الفصل الثاني: الجسر المكسور والعبور إلى الغابة
وقف إياد عند حافة النهر، والماء يتدفق كجيشٍ هائج لا يعرف رحمة. أصوات ارتطام التيار بالصخور تملأ الأذن وتغطي على أي شيء آخر. الجسر القديم، بقاياه المعلقة مثل عظام متآكلة، بدا وكأنه يتحداه: "هل تجرؤ؟".
تنفس بعمق، وأمسك بيده الحبال المهترئة المتدلية من الأعمدة الخشبية. مد يده الأخرى ليلمس الخشب الأسود بالرطوبة والعفن، وصوت داخلي يردد: “إن عدت الآن، ستظل طوال حياتك سجين القرية… وإن عبرت، ستفتح بابًا لا يغلق.”
وضع قدمه بحذر على اللوح الأول. صرير الخشب كان عاليًا كأنه احتجاج، لكنه ثبت. تقدم بخطوة ثانية، ثم ثالثة. الماء تحته بدا وكأنه يريد ابتلاعه؛ موجاته ترتفع لتلامس أسفل قدميه.
قلبه يدق بسرعة، أنفاسه متقطعة. كل خطوة كانت كأنها معركة بين الشجاعة والخوف.
في منتصف الجسر، توقف. نظر إلى الخلف، فرأى قريته ما زالت نائمة تحت ظلال الجبل. من بعيد، ظهرت أضواء ضعيفة من بعض البيوت حيث استيقظت النسوة ليخبزن. للحظة، فكر أن يعود، أن يجري عائدًا قبل أن يختفي.
لكن حين التفت إلى الأمام، رأى الذئب.
كان يقف بثبات عند نهاية الجسر، على الضفة الأخرى. عيناه تلمعان بلون أصفر غامق، لا تحملان عدائية، بل شيئًا أقرب إلى الترقب. إياد شعر أنه لا يراه كفريسة، بل كرفيق رحلة لم تبدأ بعد.
رفع إياد صوته قليلًا، رغم ارتجافه:
– "هل تنتظرني؟… أم تختبرني؟"
الذئب لم يتحرك، فقط أدار رأسه قليلاً نحو الغابة، ثم عاد يثبت عينيه عليه. إشارة صامتة فهمها إياد بطريقته: “أكمل، فأنا هنا.”
وهو يخطو من جديد، عادت ذاكرة جده لتطرق عقله. جده الذي كان يجلس بجانب النار ليحكي حكايات عن الفرسان القدماء، عن أسفارٍ وراء الغابة، وعن أسرار تُدفن في الأماكن التي يهابها الناس.
كان جده يقول: “أخطر مكان قد يكون أكثر مكان يحمل الحقيقة.”
تذكر تلك الجملة وكأنها دُفعت إلى قلبه دفعة جديدة من القوة.
وصل إلى اللوح الأخير. يده ما زالت مشدودة على الحبل، وذراعه ترتجف. مد قدمه إلى الأرض اليابسة، ووقف أخيرًا على الضفة الأخرى.
فور أن دخل حدود الغابة، تغيّر كل شيء. الهواء صار أثقل كأنه محمّل بقرون من الأسرار. أصوات الطيور والحشرات بدت أعلى وأكثر غرابة. الرائحة مختلفة: ليست رائحة الأخشاب المعتادة، بل خليط من أوراق متعفنة، عطور أزهار لم يعرفها من قبل، ورائحة تراب رطب كأنه يخرج من صدر الأرض نفسها.
وقف قليلًا يتأمل. أشجار الغابة شاهقة، جذوعها عريضة متشابكة، وأغصانها تكاد تحجب السماء. الضوء بالكاد يتسلل، فيصنع خطوطًا ذهبية متقطعة على الأرض.
الذئب اقترب، بخطوات ثابتة، ثم جلس أمامه. وفجأة، أسقط من فمه شيئًا صغيرًا.
انحنى إياد والتقطه… كان حجرًا أزرق متوهجًا، يضيء بخفوتٍ غامض.
– "ما هذا؟" همس لنفسه.
حين أمسكه بيده، شعر بحرارة لطيفة تسري في جسده، كأن الحجر نبض قلبه.
في تلك اللحظة، دوّى صوت آخر، عميق لا يعرف مصدره، كأنه خرج من بين الأشجار نفسها:
"لقد عبرت… لكن هذا ليس سوى البداية. لا عودة بعد اليوم."
إياد ارتجف، لكنه شد قبضته على الحجر.
رفع رأسه نحو الذئب وقال:
– "إذن أنت دليلي…؟"
لم يرد الذئب إلا بنظرة طويلة، ثم استدار ودخل أعمق في الظلال، وكأنه يدعوه ليتبعه.
وهكذا، بدأ إياد أول خطواته في قلب الغابة السوداء، لا يعرف ما ينتظره، لكنه يعلم أن القدر بدأ يفتح له أبوابه.