دموع الثلج - قصة قصيرة
الحبيب عبد الجليل المسلمي
[ ] ،ذات شتاء من سنة 1981 أفاق "سي الحبيب" مع الفجر وككل فجر ليلتحق بعمله في إحدى مدارس أحواز العاصمة. يأخذ كل يوم الحافلة الصفراء صباحا ليلتحق بمدرسته بجنوب العاصمة ويأخذها مساء ليلتحق بكليته يالمركب الجامعي في شمال مدينة تونس. إنه يعمل مدرسا متربصا صباحا وفي المساء يواصل دراسته في كلية الحقوق والاقتصاد. ينتقل يوميا من شرق العاصمة إلى غربها محاولا التوفيق بين العمل والدراسة الجامعية.
هذا اليوم لم يكن كبقية الأيام. فما إن فتح نافذة غرفته الكائنة قرب محطة برشلونة حتى رأى ما لم يره في حياته. إنها خيوط بيضاء كأنها خيوط قطن نازلة تتهادى من السماء لتكسو أسطح العمارات بغطاء أبيض. لبس معطفه مسرعا وخطف محفظته وأسرع نازلا مع السلالم يلتهمها التهاما فهو يسكن في الطابق الرابع من عمارة تطل على ساحة برشلونة اين تقع محطة الحافلات الصفراء ومحطة القطار الفخمة. تفصل بين المحطتين حديقة رائعة يكسوها اللون الأخضر وبعض نباتات الزينة والزهور، وهنا و هناك بعض المقاعد الخشبية المتابعدة التي كانت تزين الحديقة وتزيدها بهاء خاصة عندما يستريح عليها بعض عشاق المساء.
ما إن خرج من باب العمارة حتى وقعت على معطفه حبيبات لوّنت معطفه وراسه باللون الأبيض. إنه الثلج. إنه زائر غريب لم تتعود عليه العاصمة.
وصل الحديقة. هاله المنظر الرائع الذي أصبحت عليه: خضرة يعلوها بياض.
• كان المارة سعداء بهذا الحدث. إن فيهم من يرى الثلج عن قرب لأول مرة في حياته.
امتطى الحافلة رقم 9 التي ستقله لعمله وأخذ كرسيا قرب النافذة ليستمتع بنزول هذا الضيف. انطلقت الحافلة بصعوبة فالثلج يغطي بلورها الامامي ومسّاحاتها تعمل ببطئ محاولة ابعاد الثلج يمينا وشمالا ليتمكن السائق من رؤية الطريق. وعلى امتداد الطريق لم يكفّ الثلج عن النزول.
وصلت الحافلة امام المدرسة. نزل " سي الحبيب" متكوّرا في معطفه فالطقس خارج الحافلة بارد جدا والثلج ينهمر بغزارة. تجاوز الباب الكبير للمدرسة ودخل الساحة التي اصبحت بيضاء ومغطاة بأكملها بالثلج وكانها لبست حلة من القطن الأبيض. مشى بحذر حتى لا يتزحلق رافسا الثلج تحت حذائه المبلل حتى وصل القاعة التي يدرّس فيها. تقاطر الاطفال على القاعة والسعادة تملأ صدورهم الصغيرة وهم يفركون أيديهم المتجمدة من البرد وينفضون القطن الأبيض عن معاطفهم.
أخذ جميع الصبية أماكنهم وعيونهم مشدودة إلى النوافذ يراقبون نزول هذا الضيف الرائع بلونه الأبيض الناصع وأفواههم مشدوهة بما يشاهدون. إنها اول مرة يشاهدون الثلج عن قرب ويلامسونه.
لم يستطع المدرس ان يحرم الاطفال من الاستمتاع بهذا المشهد الرائع واخذ يتبادل معهم الحديث عن الثلج وعن جماله وفوائده للأرض. كانت السعادة تغمر جميع الصبية والغبطة بادية على وجوههم ويتمنون في سرّهم لو يسمح لهم سي الحبيب بالخروج للساحة والاستمتاع بملامسة الثلج.
فجاة صاح احد الأطفال:
- سيدي .. سيدي... "سناء" تبكي
التفت "سي الحبيب" نحو مقعد سناء فرأى الدموع تنهمر من عينيها انهمارا و هي تحاول ان تخنق صوت بكائها. ظن انها تبكي خوفا من الثلج او من ركلة عفوية من احد الأتراب. لكن الأمر يبدو غير ذلك بعد تحقيق خاطف مع الأطفال.
اقترب منها. وضع بكفه على راسها. ولاحظ انهمار الدموع على وجنتيها المتوردتين. حاول معرفة سبب بكائها. حاول طمأنتها بان الثلج لا يخيف. لكن البنت لم تكف عن البكاء وعيناها متسمرة على خيوط الثلج النازلة من السماء.
اشتد بكاء سناء واشتدت شهقاتها. حاول "سي الحبيب" إبعادها عن النافذة و لكنها تشبثت بمقعدها وبالنظر الى الثلج النازل من خلال النافذة.
ساد الصمت بين الأطفال. وانقلبت سعادتهم إلى حيرة. أسئلة عديدة ارتسمت على ملامح وجوه الصبية ذوي السبع سنوات او يزيد بقليل: لماذا تبكي سناء!؟ لماذا تذرف كل هذه الدموع!؟ لماذا هي متمسكة بمشاهدة الثلج إن كانت تخافه!؟
لم ييأس المدرس والأطفال من محاولاتهم لتهدئة سناء كل بطريقته. لكن البنية زاد بكاؤها وانخرطت في نوبة غريبة من النحيب والصياح بكلمة ماما..ماما.. ماما.
اشتد استغراب المدرس واضطر للذهاب لمكتب المدير طالبا منه ان يستدعي بهاتف المدرسة ولي سناء.
مضت دقائق طويلة وجاء السيد عصام والد سناء مسرعا ويبدو انه يسكن او يعمل قريبا من المدرسة.
استاذن المدرس وتوجه نحو سناء في مقعدها المحاذي للنافذة وكله خوف من أن تكون وحيدته تعرضت لمكروه. حاول سؤالها وتهدئتها واراد ان ياخذها بين ذراعيه. تمسكت سناء بالمقعد وبالنظر خارج النافذة. بقي الأب مندهشا يراقب دموعها المنهمرة ونظراتها المتعلقة بالثلج.
لم تكف سناء عن البكاء والنظر إلى الثلج وهي تصيح ماما...ماما...
مرت لحظات والأب مندهش يراوح بعينيه بين دموع ابنته والثلج المنهمر من السماء. ثم أفاق وكانه كان في غيبوبة. لقد فهم سرّ بكاء سناء وسر انهمار دموعها مع الثلج فانكب عليها حاضنا واختلطت الدموع.
لقد ذكّرها الثلج بأمها الفرنسية التى فارقتها منذ كان عمرها لا يتجاوز السنتين. فأبوها انفصل عن أمها الفرنسية منذ كانت سناء صغيرة جدا وعاد بها إلى الوطن ومن يومها لم تر أمها ولم تذكرها أبدا. لكن مشهد الثلج أعادها إلى أيامها الأولى وتذكرت أمها "سوزان" التي كانت تحتضنها كل يوم لتعود بها من الحضانة المجاورة للمنزل بالحي الخامس عشر تحت ثلوج باريس.