يسير بي، ويسير معي... ويجالسني...!، وعندما يشعر أنني فرغت لبرهة مما يشغلني يلاحقني بإعادة قص ما أعرف...!، ولما يلمح انشغالي عنه وإهمالي له يستبدل أدواته ويعيد كتابة ما هو منقوش على صفحات ذاكرتي!
يقرأ لي ما أقرأه له...!؛ ويحادثني بما أحادث به نفسي...!؛ حتى إذا كل عاد أدراجه إلى كامل هيئتي يسكنني، فتنطبع ملامحه على ملامحي!؛ أباغته قبل أن يتكلم فيرضي بأن نحكي معا، أتردد ثم أسلم بما رأى، فأوافقه!
أقول ...
سمع أبي البيان الأول ولم أسمعه!
قال إن الدراسة من الغد معطلة لأجل لم يسمه مذيع البيان، فغطى الراديو على أصواتنا ببياناته ومارشاته وأناشيده التي هب لها شعر رأسي واقفاً من رقدته الجبرية بفعل كريم الفازلين الذي كان يختلط به ويغطيه!
كنت في بداية صفي الدراسي الثاني في إعدادية بلدتي القناطر، وكنا على رأس أسبوع جديد بدا مثل سابقه آسناً كئيبا، فجاءت الحرب لتريحنا من عام بادلنا رتابته بكسلنا؛ فتثاءب في وجوهنا المدرسون!؛ صليت وابتهلت ثم نذرت، وكنت واثقاً من أنني سوف أوفي نذر الصوم لله!
لم أرصد اللحظة ذاتها التي غادرني فيها الكسل؛ وتبدل معها إيقاع اليوم؛ لكن ما أتذكره جيداً أنني شعرت بفرحة كبيرة تغمرني؛ وبثقة تتوالد لتملؤني؛ وزارني طائر النصر وقد هبط يحتضنني ويلفني بجناحيه؛ فلما شكوت له خوفي حملني على ظهره وحلق بي بعيداً حتى حط بي هناك؛ فرأيت أعلامنا مثبتة؛ وراياتنا مرتفعة ترفرف؛ ربما يكون قد أحس بغبطتي وشعر باطمئناني لأنه في التو مد يده وشق صدري؛ وعصر قلبي؛ وشد برفق أسئلتي المضطربة التي تحتل أركانه الأربعة!؛ نظر فيها بإمعان ثم ابتسم وهو يهز رأسه مهوناً؛ ثم باغتني ورمى بها كلها بعيداً فابتلعتها المياه وغاصت في قاع القناة المغلقة؛ نظرت في الماء ملياً عسى أن تعود فتطفو من جديد؛ لكنني رصدت عشرات الفؤوس وهي ترتفع بسواعد وجوه أكاد أحفظ تفاصيل وجوهها؛ وتلهب ظهورها سياط طويلة ملامح القابضين عليها تكاد لا تستبين؛ كنت مندهشاً؛ وربما كنت مرتبكاً؛ لكن المؤكد أنني كنت تائهاً.
شعر باضطرابي لما وضع يده على كتفي؛ ثم حنى رأسه ومال بقامته الفارعة يحادثني!
قال لي: لما اضطرابك يا بني؛ ولماذا تبدو مغتماً وخائفاً هكذا؟
هزني برفق من كتفي وهو يقول لي مبتسماً: ألا يبهجك ما ترى؟
حاولت الكلام؛ وطل من رأسي السؤال؛ لكن لغتي ضاعت مني فلم أرد عليه!
ارتفع وجهي إلى وجهه؛ طالعته من أسفل فنظر لي من عل؛ قرأت عيناه؛ واثقاً أكمل وهو ينهي حديثه معي: وادخر فكرك لقادم الأيام!
سكن النصر قلبي؛ وأصبحت فرأيت أماراته على كل الجباه؛ وتسكن روحه تفاصيل العيون؛ وتفصح عن بهجته ثقة الحروف وهي تنساب من بين الشفاه مرحة وفرحة؛ مثلما تتقافز الأسماك مبتهجة في الجداول في يوم شتاء مشمس جميل!
بشرت به وأنا أغالب أسئلتي التي عاودتني في الصباح، والتي كلما تعالت أصواتها سابقتها لأبعدها محاولاً وأدها في مهدها حتى لا تستشري، فتعود تتلوى دوني متلكئة، حتى إذا عادت تدركني عاودني السؤال: هل ما رأيته في الليل من رؤية عابرة هو الذي زرع في كل هذا الإحساس بالثقة في النصر، أم أن ثمة أشياء أخرى هي التي ولدت في هذا الشعور؟؟
لماذا أنا خائف هكذا؟؛ وما تفسير ذلك التناقض الذي يسكنني؟؛ هل ما رأيته كان رؤية حقة؛ أم أنه كان حلم يقظة في ليلة شائهة من تلك الليالي الخريفية التي تتقمص أجواء الصيف؟
لماذا ننتصر الآن؟؛ ولماذا يكون النصر من نصيبنا؟
هل ننتصر لأنني كبرت وصرت أعي الأحداث أكثر من ذي قبل؟؛ وإنه من العيب وحالي هكذا أن ننهزم؟! أم أن هذا الشعور بالثقة في النصر كان تعبيراً عن رغبة مكبوتة في الثأر من الأعداء من فرط إحساس بالقهر والغبن؛ كلما تذكرت النكسة واسترجعت مشاهدها المؤلمة التي حكى عنها عبد الحكيم "تومرجي" الوحدة الصحية ببلدتنا؛ والذي خرج من الخدمة العسكرية بعد النكسة بساق واحدة؟؛ حكى كثيراً؛ وأفاض في حكيه عن "الفانتوم" والطيران المنخفض؛ وعن قنابل "النابالم" التي تذيب الحديد؛ والتي كانت إسرائيل تصبها على رؤوس جنودنا بلا رحمة!
كرهت تلك الطائرة وكان جسدي يقشعر عندما يذكرها هذا أو ذاك؛ دون أن أعرف معنى لاسمها المخيف؛ وكانت مشاهد أسراب الطائرات المغيرة التي دنست سماء بلدتنا هي الأخرى في تلك الأيام الغابرة حاضرة في رأسي وهو يحكي!
كان عبد الحكيم مقبلاً على الحياة؛ ولم أرصده يوماً حانقاً أو مكتئباً على الرغم من إعاقته الواضحة؛ كان دائماً منشرحاً وهو يقابل الجميع ويتحدث إليهم ويتحدثون إليه؛ ولم أستطع مرة أن أرصده منفعلاً حتى وهو يحكي تلك التفاصيل المؤلمة.
كان من المفتونين بصوت "أم كلثوم" وقد عبت عليه أن يتعلق وجدانه بامرأة صوتها به من الغلظة ما ينزلها منازل الرجال وهي لا تمل في ترديد نشيدها " والله زمان يا سلاحي"!؛ لكنه كان يتتبع حفلاتها متيماً؛ ويحرص على أن يكون مقعده في الصفوف الأولى دائماً؛ فأنفق بكرم لا يناسبه معظم ما كافأته به الدولة على حفلاتها التي كان يستعذب الحديث عنها؛ والتفاخر بحضورها مثله مثل الكبار وعلية القوم؛ فاحتلت "أم كلثوم" مكاناً ما في ذاكرتي لم أفتحه وأتفاعل مع معانيه إلا بعد دخولي إلى مرحلة المراهقة بكل عنفوانها؛ وما مس القلب فيها من دفقات وارتعاشات بريئة؛ فتقبلت صوتها شيئاً فشيئاً في كل تبدلاته لما أصبحت كلمات أغانيها تعبر عن لواعج قلبي الخجل!.
هل من أجل ذلك يجب أن يكون النصر من نصيبنا؟؛ أم ننتصر لأننا الدولة الأكبر ولا يصح للصغير أن يهزم الكبير؟؛ مثلما لا يصح ان يعلو صوت ذلك الصغير على صوت من يتفوق عليه ويكبره؟؛ لكنني رأيت الصغير غريباً؛ كما أنه هو من اعتدى؛ وهو الذي سب؛ وهو الذي تفاخر بما اقترف من آثام في حقنا؛ فهل يسري عليه ناموسنا؛ وهل يوافق هو على ذلك الناموس؛ وهو الذي أتى من أجل أن يهدمه لا أن يقيمه؟!
هي أرضنا وهو حقنا وهم الذين أتوا ديارنا مغتصبين؛ فلابد أن يكون النصر حليفنا؛ فإذا كان قد تلكأ لبعض الوقت؛ فها هو يعود بعد أن عرفنا طريقه؛ وامتلكنا من سبل الوصول إليه!
******
أقول.....
في حرب يونية عشت الرعب
كانت الطائرات المعادية تكاد تصم بأزيزها الذي بعثر السكون آذاننا وهي تشق فضاء القناطر بهديرها المزعج؛ وهو الفضاء الذي لم يعرف قبلاً إلا شدو البلابل؛ وزقزقة العصافير؛ وهدير المياه وهي تهبط مختالة من عيون القناطر؛ وتنساب بخصبها إلى الحقول عبر الرياحات؛ والترع الكثيرة التي تمثل منطقتنا نقطة الابتداء لها!
كانت الطائرات تمرق فوق رؤوسنا في أسراب متفرقة وكأنها الغربان؛ وكانت هي المرة الأولى التي أشاهدها وهي تكاد تلامس الأرض؛ وتمر كالبرق؛ وقد أوشكت على أن تذهب بأسماعنا؛ وتخطف أبصارنا؛ هربت مني أنفاسي ولم تعد إلا بعد ان شاهدت واحدة منها تطير معطوبة وقد سقط عنها أحد جناحيها؛ ودخاناً أسود يتلوى خلفها بكثافة؛ فشكل في الفضاء القريب ذيلاً طويلاً متعرجاً أشبه بجسد أفعى تحتضر بعد أن فقدت رأسها؛ قالوا عنها وقتها إنها سقطت في منطقة الحدائق بعد أن اصطدمت بشواشي الأشجار؛ مثلما قالوا بعدها أن من كانت تقودها هي امرأة وقد وضعت مولودها في المسافة ما بين هبوطها والقبض عليها!.
تكاثر الحكي وتعددت الروايات فادعوا واثقين أن بعضاً منها تساقط كالأحجار الصماء في الحقول المترامية مشتعلاً أو خرباً؛ وأن بعض الفلاحين استولوا وقتها على قطع منها عندما سكنت حقولهم؛ فاحتفظ "حسين شلبي" بجزء من جناح؛ واحتفظ غيره بأجزاء لم يسمها أحد منهم؛ بعد أن تم التنكيل بعبد الكريم المصري من قبل الحكومة لما سألوه أن يرد الجزء الذي استولى عليه؛ فلم يفصح هو؛ ولم يرشد أحد من الآخرين عن غنيمته التي أراد الاحتفاظ بها لا ندري لماذا؛ ولما عاد من محبسه صار يسب الجيش والشرطة مثلما كان يسب إسرائيل؛ فاعتقلته من جديد قوة في الفجر؛ ولم نره بعدها؛ وعلمنا أن زوجته غادرت بأبنائه بلدتنا عائدة إلى قرية أهله الأولى؛ فتبخر من بيننا وابتلعه الفضاء الشفاف؛ ولم يتبق لنا إلا سيرته التي انزوت بعيدة هي الأخرى لما قل استدعاؤها؛ وأضافوا أن أحداً لم يفلح في العثور على مكان محبسه فغادرتنا صورهم إلى الأبد!.
وسأعلم وسنوات العمر تتقاذفني أن بعضاً من طيارينا صرعوا بأيدي الفلاحين عندما استغاثوا بهم بلسان مصري صميم؛ لكن الناس المشدودين إلى الأساطير أبوا تصديقهم وهم يرونهم بملابسهم المغايرة؛ فأنكروا عليهم لسانهم وظنوهم من الأعداء فجزوا رقاب البعض بالمناجل؛ وهشموا بالفؤوس رؤوس آخرين!
يقول..
لم يكن أحد ليصدق أن طياراً مصرياً سيسقط بالمظلة هارباً من الموت في وطنه؛ أو أن طائرة تحمل علم مصر ستصاب وتسقط على أرضها!؛ لكنها كانت الحقيقة؛ وكانت أيضاً قمة المأساة؛ عندما فشل هؤلاء الطيارون في العودة إلى مطاراتهم التي دمرتها الفانتوم؛ فأصيبت بعضها بنيران طائرات العدو؛ وعمد الآخرون إلى استنفاد الوقود في الجو وهم يتشبثون بأمل البقاء؛ وكانت مأساة من مآسي كثيرة حدثت في ذلك الشهر الكئيب.
*******
أقول.....
كان أبي هو الحكاء؛ وكان هو فارس امسياتنا الصيفية!؛ في الليل كنا نصعد إلى سطح المنزل هرباً من البعوض الذي كان يباغتنا ويلاحقنا بلسعاته بعد أن يملأ آذاننا بطنينه؛ ودأب على ملاحقتنا ونحن نتلمس الهواء هرباً منه فبدا مثل طائرات إسرائيل التي صالت وجالت دون رادع في أجوائنا؛ ودنست هواءنا؛ ودمرت ما دمرت في أيام قيظ نحسات؛ داهمتنا من أسف ونحن لا ندري أنها كانت ستداهم!
كنا نتناول العشاء؛ ونشرب الشاي ويمارس أبي هوايته في الحكي؛ وكلنا مشدود إليه إن هو حكى عن "عنترة"، أو ذكر "أبا زيد الهلالي"؛ أو أكد لجدتي ولنا أن الذي أتى بكتاب النيل إلى مصر هو "سيف بن ذي يزن" وأنه خاض حرباً مريرة في أرض الأحباش ساعدته فيها أخته التي تنتمي إلى عالم الجان والعفاريت؛ وأنه عندما حمل الكتاب سار الماء وراءه؛ فروى النيل أرض مصر فاهتزت أرضها مثمرة دون سواها؛ وتباهت بخيرها على ما عداها!
كان هذا هو حال أبي معنا؛ لكنه منذ بدأت الحرب توقف عن الحكي وإن واظب على جلسة المساء؛ كان كثيراً ما يشرد عنا؛ وهو يطيل النظر في الظلام؛ لكننا كنا نلاحقه بأسئلتنا فيرد علينا تارة ويهملنا في مرات؛ ثم ينتبه زاعقاً في أمي؛ وهو يأمرها أن تطفئ "وابور الجاز"؛ أو تواريه في خبيئته المصنوعة من علبة صفيح حتى لا ترصد ناره طائرات أو قذائف العدو فتقصفنا!
كنا نرصد نيراناً مشتعلة في المدى البعيد؛ وكان أبي يشير ناحيتها وهو يقول لنا ولنفسه: إنها ربما تكون في غزة؛ أو ربما تكون في سيناء؛ ثم يصمت وهو شارد حتى يعاود منزعجاً: تكون مصيبة إن كانت عند خط القنال!
كنا نسمعه؛ ولم يتثن لي وقتها أن أتأكد من مزاعمه وتفسيراته إن كانت صحيحة؛ أم أن التوفيق قد جانبه؛ لكنها كانت النيران؛ وكنا نراها جميعاً وهي تجري متلاحقة كالشهب في عرض السماء؛ أو وهي تهرب من الأرض باتجاه الفضاء؛ أو وهي تضئ لبرهة جانباً من الخلاء الأسود الكئيب؛ فألمح على المدى بيوتاً ومآذن وقباب؛ وكان الذي تأكدنا منه جميعاً بعد أيام من انطلاق الحرب أننا هزمنا؛ فسقطت "غزة" وضاعت منا "سيناء" ودمرت كل مدن خط القنال في لحظات معدودات!
يقول
غنت "أم كلثوم"؛ وأنشد "محمد عبد الوهاب"؛ وأشعل فينا الحماس صوت عبد الحليم حافظ؛ كانت الكلمات كبيرة كبر أحلامنا؛ وواسعة المعاني قدر أخيلتنا؛ كانت الألحان قوية حتى لتكاد أن تقفز من فرط حماستها – معها- قلوبنا؛ وكان الهواء يتسرب بنوره على أجسادنا فتظل مستيقظة حتى ولو داهمها النعاس!
كان الراديو يفيض حماساً؛ وبياناته تداعب طموحاتنا وأخيلتنا؛ فعشنا حلم يقظة جميل تمنينا ألا ينته؛ لكننا صحونا مضطرين لما انطفأ الصوت؛ واختبأت البيانات العسكرية التي طيرتنا من على الأرض؛ وسلم خالي نفسه بسيارته العسكرية التي صارع بها الجحيم في "سيناء" وهبط بها البلد ليلاً إلى مركز الشرطة حتى لا يتهم بالجبن والهرب من المعركة؛ فيعاقب بتهمة الخيانة.
علمنا وقتها أننا انتكسنا؛ ويوم دخلت هذه الكلمة بيتنا خرج أبي عن وقاره وحياده وسبني لما سألته ببراءة عن الفارق في المعنى بين النكسة؛ والهزيمة؟
كنت أشعر وقتها أن الكلمة تحمل دلالات كثيرة للعار من هول ما سمعت ورأيت!؛ وسكنني وقتها تفسير لها ارتأيته معبراً عن حجمها؛ فاعتقدت أنها لا تعني هزيمة شديدة من جراء قنابل إسرائيل التي أذابت الحديد مثلما أذابت الأجساد؛ لكنها تعني عراءنا أيضاً من كل ما يسترنا؛ فصارت أجسادنا مكشوفة لكل من يريد أن يعبث بنا!؛ رأيت الوطن ساعتها في تلك السيدة التي رسمها الأستاذ "رضا" مدرس مادة الرسم؛ ولفها بالعلم وهي تنظر بشموخ إلى الأمام؛ كانت الأهرامات خلفها؛ والنيل يجري تحت قدميها؛ والخضرة والنماء تسكن كل أطراف وزوايا اللوحة؛ رأيتها وقد انكفأت واضطرب قلبي وتسارعت نبضاته وانا أخشى عليها ممن يريد كشف عورتها؛ لكنني استنكرت هذا الظن فعاودني السؤال من جديد: لماذا هي إذن نكسة وليست خسارة او هزيمة؟؛ ماذا تعني هذه الكلمة اللعينة إن لم تكن هي الخزي والنجاسة معاً؟!
كانت الكلمة أشبه بالحنظل في الحلقوم؛ شعرت بغصتها؛ ولم أقو لمرة واحدة على ابتلاعها؛ وعلى الرغم من جهادي لفهمها لم أصل إلى المعنى المتواري خلف حروفها مهما سمعت من تفسيرات؛ لأن المعنى الذي سكن فهمي واستقر في يقيني منذ سمعتها كان من المعاني القبيحة؛ مثل تلك الأفعال التي كنا نسمع أنها تحدث في بيت "بخيتة القحبة"!
لم تكن الكلمة تعني لي الهزيمة الثقيلة من "إسرائيل" فقط؛ بل كانت تحمل معان ودلالات أخرى كثيرة؛ وبدا لي أنها صارت وقفاً على تلك الذكرى المشئومة فقط؛ وفيما بعد سأظن وأرضى بأن النكسة لابد وأن تكون هي الكارثة.
في تلك الأيام خرج الناس غير مصدقين لما حدث؛ وتعالت هتافاتنا ترفض الهزيمة وتطالب "ناصر" بالاستمرار رغم الحزن الذي كان قد سكن كل الأركان؛ وغصات المرارة التي اصطبغت بها الحناجر؛ فانتفض النيل مزمجراً لما بدا ان هناك من يحاول سرقة كتابه؛ ويلوي وجهه عن أرضنا؛ ويلوث ماءه الطاهر لما فشل في غيه؛ فانهمرت دموع قناطره شلالات هادرة وهي تلفظ الدرن عن وجهها؛ وبدت حدائق القناطر بزهورها وأشجرها مثل أرض ترملت من راعيها فتعرى وجهها؛ وضاعت نضارته؛ وصارت عرضة لعبث من يريد العبث في بساتينها الظامئة إلى الماء الذي يجري دونها؛ وتعالى حفيف أغصانها حتى صار عاصفة تنتظر الغربان لتفتك بها؛ وقبل أن يحل المساء تم تجهيز سيارات نقل كبيرة أشرف على إحضارها معاون الجمعية الزراعية؛ ومعه أمين الوحدة القاعدية للاتحاد الاشتراكي العربي؛ وشباب من المنظمة التي تحمل صفتهم؛ فتحركت من بلدتنا نحو عشر شاحنات كبيرة تغطي جوانبها الخشبية المتعالية لافتات قماشية عريضة تهتف بحياة الزعيم؛ وتحمل على ظهورها أعداداً كبيرة من المواطنين والأنفار وهم يرفعون شعارات أخرى وصوراً للزعيم؛ وينشدون أهازيج تتغنى به؛ وترجوه البقاء حتى يكمل المسيرة!.
حدث ذلك كله ذات مساء؛ ولكن في صباح اليوم التالي نشبت معركة كادت أن تصبح كارثة على بلدتنا؛ عندما شعر بعض الأهالي بالإساءة إليهم والانتقاص من انفعالهم التلقائي ومشاعرهم الصادقة عندما ذهبوا بإرادتهم لنصرة الزعيم؛ شعر هؤلاء بالإهانة لما اصطفت في الصباح طوابير الأنفار لصرف أجرة الهتاف للزعيم؛ والتي حددها المشرف بخمسة وعشرين قرشاً؛ خصم منها خمسة قروش ثمناً لساندويتشات الفول والطعمية التي تناولوها في العاصمة قبل أن يعودوا؛ وقال البعض ممن لم يذهبوا: حتى مشاعر الناس هناك من يستطيع أن يتاجر فيها ويتكسب من ورائها؟!؛ وستحكي البلدة ويؤكد أبي أن "محمود أفندي سويلم" معاون الجمعية الزراعية قام بوضع أسماء زوجته؛ وبناته؛ وبعض أقاربه؛ وأسماء أخرى لا وجود لها ضمن كشف الأنفار الذين ذهبوا للهتاف؛ وأن "أمين افندي" مشرف الجمعية الزراعية لم يقبل وساطة أمين الوحدة القاعدية في الاتحاد الاشتراكي بالعفو عنه؛ وأصر على إحالته إلى التحقيق لما اكتشف ذلك التزوير؛ لكن النيابة حفظت كل أوراق المحضر لما تدخل قريب من بعيد لمحمود أفندي؛ وتم بعدها نقل المشرف إلى وظيفة أقل من وظيفته في بلدة بعيدة خارج المحافظة!
*******
أقول
في تلك اليام حزمت منطقة القناطر الخيرية بمواقع عسكرية كثيرة؛ بعضها أقيم على جنبات الكباري؛ وبعضها أقيم في "صنادل" تسكن النيل أمام العيون؛ بينما توزع البعض الآخر وسط الزراعات المحتلة لرأس مثلث دلتا النيل.
كان الشيء أو الكيان الذي يربض في تلك المواقع الصغيرة أشبه في جهامته بعجول الأضاحي السمينة؛ وهو مربوط إلى الأرض بالحبال خشية أن يفك قيوده فيهرب ولا يعود؛ وكانوا يواظبون على تحريره من مربطه صبيحة كل يوم دون أن يفرطوا في لجامه فينطلق مرابطاً في الفضاء منفوخاً بالغاز؛ كان ما نراه غريباً على رؤوسنا إذ لم نكن قد رأينا شبيهاً له من قبل؛ كما استغربنا رسالته ولم نقتنع بانه سلاح قادر على تفجير الطائرات وإشعال الحرائق فيها!
شاهدنا الجنود وهم يفكون بالات كبيرة؛ ويخرجون من داخلها لفائف ضخمة تشبه القماش؛ لكنها تلمع تحت أشعة الشمس؛ ثم قاموا بفردها ونفخها بغاز الأوكسجين الذي واظبت على احضار اسطواناته سيارات نقل عسكرية ضخمة؛ لم يفلح جرارنا الزراعي في انتشال إحداها لما سقطت في الترعة بما تحمله.
وسط اندهاشنا تم إطلاق ذلك الكائن إلى الفضاء؛ كان عبارة عن بالون ضخم يشبه في شكله الطائرات وله ما يشبه الأجنحة الصغيرة عند منطقة الذيل؛ وكان مشدوداً إلى الأرض بسلك من الصلب ينتهي طرفه بمجموعة من الحبال التي تحكم الإمساك به؛ والتحكم التام فيه موزعة على سائر الجسد بما يحفظ له توازنه عند إطلاقه؛ وكان ذلك السلك ينتهي ناحية الأرض بونش مثبت على قاعدة خرسانية تم صبها في الأرض بعد أن تعرت من زرعها!
كانت كل البالونات كما كنا نطلق عليها ذات لون فضي؛ ولم ينس صانعها أن يطبع على جانبها الأيمن من ناحية المقدمة أن فكرتها تعود إلى الشهيد الفريق "عبد المنعم رياض" الذي استشهد على جبهة القتال أيام حرب الاستنزاف التي استطعنا من خلالها أن نثبت للشعب؛ وللعالم أن جيشنا بخير؛ وأن يوم تحرير الأرض قادم في القريب لا محالة.
تساءلنا: من أين أتت النار التي أودت بحياة الشهيد؟؛ هل أتته من الأمام؛ أم أتته من الخلف؟؛ ربما تكون قد جاءته من أعلى؛ وربما تكون قد جاءته من كل الجهات؛ وكان الذي تأكدنا منه ولا يقبل التشكيك الذي ساقه بعض تجار الحكايات القميئة فيما بعد؛ أنه ذهب فداء للوطن؛ ورحل شهيداً للواجب.
اندهشنا؛ وتساءلنا وأجاب الجنود على أسئلتنا بأن الغرض من هذه المناطيد هو إيهام الطيران المعادي أن الطيران المصري يرابط في الأجواء؛ فإن لم يقتنع وهو يعلم أن سلاح الجو المصري قد فني تقريباً أثناء النكسة وتقدم مخترقاً الأجواء اصطدم بتلك البالونات فتنفجر فيه بكل ما تحمله من غاز سريع الاشتعال قبل أن يقذف القناطر بقنابله.
أقول....
كنا صغاراً؛ وكنت وزملائي نمر في طريقنا إلى المدرسة الابتدائية بمجموعة من تلك المواقع العسكرية الصغيرة؛ وتولدت ألفة يغذيها حب جارف بيننا وبين الجنود؛ ونظرنا إليهم نظرة احترام وإكبار باعتبارهم المدافعين عنا؛ ولأنهم هم الذين سيثارون لوطننا؛ رغم فارق السن بين شباب يحرسون ويزودون؛ وبين أطفال يسابقون خطوهم ويحلمون لوطنهم بالعزة والنصر والكرامة؛ تولدت بيننا الصداقة ونمت في قلوبنا المحبة فرأيناهم أشقاءنا.
كنا في تلك الأيام وعلى عادة أهل القرى يحمل معظمنا كتبه الدراسية في حقائب بالية من الجلد؛ وأكثرها من القماش القديم؛ لكن بعضنا حصل فيما بعد على قطع كبيرة من نسيج ذلك البالون؛ وصنعت لنا أمهاتنا حقائب بديلة لحقائبنا القماشية القديمة.
كانت حرب يونية قد انتهت منذ فترة؛ لكننا كنا نسمع بين الحين والآخر من الراديو؛ ومن أحاديث الكبار عن اشتباكات مع قوات العدو ما تزال تحدث على الجبهة والتي لم استوعب معنى اسمها في ذلك الوقت؛ ولم أفهم لماذا سموها جبهة؛ وطرنا سعادة وفرحاً؛ وتغنى الناس ببسالة جنودنا الذين دمروا المدمرة "إيلات"؛ وفي ليلة زفاف "صبحي" ابن جارنا "حسن حماد" غنى الطرب الشعبي بحماس في الميكروفون وهو ممسك بسيجارة مخدر الحشيش التي واظب على تكرار تحيته بها العديد من المعازيم من أصحاب الكيف؛ والذين صارت أحاديثهم الهامسة بمرور الوقت مسموعة للجميع؛ اختلفوا على ما يجب أن يغنيه المطرب فتشاجروا بعد أن غنى ورددت من خلفه فرقته ذات الأصوات الخشنة بلا انتظام حتى حفظنا نشيده أو اهزوجته عن المدمرة "إيلات" فغنى:
يا إيلات يا إيلات دمرناك من كل الجهات
يا إيلات يا إيلات كسرناك ثلاث حتات
كانت أخبار متفرقة تأتينا من هنا وهناك؛ وأحياناً كانت تصلنا القصة بأكثر من رواية؛ وكنا على الرغم من مرارة ما حدث من قبل نصدق حتى وإن جنحت القصة للخيال؛ وكان يأتي دائماً من يشذبها ويجعلها أقرب إلى الواقع؛ لكنني كنت طفلاً والأطفال بطبعهم تعجبهم الحكايات؛ وتستهويهم الأساطير؛ وتشعل حماسهم الخوارق؛ فلم تكن ترضينا إلا الحكايات الخارقة؛ والتي كنا نحن أيضاً نضيف عليها من خيالنا لتخرج مثيرة بالصورة التي ترضينا؛ وتعوض ما نحسه من مرارة من جراء ما ألحقته بنا إسرائيل.
علمنا أنه على الرغم من استبسال جنودنا في تنفيذ العمليات المكلفين بها ضد العدو؛ أن سيناء بأكملها ظلت محتلة على الرغم من طول فترة حرب الاستنزاف؛ ورغم ما تكبدته إسرائيل من خسائر!
أقول...
رغم صغر أعمارنا فقد تدفقت وطنيتنا مثل الكبار؛ وكانت قلوبنا الصغيرة تفيض حباً وهي تتمنى الثأر من الأعداء الذين أهانوا أهل "غزة"؛ واحتلوا "سيناء" وهدموا بيوت أهالينا في محافظات القناة؛ فهاجر منها أهلها وتفرقوا بين المحافظات؛ وسكن كثيرون منهم ناحيتنا؛ واستقر بعضهم بها بعد عودة معظمهم إلى ديارهم القديمة بعد التحرير.
في تلك الأيام لفتت موضوعات الإنشاء التي أكتبها انتباه الأستاذ "نبيل أبو السعود" مدرس اللغة العربية؛ فأثني عليَّ أكثر من مرة وهو يضع لي الدرجة النهائية مصحوبة بعبارات التشجيع والإعجاب أسفل الدرجات؛ فأشعل حماسي وأنا أجتهد في اختيار الكلمات؛ والتعبير بكل مشاعري عن عدالة جهادنا؛ حتى وقعت من فرط اندفاعي في خطأ لغوي؛ وأنا أؤكد في نهاية موضوع كنا نكتبه عن سيناء المحتلة أنها ستعود بإذن الله سالمة مستسلمة!
يومها شطب الأستاذ بقلمه الأحمر الكلمة الأخيرة؛ وقال لي قبل أن أسأله: الاستسلام يعني الهزيمة يا ولد!؛ فخجلت من نفسي أن ظننت الخير في تلك الكلمة الشبيهة بالسلام؛ وتذكرت لعبة "الاستغماية" وكيف يطلب الشخص من غريمه أن يسلم نفسه؛ لكنه يظل يجاهد ويناور؛ ويبالغ في التمويه والتخفي حتى لا يقع في يد المنافس؛ ولا يرضى أبداً بالتسليم.
في تلك المرة اكتفى المدرس بخصم نصف درجة من درجاتي؛ لكنني رأيت أنني لا أستحق أي درجة إذا كان كل من حماسي و انفعالي قد زادا عن الحد؛ فقاداني إلى تلك الكلمة اللعينة؛ ولولا خوفي ساعتها من العقاب لكنت قد نزعت الصفحة بأكملها حتى لا تظل مثل الوصمة داخل دفتري المزدان بالدرجات النهائية مصحوبة بعبارات الشكر والتقدير المضيئة اسفل الموضوعات؛ لكن الواقع يغاير دائماً التمني؛ وفارق كبير بين ما كان؛ وما يجب أن يكون؛ فظل الموضوع محتلاً لصفحته داخل دفتري ليذكرني بخطأي واستعجالي؛ وبأنني لابد أن أسأل؛ ولا يعني تميزي أن تكون كل الأفكار والكلمات من رأسي فقط!؛ لكنني لم أكن متواضعاً؛ وكان يؤلمني سؤال أحد؛ وأشعر أنني بالسؤال أنتقص من قدر نفسي؛ وكانت تلك معضلتي التي جاهدتها حتى ألزمتها منزلها وقدرها؛ وعرفت أن التميز لا يعني الأنانية؛ والتفوق يسمو بالتعاون!