الفصل الأول:
لم أكن أؤمن بالخرافات.
في بلدة نوفيرا، في عيادتي الصغيرة رقم 4، بدأ كل شيء في صيف أغسطس اللاهب.
كان صمت البلدة في الخارج كان خانقًا، وهدير المروحة القديمة يرافق أفكاري كأنها تهمس لي بما لا أريد سماعه.
جلست على الكرسي الجلدي المتهالك في عيادتي، أراجع ملفات المرضى.
وكل شيء بدا طبيعيًا... حتى طرَقَ الباب ذلك الغريب الذي اسمه لم يكن على القائمة.
لا أدري لماذا انتابتني رعشة حين نظرت إليه، كأنني رأيته من قبل، أو كأن عينيه رأتا أكثر مما ينبغي.
— "اسمك غير موجود،هل لديك موعد؟"
نظر إليّ، وابتسم ابتسامة خفيفة، ثم قال:
— "أنا كنت هنا قبل الكل…هل نسيتني يا دكتور؟"
ارتجفت يدي للحظة، لا أدري لماذا…
— "ممكن تذكّرني باسمك؟"
اقترب بخطى بطيئة، جلس على الكرسي المقابل لي، ورفع نظره بثبات:
— "لم يكن لي اسم… بس إنت أعطيتني إياه."
شعرت بشيء يضغط على صدري، كأن الغرفة أصبحت أضيق…
فتحت الدفتر لأبحث في سجل المرضى، قلّبت الصفحات سريعًا… لا أثر له.
— "أنت مريض؟"
— "كنت… لكن ليس هنا. أنا جئت من نوفيرا القديمة."
فتحت دفتر المراجعين، رغم أنني كنت واثقًا من عبث المحاولة… الأوراق تقلبت من تلقاء نفسها، ثم توقفت عند صفحة بيضاء تمامًا، كأنها تنتظر شيئًا يُكتب فيها.
— "نوفيرا القديمة؟" سألته بنبرة حاولت جاهدًا أن تبدو ثابتة.
ابتسم، لكن عينيه ظلّتا جامدتين، كأنهما لا تنتميان لهذا المكان.
— "ليس كل ما تحتفظ به الذاكرة حقيقيًا… وبعض الذكريات حين تُمحى، تصبح لعنة."
تسلّل البرد إلى أطرافي كزحف ظلّ لا يرى. نظرت إلى ساعتي، عقاربها توقفت عند الثالثة وثلاثة وثلاثين.
رفعت عيني إليه مجددًا.
— "ما هي حالتك؟ أخبرني بوضوح."
أمال رأسه للخلف، ثم تثبّت بصره في السقف كأنه يرى شيئًا خلف الجدران.
— "حالتي؟ أنا أول من دخل إلى هذه العيادة يوم افتتاحها… لكنني لم أخرج منها قط."
تسلل الخوف إلى أعماقي كدخان يتصاعد في غرفة مغلقة. لا… لا بد أنه مضطرب عقليًا. مجرد مريض يعاني من توهّمات.
مال بجسده للأمام فجأة، وهمس بصوت خافت كأنه لا يريد للحيطان أن تسمعه:
— "جثتي… لم يعثروا عليها بعد، دكتور.
لكنك تعرف…
أنت من يجب أن يتذكّر."
أعدت ظهري إلى الكرسي.
حسنًا… سأحاول أن أبدو هادئًا.
لا جدوى من الانفعال الآن. ربما أستطيع استخراج شيءٍ مفيد منه. الاسم… المرض… أي خيط.
(بصوت مسموع، بنبرة ساخرة خفيفة)
— "حسنًا، لنفترض أنني سأساعدك في... إيجاد جثتك، أليس من الأفضل أن تخبرني أولًا باسمك؟ وما هو المرض الذي جئت تشكو منه حينها؟"
نظر الي وابتسم، ولكن بعدها
اجتاح رأسي ألم مفاجئ، وكأن أحدهم غرز إبرة في أعماق جمجمتي. لم أفهم ما حدث… لم يكن هناك تحذير، فقط موجة حارقة من الألم.
تمسكت بطرف المكتب، شعرت بالدوار، والعيادة بدأت تتلوى من حولي…
الضوء أصبح باهتًا، والهواء أثقل من المعتاد.
أغمضت عينيّ لثوانٍ… فقط لألتقط أنفاسي…
لكن حين فتحتُهما مجددًا…
كان الكرسي فارغًا.
الرجل اختفى.
لا صوت.
لا حركة.
وكأن أحدًا لم يكن هناك أصلًا.
نظرت إلى أرض الغرفة، إلى الباب، إلى النافذة… لا أثر.
لكنني أقسم… أقسم أنني شممت عطرًا غريبًا…
عطرًا لم يكن في المكان قبل لحظة.
ثم سمعت تلك الهمسة، تخرج من جدارٍ لا أعلم مصدره:
"إنه يعرف… لكنه لا يستطيع أن يتكلم."
تجمد الدم في عروقي.
ركّزت سمعي، ظننت أنني أتخيل… لكن الهمسة تكررت، أقرب… أبطأ… وكأنها تُقال في أذني مباشرة.
أمسكت رأسي بكلتا يديّ، أنفاسي تقطعت، وقلبي بدأ ينبض كطبول معركة.
ركضت إلى الباب وفتحته بسرعة…
الصالة كانت خالية… مظلمة على غير العادة.
الأنوار تنطفئ وتعود، وتلك الهمسات تلاحقني من كل زاوية.
رجعت للداخل، أغلقت الباب، وأسندت ظهري إليه.
أمسكت دفتري، قلبت الصفحات بحثًا عن أي سجل لذلك الرجل… اسمه، مرضه، أي شيء.
ولا شيء.
كأنه لم يوجد يومًا.
لكني أقسم أنه كان هنا… أنا رأيته.
تحدثت إليه. تنفست نفس الهواء الذي تسرّب من بين صمته.
ورغم أني وحدي الآن…
كان هناك ظل، خلفي، على الحائط…
لا يتحرك عندما أتحرك.
أخذت مفاتيحي بتوتر، وأقفلت العيادة خلفي.
كنت أسمع صوت دقات قلبي أعلى من خطواتي.
الشارع أمامي كان فارغًا، صامتًا إلا من صدى صرير الباب حين أغلقته.
وضعت يدي على جبيني… ذلك الألم لم يفارقني منذ غادر الرجل العيادة… لا، منذ اختفى.
ركبت سيارتي.
أشعلت المحرك، لكن صوت الراديو اشتغل من تلقاء نفسه…
همسات.
خفضت الصوت فورًا، قلبي قفز في صدري.
"كفى… إنه مجرد إرهاق."
قلت ذلك لنفسي، وانطلقت نحو البيت.
كل شيء بدا مألوفًا، ومع ذلك… كأن شيئًا خفيًا يراقبني.
وصلت إلى منزلي في ضواحي نوفيرا.
بيت صغير، هادئ… أو هكذا كنت أظنه.
دخلت، رميت معطفي على الأريكة، وتوجهت مباشرة إلى الحمام.
غسلت وجهي، نظرت في المرآة…
وانتبهت أن البخار الذي يغطي الزجاج… كُتب عليه بخط مرتعش:
"هو يعرف… لكنه لا يستطيع أن يتكلم."
مسحتُ البخار بسرعة عن المرآة، وأنا أتمتم:
"كفى هلوسة… هذا ليس وقت الخدع البصرية."
دخلت غرفتي. الضوء الخافت الذي ينبعث من المصباح الجانبي كان دافئًا على غير العادة…
ربما لأني كنت بحاجة للدفء أكثر من أي وقت مضى.
رميت جسدي المنهك على السرير، وسحبت الغطاء فوق رأسي.
تنهّدت…
كل شيء تحت السيطرة.
أنا طبيب. أنا أفهم الأمور.
لكن داخلي كان يهمس بشيء آخر…
همسٌ لا أستطيع حتى أن أصفه.
مرّت الليلة بهدوءٍ غريب.
لا كوابيس.
لا طَرق أبواب.
لا ظلال عند المرآة.
فقط… هدوء.
لكن قلبي ظلّ خفيفًا، وكأن شيئًا ما… نسي أن يودّع.
* * * * * * * * *
"استيقظت بعد ليلةٍ بدت هادئة. كانت الساعة تُقارب التاسعة صباحًا. جلست على طرف السرير وأنا أسترجع مشاهد الأمس، ثم همست لنفسي:
— مجرد أوهام... إرهاق لا أكثر.
أنا طبيب نفسي وأعصاب، أرى يوميًا حالات قادرة على التسلل إلى أعماق عقلي الباطن. ما حدث بالأمس ليس إلا انعكاسًا لكل ما أحمله في ذهني.
هكذا أقنعت نفسي... أو حاولت."
دخلت إلى الحمام غسلت وجهي بالماء البارد، وكأنني أحاول إيقاظ شيء في داخلي، شيء لا يريد النهوض.
ارتديت معطفي الأبيض، حملت مفاتيحي، وخرجت متجهًا إلى المشفى.
الطريق كان هادئًا بشكل غريب، حتى الهواء بدا ساكنًا، كأن المدينة تنام بعيون مفتوحة.
دخلت إلى الطابق المخصص للأمراض النفسية والعصبية، حييت الممرضين، ثم اتجهت إلى مكتبي.
فتحت الباب، لكنني تجمدت.
كان كرسي المرضى يتحرك قليلًا... وكأن أحدهم نهض منه قبل لحظات فقط.
نظرت إلى الملف الموضوع على المكتب...
كان هناك اسم لم أكتبه أنا، ولم أرَ المريض من قبل:
"الاسم: زين نيشان
العمر: ٢٥ سنة
الشكوى: يسمع أصواتًا، ويشعر أنه ميت."
جلست على الكرسي، وضعت الملف أمامي أتأمله بعينين مثقلتين بالنعاس والشك.
الاسم: زين نيشان
العمر: ٢٥ سنة
الشكوى: يسمع أصواتًا ويشعر أنه ميت.
مررتُ بإصبعي على الورقة، كان الخط مرتبًا، باردًا، وكأنه طُبع دون يد بشرية.
"متى جاء هذا المريض؟" همستُ لنفسي.
فتحتُ الصفحة التالية... لا تواريخ، لا ملاحظات، لا زيارات سابقة.
غريب. هذا الملف يبدو جديدًا، لكن الورق أصفر كأنه مرّ عليه عقد من الزمان.
أعدت إغلاقه ببطء، ورفعت رأسي نحو الباب المغلق...
لحظة، هل هو نفس الرجل الذي رأيته البارحة؟
هل عاد؟
أم أنه لم يغادر قط؟
كنتُ ما أزال أحدّق في الورقة، كأنني أحاول انتزاع معنى خفي من بين السطور، حين اندفع الباب فجأة دون سابق إنذار.
ارتجفتُ في مكاني، وجفلتُ كأن تيارًا كهربائيًا قد اخترق عمودي الفقري.
دخل أحد الممرضين مسرعًا، وجهه متوتر، وأنفاسه متلاحقة، ونظراته تتنقّل في الغرفة كأن الخطر يلاحقه.
قال بصوت متوتر وسريع:
"دكتور سهوان، هناك حالة طارئة في قسم الطوارئ... يجب أن تأتي فورًا!"
نظرتُ إليه بذهول، وكأن عقلي ما زال يحاول اللحاق بكلماته.
"ما الذي يحدث؟" تمتمتُ وأنا أضع الورقة جانبًا.
اقترب مني بخطوات سريعة وهمس وهو ينظر خلفه كمن يخشى أن يسمعه أحد:
"دكتور سهوان... الحالة غريبة جداً... المريضة متخشبة الجسد، شاخصة بعينين بيضاء تماماً، لا رمش... لا حركة."
شهقتُ دون أن أشعر، فأكمل بسرعة:
"لكن كل المؤشرات الحيوية... قلبها، تنفسها، ضغطها... كلّها طبيعية. الجهاز يقول إنها بخير."
توقفت أنفاسي للحظة، قبل أن يضيف بصوت منخفض مشوب بالارتباك:
"وأهلها... يقولون إن نوبة غريبة أصابتها فجأة. لحظة واحدة كانت تتحدث بشكل طبيعي، واللحظة التالية... كانت على هذا الحال. ومنذ تلك اللحظة لم تنطق بحرف."
شعرت بوخز في مؤخرة عنقي، والبرد بدأ يزحف على أطرافي برغم حرّ النهار.
"أين هي الآن؟"
سألتُه وأنا أنظر في عينيه، أبحث عن خيوط المنطق في هذا الجنون القادم.
قال وهو يمشي بجانبي:
"سرير الطوارئ 6... لكن، دكتور... قبل أن نصل، هناك شيء آخر..."
توقفت، ونظرت إليه بحدّة.
"ماذا أيضاً؟"
همس كأنه يخشى أن يسمعه الجدار:
"قبل أن تفقد وعيها، قالت شيئًا غريبًا... قالت اسمك. وقالت:
أخبروا سهوان... أنه أخطأ التشخيص."
* * * * * * * * *
دخلت إلى قسم الطوارئ، فاستقبلني مشهد غير مألوف. تجمّع عدد من الأطباء والممرضين والممرضات حول السرير رقم 6، كانت الهمهمات منخفضة، والوجوه مشدوهة، والعيون تتبادل نظرات الرعب والدهشة.
اقتربت بخطى متسارعة، وما إن تجاوزت آخر صفٍ من الواقفين حتى وقعت عيناي عليها… فتاة شابة، ممددة على السرير كأنها جثة تم إحياؤها دون روح. جسدها متخشب بالكامل، كأن الزمن توقف فيها.
عيناها شاخصتان إلى الأعلى، البياض يكسوهما بالكامل، دون طرفة. لم يكن هناك أثر للحياة فيها سوى المؤشرات الحيوية على الشاشة المجاورة: النبض مستقر، الضغط طبيعي، الحرارة ضمن المعدلات.
كانت يداها متيبستين على جانبيها، وجلدها بارد، بارد كأنها كانت مغمورة في الجليد.
مالت إحدى الممرضات نحوي وهمست، صوتها مبحوح وفيه شيء من الذعر:
– دكتور سهوان، أهلها يقولون إنها كانت تصرخ، صرخة طويلة وغريبة… بعدها فجأة سكتت. ومن ذلك الحين وهي على هذا الحال.
رفعت رأسي أنظر إلى عينيها البيضاء، وأحاول تفسير ما أراه. لا شيء في الطب يفسّر هذه الحالة.
وفجأة…
رمشت.
أدرتُ وجهي إلى الممرض وقلت بهدوءٍ أخفي به ارتباكي:
"أين ذوو هذه المريضة؟ أودّ معرفة ما حدث لها بالتفصيل."
أشار برأسه نحو نهاية الممر، حيث وقف رجل وامرأة يبدوان في الخمسينات من عمرهما، ملامحهما شاحبة، وعيناهما متورمتان من البكاء والقلق. اقتربت منهما وعرّفت بنفسي، فاندفعت السيدة بالكلام بصوتٍ خافتٍ متقطع:
"اسمها ميرا... ابنتنا الوحيدة... كانت بخير تمامًا... البارحة فقط، في منتصف الليل، استيقظت تصرخ وتضحك في آنٍ معًا، وكأنها ترى أحدًا لا نراه... ثم بدأت تتحدث بكلام غير مفهوم، تسقط على الأرض، وتنتفض، حتى فقدت وعيها... منذ ذلك الحين لم تتحرك."
قاطعها الأب بصوت أجش:
"أخذناها إلى أقرب مشفى، قالوا إنها بلا أي مشاكل جسدية، طلبوا منا القدوم إلى هنا... قالوا: طبيب الأعصاب في مشفى نوفيرا قد يكون الوحيد القادر على تشخيص ما يحدث."
شعرت بقشعريرة تسري في عمودي الفقري. لم أستطع تجاهل تلك التفاصيل، خاصّة وأن شيئًا ما في عيني الفتاة حين نظرتُ إليها قبل قليل... شيء خفي، مألوف، جعل قلبي ينبض على نحوٍ غير طبيعي.
نظرت إلى الممرضة وقلت:
"انقلوها إلى غرفة الفحص فوراً. أريد أن أراها عن قرب... هذه ليست مجرد نوبة عصبية."
دفعت الممرضه السرير المتحرّك بيدها، وخلفي الممرّض الذي لم ينطق بكلمة منذ دخولنا. كانت الفتاة مستلقية بثبات غريب، جسدها جامد كأن الحياة قد هجرته، وعيناها شاخصتان إلى الأعلى، بياضهما لا يعكس شيئًا سوى الفراغ.
وصلت إلى غرفة الفحص، فتحت الباب وأدخلتها، ثم أغلقته خلفي بصمت.
اقتربت منها ببطء، وضعت ملفها جانبًا وبدأت بفحص المؤشرات الحيويّة. النبض... منتظم. التنفّس... طبيعي. الضغط... مستقر. كلّ شيء يقول إنها حيّة. لكن ملامحها تقول العكس.
أخذت مصباح الفحص، سلّطته نحو عينيها:
– استجيبـي... هل تسمعينني؟
لم تطرَف.
همست وأنا أراقبها:
– إن كنتِ قادرة على سماعي... حرّكي إصبعك.
لبثت لحظاتٍ دون حراك. ثم، كما لو أنّها سمعت نداءً من بُعد، تحرّك بنصر يدها اليمنى حركةً خفيفة... بالكاد تُرى، لكنها كانت كافية.
تراجعت قليلًا، شعرت بقشعريرة تتسلّل إلى جلدي.
همست لنفسي:
– هذا وعيٌ محبوس... أو عقلٌ محاصر خلف جدارٍ لا يُرى.
فتحت الملف مجددًا، قرأت الاسم المكتوب في الأعلى: "زين نيشان."
وتحته مباشرة: "الشكوى: يسمع أصواتًا... يشعر أنّه ميت."
نظرت إليها مجددًا... وكأنني أرى ذلك المريض بعينه.
نظرتُ إلى الممرضة الواقفة بجانبي وقلت بصوتٍ منخفضٍ يحمل شيئًا من التوتر:
"انقلوها إلى غرفة خاصة بها، وراقبوها على مدار الساعة... ربما تستعيد وعيها في أية لحظة. أريد تقريرًا مفصّلًا عن كل حركة، حتى لو كان مجرد رمش."
هزّت رأسها سريعًا، ثم بدأت بإعطاء التعليمات للممرضين الذين هرعوا لدفع سرير الفتاة عبر الممرات الصامتة.
وقفت للحظات أحدّق في الفراغ، وفي داخلي شيء لم أستطع تفسيره. لم تكن هذه المرة الأولى التي أواجه فيها حالة نفسية غريبة، لكن هذه المريضة تحديدًا... كان حولها شيء لا يُشبه شيئًا مما تعلّمته أو واجهته.
لم تكن المؤشرات الحيوية كافية لتقنعني بأنها على ما يُرام، ولا السكون القاتل في جسدها كان طبيعيًا. بل إن نظرة عينيها الشاخصتين، البيضاوين بالكامل، كانت تحمل شيئًا من الإدراك... كأنها كانت ترانا لكنها غير قادرة على إخبارنا كيف أو لماذا.
استدرتُ مغادرًا، وعلى طرف لساني سؤال واحد يتكرر:
"من أنتِ... وماذا يحدث هنا؟"
غادرتُ قسم الطوارئ بعد أن تأكدت من وضعها في الغرفة الخاصة، لكن شيئًا ما بداخلي لم يهدأ.
أعلم تمامًا أن ما رأيته لم يكن مجرد حالة نفسية عابرة، ولا مجرد عرض عصبي نادر.
صوت خطى الممرضة خلفي تلاشى... والضوء الأبيض في نهاية الممر أصبح باهتًا.
وقفت هناك، في منتصف الطريق بين الشك واليقين، بين العلم وما لا يُفسَّر.
وقبل أن أغادر المبنى، ذهبت لكتابة التقرير الخاص بتلك الحالة لكي أقدمه غدا صباحا لرئيس قسم الامراض النفسية والعصبية.