- ها نحن ذا...
- أيمكنني البدء الآن...؟
- جيد...
- لا يمكنك أن تحصي عدد المرات التي تخيلت فيها نفسي جالسًا مع أحدهم أخبره بهذا السر؛ ولكن ها أنا ذا.. أجلس أمامك الآن أحكي لك قصتي منذ البداية...
بدأ الأمر في الماضي، عندما كنت في الثامنة من عمري تحديدًا، كنت طفلًا ضئيلًا بالنسبة لمن هم في سني، أكاد لا أظهر من الأرض.. في أحد الأيام، وبينما كنت عائدًا إلى المنزل، هبطت من «باص» المدرسة مسرعًا لألحق بالحمام قبل أن أبلل بنطالي وتقتلني أمي؛ لكن سائق السيارة التي دهستني حينها لم يراع ذلك، بللت بنطالي على أي حال؛ لكن هذا لم يكن ما يشغل بالي وقتها...
وعندما أفقت كل ما رأيته أمامي كانت الحيوانات! هذا كل ما أراه! جميع البشر تحولوا فجأة إلى حيوانات!
كنت طفلًا حينها وكان الأمر في غاية المتعة بالنسبة لي. أسير فأرى الأسود والغزلان والقرود تملأ الشوارع، كأن أحدهم قد فتح أقفاص جميع حدائق الحيوانات في العالم..
أذهب إلى المدرسة فأجد أستاذنا السمين اللطيف قد أصبح دب باندا ظريف. أتذكر الآن أنه كان من الشخصيات الهادئة اللطيفة التي أوشكت على الانقراض. الطريف في الأمر أن اسمه كان (ماجد البنا) فصرت أدعوه (مستر ماجد الباندا)، وكان زملائي من حيوانات الغابة يضحكون، غير مدركين بأن هذا ما أراه حقًّا...
لم يعلم أحد بهذا السر أبدًا سوى والدتي.. أذكر مرة أنني عدت من المدرسة لأجدها تجلس مع إحدى البقرات السمان اللاتي لا تكففن عن الخوض في أعراض الناس.. وقفت أتأملها قليلًا ثم سألت والدتي بكل براءة: «هيَّ دي جاموسة ولا بقرة؟».. لم ينقذني من العقاب وقتها سوى وصول الثور زوجها ليعيدها إلى حظيرتها..
وبعدما وضعت والدتي في مواقف عديدة لا تُحسَد عليها، بدأَت أخيرًا في تصديق أنني لا أعبث معها.. بالطبع طلبت مني أن أحفظ السر عن الجميع؛ خوفًا من أن يبعدوني عنها ويلقوا بي في أحد مستشفيات الأمراض العقلية...
حاولَت تعليمي جميع أنواع الحيوانات وجميع الفصائل، ثم رحلت.. غادَرَت الدنيا عندما كنت في الرابعة عشرة، تاركة هذا العبء الثقيل لي وحدي.. انتقلت بعدها للعيش مع عمي، خروف لم يسعفه حظه التعس في إيجاد نعجته المناسبة، فرضي بالزواج من أنثى الضبع تلك، والتي أجبرته في النهاية على أن يلقي بي خارجًا..
عشت وحدي فترة كافية سمحت لي بالتأقلم مع الوضع، أصبحت مباريات الكرة بالنسبة لي أشبه ببرامج ناشيونال جيوجرافيك بالنسبة لكم.. الفهد الأسود يجري في المقدمة.. لا يستطيع الدجاج الوقوف في طريق الحصان.. يسدد؛ لكن الكنغر ينجح في إنقاذ شباك مرماه...
عشت حياتي وسط حيوانات ناطقة، ومع الوقت لاحظت العديد في ما يخص تلك الحيوانات:
الملاحظة الأولى: هذه الحيوانات التي أراها تحمل أهم صفات الشخص الذي أراه، فقد جلست بجوار التيس ثقيل الفهم في حصص الكيمياء نستمع لشرح البومة الحكيمة، أراقب في صمت الغزالة الرقيقة على الجانب الآخر، لأجدها كالبلهاء تحدق بالغوريلا في إعجاب بعضلاته المفتولة...
هذه المعلومة نقلت بحثي من مجرد تعلم أسماء الحيوانات إلى معرفة فسيولوجيتها وطريقة عيشها...
الملاحظة الثانية: من المستحيل أن تكتمل العلاقة بين أي زوجين إلا لو كانا من نفس الفصيلة، ولو حدث وتزوج أحدهم من فصيلة مختلفة؛ سينتهي بهما الأمر حتمًا بالطلاق.. أو أسوأ.. بالبقاء معًا!
تخيل معي دبًّا يتزوج دجاجة، أو أرنب يعيش مع ثعلبة.. بالطبع لن تكون نهايةً سعيدة أبدًا..
*يتوقف صوت الشاب عن الكلام*
*همهم الطبيب بسؤال لا يبين بسبب طنين المسجل القديم*
- كنت قلقًا من أن تسأل هذا السؤال، لكني سأجيبك على أي حال.. أراك طاووسًا..
نعم هذا غريب؛ لكن لست أنا من أختار ما أراه، إنما هي شخصيتك التي تبديها لي الآن، على الأغلب أنت واثق من نفسك لدرجة تخطت حد الغرور، جلستك، صوتك الذي تحاول جعله عميقًا وحكيمًا، طريقة كلامك، كلها تظهر أمامي على شكل طاووس متباهٍ، لا بد أنك كنت تتباهى بين زملائك بقدرتك على الحفظ ظنًّا منك أن هذا هو الذكاء وأنك بهذا عبقري.. لا أقصد أي إهانة بالطبع، أنت طلبت مني إخبارك بما أراه، وأنا كنت صريحًا معك كما طلبت في البداية...
لكن ليس هذا ما جاء بي إلى هنا، فكما أخبرتك للتو، بدأ الأمر منذ وقت طويل جدًّا، ما جاء بي إلى هنا هي التطورات التي لاحظتها في الآونة الأخيرة، أصبحت الحيوانات تتحول! تتقلب وتتغير لنفس الشخص تدريجيًّا.. في بداية معرفتي به يكون فأرًا، ثم يبدأ الفأر يزداد طولًا، تنكمش قدماه، تنمو له حراشف، حتى أراه في النهاية قد أصبح ثعبانًا بالكامل.. الشمبانزي يشترك في الـ(چيم) لشهرين فيصبح غوريلا.. وهكذا...
البعض يبقى نفس الحيوان طوال حياته، مثل أعز أصدقائي، الزرافة (رامي)، اعتدت على مناداته بذلك بسبب طوله العجيب حتى منذ كنا في الابتدائية؛ لكن بعدها أصبحت أناديه بالـ(ظرافة) رامي، بسبب نكاته السخيفة التي لا يمل من إلقائها...
أما أهم مثال على تبدل الحيوان -وسبب مجيئي إلى هنا- هي حبيبتي السابقة، كانت قطة بريئة لطيفة عندما رأيتها لأول مرة في الكلية، وقد اتفقنا على الزواج بعد التخرج مباشرة.. قبل أن يصل الدب ابن خالها من الخليج لتبدأ تلك القطة بالتضخم تدريجيًّا، كثرت طلباتها فوق ما يتحمله أجري الزهيد، نفس الفتاة التي كانت قطة بريئة أصبحت أراها لبؤة تطارد النقود بشراسة، وفي النهاية -وكما توقعت أنت تمامًا- تركتني لبخلي وفضلت نقود ابن خالها.. لكنني لم أكن لأسمح لها بالزواج من ذاك الدب ثقيل الظل أبدًا...
لقد درست القانون، وأعلم أن أي شيء أخبرك به هنا سيظل سرًّا مهما كان خارجًا عن القانون.. بل خاصة إن كان خارجًا عن القانون...
أعرف ما يدور في رأسك الآن، وهو صحيح بالمناسبة.. نعم، أنا قتلتها، الخدعة تكمن في جعل الأمر يبدو حادثًا، لا شرطة ولا تحقيق، خرجت من الأمر كالشعرة من العجين، يمكنك أن تدعوني محترفًا في هذا بعد عدد المرات التي قمت بها، كلما أحسست أن أحد الحيوانات سيتغير معي، تخلصت منه على الفور.. هذا ليس قتلًا كما ترى، فالصياد والجزار قتلوا أضعاف ما قتلت من حيوانات ولا يزالون أحرارًا...
حتى أنت تتغير الآن، يزداد طول رقبتك بشكل واضح، يزداد ريشك كثافة ونعومة؛ لكن لونه يخفت، أنت تصبح نعامة أيها الطبيب، الخوف ينتابك.. لا أدري إن كنت تخطط للهرب أو إبلاغ الشرطة؛ ولكن تخطيطك لن يشكل فارقًا الآن، فأنت ميت بالفعل.. بإمكاني الشعور بأنفاسك تتصاعد بصعوبة، يمكنك قياس نبضك وأؤكد لك أن سرعته جنونية، لقد وضعت بعض السيانيد في قهوتك بينما كنت تتظاهر بكتابة شيء مهم فقط لترضي غرورك..
*صوت ارتطام جسد ثقيل بالأرض*
- لقد وعدت أمي -رحمها الله- أن لا أخبر أحدًا بهذا السر.. والآن أنت تعرف أكثر من اللازم... لطالما أردت قول تلك الجملة... لكنك لن تسمعني بسبب تلك التشنجات.. لا تقلق، سيتوقف قلبك عما قريب... ها أنت ذا..
*صوت خطوات بطيئة*
- سآخذ هذا الملف من يدك.. شكرًا لك...
فكرت في إتلاف هذا الشريط؛ لكنني لا أرى أي مشكلة في تركه ما دمت لم أذكر اسمي، قد يستخدمه أحد الحمقى في كتابة قصة بائسة.. فقط لا تدعني أراك تقرأها يومًا ما، فلا أحد يعلم سري ويبقى حيًّا...
* * *
انتهى الشريط، فأطفأ المحقق الجنائي جهاز التسجيل ثم دار ببصره بين بقية زملائه في فريق التحقيق، تتباين التعبيرات على وجوههم بين الحيرة والقلق والرعب...
- ما رأيكم؟
ساد الصمت بضع لحظات أخرى قبل أن ينطق أحد الضباط:
- هذا جنون.. نحن نتعامل مع أحد المختلين عقليًّا..
نظر إليه أكبرهم سنًّا ورتبة نظرة احتقار:
- شكرًا للإضافة.. نحتاج الآن إلى ترتيب أفكرنا، وتحليل ما لدينا من أدلة.. ماذا نعرف عن المجرم حتى الآن؟
قال أحدهم:
- سوى هذا الشريط، لم نجد شيئًا.. كل البصمات المرفوعة تخص الضحية..
قال آخر:
- دعنا لا ننسى أنه ليس الضحية الوحيدة، فكما سمعت؛ إنه يقتل ضحاياه لتبدو وكأنها حوادث.. نحن أمام قاتل متسلسل..
- ولكننا خرجنا بمعلومات لا بأس بها.. المجرم درس القانون، لنبحث بين طلبة الحقوق.
قال كبيرهم مجددًا:
- وخرِّيجي كليات الحقوق من جميع جامعات مصر.. هذا مستحيل.. علينا تضييق دائرة البحث أكثر..
- لنبحث عن المدرسة التي يعمل بها المدعو (ماجد البنا).. قد تفيدنا كشوفات الطلاب بها..
فقال زميله ساخرًا:
- ولنبحث عن مدرس كيمياء يشبه البومة.. وعن كل طويل قامة يدعى (رامي)..
كان المحقق يتابع الحوار بصمت وعيناه معلقتان على ساعة معصمه، ثم قام من مقعده:
- لحظة واحدة.. سأذهب إلى الحمام..
غادر الغرفة وتركهم غارقين في صمت ثقيل.. حتى كسره أحدهم قائلًا:
- درس القانون.. ليس بالضرورة أن يكون خريج كلية الحقوق.. نحن درسنا القانون في كلية الشرطة أيضًا..
- أحسنت.. الآن أصبحت دائرة البحث أوسع من .....
قاطع جملته صوت ضحكة مجنونة جاءت من شريط التسجيل، تبعها صوت القاتل المختل:
- كان الحديث معكم ممتعًا يا سادة! لكن حان وقت إنهاء تلك المسرحية الهزلية! لا تنتظروا عودتي فأنا لست في الحمام كما تظنون! والآن... أنتم أيضًا تعرفون أكثر من اللازم!!
انفجر في الضحك مجددًا وسط نظرات الدهشة المرسومة على وجوههم، وقبل أن يفهم أحد ما يجري انفجر جهاز التسجيل، وانفجر معه ربع مبنى قسم الشرطة، وكل الأدلة التي تدينه، وكل من يعرف بسره الصغير، وبالطبع تدمر الشريط الذي يحمل التسجيل الأخير...