اعتراف مؤلم: البِشر صان اعتباري أمام زوجتي وابنها ابني، حافظ على إشراق صورتي... الرجلُ ذو ماضٍ مخزٍ أفلت من الجحيم بأعجوبةٍ، ولا أحد في المقاطعة يرضى بي ويكن لي الود.. أَنِيتا.. أَنِيتا التي اضطرها الأجير على بيع مقطورتها لاكتراء دار في ألباكركي طارت من الفرحة، طارت تعبيراً عن امتنانها وشكرها للرب على ما وهبنا إياه: الخدمة في جيش البلاد.
لا أنكر أنني غبي في العديد من المسائل، ولا أخجل إن صرحت بأنني ميال أيضاً إلى تصور وجود طبقة إسمنتية في عقلي لكن ضعوا أنفسكم مكاني وبعدها يمكنكم أن تصدروا ما تشاءون في حقي. زيارة لطيفة غريبة تلفها حكايات شرقية شيِّقة بطلها أعرابي يناضل ضد الاشتراكيين والاحتلال فينتهي به المطاف مطروداً، لكن الرب الرحيم يحيطه وأسرته الكرتونية بعناية الروح الوطنية، بعناية الحلم الأمريكي... ثم خاتمة سعيدة انتشلتني من بؤس الوظائف الموسمية: «سنشكِّل أخوة سلاح لا تضاهى إن أحببت«.
أوراق التاروت تصيبني دوماً بالدوار غير أنها جيدة جداً بالمقارنة مع حبكات آيات، وشروحات السيدة أولغا التي ما انفكت تهز رأسها بوقار مؤمنة على أقواله.. سأُعمل ذهني بقدر ما أستطيع في تفسير تفسيرات لعبة أَنِيتا المفضلة. ظُهور البطاقات مخططُ ألوان يحتوي على ثلاثة ألوان أساسية: الأزرق والأحمر والأخضر.. بالإضافة إلى الألوان المشتقة من تدرجاتها ومزائجها، أما وجوه البطاقات مطبوعة بصور الطيور الجارحة. فير وجرانت صقران، الأول شاهين والثاني عقاب أسود...
لم أكن أهلاً للمسؤولية، لستَ أهلاً أن تكون الفارس الذي حلمتْ به حبيبتي وتمنته بشدة لليتيم تشاك... أنتَ أضحوكة، مجرد ألعوبة وتابع أعمى للمسلم... آيات البِشر ليس سوى أحمق مقلوب لعين يا عزيزتي...
جاءته الدموع التي بكى بها أَنِيتا ففقد اتزانه، التفت المجموعة حوله في غضون ثوانٍ لتواسيه. اقتحمتْ بُحة أنثوية صخب المواساة:
- »أبي رعى الغنم وأنا سأرعى الأمم»... كثيراً ما ردد على مسامعي هذه البذاءة، الراعي هو ونحن الغنم.. لذا...
أوصدتْ أولغا الباب بفردة الكونفيرس اليسرى، واتجهت نحوه لتعانقه.
غطته بدفء جسدها وغطاها بصمت الدمع السخين، فخيَّم سكون حزين رزين على القاعة وكل من فيها. أخذ البعض بثأر الصهباء والزنجي ثأروا للمشنوقة حين تذكروا أن تلك الجريمة أسقطت قناعه.
***
- ماذا نصنعُ بهذه الأرطال الروسية سيد فير سيز؟ نتف فيتوريو شعر أنفه بالملقط.
- أرغبُ في إزهاق روحه بشدة لكنني سأدعه من أجل كلوي. رفَّ جفنا فير سيز رفيفاً متداركاً وهو يأخذ علبة المارلبورو. إذا أمطرتموه بالبولِ سأضاعفُ المبلغ المتفق عليه. سحب نفساً ونفث الدخان على مهل، ثم رمى السيجارة وداسها.
على مدِّ البصر لا تُرى إلا المجموعة والجثث وعربات هامفي وآثار إطارات شاحنة هاربة، ولا يُسمع في الخلاء سوى الشخ وفتح وإغلاق السحاحيب. مشيا متلاصقين يتبعهما النحاسيون، تأبط فيتوريو ذراع فير سيز دون كلفة:
- هاتِ المئتي ألف دولار أولاً.
- اصبر قليلاً.. عندما نصل سأنزل وحدي لأناولكم البراميل، علينا أن ننجز العملية بأسرع وقت ممكن... فقد تُفاجئنا تعزيزات الغرينغو العجوز...
- ماذا قلت؟! أصابتهُ رعدة خفيفة. لم نتفق على ذلك يا صديقي، اسمع.. نحن عصابة أوروبية لا تقدر ولا تجرؤ على شن الهجوم المنظم على جَحفَل... أنتَ تعلم...
- اطمئن، هدئ من روعك. شدَّ شارب فيتوريو الأيسر ممازحاً. حتى المخلص لم يُقدم على ذلك وحده، وتعلم جيداً أنني لن أوقعك في ورطة كهذه لولا الحاجة... إيفان نيكيتا طلب الدعم بعد استنجادي بكم.
أطبق الجو المشحون بالقلق والضغط الهائل على العاملين، فحمل كل قرد منهم برميلين في المرة الواحدة. استبدت المخاوف بفيتوريو وتناوبت عليه صور فظيعة: الكوماندوز يُذبِّحونهم ويُقطِّعون أوصالهم، فَصْمُ رابطة دم القِردة النحاسيين... دار دورات ليروِّح عن نفسه، وهتف به متململاً:
- عَجِّل أيها الغاوتشو الكسول.. ماذا تحتوي دفائنك يبدو أنها ثقيلة الوزن جداً!
- تحتوي قذارات من جنسكم! أغرب فير سيز في الضحك.
استغلق المعنى على الإيطالي، اعتبر ما تفوه به في ظل الحالة الحرجة استخفافاً بهم. وطَّن عزمه على تلقين المُرتزِق درساً قاسياً تَرْكِ آثار لا تمحى حتى لو سعت خلفه قارة بأكملها للنيل منه، حتى لو عادته دول ودويلات.
هدهدتْ هَزاهِزُ سيارة فورد موستانج فير سيز الجائع المنهك القوى، تمدَّدَ ومدَّد المقعد الأمامي. استرخى وحاول جاهداً ألا ينام فهو لا يأمن جانب السائق كثيراً. لمح بعينيه شبه المغمضتين شاحنة مقلوبة ومحترقة فانتفض:
- توقف بسرعة ما إن تُقاربها وأَعرني أيَّ سلاح!
أوقفها فيتوريو خلفها مباشرة، وأمره أن يفتح الدُرج ويأخذ المِطواة. عصى فير سيز أمره فأخذ مسدس الكولت وترجل على الفور.
«يا لثارات» المخلص! ردد الفضاء أصداء انفجاراته العظيمة المَهُولة. لم يعثر الثور الهائج على جرانت في كومة الخردة المدخِّنة، لكنه اهتدى إلى أثره. شدَّ في سيره خلف خطوط الدماء العريضة، وما هي إلا دقائق حتى انقض عليه.
ثبَّت الجريح بثقله، ومزَّق قميصه مقتلعاً أزراره. أنشب أظافره في لحم كتفيه فاقتطع منه نتفاً. علك اللُقيمات بتلذذ، وبعدما ابتلع آخر لُقيمة ومَصْمَصَ أصابعه جذبه جرانت من لحيته الكثيفة كردِّ فعل، فردَّ المتوحش بعنف. انتزع الكولت من حِزام بنطاله، ثم سدد ضربة محكمة على وجه جرانت بظهر السبطانة ففقد وعيه.
لولا الهدير المتأتي من بعيد وحقن فيتوريو ودجاً من أوداج فير سيز المنتفخة لماتَ جرانت ثم نفقَ فير.
- سأفرُّ وآخذ المُخرِّف المُهرِّف معي أما أنت تولى قيادة القردة! قل ليوهان أن رابطة الدم تناديك... آن أوان التضحية!
استعبر فيتوريو وهو يشاهد بعين خياله ما سينجم عن إعاقة يوهان للكوماندوز.