MohammedAli1

Share to Social Media

ماتت أمي
يا للحزن الذي يكاد قلبي ينفجر منه، خيبة وخذلان غلفا القلب مثلما يغلف الوريد الدماء فلا فكاك للدماء إلا بجرح ونزف.
أضحيت أحمل في صدري ضوضاء لا تطاق، لكني آثرت الصمت، لم أخبر أحدًا بما يمزقني، لم أمد يدا لأستغيث، تركت قلبي وحيدًا في العتمة حتى تآكل منه النور، كل يوم يمر كنت أظن أنني أحمي نفسي من الخذلان، لكني لم أنتبه أن الجدار الذي بنيته حول نفسي لم يمنع الغرباء فقط بل منع القلب من الحياة فصرت جسدًا يحمل قلبا بلا نبض فلا صوت يُسمع سوى الصمت الذي يتردد صداه بين جدران مهترئة، عجزت حتى عن البكاء الصامت فضلًا عن الصراخ والعويل، أحصي أيامًا وليالِ ليأخذني الموت مثلها فأرتاح من ذلك العذاب المتجسد داعيًا ربي أن يعجل ولولا أنه نهى عن قتل النفس لفعلت بلا أدنى تردد.
ظللت على هذا الحال قرابة السنة التي كانت شديدة البأس على نفسي
لا أرى أحدا إلا حارس العقار الذي أحادثه كلما نفذت لقيمات تعينني فقط على أنتظار ملك الموت وكلي اعتقاد راسخ أنه آت قريبًا لا محالة، يأتي الرجل بالأغراض فيدق دقة أعرفها جيدًا أستطيع بالكاد تمييزها عن غيرها لأن غيرها لا أستجيب إليه أبدًا حتى ظن الجميع سواء أقارب أو معارف أنني همت على وجهي بعدما تركوني بإنتهاء أيام العزاء ومع الوقت لم يعد صوت الباب يأتي بدقات إلا دقة حارس العقار العجوز، أفتح باب الشقة فيعطيني الأغراض وأعود إلى الإغلاق المحكم مرة أخرى ويتكرر الأمر كل فترة حتى نفذ المال الذي كان بحوزتي فصبرت على الجوع يوم تلو الأخر حتى أصابتني في اليوم الرابع قرصة الجوع وكانت أول اختبار لشجاعتي على الاستسلام للموت ولكني كنت أجبن من أن أستسلم.

حملني الجوع أن أفتح ذلك الباب الذي ظل ستارًا بيني وبين الحياة وتطأ قدماي درجات السُلم القليلة التي تفصلني عن عم سنوسي وجدته كما أجده دائما يجلس على أريكته ينظر بصمت إلى خارج باب البناية وكأنه ينتظر أحد ما لم يأتي البتة إلى يوم الناس هذا، اول ما وقعت عيناه عليً وكأنه هاله حالي الذي يرثى له فقام اخذًا بيدي وأجلسنى مكانه على الأريكة وهو يتمتم بصوت خفيض
- جائع؟
فأشرت برأسي أن نعم فقال لي
- أتبعني
دخل إلى غرفته الصغيرة وأنا خلفه فأتى بطعام وضعه لي وهو يشير لي قائلا
- بسم الله، كل يا بني
نظرت مترددا وقد انتقل التردد إلى يدي وهو يشير إلى الطعام مرة أخرى مرددًا
- بالله عليك ما تتكسف وكل حتى الشبع
طعمت وخرجت فما أن رآني حتى أفسح لي لأجلس بجواره على الأريكة فظللنا صامتين برهة حتى وقفت شاكرًا إياه على الطعام ثم وليت مدبرًا إلى ملاذي وقد لازمني التفكير في العودة مرة أخرى إلى العمل.
أعمل فني بصريات "نظارات" عمل يتطلب دقة ويد ثابتة وهاتين الصفتين قد فقدتهما في فترة انعزالي عن الحياة لم تعد يدي دقيقة ولم يعد تركيزي حاضرًا، حاولت وحاولت ثم حاولت إلى أن استسلمت إلى الفشل فتركت العمل قبل أن يتم طردي وعدت يومها لأجده كما تركته دائما يجلس على الأريكة ألقيت عليه السلام فرد بأحسن منه مفسحًا لأجلس وهو يستفسر عن أخباري في العمل فأخبرته أني تركته ثم أردفت قائلًا
- أريد فقط ألا يصيبني الجوع.
فغمغم قائلًا
- ستعمل معي.
- هل سأنظف السلالم و ......؟
- لا لا، ستجلب الطلبات التي يطلبها السكان من البقالة وغيرها وسأعطيك الأجر الذي أخذه من الزبائن ولا من شاف ولا من درى.
وافقت بلا تردد ومكثت على هذا الحال ردحا من الزمن راضيًا بما قسمه الله لي، أعيش على الكفاف وما زلت منتظرًا الموت أن يأتي.
صرنا مع الوقت اصدقاء أجلس بجواره بعدما أنهي عملي فيتحدث وأستمع، كان ذا حديث ماتع بسيط به بعض حكمة خافية أو ظاهرة.
في يوم من الأيام وجدته يحدثني عن قريته بأقاصي الصعيد وعن تركه لها منذ كان في ريعان الشباب فسألته عن السبب فتردد لحظة ثم أردف يقول
- كنت شابا يافعا حينما نشب خلاف تطور إلى معركة بالأسلحة النارية بين عائلتنا وعائلة ثانية في البلد خلفت عدة قتلى كان من بينهم أمي التي أصابها عيار ناري فماتت هي لأكتوي بنار ذلك العيار أنا، وجدتني مطلوبا لدى الشرطة من ضمن القتلة فصعُب على نفسي أن أفقد أمي وأفقد حريتي فوليت ظهري للحياة هناك هاربا في أرض الله إلى أن عملت بوابًا هنا في تلك البناية أعيش بصمت ولا أرتجي من الدنيا إلا أن أُدفن بجوار أمي تلك أمنيتي الوحيدة، حُرمت منها في الدنيا ولا أحب أن أُحرم منها في الآخرة فهلا إن حان موعد الموت أن تذهب بي إلى بلدتنا لأدفن بجوارها.
كنت أسمعه ويجول في خاطري دعوة لربي أن يطيل في عمره فلقد منحني بصيص من حياة بعدما ظننت أنها أنتهت، ولكنه لم يتركني بخاطري كثيرا وهو يمد يده بين طيات جلبابه ليخرج ورقة قد كتب بها عنوان بلدتهم ثم استطرد قائلا.
- هذا العنوان ومكان مدفن أمي بالتفصيل وقد اتفقت مع إحدى الجمعيات أن تحملني حال وفاتي بسيارتها "تحت الطلب" إلى هناك وياريت تكون معي فليس لي غيرك يا بني
- بعد الشر عليك يا عم سنوسي، أستعذ بالله من خاطر السوء
- أقف على عتبة الباب خارجًا ولابد لي من الخروج.
أخذت الورقة وقد ثَقُل قلبي بالحزن وأنا أودعه لأصعد إلى مثواي رقدت على سريري وما لبث النوم يداعب رأسي لتوقظني أصوات وجلبة في الأسفل فاعتدلت من رقادي وأحساسي يجزم أنه هو، عم سنوسي قد أسلم الروح.
خلال أقل من دقيقة كنت أقف أمامه بين الجمع صامتا صمت التعجب المختلط بالمفاجأة مع كثير من المرارة لم أتخيل أن يكون الأمر بهذه السرعة ذهب خيالي بعيدا جدا حتى هز كتفي أحد الواقفين وهو يقول
- البقاء لله يا أستاذ، انت كنت قريب من سنوسي فهل تعرف له مكان يُدفن به أم ندفنه في مقابر الصدقة.
لحظتها أفقت فناظرته قائلا بثقل
- لا سأذهب به إلى بلدته.
- هل هو من أوصى بذلك.
أشرت برأسي اي نعم دون رد وخلال ساعتين كان الجيران قد أنهوا الإجراءات وتم تغسيله وقمنا بالصلاة عليه صلاة الجنازة ثم تم تجهيز السيارة التي ستنقله إلى مثواه الأخير حملنا النعش وذهب الحاضرين كل إلى حال سبيله وهم يحوقلون ويترحمون على المتوفى وجلست أنا على الكرسي بجوار السائق لتنطلق السيارة، لم أكن في حالة من الإدراك تسمح لي باستيعاب الموقف الذي أنا فيه مازال عقلي متوقف عند اللحظة التي أويت فيها للفراش قبل سماع تلك الجلبة في الأسفل وإخباري أن عم سنوسي توفي.
لم أدري على وجه الدقة كم مضى من الوقت حتى وصلنا مشارف بلدة العم سنوسي فور أن رآنا الناس تجمعوا حول السيارة رجال وأطفال وشباب يستفسرون من نحن وما الذي أتى بنا ولما أخبرتهم رفض كبار السن أن يدفن هنا في مقابرهم مدعين أنه من القتلة حاولت أن أفهمهم ولكنهم أبوا إلا الرفض فما كان منا إلا أن استدرنا لنعود من حيث أتينا.
في الحقيقة لم نعود ادراجنا مكثنا خارج البلدة حتى أظلنا الليل وغرقنا بين طيات سواده الساتر مستعينا بال GPS اكتشفت طريق مباشر إلى المقابر بعيدًا عن الشارع الرئيسي للقرية وبالفعل وصلنا في غفلة من أهلها بحثت عن قبر أمه حتى وجدته كما وصف هو بدقة وظللت أنا والسائق نحفر ونحفر حتى وصلنا إلى باب القبر في الاسفل ففتحناه وأنزلنا عم سنوسي وقام السائق الذي كان يفهم في مثل هذه الأمور بتلحيده وفك أربطة الكفن وخرجنا لنغلق باب المقبرة ونُهيل التراب كما كان.
كنت مرهقا للغاية من هذا الجهد الذي بذلته في دفنه كما أراد ولكني كنت مرتاح القلب أنني استطعت تنفيذ رغبته الوحيدة، أول ما جلست بدأت البكاء بحرقة كانت العبرات التي أمتنعت من النزول من لحظة سماع كلمة "البقاء لله" يوم ماتت أمي قد أُفرج عنها لتطلق العنان لنزفها بكيت كثيرًا على أمي وعلى عم سنوسي وعلى نفسي وذلك الإرهاق حد الإزهاق التي هي فيه ولكني قمت من جلستي بغير الوجه الذي جلست به ركبت السيارة مترحما على عم سنوسي وعلى أمي وقد قررت أنا أحيا الحياة كما هي ولا أقضيها منتظرًا الموت، فالموت والحياة بيد الله وما نحن إلا أسرى قدره المقدر لنا.
لم أكن مستعد لكل هذا الحزن، كنت أحسب أني شخص عادي أرتب نفسي لحياة عادية ولا شيء أكثر، ولكنها الحياة فليس كل ما يتمناه المرء يدركه، ولكن لا بأس فما دام في الصدر نفس يتردد وفي الجسد قدرة على الوقوف فلنحاول أن نصل إلى تلك الحياة العادية
تمت
1 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.