AlaaTabbal

Share to Social Media

طُردنا من أرض الوطن، أبي بلقب خائن وأنا مجللة بالخزي والعار. شيعتنا طائرة كاموف كا-سكستي من مطار نوفوسبيرسك إلى مثوى يَأنَفُ الإنسان الروسي من الإقامة فيه. لا أذكر على وجه الدقة لماذا زجرت إيفان، وتعطشت إلى صفعه بنعلي آلاف المرات وشطر رأسه بكعبي، ثم جلده بحِزامي حتى أشفي غليلي منه. ما أذكره بالضبط أنه بربر، أغرق في الحديث عن السياسة والمستعمرات الروسية...
السوط الرهيب، السوط العظيم القبيح الذي تعرض لي أقبل على ابنتي بالأذى: شقيتُ بخيانة والدي وطني، وشقيتْ بخيانة والدها وطنها. أيُقال أن التاريخ يكرر وقائعه أم أن البشر كذلك أم ماذا أيها الرفاق؟.. أقول بالنيابة عني: لا أدري، ربما تعرضتْ كلوي البريئة لذلك نتيجة اعتقادي الراسخ أنني أنجبتها سِفاحاً... يُشاع لغاية هذه اللحظة أنها اختفت لأنها لقيت حتفها على يد آيات.
من جنرال إلى سجين مؤبد يعمل بالسخرة... لم أتوانَ عن خدشه بتهكمي هذا كلما عدته في غيابات الماتروسكايا تيشينا، وكلما جابهني في المقابل بالتكشير والتأفف. قدرت فيما مضى على مصارحته بكل ما يعن لي والتأثير فيه، لذلك رميت أثقالي على عاتقه...
إيفان نيكيتا أحقر وأوضع من آيات البِشر، الأعمى إيفان رمى وحيدته في أحضان الذئب.. لماذا لم تتعفن وحدك في الغربة؟!
صحتْ أولغا من استرسالها مبهورة الأنفاس، ثمة زنجي هائج يشتمها بأقذر الألفاظ ويحاول الاقتراب منها ليضربها، لكن المجموعة منعته فكتَّفته بعد أن أبعدته. اقتربت منه بدورها عندما هدأت سورة غضبه، تفرست في ملامحه بنظرات غائمة:
- جرانت! ماذا تفعل هنا؟!
أجابها بإشهار إصبعه الوسطى في وجهها.
***
دُر حولي واقفز باستمرار مثل تاكر ومع كل دورة ستصهل صهيل الحصان. نفذ أوامر كلوي الطفولية بطيب خاطر، فراح يتقافز مبتهجاً ويدور ويصهل بتركيز شديد لا يلهيه شيء عن شيء ولا يشغله أمر عن أمر. وما إن انتهى حتى لمح لابرادور ريتريفر ولاحظ أنه تغير كثيراً، هرِم وكبر حجمه بطريقة لا معقولة. فزع فير سيز حين انقض عليه، عجز عن التفكير فيما يجب عليه فعله كي يبقيه بعيداً عنه من فرط الإنهاك. تاكر كلب صيد ماهر ويبدو أنه جائع جوعاً ضارياً، ومن الطبيعي بالنسبة له أن يجد في لحمه وجبة دسمة. أينتهي المخلص هكذا بلا خلاص؟ أيودع في جوف دابة تسحله في نهم وسعار محموم؟ جأر بيأس، جأر بتأبين شمشون بن منوح لنفسه: «عليَّ وعلى أعدائي يا رب«...
هبَّ من مرقده كأنه نجا من الغرق، احتد تساءل أين هو ومن هنا. فتش عن قِراب الجلوك سفين تين متوتراً فلم يجد غير ارتجاف جسمه والعرق البارد، وفجأة انبثق من العتمة ضوء كشاف جعل فير سيز يهز رأسه محاولاً أن يزيحه عنه، ثم صوت مألوف. صوت يتحدث الإنجليزية الأمريكية بشناعة، لكنة إسبانية متراخية تحثه:
- أَشعِل المصابيح يا رجل! حاولت لكنني لم أعثر على الأزرار.. أين هي؟!
ألفى نفسه محاطاً بالجدران الأربعة وبحضور هيرنان فارتاح باله بعض الشيء. جلس كل منهما قُبالة الآخر، انتظر فير سيز بفارغ الصبر آخر المستجدات من مساعده الأول وردود فعله المتوقعة. وما هي إلا ثوان حتى نهض العجوز من مجلسه وطاف المُعتزل على غير هدى، التفت هيرنان برأسه نحوه فتفاجأ أنه يحدق فيه وهو يبتسم ابتسامة ساخرة. نبر، برز لسانه كرأس الأفعى فنثر وابلاً من اللعاب على وجه فير سيز:
- ألم نتفق أن تحتاط؟! الجيش الأمريكي بات يعلم بتواجدك في الأرجاء... الإف بي آي والسي بي آي سيغتصبونك إلى أن يخرجوا جَوفك من فِيك!
تَفل ثم تهالك على المقعد، كظم فير سيز غيظه إزاء هذا التصرف غير المتوقع. أشار هيرنان إليه أن يخرس تماماً ما إن فتح فمه نصف فتحة:
- لم أعد راغباً في العمل تحت قيادتك.. سأوصل مطلبي إلى مجلس الأمة، اكتفيت من طيشك وترهاتك وجنونك حياتي أهم!
بلغ السيل الزبى، نشل فير سيز مسدس خصمه وضغط بفوهة البيرتا إم ناين على جمجمته مرات عديدة. صرخ بعنف أشد من عنف قبضته المحكمة على المقبض:
- لا تلقي التهم جزافاً وإلا...
- وإلا ماذا؟ رد مضيقاً عينيه الضيقتين أكثر.
- أرديتك قتيلاً في الحال ثم...
- اغرز الرصاص فيَّ! هيا أيها التيس المقرف! نفثَ نيرانه متحدياً ورفس المقعد. مثِّل بجثتي وابكِ ورقتكَ الرابحة.
الفوهة تنزلق كحريق، الساعد الذي لم تخالجه الرعشات أيامَ حرب العصابات في موطنه يرتعش... أما هيرنان احتوى الموقف المتأزم فهو غير مستعد لترك أطفاله الثلاثة أيتاماً في الأرجنتين. سدتْ نُخاعته السبطانة، قهقه:
- اهدأ، أسنتذابح من أجل خلاف؟! ربت على كتفه ملاطفاً. هات مشروباً.. سلاحك وضعته على الرف.
افتتح هيرنان السهرة وهو يهرش ذقنه:
- فلنبدأ من الأهم.
- كلوي.. ابنتي الكبيرة.
- آه السحاقية. أتبع توصيفه بغمزة.
تظاهر بأنه لم يسمع إساءته، جاهد نفسه كي لا ينفجر. لا تهمني هويتها الجنسية، إنها ابنتي وأنا أبوها وأحبها بجنون شاءتْ ذلك أم أبت... أُقسم بالخلاص أنك ستندم على جرأتكَ فيما بعد، أُقسم...
- عليك أن تحسم مسألة كلوي في وقت آخر.. الأضواء مسلطة عليك والأجواء مشحونة ضدك، أنت تعلم ما يعنيه القبض عليك بالنسبة لنا... ستنهار قائدة جيوشنا بدونك. عبَّ كأساً آخر من بيرة لاجير وتجشأ. ثم ماذا؟
- البطش بالغوغاء الذين نهبوا حلالي وأساءوا لجيوش الفتح! أمسك القنينة أمامه من عنقها وحطمها على سطح الطاولة المستديرة ساخطاً.
- سنغتصب القِرَدة النحاسيين وأمهاتهم اغتصاباً مبرحاً! جارى جليسه فخبط الطاولة. هكذا تكون الفوضى الخلاقة! ثم ماذا؟
- البوكيرك!... سليمان وجنوده!
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.