أمنة سلامي

Share to Social Media

الفصل الثالث: الحارس الأول

دخل إياد أعماق الغابة بخطوات حذرة. الأشجار صارت أكثر كثافة، وأغصانها المتشابكة تكاد تحجب السماء تمامًا، فلا يبقى إلا خيوط ضوء باهتة تتسلل كأنها أنفاس خافتة. الهواء صار أثقل، وكأن كل شهيق يلتقط شيئًا من أسرار هذا المكان.
الذئب يسير أمامه، صامتًا، يتوقف أحيانًا ويعود ليتأكد أنه يتبعه، ثم يتقدم بخطوات واثقة. كان واضحًا أن الذئب يعرف الطريق، أو ربما الطريق يعرف الذئب.
بعد ساعات من السير، انفتح أمامهما ممر يقود إلى بقعة خالية وسط الغابة. هناك بحيرة صغيرة غريبة، مياهها سوداء داكنة كأنها حبر مسكوب، سطحها ساكن تمامًا يعكس الأشجار كمرآة، لكنه لم يعكس صورة إياد.
اقترب بحذر، وانحنى قليلًا ليرى… فإذا بسطح الماء يتغيّر فجأة.
ظهر فيه مشهد صاعق: قريته تحترق، والدخان يتصاعد من البيوت، وأصوات صرخات نساء وأطفال تتردد. صرخ إياد دون وعي:
– "أمي! …"
مد يده ليلمس الماء، لكن المشهد تغيّر بسرعة. ظهر هو نفسه، لكن ليس كما هو الآن: كان واقفًا على قمة جبل، يحمل سيفًا ذهبيًا يلمع بضوء عظيم، ووجهه أكثر نضجًا.
تراجع بخوف وارتباك، قلبه يتسارع:
"هل هذا مستقبلي؟ أم مجرد وهم؟"
الهدوء انكسر فجأة. ارتفع صوت كأجنحة ضخمة تُصفق، ومن قلب البحيرة خرج مخلوق عجيب: نصفه إنسان ونصفه طائر. له أجنحة سوداء هائلة، عيون حمراء كالجمر، ومنقاره يشبه شفرة حادة. صوته كان عميقًا يملأ الفضاء:
– "أيها الدخيل… لتدخل هذه الأرض، عليك أن تواجه نفسك أولًا."
تراجع إياد خطوتين، قبضته على الحجر الأزرق شدّت أكثر. الذئب أصدر زمجرة منخفضة، مستعدًا للهجوم.
قال إياد بصوت مرتجف لكنه حاول أن يجعله ثابتًا:
– "أنا لا أريد أن أؤذيك… أريد فقط أن أعرف لماذا جئت إلى هنا."
ضحك المخلوق بصوت صاخب:
– "لا إجابة بلا ثمن. هنا، كل مسافر يواجه حارسه الأول. وأنا حارس الظلال. لتكمل الطريق، يجب أن تُسقط خوفك، أو أسقطك أنا."
اندفع المخلوق بجناحيه العملاقين، أثار عاصفة من الغبار والأوراق. إياد سقط أرضًا، لكنه نهض بسرعة، أمسك الحجر بيده، وإذا به يضيء أكثر، كأن النور فيه يرد على الظلام القادم.
هجم المخلوق بمخالبه، لكن الذئب انقض عليه من الجانب، عض جناحه، فصرخ المخلوق وهز جسده حتى ارتطم الذئب بالأرض.
إياد شعر باليأس لحظة، لكن تذكّر سكين جده. أخرجها بسرعة، رغم صدأها، رفعها أمامه.
ضحك المخلوق ساخرًا:
– "بهذه الخردة ستقاتلني؟"
لكن عندما لامست يد إياد مقبض السكين، حدث شيء غريب: الحجر الأزرق أطلق شعاعًا قصيرًا نحو السكين، فتحولت نصلتها لتلمع بضوء أزرق سماوي، وكأنها استعادت قوتها القديمة.
هجم المخلوق مرة أخرى، هذه المرة أقوى، لكن إياد صرخ بكل ما فيه، وقفز إلى الأمام، مغرزًا السكين في صدره. انبعث ضوء قوي، وصرخة المخلوق اهتزت أرجاء الغابة.
تلاشى الجسد العملاق إلى دخان أسود تبعثر في الهواء، ثم اختفى كأنه لم يكن.
وقف إياد يلهث، يده ترتجف وهي تمسك السكين المضيئة. نظر إلى الذئب، فوجد عينيه تلمعان بفخرٍ خافت.
ثم سمع صوتًا آخر، مألوفًا هذه المرة… صوت الرجل صاحب العباءة الرمادية الذي لم يره من قبل إلا في أحلامه:
– "لقد اجتزت الامتحان الأول يا إياد… لكن ما ينتظرك أعمق من كل ما رأيت."
التفت حوله فلم يجد أحدًا. لم يبقَ سوى الغابة، والذئب بجانبه، والسكين التي لم تعد مجرد قطعة صدئة، بل سلاح يضيء بالقدر.
إياد تنفس بعمق، ثم قال في نفسه:
"إذا كان هذا هو الامتحان الأول فقط… فماذا سيأتي بعده؟"
وتابع طريقه، نحو أعماق الغابة السوداء.
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.