TalalTamrji

Share to Social Media

خمس دقائق فقط
خمس دقائق فقط

​عبد رجل مكافح، أسس شركته الخاصة المتواضعة بعد تخرجه، و خاض الكثير من التحديات والمنافسات والمعارك لكي تنمو الشركة وتكبر ولكي يثبت نفسه، ونجح في ذلك.

​هو رجل قوي وضخم البنية، يمتلك صحة جيدة، ومفعم بالأمل ويحب الحياة.

إنه رجل عصامي بكل معنى الكلمة، بدأ وأسس كل شيء من الصفر.

يحب العمل، مجتهد ومثابر، ويطمح دائماً للأفضل ولتطوير نفسه وشركته.

​انتهى عبد من عمله اليوم، وكان غاضباً من ضغط العمل والزبائن ومن تصرفات العمال.

​التقى صديقه ليناقش بعض الأمور بخصوص المعمل الجديد الذي سيستلمه ابنه بعد التخرج.

كان منزعجاً من تأخيرات المقاول والعمال ،
​تناولا القهوة وذهب كل منهما إلى بيته.

​وهو في الطريق، اتصل به والده و والدته؛ كانا منزعجين منه لأنه دائماً منشغل عنهما.

​بدأ والده يعاتبه لأنه كان قد طلب منه بعض الأشياء ولم يفعلها، و ​عاتبته والدته أيضاً قائلة لماذا لم تَرَ أختك الوحيدة منذ أسبوع كامل وهي في البلد وستسافر بعد أسبوع .

​أجابهما ببرود حاضر، في أقرب وقت.

وأنهى المكالمة.

​دخل عبد البيت، استقبلته زوجته وتناولا الغداء معاً.

​لم يعجبه الطعام، فأعطى رأيه وانتقاده الدائم على طعام زوجته. و هي زوجته منذ خمسة وعشرين عاماً وتسمع نفس الكلام.

​جاء ابنه من الجامعة، وبدأ عبد يتحدث معه، وهو يوبخه على ملابسه ورفاقه، ويوجه له التعليمات كيف يجب أن يكون.

​قال له بصوت عالٍ عندما تنهي هذا العام، سيكون المعمل جاهزاً، وستستلم كل شيء عني.

أريدك رجلاً أعتمد عليه، ولا أريدك شاباً طائشاً.

علا صوته، وملأ الصراخ البيت.

​ثم دخل كل منهما إلى غرفته.

​نام عبد قليلاً، وقام لتناول الشاي وسماع بعض الأخبار كعادته.

​ثم دخلت ابنته وخطيبها.

​سلم عليهما بوجه جامد؛ لأنه لم تعجبه بعض التفاصيل بخصوص التحضيرات للعرس؛ فعُرسهما بعد شهرين.

تناقش معهما وكان غاضباً بعض الشيء.

تركهما وخرج من البيت.

​وهو في طريقه إلى السيارة، سلم عليه جاره، ولم يرد عبد كعادته؛ لأنه مختلف مع جاره بخصوص موقف السيارة ولا يكلمه منذ حوالي سنة.

​كان مستعجلاً لأنه وجد أخيراً حلاً هو وأخاه الأكبر بخصوص الأرض التي كانا قد اشترياها معاً منذ خمس سنوات لافتتاح مشروع.

كل الطريق وهو غاضب، مستعجل، ينتقد، ويسب على الناس.

​وصل عند كاتب العدل حيث كان الموعد.

​كانت أيضاً أول مرة يلتقي فيها أخاه الأكبر وجهاً لوجه منذ ثلاث سنوات؛ حيث نشب الخلاف بينهما على قطعة الأرض.

​دخل عبد المكتب، سلم على كاتب العدل بحرارة، ولم يصافح أخاه الأكبر، و لكن أخاه الأكبر تقدم نحوه وسلم عليه وعانقه.

تنازل الأخ الأكبر له عن حصته في الأرض مقابل المبلغ المطلوب، وقال له مبروك عليك، وبالتوفيق الدائم.

لم يرد عليه عبد.

​ثم قال له أخاه الأكبر يوجد مقهى قريب، هيا بنا نتناول القهوة معاً، أنا مشتاق إليك كثيراً.

لم يوافق عبد وتحجج بأن لديه موعداً مع أحد الأشخاص.

​ذهب كل منهما في طريقه.

​خرج عبد وهو يشعر بنشوة الانتصار، لأنه ربح على أخاه الأكبر هذه المعركة كما يربح في كل معاركة له في الحياة.

​ومن ثَمّ التقى مع بعض الأصدقاء في مقهى وسط البلد.

مضى الوقت في التحدث عن العمل والمشاريع وانتقاد الناس.

دفع عبد الحساب وذهب إلى البيت بعد يوم شاق.

​وصل إلى البيت في تمام الساعة التاسعة والنصف.

دخل الحمام، اغتسل وتوجه إلى السرير في تمام الساعة العاشرة.

​نام عبد كالعادة.

​الساعة الخامسة فجراً

​استيقظ عبد، في صمت الغرفة وهدوء الليل، بدأ عقله يسترجع شريط حياته بسرعة فائقة، وكأن كل لحظة تمر أمامه مثل فيلم سريع.

​تذكر صرامة والده التي كانت مليئة بالقيم والمبادئ، والتي كانت شكلاً مختلفاً من الحب والتوجيه.

​تذكر طفولته وحنان والدته التي غمرته برحمتها ولطفها، وابتسامتها الدائمة، وقصصها الممتعة.

تذكر كم عانت أمه من قسوة الحياة وكم كان والده يقدرها ويحترمها.

​فكر عبد للحظات أنهُ فعلاً لا تتوقع أن يدوم دفء العائلة إذا كنتَ دائماً مصدر برودة وقلق.

​تذكر أخاه الأكبر ومرت أمامه صوره، وهو يعتني به ويحميه حتى أصبح شاباً قوياً، وتذكره حين اشترى له دراجة بأول راتب لهُ بعد التخرج.

تذكر أخته الحنونة التي كانت تدافع عنه أمام والديه عندما كان يرتكب الأخطاء، والتي كانت تعطيه من مصروفها وتساعده في واجباته حتى تخرج من الجامعة. تذكر الأخطاء التي ارتكبها معهم وكيف كانوا يتسامحون معه.

تذكرهم كم كانوا رائعين.

​فكر عبد للحظات أنهُ فعلاً الخلافات تمحو الود، لكنها لا تمحو الذكريات الجميلة والمواقف.

​تذكر معاملة جيرانه الجميلة وكيف كانت تجمعهم أوقات الحزن والفرح وحتى أوقات الفراغ والتسلية المليئة بلحظات من السعادة والمرح.

فكر عبد للحظات أنهُ فعلاً مخطئ في حقهم، والجيران المحترمين و الرائعين هم فعلاً سند.

​تذكر الأصدقاء المميزين الذي كان محاطاً بهم لحسن الحظ، وتذكر أخطاءه معهم وكيف كانوا يتصرفون معه بتهذيب وتقدير واحترام.

فكر عبد للحظات أن تلك الفترة لم تكن مجرد لحظات فرح، بل هي حجر الأساس الذي كان يجب أن يُبنى على القيم، هذه الفترة كان يجب أن يحرص على أن تكون مبنية على قيمه وأخلاقه التي تربَّى عليها.

​ثم بدأت تظهر الأخطاء أمامه والفوضى والفرص الضائعة والخسارات الصغيرة، والجامعة ومنافسات الشباب وصراعات الحب والتجارب الفاشلة.

​تذكر عبد زوجته وأولاده وكيف أن زوجته هي من أمسكت زمام الأمور ومنحت الأولاد الرعاية والتربية الجيدة والأوقات الجميلة، وكيف صنعت الذكريات الرائعة التي لا تُنسى بحضوره وغيابه، وكيف هم جزء كبير من نجاحه، وكم هو مُجحِف في حقهم.

ثم مرت أمام عينيه صورة صامتة لزوجته وهي تعد الطعام وهي مُرهقة، وابنه وهو يغير ملابسه بسرعة لتجنب صراخه، وابنته وهي تتجنب مواجهته أو الجلوس معه ، وصحيح ان الأخطاء جزء من الحياة، لكن الاستمرار في تجاهلها هو ما حوَّل الشرخ العائلي الصغير إلى فجوة كبيرة، و السلطة في العمل لا تنفع في البيت، والاعتذار لمن تحب ثمنه أقل بكثير من ثمن الندم.

​فكر عبد للحظات أنهم فعلاً كانوا يحاولون العيش بجانبه لا العيش معه، مع غياب دفء الأب ورأفة الزوج، وأنهُ فعلاً الصوت العالي لم يكن قوة، بل كان عزلته عنهم.

​بدأ يتخيل اللحظات التي كان يحلم بها دوماً، فرح ابنته، تخرج ابنه، نجاحاتهم، ابتساماتهم، كل ما كان يأمل رؤيته، حتى أنه تخيل أحفاده، رأى نفسه يشاركهم الفرح، يقف إلى جانبهم، رأى نفسه يَشيخ بينهم وفي أحضانهم ورعايتهم، رأى نفسه يحضنهم، يسمعهم، يكون حاضراً كما لم يكن من قبل.

​فكر عبد للحظات أنهُ فعلاً الوقت الذي ضاع لا يمكن استعادته، لكن ما تتعلمه الآن يجب أن يبقى معك، لا تجعل أحلامك تنتظر.

​بدأ يشعر عبد بالندم العميق، وتعرق رغم برودة الجو والشتاء البارد.

​الآن عبد مُمَدَّد، والغرفة صامتة إلا من دقات قلبه.

يشعر بتأثير كل قرار ماضٍ على حاضره وعلاقاته.

​الساعة الآن الخامسة وخمس دقائق فجراً.

​لكن شعوراً غريباً اجتاحه، ثقل كبير، أغمض عبد عيناه والأفكار توقفت.

​الساعة السابعة صباحاً
​حضرت زوجته لتوقظه، لم يستجب عبد، كان جسمه بارداً، صرخت صوتاً ملأ البيت ، حضر ابنه وابنته مسرعين.

​وصل الطبيب وفحصه وأكد لهم أنه تُوفِّيَ إثر سكتة قلبية في تمام الساعة الخامسة فجراً (تقريباً).

​كل ما قرأته في هذا الجزء، منذ أن استيقظ عبد في الساعة الخامسة فجراً، كانت الخمس دقائق الأخيرة من حياته.

​كل التأمل، كل الرغبات، كل الرسائل الداخلية، التي مر بها عقله كانت خلال خمس دقائق فقط قبل أن يغادر الحياة نهائياً.

​كانت آخر خمس دقائق ،
وآخر شتاء ،
وآخر اتصال مع أبيه وأمه ، وآخر لقاء مع زوجته وأولاده ، وآخر لقاء مع جاره ، وآخر لقاء مع أخيه الأكبر ، وآخر لقاء مع أصدقائه .

ولم يَلحَق أن يرى أخته.

​يأتي الموت بغتَةً كي ينهي خمساً وخمسين عام من التحديات والإنجازات وكل المعارك الرابحة التي خضتها في الحياة، وخلال خمس دقائق فقط ينتصر عليك الموت في آخر معركة لك في الحياة.

مهما كنت تنعم بصحة جيدة أو مريضاً تتلقى العلاج في المستوصفات أو في أرقى المستشفيات، ممكن خلال خمس دقائق فقط أن تفارق الحياة في أتفه سبب ممكن.

​مهما كنت مفعماً بالأمل، غنياً، مثقفاً، أو يائساً، فقيراً لا هدف لك في الحياة، خمس دقائق فقط كفيلة بإنهاء أكبر أمل أو أكبر معاناة.

​الحب الحقيقي يظهر في العطاء والصبر، وليس فقط بالكلمات ، و الحياة قصيرة جداً، فلا تؤجل الحب، ولا تؤجل التغيير، ولا تؤجل الاحترام لنفسك ولمن حولك.
كل لحظة تمر الآن، هي ما سيُذكر لاحقاً ، فلا تضيعها، و الفرص لا تنتظر، ومن يفشل في استغلالها يخسر ما لا يُعوَّض، و التأمل في نفسك ليس ضعفاً، بل قوة تفهم بها قيمة الحياة.

الخمس دقائق تكفي لتعلم كل شيء، إذا كنت مستعداً لرؤية الحقيقة، لأنهُ خلال خمس دقائق فقط يفقد الدماغ ما يستحيل استعادته، وتغرق الأفكار والذكريات في صمت أبدي.

​وعبد خلال خمس دقائق فقط أصبح صورة على الحائط.



أتمنى أن تكون هذه القصة قد نالت إعجابكم.

كل ما ورد فيها لم يكن حقيقيًا،
وإنما كان من صُنع خيالي أنا،
طلال تمرجي.
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Story Chapters

خمس دقائق فقط
Write and publish your own books and novels NOW, From Here.