" نحن نجتمع لنعرف من نكون و من يكون غيرنا"
كانت الساعة السادسة والنصف، عندما دخل الدكتور منير ورحيل الفيلا، وتوجها إلى غرفة المكتب في الطابق الأرضي. كانت الغرفة فخمة كل جدرانها من الخشب، تحتل المكتبة الضخمة كل الجدار الطويل، من أسفله إلى أعلاه، وفي الجدار المقابل علقت لوحات عالمية، وكان المكتب مصنوعًا على طريقة الأرابيسك العربي في آخر الغرفة يقابل بابها ذو المصراعين الخشبيين، وخلف المكتب نافذة مستطيلة عموديًا تتوسط الجدار، بستائر راقية الصنع، وأمامه طاولة اجتماعات ممتدة. الغرفة كانت مزيجًا من الثقافات وكأنك تدخل متحفًا. قام كل الدكاترة المتحلقين حول طاولة الاجتماع، عند دخول منير ورحيل، أومأ إليهم منير برأسه مسلمًا عليهم، ومبتسمًا للدكتورة ريمة التي كانت تجلس في أول كرسي من طاولة الاجتماع بمحاذاة المكتب، حيث قابلتها رحيل في الكرسي المقابل لها، أما منير فاتخذ مكانه على كرسي المكتب، أشار إليهم بالجلوس.
جال الدكتور منير بنظره في وجوه الدكاترة الذين كانوا مركزين معه، ثم نظر إلى الدكتورة ريمة قائلًا: "هل كل شيء جاهز...؟" ردت في جدية كاملة: "نعم دكتور..." تناول الدكتور منير قلمًا كان أمامه وطرق به المكتب طرقتين خفيفتين وبنبرة واضحة: "كلكم شاركتم في البحث وتعرفون حيثياته، أريد أن أشكركم أولًا على جهدكم وصبركم... والبحث نظريًا يعتبر ثورة علمية يمكن أن تغير البشرية، عندما نستبدل الذكريات لشخص ما يعني ذلك أننا نستبدل حياته بالكلية، وهناك الكثير على سطح هذه الأرض يريد أن يغير حياته، ذكرياته لأي سبب من الأسباب، نحن سنساعده في ذلك!!" يصمت قليلًا ثم يضيف: "والبحث العلمي سيبقى مجرد كتابة على ورق إذا لم يطبق.... لذلك فهذا الاجتماع هو مناقشة تطبيق البحث.... والأكيد أن أغلبكم سيسأل كيف يمكن ذلك؟...." يعود الدكتور منير إلى الصمت وكأنه يلتقط أنفاسه، ينظر إلى بوابة الخلاص التي تقترب منه : "المتبرع موجود." هنا بدأ تركيز الحضور يصل مداه، ليخيم صمت ثقيل، يجر نفسه وراء كلمات الدكتور منير. السؤال الذي يحوم في عقول الدكاترة والذي يكاد يفجر جماجمهم هو واحد "من يكون المتبرع"، لم تدم حيرة الحضور كثيرًا، ليتكلم الدكتور منير ويزيد من أعاصير الدهشة، ورياح الذهول: "أنا... من سيكون المتبرع." ...جملة وقعت على رؤوس الدكاترة كأنها قطعة جليد ضخمة، جعلتهم يتجمدون في أماكنهم، وعيونهم تدور بين بعضهم البعض، إلا الدكتورة ريمة التي كانت تبتسم وهي ترى حجم التخدير الذي أصاب غيرها. أما رحيل فكانت في جلسة ثابتة، لم تتغير ملامحها، رغم تلك الدموع التي غافلتها، وانسابت بعيدًا عن عينيها، لا تنظر إلى أحد إلا إلى منير، تختلط بكلماته التي تعرف جيدًا مصدرها، وترفرف مع نظراته التي تعرف إلى أين تصل.
راقب الدكتور منير وجوه الحضور، وعرف أنهم تحت الصدمة، وليقطع عليهم أي مناقشة لهذا القرار قال بنبرة فيها الكثير من الصرامة: "القرار لا يقبل النقاش، ولا المعارضة، ومن أراد الانسحاب له ذلك، ولكن ليدرك جيدًا أنه يضيع فرصة تاريخية لدخول التاريخ العلمي والطبي، كما لا ينسى أبدًا أن يحافظ على أسرار البحث، فلن أسمح بأي شكل من الأشكال أن يخرج السر قبل أن نرى نتائج البحث التطبيقية." تململ الدكتور مزيان على مقعده، وبدأت جبهته تفرز حبيبات العرق، ثم تمالك نفسه قائلًا: "ولكن دكتور منير، كنت أعتقد أن البحث يتوقف عند الجانب النظري وهو بحث عبقري ولا شك، ولكن التطبيق سينتقل به إلى تصنيف آخر، حيث الجريمة، واللاأخلاق، دكتور منير... نحن نسقط أخلاقيًا بهذا..." صمت الدكتور مزيان وهو لا يصدق أنه استطاع أن يفرغ ما بجعبته ويقف أمام جبروت الدكتور منير. نظر إليه الدكتور منير بابتسامة لم يفهم الدكتور مزيان مغزاها، ثم نظر إلى الدكتورة ريمة فانطلقت كثورة جارفة تقول: "اسمع يا دكتور مزيان كنت قد نبهتك من قبل، والتطبيق سيتم بك أو بدونك، الفرصة لن تأتي إلا مرة واحدة، ثم هي إرادة الدكتور منير نفسه، فإن أردت البقاء فأهلًا وسهلًا، وإن أردت الانسحاب فهذا شأنك ولكن تذكر أن شأننا نحن أيضًا أن نحمي بحثنا ونحافظ على سرنا بأي طريقة." كانت كلمات الدكتورة ريمة كافية لتجعل الدكتور مزيان يتصلب ويدخل في التفكير بالعواقب.
وبكل هدوء قال الدكتور منير موجهًا نظره إلى الدكتور مزيان: "هذا البحث استهلكني تمامًا، وهو نهاية حياتي التي أعيشها الآن؟ أنا أريد حياة جديدة بذكريات جديدة، ولو عاينت ما عاينته في حياتي لسعيت بكل جهدك أن تمسح حياتك كلها...... دكتور مزيان ربما نضطر إلى خوض بعض الدروب التي نجهلها... وقد تجبرنا الحياة على المغامرة رغم أننا لا نحب المغامرة..." يصمت الدكتور عن الكلام... ويخفض رأسه يدقق في بعض الأوراق التي كانت أمامه، حتى سمع صوت رحيل: "دكتور مزيان.... نحن نصنع إنسانًا جديدًا... ساعدنا في ذلك." بكلمات رحيل شعر الدكتور مزيان بارتخاء في أعصابه المتشنجة، فقد استطاعت أن تبعث فيه نوعًا من الراحة، ليقول وهو ينظر إلى منير: "سأكون معكم في التطبيق، فقط من باب الراحة التي سنقدمها لك." "جيد." يعقب الدكتور منير على ما قاله الدكتور مزيان، ثم يرفع رأسه نحو الدكتورة ريمة: "وزعي عليهم القصة." انكب الجميع يقرأ الوريقات التي في يديه، فاغتنم الدكتور منير ذلك، ودخن سيجارته وهو يتأمل صورة أمه الموضوعة على المكتب. كان مبحرًا في عمقه يحدثها: "وأخيرًا أمي وجدت التكفير المناسب عن ذنبي اتجاهك... لقد صنعت صكًا للغفران بنفسي أو على الأقل للنسيان، عذرًا لن أستطيع أن أتذكرك بعد اليوم.... وجهك الجميل هو الجحيم الذي أفر منه رغم أني أريده."
انتبه منير إلى أن الكل أكمل القراءة ، لقد أخذ وقتًا طويلًا في استغراقه دون أن يشعر، اعتدل في جلسته، قائلًا: "القصة بين أيديكم هي ذكريات جديدة، أو هي حياتي التي لم أعشها، وهي من إبداع زوجتي رحيل." صمت قليلًا لينظر إلى رحيل ويخترقها بنظراته ليقول بنبرة فيها الكثير من الحب والضعف، كمسافر لا يدري مصيره: "لقد أردت وأرادت أن تكون رحيل جزءًا من حياتي الجديدة، ستكون همزة الوصل بين الحياتين، فأنا كما أحببتها منير أريد أن أحبها وأنا عمر." يسكت قليلًا مرددًا نظره بين الحضور، يحاول أن يقرأ ما يدور في خواطرهم، ليردف قائلًا: "كل شيء جاهز.. ومعد له مسبقًا، البيت الذي تجدونه في القصة، من سيكون أبي.. ونظر إلى الدكتور فيصل أو سي لخضر، وأمي طبعًا الدكتورة ريمة..... هذا الاختيار مدروس، فالدكتور فيصل دكتور نفس وأعصاب والدكتورة ريمة هي من ربتني وتعلم عني الكثير، لذلك فهما سيكونان عائلتي وفي نفس الوقت المشرفين والمراقبين لحالتي بعد العملية..... يعني أردت الجمع بين الجانب الطبي والعاطفي." لما أحست الدكتورة ريمة أن الدكتور منير يلوذ بصمت مجهول الهوية قالت متحفزة: "هل نبدأ المناقشة العلمية للتطبيق؟" "نعم. سنبدأ من الفكرة الاساسية وهي استعمال التحفيز الكهرو- عصبي العميق لمسارات الذاكرة في الفص الجبهي , ثم عملية مسح الشبكات الترابطية القديمة بالإنزيم المعدل , ثم إعادة غرس ذاكرة مشفرة عبر جهاز النقل العصبي البيولوجي المبرمج .... " رد الدكتور منير مسترسلا في النقاش ، وكأنه يجهز حقائبه لسفر بعيد مجهول.
استعملنا التحفيز الكهرو-عصبي العميق لمسارات الذاكرة في الفص الجبهي، ومسحنا الشبكات الترابطية القديمة بإنزيم معدل، ثم أعدنا غرس ذاكرة مشفرة عبر جهاز نقل عصبي بيولوجي مبرمج."