في حالة منير فأشار عليها أن تدخله مستشفى الأمراض العقلية و العصبية , فهناك سيكون تحت إشراف طبي كامل . ثم أخبرها أنه مستقيل من العمل .
سألته رحيل البقاء :" دكتور مزيان أنت رجل طيب و صاحب ضمير حي ...أتمنى عليك البقاء معنا ..." و لكنه رد متأسفا :" سيدتي رحيل تجربة الدكتور منير غيرت حياتي كليا , و كشف لي أسرارا لم أكن لأطلع عليها ....كنت أعتقد أني بعلمي سأخدم البشرية و لكني أفسدتها ...تعلمت أن حياتنا الماضية هي هويتنا بل هي وجودنا الحقيقي , قد يكون فيها الكثير من الجوانب المظلمة , و التي لا نرغب في تذكرها , و لكنها في النهاية حياتنا , امتدادنا في التاريخ .......سيدتي حياتنا ليست ملكا لنا بل للأخرين حق فيها أيضا ..و الدليل أنك في الاخير من خسر ...الدكتور منير لا يشعر بنفسه و لا يعرفها ..و أنت من يحمل الألم كاملا الآن "
لم تحرك رحيل ساكنا بعد هذه الكلمات , و لم تنبس بكلمة , نظرت إليه و قد انساب دمع هادىء على خديها , هادىء بمقدار الحزن الذي بداخلها .
خرج الدكتور مزيان مودعا رحيل , و في طريق خروجه التقى بالدكتورة ريمة التي رمقته بنظرة حادة , تقطر شرا , و لكنه لم يعرها اهتماما و مضى , دخلت الدكتورة ريمة على رحيل غرفة المكتب فوجدتها عاكفة على بعض الأوراق , و بدون سلام و بنبرة فيها الكثير من الغضب :" يبدو أنك سيدة رحيل تحاولين الاستلاء على كل شيء بداية من منير إلى أملاكه و أملاك والده المقعد .." ترفع رحيل رأسها اتجاه الدكتورة ريمة التي أضافت :" كوني متأكدة أنني لن اسمح بذلك ...كما لن أسمع بضياع جهدي العلمي , ربما أنا شريرة في نظرك يا رحيل، لكني صنعت من منير عالمًا... نعم، قتلناه كإنسان، لكني أنقذت عبقريته من الموت في الظل. أنا لا أندم... لكني أبكي أحيانًا...سأحارب من أجل كل شيء فعلته و لا يهمني تقيم الأخرين ... " قاطعتها رحيل و هي تقف و تتقدم إليها , و بكلمات ثابتة :" دكتورة ...ما يهمني هو منير الآن .....أما الأملاك و الذي لا تعلمينه أن منير قبل العملية نقل ملكية كل شيء إلى الواقفة أمامك ..زوجته ....و أزيدك من الشعر بيت ...المخبر سيغلق و البحث سيكون مصيره الحرق كما حرق حياتي و حياة منير ....إضافة إلى أنك ممنوعة من دخول الفيلا ....ولك أن تفعلي ما يحلو لك ": انهت رحيل كلامها , مشيرة للدكتورة بالخروج .
خرجت الدكتورة ريمة وهي تسب و تشم و ترمي بكلمات التهديد و الوعيد . كانت رحيل تراقبها و هي تبتعد حتى التهمها البعد تماما .
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.