أغاظت جرأة السود القاطنين البيض. إننا ما زلنا أحياء بينهم ونعيش على أمل أن نتجاوز ما أصابنا، لهذا السبب حطموا زجاج النوافذ بالحجارة ذات ليلة خريفية... تناوب المسلحون البيض على اغتصابنا، وضربونا ضرباً مبرحاً وهددونا بفضح سرقاتنا إن لم ننسَ ما حدث، وسرقوا ما سرقناه في تلك الليلة... ارتكبتُ ما نهاهم التردد عن فعله، أجهزتُ علينا بهدوء فور هروبهم... إن نكثهم للعهد الذي قطعناه على أنفسنا بمحاربة البيض والحمر هو ما حملني على ذلك، المعذَّب ترحم على إخوته الثلاثة المعذَّبين وهو يبكي فاختلطت دموعه بدمائنا.
لولا فقيدتنا العزيزة.. الذكريات المثيرة في كوينز بصحبة ماسون وسامويل وكاليب.. الصورة الفوتوغرافية المجعدة المثنية لأبي.. التلذذ بالنيران وهي تلتهم الشيوعيين وذوي البشرات الفاتحة... لولا كل ذلك لنفقتُ في إحدى زنازين جزيرة رايكرز قبل أن يُطلق سراحي. ذاكرتي تخونني كلما اتكأت عليها في تذكر ما أدى إلى شمل العفو العام لي...
السيدة مفجوعة بكلوي بعيداً عنا، النذلُ يطارد النذلَ، رحى الحرب دائرة بين بلادنا والقارة اللاتينية.. وأنا أرهقكم بالمزيد... لا تنقموا مني العنصرية أيها الأصدقاء بالأخص أنتم، كراهيتي لجلودكم الناعمة تلاشت منذ أول عناق بيني وبين المرحومة أَنِيتا. أَنِيتا ألطف وأجمل نساء الأرض... كم أتمنى ذبح المتطرف الإسلامي بيدي هاتين!...
انقبضتْ عضلة مثانة جرانت الدافعة فانسلت قطرات البول بين سرواله الداخلي وبنطاله الكاكي، تأملَ الكف المعروقة المحطوطة على كتفه غير مصدق إمكانية حدوث مثل هذا الأمر. رفع بصره بالتدريج نحو صاحبها:
- أين العدو؟! سألَ بتوتر.
- ما أدراني أنا؟ أجاب محدثهُ مبتسماً ثم تابع بطلاقة وبشاشة: قلتُ إنك إنسان طيب وآمل أن يتحقق مرادكَ مرادُ الجميع بالنيلِ من البِشر.
سحبَ كرسياً نُخر خشبه في مواضعَ، مقعدهُ مفروش بقماش مُرقع. جلس على الكرسي وطبطب على ركبتيه بعد أن وضعهُ على مقربة من جرانت:
- أعتذر عن المقاطعة والتدخل هكذا، أنا عضو جديد ويسعدني أن تعتبروني صديقكم.. اسمي هيرنان، إسباني من خيخون أقيم في المدينة منذ حوالي سبع سنوات.. وبالمناسبة أنا أكره ذلك العربي جداً.
أخرجَ هاتفه من جيب سترته الجينز الرقيقة، فتح الفيسبوك وراح يقرأ:
- البنتاجون: الصين وروسيا تبديان نوايا التعاون مع اللاتين على الصعيدين السياسي والعسكري... لا، ليس هذا.
استغرق هيرنان في البحث إلى أن عثر على المنشور المنشود، قرأ بحماس:
- البنتاجون: قضت الفرقة العاشرة بقيادة الرقيب كيفن وايذرسبون على القردة النحاسيين وزعيمهم فيتوريو دي أوجاستينلا. لن تركع الأمة أمام أيِّ مارق، سيحين دور آيات البِشر قريباً.
***
إيفان وفرقته يراقبون فير سيز بحذر ويحثونه على العجلة، أما هو واصل شق التربة العنيدة ببطء غير مكترث في الظاهر بما يطبق على صدورهم. أفسدتْ الخبطة التي تلقاها أسفلُ ظهره متعته في إزعاجهم، فردها للخابط بالجاروف. انهالوا على قفاه بالركل مرتعدين من الانفعال، اعتدل فير سيز على كعبيه متحملاً الآلام الجسدية بمشقة ورمى إلى الوراء مسبحته. تصادموا ببعضهم أثناء التراجع خمسة أقدام.
- ليست قنبلة إم سكستي سفين بل سبحة يا مجمع المعتوهين! صاح وهو يلهث. بدل أن تعنفوني شمروا أكمامكم وساعدوني.. ألا تريدون الانتهاء من الأمر بأسرع ما يمكن؟
تلقف المسبحة الزيتية وسأل إيفان عن الساعة، ما زال بحاجة ماسة إلى القليل من الوقت بعد.
استمر فير سيز يحفر في أناة، عمل بشكل أثار حفيظة الجنود الخاصين الذين يعملون معه بهمة لا تفتر. استرق السمع على إيفان، شكا من الإعياء حين بلغه كلام المتخصص: «نحتاج كاسحة ألغام وخبير...». همس فير سيز في سره: يجب أن ألهيه.. سأُقصقص جناحيه، سأُصغِّره أمام مرؤوسيه بكشف تاريخه المشرف جداً.
- استعرضتَ عضلاتك عليَّ وعلى هؤلاء الجادين يا إيفان.. أذكر أننا، أنا وأنت مُنحنا رتبة متخصص منذ وصول الأسرة إلى البوكيرك...
- خنفساء الروث الخصي خنفساء الروث الخصي! كُل خراء.. تسلى بقطعة منك كي لا تكذب ثانية!
- الاتحاد الروسي دمغك بالخيانة.
الخنزير يستفزني لن أنساق! هُوِيته كفيلة وحدها بتكذيب أقواله. قطب حاجبيه وابتعد عنه ليتفقد أحوال المجندين وما تم إنجازه. اصفرَّ إيفان واخضرَّ عندما قال فير سيز:
- دعني أحزر.. سيسلموك مركزاً حساساً في سورية بمجرد طرد الروس منها مقابل تسليمي، أليس كذلك يا جَناب الروسي؟
امتشق الماك تين، همَّ المتخصص بتثقِّيب فير سيز بلا رحمة لولا سيول النيران التي لعلعت فجأة خلفه وحصدت الجنود الخاصين العشرة حصداً. خرَّ إيفان كما يخر مريض الصرع، اعتقد أن معجزة آياتية حصلت للتو. هلَّس وصرخَ صراخاً مجنوناً حاداً ملأ الهيماء عندما تلا آيات «... سُبْحَانَهُ ۚ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ... فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ...»
تفتق بنطال إيفان العسكري المموه عند الردفين، تشقق باطنا كفيه فلوَّن الدم مسار تقهقره. فير سيز يمعن في الهرولة نحو خصمه كلما أمعن في التخاذل.
- لا تسلب روحي يا صاحب السعادة! من أجل ابنتك لا تسلب روحي!...
- ابنتي؟! الكبيرة أم الصغيرة؟.. زمن معجزاتي انتهى، لقد استنفدتُ ما وهبني إياه عز وجل دون العالمين. ألصق فير سيز سبابته بشفتيه ليخرس إيفان. لا تظننَّ أنني أُفضِّل بنتاً على أخرى.
ارتطم إيفان بأقدامٍ فتجمد، اتسعت حدقتاه عن آخرهما ذعراً وارتعشت شفتاه. أبصر زمرة مسلحة بأغلظ العتاد.
- لو عاد بي الزمن لهرستُ جمجمتك بالكتب التي أوشكت والمجاهدون على استخدامها في هرس جمجمة القَاقِ الألثغِ.
أُغمي على إيفان.