تذكِرة
قصة قصيرة
مالك أمير أحمد
____________
أوراقُ الشجرِ تتهادى في سقوطها كقتيل يسقط بعد أن تم ذبحه؛ والفراشات تحلق عاليً بأجنحتها ليدهسها شخصً لا يرى، والشمسّ في منتصف الغيوم تطلق لهيبها الصيفي على المنازل وهيَ مكفهرة الوجه تسلطُ ضوأها الحارق على الرجل الأربعيني ذاك؛ الذي يحملُ عصا متوسطة الحجم يتكِئُ عليها لاهثً يريدُ شرب الماءِ لكنهُ لا يرى لأنهُ كفيف، يحاول جاهدًا بعصاه أن يتحسس المكان الواقف فيه، ومجموعة شبانٍ قادمين من بعيد بسجائرهم تلك ذات الأبخرة الخانقة، ينزوي الرجل الأربعيني خائفً والعرق الغزير يتهابط كديدان تاهت عن ملجئِها، ساروا ناحية الرجل بتباطء كسلحفاة تمشي في سباق، الضحكات تتلجلج من افواههم القذرة تلك الأفواه التي سبت الرجل بأقذع الألفاظ، الطيور تزقزق وتحمل الطعامَ مبتعدة وهيَ تشاهد الشجار العنيف، لكمه ذاك الحقير أوقعهُ أرضً وبأرجلهم يضربون وما من رحمةٍ في القلوب؛ والأطفالُ يشاهدون وهم بالهلعِ صامتون خائفون، تركوهُ وذهبُ وهو ملقى أرضً يخالط أنفهُ تراب الموتِ وعجز العيون، وها هو ذا رجلً تحلى بشهامةِ الرجالِ ليس كنساءٍ يشاهدنا دون حماية الرجل الضعيف المهزوم، أجلسهُ على كرسيٍ خشبيً وأحضر لهُ كوبَ ماءٍ ليُهدأ من خوفِهِ المزعوم، عينان حمراء كالدماء تتساقط منها الدموع؛ والرجل من البكاء أحس بدوارٍ كاد يفقدهُ وعيه من أثر الضرب الذي تلقاه، بعصاه أشار في ذلك الاتجاه ليأخذهُ لبيته القديم، حملهُ فوق ظهره والناس بالألمِ يشعرون وتجاه الشاب هم ممتنون، سار بهِ دون كد أو تذمر أو ملل، والرجل يبكي حزنً على حالِه وهل وصلَ بهِ الحال أن يحمِلوه وإلى بيته يدخِلوه، أنزلهُ الشاب داخِل منزله وعلى وعدًا بلِقاءٍ قريب وقال لهُ بأنهُ سيزوره كل حينٍ وحين، جلسَ الرجل وهو مثقلً بالهموم، وعدَ نفسهُ بأنهُ لن يخرج لأبد الأبدين، جلوسهُ بمثابة سجنٍ لهُ وخروجهُ عذابً لأن الناس يضرِبونهُ دونَ سببٍ وجيه، هل أساء لأحد، أم أنهُ يجلِدُ ذاته حتى يبكي الدهرُ دموعَ الأنينِ، يحب الأناس جميعًا، لكن لأنهُ كفيف يقسون عليه حد النزيف، بربِكم ألا يوجد رحمةً في القلوب، قست القلوبُ وتبلدت المشاعِرُ، من كثرة التفكير نام وقطرات الدموع تهبط من عينيه ودقاتُ قلبِه تطرق الإيذان، سال الدمع كلهيب النيران التي تشتعل داخل الموقد لتتأكل وتصبح كالرماد، سمِعَ طرقات على باب المنزل، لينكمِشَ على ذاته كطفلٍ يريدُ والدته ولا يجدها، أصبحت الطرقات أعلى من ذي قبل، كأن الطارِق يُصِرُ على خلع الباب إن لم يفتح لهُ ساكن البيت، خرجَ الرجلُ بعصاه يضعها موضِعَ قدمه كي لا يتعثر بالسجاد وهو يكادُ يفقدُ الوعيَ من ألام جسده ونفسه، فتح الباب وإذ بهِ ساقِطً على أعتاب البابِ فاقدً وعيه، تظهرُ فتاةً من خلف البابِ، جميلة المظهر، رشيقة القوام، صفراء الشعر، وإذ بها خائفة لا تعلم كيف تُفيقه وخنجرً طعن قلبها، هيَ فتاةً بكماء لا تعرف النطق أو سبل الانقاذ، حملتهُ بين زِراعيها وهيَ متوترة القلب هلِعةُ الوجه، لا تدري ماذا تفعل وهل ستنقِذه أم الأوان قد فات، يتأرجح الخوف داخل قلبها المسكين والتوتر يمنعها عن التفكير، وجدت الحل في الماء لأنهُ الوحيد الذي سيوقظه من ثباته، ملئت كوبً من الماء ونثرت قطرات على وجهه وعيناها تعلقتَّا بالجدران فزعً من صحوته المفاجِئة لها والتي ارعبتها، جالسًا على كرسيهِ الخشبي بعد أن أفاق، ناظرًا للفراغ:
- من هناك، دعوني وشأني أرجوكم أنا رجلً كفيف لا يرى لِمَ تعذبوني بالضرب والإهانة كل يوم، لِمَ؟!
عيناها تراقبه والدموعُ تسيلُ، لا تعرف كيف الكلام وهيَ في خوفٍ بين النيران، نيران قلبها الممزق وعقلها الذي جُنَ من الأحزان ألا يكفي أنها لا تستطيع النومَ ليلَ نهار ويأتي هذا الرجل ويجعلها تبكي ويتبلور الحزن في عينيها كحربٍ شوعاء قد اقيمت ضدها لا محال، لا للاستسلام ستساعد الرجل كل الأيام، ليس لديها ملجئ وطُرِدت من بيت أهلها ولن تعود لهم والأيام ستثبت لها صحة الكلام الذي قالوا عكسهُ عنها بأنها عاهرة تستمتع بنظرات الرجال لجمالها الفتان، أخرجت الهاتف من جيب البنطال، كتبت خمسة أسطر و وضعتهم داخل تطبيقٍ يقولُ كلَ الكلام الذي لا تستطيع نطقهُ باللِسان، قال الصوتُ الآلي خاليً من الاحساس والشعور:
- أنا اسمي جنات في منتصف العقد الثالث، بكماء لا اتكلم ولقد طرقتُ بابكَ لأن أهلي قد طردوني من المنزل لأني خرساء لا اتكلم، وعندما فتحتَ لي وجدتك ملقى على الأرض ولم أعرف ماذا عليَ أن أفعل، جلبتُ كوبَ ماءٍ ونثرتُ منهُ القليل على وجهك حتى استيقظت وعلمتُ أنك كفيف لا ترى وسمعتُ الذي قلته وسأبقى معك وأرعاك، لا تقلق فسأكونُ سندك وعيناك في هذهِ الحياة، وهذا تطبيق اكتبُ عليه الذي أريدُ قوله وهو ينطقه
جفَ الحلقُ ألمً، وعيناهُ بالدموعِ تسيلُ، دقاتُُ قلبه بالأنين تسمعُ من على بعد ميل، تبسمَ الوجهُ واتسعت العينانِ فرحً هل هذا يومُ عيد، أم أنَّ الله استجاب دعائه الذي يرددهُ في كل صلاةٍ وتسبيح، ناظرة إليه ببسمة مشرقة تجعل النائمينَ قياما، وضعت يدها بداخل كفه والخجلُ يعلوا محياها، تردد قليلًا لكنهُ أتخذ قراره بقول المستحيلُ:
- بنيتي أنتِ لن تتحملينني شهرًا، وسأكون حزينً برحيلكِ، لكن أخاف عليكي من ظلم نفسكِ معي، فأنتِ مازلتي شابة وأنا اعمى البصر، لن تتحملين شهرًا وتتأففين مني، فهل أنتِ مستعدة لكل هذا أم أنكِ بالرحيلِ تنوين
ضحكة جميلة خرجت من ذاك الفاه السعيد، وكتبت عشرة أسطر وضغطت زر التشغيل، وإذ بصوت الإمرأة الآلي يقولُ وهو يستمع بقلبه الجميل:
- لِمَ تقول على نفسِكَ هكذا، أنت نورُ الكون المضيء، سأتحملكَ عشر سنين ومن بعدها إذا مللتُ فأطردني من منزلك في ذات الوقت والحين، أنت تكبرني بخمس سنواتٍ فقط وهذا ليس بكثير، أنت لازلت شابً لكن الله رب العالمين اعطاك نعمً لا تعدُ ولا تُحصى، أخذ منك البصر وأعطاك الكثير والكثير، فقل الحمدلله على نعم الله الرحمن الرحيم، ولا تخف مني لأني مثلك رب العالمين أخذ مني النطق وأعطاني أشياء أفضل فابتسم هكذا ولا تحرمني من هذهِ الابتسامة التي تخطف القلوب، ماذا تريد أن تتناول على الغدا، اتأكل الأسماك أم لا تطيقها
تسللَ الفرح لوجههِ العابس ليجعلهُ سعيدًا، اجلسها بجانبه وهو يقولُ ضاحكً مسرورَّ، وقد خُيلَ إليهِ أنهُ على شاطئ يلهوا ويلعب ولا يدرك معنى الوجع الذي سيأتيهِ بعد سنينَ:
- لا أريد طعامً أو شرابَ، أريدكِ معي لأبد الأبدينَ، إلى أن يفرقنا الموت بعد حينٍ، لقد تبخرَ وجعِ وتحولَ لبسمةٍ ضاحكةٍ في الأفق البعيدِ، يا الله لا تحرمني منها
كتبت على تطبيقها بِضعَ سطورَ وهي تنظر لهُ مبتسِمةً سعيدة، ضغط زر التشغيل، وقد هَوَ قلبهُ من نسيجِ الجمالِ وشدة التعبيرِ:
- لا تقلق أنا معك حتى يموتُ أحدنا، والآن ابتسم ابتسامتك الجميلة هذه
علت الإبتسامة وجهه، تزقزق العصافيرُ طائرةً في السماءِ فرحً بميلاد شغفٍ جديد، وتغربُ الشمسُ في كبد السماءِ مودعةً الأحبابِ، ابتسمت لهّ والدمع يتراقصُ في العيونِ سعادةً كخوفٍ أنقشع عن الوجوهِ لينيرَ الكونَ سعادةً وأجلالِ.
٭ ٭ ٭
ماذا استفدتم من القصة، وهل هيَ على قدر توقعاتكم أم أنها دون المستوى، وما الذي تعلمتوه من القصة، أريدكم أن تناقشوني.
تمت بحمد الله تعالى
مالك أمير أحمد
2021/12/11