Shizokamoro

Share to Social Media

الفصل الأول
وداع

"فِراق"

على تلٍ أخضر واسع، تَهب نَسمات الهواء اللطيفة مداعبةً الحشائش الموجودة في فناء بيتها الريفي الخشبي الصغير، ذلك البيت الذي جمعني بأحب الناس إلى قلبي، كما اعتدنا قضاء وقت الغسق في الفناء، نتسامر معًا تحت سماء الغروب الحمراء، ها هي الشمس قد شارفت على الوداع، وقد صبغت السماء بلونها الأحمر الأخاذ، وكأنها ترسل وداعها للجميع، آمِلةً في لقاء يوم جديد.

أقف أمامها والكلمات تعجز عن الخروج من قلبي قبل فمي، لا أدري أجمالها سبب عجزي أم أن شوقي وحزني هما السبب، لطالما كانت تبعث بذلك الشعور القوي في تشتيت ذهني وأفكاري.

يرفرف شعرها الأحمر المموج أمامي، وكأنه يتوسل إليَّ كي لا أترك زوجتي وأول مولود لي، عيناها تلك التي تأسرني في جمالها، لطالما امتلكت عيناها الحمراوان كلمات خاب فمها عن النطق بها، أرى الحزن يُخيم عليها ويخفي لمعتها البراقة، إلا أنها ما زلت تحتفظ بهالتها الفريدة التي أعجز عن وصفها، فتارة تكون هادئة وكأن السماء خلقت لتكون لها ثوبًا من الصفاء والنقاء، وتارة تحمل عبئًا لا يستطيع حمله أحد، وكأن البحر بعمقه وظلامه لا يساوي شيئًا في عمق الألم والحزن في مقلتيها، لا أدري أحقًا الحب أعمى؟ لا توجد لدي إجابة.

لا أدري ماذا أقول، أقف أمامها ولساني عاجز عن الكلام، أرجو أن تكون عيني قد تكفلت بما يدور في قلبي.

- ...: "هل سيطول سفرك هذه المرة؟ ألكس"

قاطعت شرودي كعادتها، لكن كلماتها وكأنها سكاكين تُقطع في فؤادي.

- ألكس: "بالتأكيد لا يا عزيزتي ماري. "

ها أنا أحاول تلطيف الأجواء بيننا، لكن هيهات أن تحلو أوقات الفراق، خاصة بين المحبين، فخيرًا لهم أن تقتلهم على أن تفرق بينهم.

- ماري: "أنت حقًا لا تُصَدق، أنت لم تَمكث هنا ثلاثة أشهر كاملة."

- ألكس: "لكنني كنت موجودًا بجانبك إلى أن استقر وضعك."

عقدت "مارى" حاجبيها، وأرسلت نظرها إلى طفلي الذي كانت تحمله في دفء وحنان، كانت تضعه في غطاء بني، مما جعل بشرته البيضاء تبرز بشكل جميل، وشفتاه الصغيرتان كم كانت تتلائم مع وجنتاه الزهريتان بشكل بديهي، بالإضافة إلى انعكاس ضوء الشمس الأحمر على وجه فجعله وكأنه حزين على فراقي.

- ماري: "يا لك من أبٍ سيئ، هل ستتركنا هكذا؟"

- ألكس: "لا تقلقي لن أغيب عنكم كثيرًا، فأنا أريد لطفلي أن يكبر أمامي."

احتضنت زوجتي بهدوء، محاولة مني تهدئة قلبها الذي يرتجف من الألم، وضعت يدي على رأسها لأربت على شعرها، وما لبثت حتى شعرت بدقات قلبها المتسارعة، وشعرت بأنفاسها تكافح عبراتها من الخروج من مقلتيها.

- ماري: "ألم تَمل من رؤية البحر؟"

ابتسمت ابتسامة هادئة وحزينة.
- ألكس: "أنا لا أسافر لأني أحب رؤية البحر، وأنت تعلمين ذلك."

- ماري بضيقٍ: "ومع ذلك ستسافر!"

تركتها بهدوء ووضعت كلتا يدي على كتفها.
- ألكس: " صدقيني إن عَملي مهم كثيرًا، فأنت تعلمين أنه لا بد لي من القيام بذلك، لأجلنا ولأجل طفلنا."

- ماري: "حسنًا حسنًا، لكن عدني أن تَحمي طفلنا."

- ألكس: "أعدك بذلك، سأعود بالتأكيد."

قَبَّلت جَبين طفلى ذو السبعة أيام، وجبين زوجتي واحتضنهما للمرة الآخيرة بعد وداعي، وتركتهم خلفي، وتقدمت إلى الأمام إلى أن اختفت عائلتي عن أنظاري.

بقيت أنظر إلى آخر مكان رأيتهما فيه، ويبدو أنه ظهر على ملامحي خليط من المشاعر، منها الخوف من تركهم وحدهم، ومنها الحزن؛ لتركهم والمغادرة، إلا أن الغالب عليّ كانت مشاعر الاشتياق التي بدأت تتسلل إلى قلبي؛ نتيجة لفراقي لهما.

أبعدت نظري عن التل، وأرسلته للأمام، قبضت يدي بقوة وإحكام، نظرت إلى الطريق الأمامي والذي ارتدى لباس الظلام، وتلألأت النجوم في السماء، يا لها من مصادفة! وكأنها تواسيني في طريقي، لكن القمر اعتزل هذا اليوم عن توديعي ربما كان متضايقًا مني لسبب ما، تراكمت الأفكار في رأسي، حتى أن بعضها خرج من فمي رغمًا عني.


-ألكس: "أرجو حقًا هذه المرة أن أفي بوعدي لكِ ماري، أنا أريد بناء مكان أفضل لكما؛ لذلك عليك الانتظار قليلًا، سأحاول جاهدًا أن أصلح كل شيء ، فقط انتظريني، وأكملي ما بدأته."

    ******

" هاربة"

بين أشجار الغابة العالية، والتي من طولها تشابكت أغصانها وصنعت ظلًا لمن تحتها، مستعينة بأوراقها الخضراء، ولكنها لم تحجب أشعة الشمس كاملة، فقد كانت تتخلل من تلك المسافات الصغيرة بين الأوراق أشعة الشمس الذهبية، وكأنها ترسم لوحة على الأرض.

أقف بين تلك الأشجار النابضة بالحياة، أتأمل كيف تستطيع رغم كل تلك الظروف التي تحيط بها الصمود إلى هذا الوقت! يا لسؤالي السطحي هذا؟ فهذه غريزة البقاء.

أنظر إلى إحدى تلك الأشجار فأجدها ذات جروح عميقة على ساقها، كما أن آثار اللحاء ما زالت موجودة عليها ومتجمدة، وكأنها شجرة فقيرة تحاول الهروب من مصيرها المحتوم، وما يزيدها إصرارًا على العيش ذلك النبات المتطفل الذي يلتف عليها؛ ليحاول التهامها وأخذ فرصتها في العيش، لكن الغريب أنها ما زالت صامدة إلى الآن رغم وقوع أغلب أوراقها.

أطلقت ضحكة ساخرة، فهذه الشجرة تشبهني لحد كبير، فملابسي بالية وممزقة، ولها نفس لون ساق الشجرة البني ذاك، وحول يدي سوار من حديد منقوش عليه رمز العبودية، يا لحظي التعيس، أأنزِلتُ من على منصة الإعدام لأرى طريقًا مجهولًا آخر؟

على كل حال لم آتي لهنا لأتنزه في الحقيقة، وإنما لأقرأ هذه الورقة ذات الأطراف الممزقة.
ما إن انتهيت من قراءتها حتى  مزقتها ورميها بغضب شديد، لكن نسمات الهواء الخفيفة لم ترد ترك تلك القصصات مكانها فجعلت أجزاء الورقة تتطاير بعيدًا عني.

- تنهدت طويلًا: "هاه ...، يا لكَ من مخادع"

سمعِت صوتًا ينادي من بعيد، في الحقيقة يبدو أنه كان ينادي منذ فترة لكن شرودي أَبى أن يجعلني أسمعه.

-....: " ..... ـيــري... "
- ....: " ... شــيــري... "
- ....: " شــيـــري، أنـت يـا فـتاة!"
-....:" هـاي أيتها الفتاة، لم لا تجيبين؟ "

التفت ببرودٍ شديد، لأرى خلفي رجلًا من الحراس يرتدي زي الحرس الأسود، وشعار الحرس قد طبع على قطعة قماش خضراء لفت جيدًا حول عضده الضخم، ومعه سيف يتدلى من حزام لف حول خاطرته، ينظر إليّ في ضيق شديد.

- شيري: "ماذا ترد ؟"

-....: "سنتحرك الآن، هيا تعالي."

التفت وغيرت اتجاه سيري؛ لأتبع هذا الحارس المزعج وأنا غاضبة للغاية، أتمطر السماء أشخاصًا مزعجين؟ أم أنني أداة جذب لهؤلاء الحمقى؟

- شيري: "أوغاد مزعجون."

تركت مكاني،  وذهبت إلى مكان التجمع، حيث يوجد هناك عدَّة عربات تجرها الأحصنة، وأشخاص كثر، ومنهم من يمتلك سيوف ورماح.

حيث يتواجد الحراس وسائقي العربات، وهناك البضاعة التي تُنقل، فقد كانت البضاعة موجودة في صناديق خشبية كبيرة، مقفلة بالأقفال، ولا يُسمح عادةً إلى ما بداخلها بالخروج، سوى لبعض الأعذار الضرورية.

هذا المشهد الذي اعتدت أن أراه، أممم ربما شاهدته أربع مرات أو خمس لا أذكر جيدًا، لكن ما أذكره جيدًا هو تلك النظرات التي تطبع على وجوه البشر داخل هذه الأقفاص، فخيارات الحياة كثيرة، لكنها تنتهى بنهايات محددة، ومنها تلك الأقفاص الخشبية التي تختم على باقي حياة صاحبها بالعبودية والمهانة.

بينما كنت أسير ذاهبةً إلى العربة التي سأُحمل فيها، والتي في الحقيقة استطعت الهرب منها لتلك الغابة القريبة متجاهلة الحراس المنتشرين، نظر إليِّ أحد الحراس بسخرية وازدراء.

- الحارس: "أنتِ الأمَةٌ الهاربة؟"

ربما أردت أن أبعد الغضب عني قليلًا بالتسلي بهذا الأحمق ذو الرأس الفارغ، فلم أنظر إليه وتابعت سيري متخطية إياه، ورددت بازدراء شديد.

- شيري: "أجل، ولكني الأمَةُ القاتلة، ولست الهاربة الآن."

شعر الحارس بغضب يعتريه لردي البارد، عقد حاجبيه وتقدم خطوتين بسرعة؛ ليقف أمامي مباشرة.

- الحارس: "هل تسخرين مني؟"

تعالت شرارة الغضب من عينه، وأمسك العصا التي كانت بحوزته ورفعها على رأسي وأمسكني من رقبتي.

شعرت وقتها باختناق في حلقي، لم أستطع التنفس بشكل جيد، لكن وجهه وهو غاضب يستحق ألمي هذا فقد زال عندي غضبي، أردت أن أجعله يغضب أكثر، فأكملت كلامي، وأنا أبتسم ابتسامة باردة وأنظر لعينه المشتعلة في غضب.

- شيري: " أنا أصحح اللقب الذي اُطلِق عليّ، فلماذا غضبت؟"

ازداد غضب الحارس أطنانًا بجملتي تلك، وازداد ضغط يده على رقبتي، لكنى لم أرفع يدي؛ لأحاول إبعاده عني، بل حاولت كتم محاولات السعال التي انتابتني من قلة الهواء، فما زاد الحارس إلا غضبًا.

- الحارس: "يبدو أنكِ لا تودين الوصول قطعة واحدة."

لكن خلاصي لاح في الأفق، فعاودت النظر إليه بعدم اكتراث.
- شيري: "لا أدري مَن مِنا سيكون قطعة واحدة عندما نصل."

سمع سائق العربة صوت الجدال الذي دار بيني وبين ذلك الحارس الأحمق، فأتى مسرعًا؛ ليرى ما الذي جرى، فما إن جاء حتى رأى الحارس يضغط بشدة على رقبتي، ووجهه يشتعل غيظًا، فتدخل سريعًا، وَجَهَ كلام أولًا إلى ذلك الأحمق، ثم إليّ، بعد أن حاول إبعاد يد الحارس الضخم عني.

- السائق: "مهلًا، اهدأ يا هذا، نحن لا نريد أي مشاكل هنا.
أنتِ، اركبي في هذا العربة، ولا تُحْدِثي أي ضجة فنحن سنتحرك بالقرب من المعسكر،
هيا اتركها لن نستفيد أيّ شيء إذا قتلتها هنا."

إلا أنّ الأحمق يظل أحمق دائمًا، فأبى الحارس أن يتركني، ربما كي لا يشعر بالهزيمة والمهانة، هذه طبيعة الضعفاء يرفضون الهزيمة خوفًا على كبريائهم المزعوم التافه.

- الحارس: "وما الفائدة من هذه الأمَةُ؟ إنها تحتاج التهذيب."

- السائق: " لسنا نحن من نحدد الفائدة والقيمة، هيا اتركها لتركب."

ما زال الحارس يحاول إبعاد ذلك الأحمق عني، لكن صدقًا لم أعد أستطع تحمل كتم السعال فبدأت أسعل.

- الحارس: " يجب قطع لسانها قبل ذهابها، لن يضرها هذا في شيء."

- السائق: "نحن من سَيُضر ليس هي، هذه الأمَةُ تحت حمايتنا، لذا اتركها، لن تجنيَّ سوى المشاكل إذا تعاملت معها."

- الحارس: " حسنًا. "

ترك الحارس رقبتي على مضض، ورمقني بنظرة سيئة ربما تحتوي على سب سيئ، لكني لم أكترث له، وتابعت سيري للعربة، وركبتها مع بعض العبيد الآخرين، تاركة الحارس والسائق في جدالٍ حاد دار بينهما حول كتم ما حدث عن قائد القافلة التي كنت فيها.

-شيري: "ها قد بدأت الأمور المزعجة تحدث مجددًا، ليتني أنهيها سريعًا."

دار حوار جانبي مع العبيد في العربة ما إن دخلت إليها.

- ....: " هل هذه حقًا هي؟"

- ....: " أجل إنها هي."

- ....: " إنها تبدو صغيرة على هذه الإشاعات. "

-....: " كيف ستطيع أن تَقتل بهذا الجسد النحيف. "

- ....: "لم أتخيلها هكذا."

- ....: " لم أسمع في حياتي قط عن شخص نجا من حكم بالإعدام! "

- .. : " يبدو أنها ... "

أغلقت  أعيني وجلست القرفصاء ووضعت رأسي على ذراعي وذهبت في نوم عميق، لم أكترث بما يقال عني، فقد اعتدت على سماع مثل هذه الكلمات أينما ذهبت، فهذه أصبحت ربما تحية الترحيب الخاص بي أينما ظهرت، فتاة بعينان حمراوتات، وشعر أسود مموج يصل إلى أسفل كتفي، بنظرات حادة وجريئة، وذلك السوار اللعين على معصمي، أصبحت من قصص الرعب التى تروى للأطفال قبل النوم.

وما زاد من القيل والقال، هو نجاتي من براثن الإعدام شنقًا، صدقوا حتى أنا لا أصدق ذلك! لكني رأيت الكثير الذي يجعلني صامدة حول شيء كهذا.

بعد مرور ساعتين من السير تقريبًا، توقفت القافلة، والعربة التي أنا فيها، ونزل الحراس والسائقين ونزل العبيد في مكان واسع، ما يعرف باسم المعسكر، لكن على ما يبدو لي لم تكن جميع عربات القافلة موجودة هنا فربما أقل من نصف القافلة بكثير فقط ما تبقي في هذه الساحة.

تجمعت كل مجموعة في المعسكر وبدأ الحراس في تنظيم العبيد في مجموعات وإرسالهم مع القادة، ولكل واحد فيهم مهام يؤديها، كما أن وظائف العبيد اختلفت من أعمال الخدمة الشخصية وأشغال الجيش، كان الفرسان يرتدون زيًا مختلف عن الحراس، رأيت ثلاث ألوان، الأزرق وهو أكثر ما رأيت، والأحمر لم يكن كثيرًا، لكن أكثرهم ندرة هو الأخضر، كما غلب على زيهم اللون الرمادي.

بدأت تُقال أسماء العبيد واحدًا تلو الأخر، حتى أتى اسم الآ الملعون كما يُقال عنه.

- الحارس: " شيري رون. "

صمت الجميع وكانوا جميعًا مترقبين؛ لمعرفة شكل هذا العبد الذي يُقال عنه العديد من الأسماء والشائعات.

إلى أن تحول ترقبهم ولهفتهم هذه إلى دهشة، في الحقيقة أنا أتفق معهم فإن كنت شخصًا آخر وسمعت وصف وحش من العديد الناس، ثم رأيت فتاة لم تتجاوز العشرين من العمر، وتبلغ من الطول حوالى 170 سنتيمتر وبشره بيضاء باهتة، وأكثر شيء بارز فيها هي عينها التي تشع حُمرة، لن أصدق أنها هي الوحش، إذ أن الجميع كان يتوق لرؤية وحش على هيئة إنسان، لكنني ويا للأسف خذلتهم.

تقدمت لأقف أمام الحارس الذي ينادي تلك الأسماء، كانت خطواتي بطيئة نوعًا ما، ليس لأني لم أكن أرتدي حذاء في قدمي، فأنا اعتدت على ذلك، لكن نظرات الناس نحوي جعلتني بطيئة، شعرت بكثرة الأقاويل خلف ظهري، لكني تقدمت.

- شيري: " أجل، أنا هنا. "

- الحارس: " إلى الكتيبة العاشرة بقيادة هينري."

- شيري: "حسنّا. "

ذهبت إلى مكان "القائد" الذى تم الإشاره له، بالتأكيد لم أكن أعرف أي شيء، رأيت العديد من الفرسان بأسلحة غريبة لم أراه من قبل، رأيت وجوه كُسيت بملامح عديدة، لم أفهمها بل لم أرى مثلها من قبل، وما قطع مشاهدتي هو ذلك القائد.

إذ رأيت رجلًا يتقم نحوي في منتصف الأربعين من العمر، بشعر ذهبي قصير وعينان رماديتان، يرتدي زى الفرسان الأخضر، وهو قميص رمادي طويل في منتصفه رسمت أشكال غريبة باللونين الأخضر والأسود، وحول خاصرته رُبط حزام ذهبي وعلق حوله سيفان طويلان، ويرتدي عباءة طويلة تتدلي خلفه في سمو، وما جعله يبدو واثقًا من نفسه ربما هي تلك الأشياء الذهبية التي عُلقت على كتفه وصدره، وكما بدى عليه أن الحياة أنهكته.

تقدم نحوي بوجهٍ مبتسمًا، حتى وقف أمامي مباشرة.

- هينري: "مرحبًا مرحبًا، بالعضو الأخير في الكتيبة.
لا تقلقي من كونكِ كنتِ أمَةً ولا تقلقي من الماضي الذي يلاحقكِ.
نحن هنا جميعًا لدينا ماضٍ سيئ وسمعة أسوء.
لذا لا تقلقي من شيء.
وأرحب بكِ مجددًا في الكتيبة العاشرة، أنا القائد هينري."

تعجبت من هذا الترحيب الغريب، إنها المرة الأولى التي يُرحب بي أحد هكذا، لقد كنت أنتظر نظرات التحيز والازدراء، السخرية والاستخفاف، وربما الخوف مني!
تطاير السؤال رغم عني من فمي في تحيرٍ شديد.

- شيري: " ألا تعرف من أنا حقًا؟ "

لكن حيرتي زادت برده الهادئ والباسم، والذي لا يتماشي نهائيًا مع ما يقول.
- هينري: " بلى، ألست الفتاة التي دائمًا ما تهرب من سيدها.
والتي قتلت ابن آخر سيدٍ لها، وقطعت أصابع أحد الخدم.
كما أنها خضعت مؤخرًا لحكم إعدام، ودائمًا ما تُصيب من حولها بلعنة الحظ السيئ والمشاكل. "

اتسعت عيناي في ذهول، رغم كل الهدوء الذي يمتلكه، إلا أنني شعرت وأنا أنظر لعينه الرماديتان، أن الحياة صارت في عينه بذلك اللون، وقد تم محو جميع الألوان، عقدت حاجباي مستنكرة رد فعله هذا.

- شيري: "ومع كل هذا، ترحب بي هكذا؟ ألستَ خائفًا مني؟ "

إلا أنه أمال رأسه في تساؤل.
- هينري: "ولما أخاف؟ "

- شيري بتعجب: "هـاه؟ "

- هينري: "لست خائفًا، فأنتِ الآن لم تعودي أمهً."

- شيري: " إذا ما أنا الآن؟ آنا كرسي أم طاولة؟ "

ضحك بصوتٍ عالي على كلامي، ربما شعرت بحرج قليلًا، فأنا لم ألقى نكات؛ ليضحك ذلك الرجل.

- هينري: " لا هذا ولا ذاك، أنتِ الآن فارسة ولديك فريق، وعليك التوافق مع زملائك. "

أدرت بعيني باتجاه المبنى الذي توسط الساحة التى كنت أقف فيها، ها قد بدأ الإزعاج يهطل على من اللامكان واللازمان.

- شيري: " إزعاج مجددًا، لا أريد مزعجين معي، أستطيع إنجاز العمل وحدي."

- هينري: "هذه قواعد العمل هنا. "

- شيري بتزمر: "حسنًا."

التفت ذلك الرجل ونادى بصوت عالي.

- هينري: " لوريا، لوريا."

أتت على نداء القائد، فتاة في الثلاثين من عمرها، طويلة القامة، بشعر أخضر مسترسل، يتعدى كتفها بمسافة صغيرة، وعينان زرقاء، لكنها لم ترتدِ زي الفرسان الذي رأيته، إذ أنها ارتدت قميص رمادي وبنطالًا أسود ربما، وكان ذلك المعطف الأبيض الطويل الذي يصل إلى أسفل ركبتها ما جعلها بارزة عن غيرها، جاءت مسرعة لتلبية نداء القائد.

- لوريا: "نعم حضرة القائد."

- هينري: "هذه هي آخر عضو لدنيا."

وأشار بيده عليّ.

- لوريا بلهفة: " حقًا! يا إلهي إنها فتاة صغيرة وضعيفة، إنها جميلة " ووضعت يدها على كتفي.

شعرت باشمئزاز شديد جراء ملامستها لي، وطريقة كلامها، فما إن رأيتها، حتى علمت أن هذه ستكون مصدر ثرثرة وإزعاج لا ينتهي، والأجدر أن أهرب من هنا قبل ملاقاة من هم على شاكلتها.

- شيري: " ابعدي يدكِ عني، كما أني لست صغيرة."


- لوريا: " إذًا عمرك خمسة عشر عامًا."

تتضاعف غضبي، أنها ثرثارة ومزعجة، وفوق هذا حمقاء!

- شيري: " هـاه، هل تمزحين، أنا في الثامنة عشر من عمري"

- لوريا: " يا إلهى أنت تبدين صغيرة على عمرك هذا، ألم تأكلي في حياتك ؟ "

أبعدت نظري عن "خام الإزعاج" تلك ونظرت إلى ذلك المبنى مجددًا، فقد لفت انتباهي، أنه مبنيّ بشكل متقن.

- شيري: " لا، لقد كنت أعاقب بمنع الطعام عني."

تغيرت ملامح "المزعجة" تلك، وبدى عليها الحزن، حتى أنها بدأت في البكاء.

- لوريا: " أنا أسفه لم أقصد هذا. "

- هينري: "كفى يا لوريا، يبدو أنها لا تحب مثل هذا المزاح.
شيري، هذه لوريا وهي طبيبة الكتيبة هنا، إذا احتاجتي أي مساعدة طبية يمكنكِ اللجوء إليها، إنها طبيبة موثوقة."

من الظاهر أن هذا "الرجل" يستطيع إيقاف "خام الإزعاج" تلك، لكن كيف لها أن تكون طبيبة! في الحقيقة أنا لم أرى سوى أطباء العائلات التي كنت أعمل معها، ولكنهم كانوا جديرين بالثقة، وليس مثل هذه الثرثارة، كل شخص يمتلك قدرًا عظيمًا من تلك الهالة العظيمة التي كانت تحيطهم من كل إتجاه.

- شيري: "هذه طبيبة؟ وموثوقة؟"

- لوريا: " أجل يا عزيزتي أنا طبيبة هذه الكتيبة بأكملها، نحن لا نذهب للجبهة الأمامية كثيرًا، لذا عادةً ما تكون الإصابات لدنيا قليلة و .."

قاطعت تلك المزعجة.

- شيري: "لا يبدو عليكِ أنكِ طبيبة."

يبدو أن كلامى صدمها.

- لوريا: "أوه يا إلهى، لماذا هذا الكلام القاسي، لماذا تبدين وكأنكِ ستقتليني."

- هينري: " أمم، لوريا، في الحقيقة هذه الفارسة الجديدة هي شيري رون."

توقفت المزعجة عن الحديث لبرهة، وتبدلت تلك الملامح، فبدت أكثر جدية من البداية.

- لوريا: " لهذا السبب يبدو عليكِ أنكِ ستقتليني في أي وقت.
لماذا لم تخبرني بهذا يا حضرة القائد.
أنا أسفه شيري، لابد من أن هذا الجو جديد عليكِ، لكن هذا المكان بمثابة منزلكِ الجديد ويمكنكِ.. "

قاطعت المزعجة مجددًا.

- شيري: "كلامكِِ بلا أي معنى لي، ولا فائدة منه.
أيها القائد أين المكان الذي سأنام فيه؟"

صَدمة أخرى للمزعجة.

- هينري: "حسنًا ستدلكِ لوريا على كل الأماكن."

- شيري بانزعاج: " لماذا هي مجددًا؟ "

- لوريا: " ربما كان الانطباع الأول لكِ سيئ، لكن لن أستسلم، لا تقلقي لن أكون مصدر إزعاج لكِ."

- شيري: "ولكن لا يبدو هذا واضح لي."

- لوريا: "سأبذل جهدي حتى أثبت لكِ صحة كلامي."

نظرت إلى الاتجاه الآخر.
- شيري: "مزعجة. "

اتبعت خطوات تلك "المزعجة" في صمت، بينما هي لم تكف عن الحديث.

*******
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Story Chapters

وداع من أنتِ
Write and publish your own books and novels NOW, From Here.