الفصل الأول: نداء الريح
كانت القرية عند سفح الجبل تبدو كأنها قطعة صغيرة من عالمٍ منسيّ. بيوت طينية متقاربة، شرفاتها الخشبية مائلة، وأزقتها الضيقة تُنبت أعشابًا صغيرة بين الحجارة. الهواء هناك دائمًا يحمل رائحة الحطب المحترق ممزوجة برائحة الطين الرطب.
القرية تعيش على إيقاع بطيء؛ رجال يذهبون فجراً إلى الحقول، نساء يخبزن في التنور، وأطفال يركضون حفاة يتبادلون الضحك والصراخ. لكن وسط هذا الهدوء البسيط، كان هناك قلب لا يعرف السكون. قلب الصبي إياد.
إياد، ابن الخامسة عشرة، كان مختلفًا عن أبناء جيله. وجهه يحمل ملامح حادة رغم صغر سنه، عيناه البنيتان الواسعتان تلمعان بفضول لا ينطفئ، وابتسامته غالبًا ما تُغضب أمه التي ترى فيها تحديًا للعالم. لم يكن يحب العمل في الحقول مثل باقي أبناء القرية، بل كان يقضي معظم وقته جالسًا على صخرة كبيرة تطل على النهر، عيونه لا تبتعد عن الغابة السوداء الممتدة خلف المياه.
تلك الغابة التي صارت أسطورة يتوارثها أهل القرية جيلًا بعد جيل.
يقول الشيوخ: “لا تدخلوا الغابة… أشجارها تبتلع النور، وأصواتها تُفقد العقل. من يعبر حدودها يضيع ولا يعود.”
أطفال القرية كانوا يخافون حتى من النظر إليها عند الغروب. أما إياد، فقد كان يشعر بشيء آخر… شيء غامض يشده إليها كالمغناطيس.
أحيانًا، حين تهب الريح من جهة الغابة، كان يشعر أنها تحمل همسًا خفيًا لا يسمعه سواه. كأن الغابة تناديه باسمه.
كان يحدّث نفسه بصوتٍ منخفض:
"هل يعقل أن أكون أنا المقصود؟ هل يمكن أن يكون هناك سر ينتظرني خلف هذه الأشجار؟"
---
في تلك الليلة
حلّت ليلة غريبة على القرية. السماء غطاها غيم كثيف، والريح عصفت كأنها تُعلن عن حدث قادم. إياد جلس في غرفته الصغيرة المظلمة، يراقب من نافذته أوراق الأشجار وهي تتراقص بعنف.
ثم سمعها… الهمسة.
واضحة هذه المرة، أقرب إلى نداء:
"إياد… اقترب… الوقت حان."
ارتجف جسده كله، لكنه لم يصرخ. بل شعر بحرارة تجري في عروقه، مزيج من خوف وحماس لم يعرفه من قبل. نهض بسرعة، التقط حقيبته البالية، وأخذ يضع فيها ما استطاع:
رغيفي خبز يابسين خبزتهما أمه صباحًا.
قربة ماء صغيرة.
قطعة قماش قديمة ليغطي نفسه بها.
وسكينًا صدئة كان جده قد تركها له قبل وفاته.
أمسك السكين لحظة، فتذكر وصية جده:
"ستأتي أيام تبحث فيها عن معنى هذه السكين. لا تتركها أبدًا، يا إياد."
لم يفهم حينها ما قصد به الجد، لكن الليلة، شعر أن الوصية بدأت تنكشف.
---
لحظة الرحيل
تسلل من بيته بخفة وهو يتجنب صرير الباب، مرّ في الأزقة المظلمة حتى وصل إلى النهر. كان الليل ساكنًا إلا من صوت الماء وهو يصطدم بالصخور.
وقف عند ضفة النهر، ينظر إلى الجسر المكسور الذي كان في الماضي رابط القرية بالغابة. نصفه متهالك، ونصفه الآخر غارق في المياه.
القرية كلها تعتبره علامة فاصلة: ما وراءه هو المجهول المحرّم.
تنهد إياد وهمس:
"كل شيء يبدأ من هنا."
جلس يراقب تدفق الماء، يفكر في أهله الذين سيستيقظون صباحًا ولا يجدونه. ستمر أمه من أمام غرفته، تناديه ليذهب معها للحقل، وستكتشف غيابه. هل ستبكي؟ هل سيبحثون عنه؟
لكن رغم هذه الأفكار، كان صوته الداخلي أقوى:
"لن أتراجع… ليس الليلة."
وبينما هو غارق في التفكير، دوّى عواء ذئب من بعيد، ارتجف قلبه. التفت حوله بسرعة، فرأى عينين تلمعان في الظلام من
الجهة المقابلة للنهر، عند مدخل الغابة.
كانت عينا ذئبٍ حقيقي. لكنه لم يبدُ كذئب عادي… كان واقفًا بثبات، يحدق فيه بتركيز، كأنه يعرفه، كأنه ينتظره.
أمسك إياد بالحبال القديمة المعلقة ببقايا الجسر. شدها بقوة ليتأكد أنها لم تتعفن تمامًا. ثم بدأ يخطو خطوة بعد أخرى على الألواح المهترئة، وكل صوت صرير تحت قدميه كان يذكّره أنه قد يسقط في أي لحظة.
الماء تحته كان يجري بقوة، والبرد يلسع جسده.
وصل منتصف الجسر، رفع عينيه ليرى الذئب ما زال يراقبه من بعيد، لم يتحرك، لم يهاجمه.
ابتسم إياد رغم خوفه وقال بصوتٍ خافت:
"انتظرني… أنا قادم."
عندما خطا آخر خطوة ووصل الضفة الأخرى، شعر أن العالم تغيّر فجأة. الهواء صار أثقل، ورائحة الغابة تملأ صدره: مزيج من رطوبة وأوراق متعفنة وشيء آخر لا يعرفه… رائحة غريبة كأنها قادمة من زمن آخر.
الذئب تحرك ببطء، تقدّم نحوه، واقترب حتى أصبح على بعد خطوات قليلة. ثم جلس على الأرض، وأسقط من فمه شيئًا صغيرًا يلمع.
انحنى إياد والتقطه… كان حجرًا أزرق متوهجًا.
حينها، هبّت ريح قوية حملت نفس الصوت الذي سمعه ليلًا:
"الطريق بدأ… لا عودة بعد اليوم."
وهكذا، تبدأ رحلة إياد الحقيقية.